المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(مسألة: يجوز نسخ القرآن بالقرآن - شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني - جـ ٣

[عضد الدين الإيجي]

فهرس الكتاب

- ‌(مباحث التخصيص)

- ‌(مسائل الاستثناء)

- ‌(مباحث الشرط والصفة والغاية)

- ‌(مسائل التخصيص بالمنفصل)

- ‌(مسألة: يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب

- ‌(المطلق والمقيد)

- ‌(المجمل)

- ‌(البيان والمبين)

- ‌(الظاهر والمؤول)

- ‌(المنطوق والمفهوم)

- ‌(مباحث النسخ)

- ‌(مسألة: يجوز نسخ القرآن بالقرآن

- ‌(الكلام فى القياس)

- ‌(مباحث مسالك العلة)

- ‌(الطرد والعكس

- ‌القياس جلى وخفى

- ‌(الاعتراضات)

- ‌(فساد الاعتبار)

- ‌ فساد الوضع

- ‌(الكلام فى الاستدلال)

- ‌(الكلام فى الاستصحاب)

- ‌(الكلام فى شرع من قبلنا)

- ‌(الكلام فى مذهب الصحابى)

- ‌(الكلام فى الاستحسان)

- ‌(الكلام فى المصالح المرسلة)

- ‌(الكلام فى الاجتهاد)

- ‌(التقليد والمفتى والمستفتى وما يستفتى فيه)

- ‌(الترجيح)

- ‌ القسم الأول: فى ترجيح المنقولين:

- ‌الصنف الأول: فى الترجيح بحسب السند:

- ‌(الفصل الأول: فى الراوى):

- ‌(الفصل الثانى: فى الترجيح بالرواية):

- ‌(الفصل الثالث: فى الترجيح بحسب المروى):

- ‌(الفصل الرابع: فى الترجيح بحسب المروى عنه):

- ‌ الصنف الثانى: الترجيح بحسب المتن:

- ‌ الصنف الثالث: الترجيح بحسب المدلول:

- ‌ الصنف الرابع: الترجيح بحسب الخارج:

- ‌ القسم الثانى: ترجيح المعقولين:

- ‌الصنف الأول: القياسان:

- ‌الفصل الأول: فى ترجيحه بحسب الأصل:

- ‌ الفصل الثانى: فى الترجيح بحسب العلة:

- ‌ الفصل الثالث: فى الترجيح بحسب الفرع:

- ‌الفصل الرابع: فى الترجيح بحسب الخارج:

- ‌الصنف الثانى: الاستدلالان:

- ‌ القسم الثالث: فى ترجيح المنقول والمعقول:

الفصل: ‌(مسألة: يجوز نسخ القرآن بالقرآن

قال: ‌

‌(مسألة: يجوز نسخ القرآن بالقرآن

كالعدتين والمتواتر بالمتواتر والآحاد بالآحاد، والآحاد بالمتواتر، وأما نسخ المتواتر بالآحاد فنفاه الأكثرون بخلاف تخصيص العام كما تقدم، لنا قاطع فلا يقابله المظنون، قالوا: وقع فإن أهل قباء سمعوا مناديه صلى الله عليه وسلم: (ألا إن القبلة قد حولت) فاستداروا، ولم ينكر عليهم. أجيب: علموا بالقرائن لما ذكرناه، قالوا: كان يرسل الآحاد بتبليغ الأحكام مبتدأة وناسخة، وأجيب إلا أن يكون مما ذكرناه فيعلم بالقرائن لما ذكرناه، قالوا:{قُلْ لَا أَجِدُ. . .} [الأنعام: 145]، نسخ بنهيه عن أكل كل ذى ناب من السباع فالخبر أجدر، أجيب إما بمنعه وإما بأن المعنى لا أجد الآن وتحريم حلال الأصل ليس بنسخ).

أقول: القائلون بالنسخ اتفقوا على جواز نسخ القرآن بالقرآن كالعدتين وهما الاعتداد بالحول وبأربعة أشهر وعشر، وكذا نسخ الخبر المتواتر بالخبر المتواتر والآحاد بالآحاد، وذلك كما نهى عليه السلام عن ادخار لحوم الأضاحى، ثم قال:"كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحى، ألا فادخروها"، وكذا نسخ الآحاد بالمتواتر، بل هو أجدر، إنما الخلاف فى نسخ المتواتر بالآحاد، وقد نفاه الأكثرون، وجوزه الأقلون، وذلك بخلاف تخصيص المتواتر بالآحاد، فإنه جوزه الأكثرون ونفاه الأقلون، وقد فرقنا بينهما بأن التخصيص بيان وجمع للدليلين، والنسخ إبطال ورفع فلا يرد علينا: أن النسخ تخصيص وقد جاز التخصيص فليجز النسخ، وأنه أقوى شبه الخصم، لنا أن المتواتر قاطع والآحاد مظنون، والقاطع لا يقابله المظنون.

قالوا: أولًا: نسخ المتواتر بالآحاد قد وقع وهو أن التوجه إلى بيت المقدس كان متواترًا، ونسخ بالآحاد وهو أن أهل مسجد قباء سمعوا مناديه صلى الله عليه وسلم يقول:"ألا إن القبلة قد حولت" فاستداروا وتوجهوا ولم ينكر عليهم الرسول عليه السلام.

الجواب: أنك علمت أن خبر الواحد قد يفيد القطع بانضمام القرائن إليه وهذا من ذلك القبيل لأن نداء منادى الرسول بحضرته على رؤوس الأشهاد فى مثل هذه العظيمة قرينة صدقه عادة، ويجب المصير إليه لما ذكرنا من امتناع ترك القاطع بالمظنون.

قالوا: ثانيًا: نقطع بتتبع الآثار أن الرسول عليه السلام كان يبعث الآحاد لتبليغ الأحكام مطلقًا مبتدأة كانت أو ناسخة لا يفرق بينهما والمبعوث إليهم متعبدون

ص: 243

بتلك الأحكام وربما كان فى الأحكام ما ينسخ متواترًا لأنهم لم ينقلوا الفرق وهو دليل جواز نسخ المتواتر بالآحاد.

الجواب: هذا مسلم إلا أن يكون المنسوخ مما ذكرناه من المتواتر، وإن سلم فلحصول العلم بتلك الآحاد بقرينة الحال لما ذكرنا من عدم مقابلة المظنون القاطع.

قالوا: ثالثًا: قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] نسخ بما روى أنه صلى الله عليه وسلم: "نهى عن أكل كل ذى ناب من السباع" وهو خبر آحاد، وإذا جاز نسخ القرآن به فالخبر أجدر.

الجواب: إما بمنع ثبوت حكم الخبر فإنه مختلف فيه والمصنف مالكى لا يقول به، وإما بأن المعنى لا أجد الآن، والتحريم فى المستقبل لا ينافيه حتى يلزم نسخه به غايته أن عدم التحريم ثبت بالآية، ورفع بالخبر لكن عدم التحريم معناه بقاء الإباحة الأصلية فالخبر قد حرم حلال الأصل، ولم يرفع حكمًا شرعيًا ومثله ليس نسخًا اتفاقًا.

مسألة على حدة.

قوله: (لأن نداء) تحقيق للقرينة وفى الكلام إشارة إلى دفع ما يقال: إن فتح هذا الباب يؤدى إلى سد باب العمل بخبر الواحد لجواز أن يدعى انضمام القرائن وذلك لأن وجود القرائن ههنا ظاهر والمصير إليه لوجود المعارض القطعى واجب وليس كل خبر الواحد كذلك، ومعنى قوله بحضرته بقرب منه بمنزلة الحضور.

قوله: (إلا أن يكون المنسوخ) جمهور الشارحين على أن المراد إلا أن يكون الخبر مما ذكرنا وهو كونه ناسخًا لمتواتر فإنه يعلم صدقه حينئذ بالقرائن لما ذكرنا من أن القاطع لا يقابله المظنون وما ذكره المحقق أولى من جهة أنه جواب بوجهين ومبناه على أنه كما صدق ما تعلق به الاستثناء صدق ما تعلق به الفاء.

قوله: (إما بمنع ثبوت حكم الخبر) هذا هو الظاهر من اللفظ الموافق للحكم ولا يخفى ضعف ما فى الشروح من أن المراد منع كونه ناسخًا لجواز أن يكون تناول الوحى إلى زمان النهى فقط أو بمنع كون النسخ بالخبر لجواز أن يكون بقرآن منسوخ التلاوة أو منع كون نسخ الخبر الواحد أو منع دلالة الآية على إباحة

ص: 244

الجميع فإن غايته عدم وجدان المحرم بالوحى.

قوله: (معناه بقاء الإباحة الأصلية) إشارة إلى أن ليس معنى الإباحة الأصلية إذن الشارع فى الفعل والترك حتى يلزم أن يكون حكمًا شرعيًا بل هو عدم تحريم الشارع بمعنى أنه لم يثبت تعلق خطاب النهى وأما الإباحة الثانية بمثل قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1]، وقوله تعالى:{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 28]، ونحو ذلك فحكم شرعى قطعًا.

قوله: (لتعيين الناسخ) جعل فى الأحكام والمنتهى هذا الفصل خاتمة مباحث

قوله: (لأن نسخ القرآن. . . إلخ) توجيه لجعل موصوف المتواتر هو الخبر فقط.

قوله: (وما ذكره المحقق أولى) هو بعيد من ظاهر المصنف.

قوله: (ومبناه أنه كما صدق. . . إلخ) عرفت أنه بعيد.

قوله: (أو منع كون نسخ الخبر الواحد) تحريف وأصله: أو منع كون النسخ لخبر الواحد أى بل للخبر المتواتر.

قوله: (إشارة إلى أن ليس معنى. . . إلخ) أى حيث أخبر عن عدم التحريم بأنه بقاء الإباحة الأصلية لا يقال نفى التحريم الشرعى يستلزم التحليل الشرعى فيثبت الحكم الشرعى فالناسخ ناسخ للحكم الشرعى لأنا نقول: ما لم يتعلق به التحريم الشرعى لا يلزم أن يتعلق فيه التحليل الشرعى بمعنى إذن الشارع فى الفعل والترك كيف والمباح بحكم الأصل لم يتعلق به التحريم الشرعى ولا التحليل الشرعى وحاصل ما فهمه المورد أن السنة تكون مبينة لأن النبى عليه الصلاة والسلام مبين فبها البيان فكيف تكون منسوخة بالقرآن وهذا حاصل الاستدلال على عدم جواز نسخ السنة بالقرآن وحاصل الجواب أن الناسخ بيان وهذا غلط لأن المستدل منع كونها منسوخة لكونها بيانًا، والبيان ليس نسخًا والجواب أثبت أن الناسخ بيان وأين هذا من ذاك بل كان حقه أن يثبت أن المنسوخ بيان لا الناسخ.

ص: 245

قال: (ويتعين الناسخ بعلم تأخره أو بقوله عليه السلام، هذا ناسخ أو ما فى معناه مثل: "كنت نهيتكم. . " أو بالإجماع، ولا يثبت بتعيين الصحابى إذ قد يكون عن اجتهاد وفى تعيين أحد المتواترين نظر ولا يثبت بقبليته فى الصحف ولا بحداثة الصحابى، ولا بتأخر إسلامه ولا بموافقة الأصل، وإذا لم يعلم ذلك فالوجه الوقوف لا التخيير).

أقول: لتعيين الناسخ ومعرفته من المنسوخ ومما ليس بناسخ ولا منسوخ طرق صحيحة، وطرق فاسدة:

القسم الأول: الطرق الصحيحة، فمنها: أن يعلم تأخره بضبط التاريخ مثل أن يعلم أن هذه نزلت فى غزوة كذا وتلك فى غزوة كذا، وهذه فى خامسة الهجرة وتلك فى سادستها.

ومنها: أن يقول عليه السلام: هذا ناسخ، وهذا منسوخ، إما صريحًا، وإما بأن يذكر ما هو بمعناه، نحو:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها. . "، "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحى، ألا فادخروها"، وأمثالهما.

ومنها: الإجماع على أنه ناسخ.

القسم الثانى: الطرق الفاسدة، فمنها: قول الصحابى هذا ناسخ فإن تعيينه قد يكون عن اجتهاده، ولا يجب اتباع المجتهد له فيه، نعم إذا تعارض متواتران فعين أحدهما فقال: هذا ناسخ لذلك هل يسمع؟ فيه نظر من حيث إنه نسخ للمتواتر بالآحاد، أو بالمتواتر والآحاد دليل كونه ناسخًا، وما لا يقبل ابتداء فقد يقبل إذا كان المآل إليه كما يقبل الشاهدان فى الإحصان، وإن ترتب عليه الرجم، دون الرجم، وشهادة النساء فى الولادة، وإن ترتب عليه النسب دون النسب، فجاء التجويز العقلى ولا دليل على أحد الطرفين فيتوقف.

ومنها: قبليته فى المصحف فيشعر بقبليته فى النزول وإنما لم تدل لأنها لم تترتب بترتيب النزول.

ومنها: حداثة من الصحابى لأنه متأخر الصحبة فيدل على تأخر ما نقله لأن منقول متأخر الصحبة قد يكون متقدمًا، وبالعكس، اللهم إلا أن تنقطع صحبة الأول، قبل صحبة الثانى، فيرجع إلى ما علم بقدم تاريخه.

ومنها: تأخر إسلامه وهو كما قبله.

ص: 246

ومنها: موافقته لحكم البراءة الأصلية، فيدل على تأخره من حيث إنه لو تقدَّم لم يفد إلا ما علم بالأصل فيعرى عن الفائدة الجديدة، وإذا تأخر أفاد الآخر رفع حكم الأصل، وهذا رفع حكم الأول، ولما عرفت طرق التعيين، فإذا لم يعلم الناسخ معينًا بطريقة وجب التوقف حتى يظهر دليل لا التخيير فيهما لأن مرجعه رفع حكمهما مع العلم بأن أحدهما حق، وأنه لا يجوز.

النسخ، وكأنه إنما أورده فى ذيل المسألة المذكورة لكونها أحوج المسائل إليه كذا ذكره العلامة.

قوله: (وما لا يقبل ابتداء) إزالة لما يتوهم من أن الآحاد لا يصلح ناسخًا فلا يصلح دليلًا عليه.

قوله: (لأن منقول) دليل على كونها من الطرق الفاسدة ولو قال: وإنما يدل لأنه منقول لكان أظهر.

قوله: (فيدل على تأخره) بيان لكيفية الاستدلال بهذا الطريق ولم يبين ضعفه لظهوره بناء على أنه لا يزيد على قول الصحابى واجتهاده مع أن العلم بكون ما علم بالأصل ثابتًا عند الشارع حكمًا من أحكامه فائدة جديدة والشارح العلامة عكس فتوهم أن موافقة الأصل تجعل دليل التقديم والمنسوخية ثم بين ضعفه بأن العكس أولى بناء على ما ذكره المحقق فى كيفية الاستدلال.

قوله: (أفاد الآخر) أى المخالف لحكم البراءة الأصلية.

قوله: (فالوجه الوقوف لا التخيير) مخالف لما فى الأصل حيث قال الواجب الوقوف على العمل بأحدهما أو التخيير بينهما إن أمكن وظاهر قوله إذا لم يعلم الناسخ معينًا شامل لما علم اقترانهما وإن لم يتصور ذلك من الشارع.

قوله: (لما ذكرنا) أنه ليس فى الآيات ما يدل عليه ولا يخفى أنه لا دلالة فى

الشارح: (ومما ليس بناسخ ولا منسوخ) الأولى حذفه لأنه ليس من الطرق الصحيحة ولا الفاسدة ما يعلم منه ما ليس بناسخ ولا منسوخ.

ص: 247

قال: (مسألة: الجمهور على جواز نسخ السنة بالقرآن، وللشافعى قولان لنا لو امتنع لكان لغيره والأصل عدمه، وأيضًا التوجه إلى بيت المقدس بالسنة، ونسخ بالقرآن، والمباشرة بالليل، كذلك، وصوم عاشوراء، وأجيب بجواز نسخه بالسنة ووافق القرآن، وأجيب بأن ذلك يمنع تعيين ناسخ أبدًا، قالوا: التبين والنسخ رفع لا بيان، قلنا المعنى لتبلغ ولو سلم فالنسخ أيضًا بيان ولو سلم فأين نفى النسخ، قالوا: منفر قلنا إذا علم أنه مبلغ فلا نفرة).

أقول: قد اختلف فى جواز نسخ السنة بالقرآن والجمهور على جوازه وللشافعى رضى اللَّه عنه فيه قولان، لنا أنه لو امتنع لامتنع لغيره واللازم منتف، إما لملازمة فلأنه بالنظر إلى نفسه ممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال، وإما انتفاء اللازم فلأن الأصل عدم غيره ولنا أيضا: الوقوع منه أن التوجه إلى بيت المقدس ثبت بالسنة فإنه ليس فى الآيات ما يدل عليه ثم نسخ بالقرآن، وهو قوله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 149]، ومنه حرمة المباشرة بالليل، ثبتت بالسنة لما ذكرنا ونسخت بالقرآن، وهو قوله تعالى:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187]، {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} [البقرة: 187]، ومنه صوم عاشوراء، ثبت بالسنة لما ذكرنا ونسخ بالقرآن، وهو قوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، واعترض عليه بأنا لا نسلم أن النسخ فيما ذكرتم من الصور بالقرآن لجواز أن يثبت بالسنة ويوافقه القرآن، فإن الحكم الموافق لنص لا يجب أن يكون منه.

الجواب: أن ذلك لو صح لمنع تعيين ناسخ أبدًا لتطرق مثل ذلك الاحتمال إليه وأنه خلاف الإجماع ولا يخفى أن ذلك غير لازم فيما علم بطرقه السابقة، وقد يقال ربما ثبت بما نسخ من الكتاب تلاوته.

قالوا: أولًا: قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، دل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام مبين للأحكام وهو الغرض من بعثته فلو نسخ بما جاء به لكان رافعًا لا مبينًا لأن نسخ الحكم رفع له ورفع الشئ لا يكون بيانًا له.

الجواب: أن المعنى بالبيان فى الآية تبليغه إليهم لأنه إظهار، ولو سلم فالنسخ أيضًا بيان لانتهاء أمد الحكم، ولو سلم فكونه مبينًا لا ينفى كونه ناسخًا أيضًا لأنه قد يكون مبينًا لما ثبت من الأحكام ناسخًا لما ارتفع منها ولا منافاة بينهما.

ص: 248

قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، على رفع وجوب صوم عاشوراء، إلا على القول بالمفهوم.

قوله: (إن ذلك لو صح لمنع تعيين ناسخ) ظاهره كلام على السند لكنه موجه لأن تقريره أنه ثبت من الكتاب ما يدل على رفع هذا الحكم ولم يثبت من السنة ولا ناسخ سواهما فتعين أن يكون هو الكتاب إذ لو اعتبرنا احتمال كونه سنة لم تبلغنا لزم خلاف الإجماع، وحينئذٍ يرد منع اللزوم بجواز أن يعلم تعيين الناسخ بالطرق المذكورة كتنصيص الشارع على العموم أو الإجماع على أن هذا ناسخ وذاك منسوخ ويتم الاعتراض وعليه اعتراض آخر وهو أنا لا نسلم أن الأحكام المذكورة من التوجه وحرمة المباشرة وصوم عاشوراء تثبت بالسنة؛ قولكم لأنه ليس فى الآيات ما يدل عليها قلنا يجوز أن تكون الآيات الدالة عليها منسوخة التلاوة ويمكن دفعه بأن الأصل هو العدم وأنه لو اعتد بمثل هذه الاحتمالات لاختل كثير من الأحكام.

قوله: (فلو نسخ) يعنى لو نسخ الرسول بعض الأحكام بما جاء به من القرآن لكان رافعًا لا مثبتًا وبهذا يندفع ما يورد على الجواب من أنه مغالطة لأن المستدل ينفى كون المنسوخ بيانًا للناسخ والمعترض أجاب بأن الناسخ بيان للمنسوخ نعم يصح ذلك لو استدل بالآية على أن السنة لا تصلح ناسخًا للقرآن.

قوله: (وهو) أى المفروض نسخ القرآن بالخبر المتواتر، وهذا لو صح لكان نسخًا

قوله: (وبهذا يندفع. . . إلخ) أى بجعل المراد لو نسخ الرسول وليس المراد لو نسخ بالبناء للمجهول.

قوله: (لأن المستدل ينفى كون المنسوخ بيانًا للناسخ) تحريف وحقه: ينفى كون المنسوخ بيانًا لا الناسخ أى لم ينفى كون الناسخ بيانًا وقوله: بيان للمنسوخ تحريف أيضًا وحقه: لا المنسوخ أى لم يجب بأن المنسوخ بيان.

قوله: (نعم يصح ذلك. . . إلخ) من جملة الكلام المردود قال ميرزاجان: ولا يبعد أن يقال هذا دليل الخصم فى المقام الثانى أعنى عدم جواز نسخ القرآن بالسنة فإنه ظاهر الانطباق عليه ففيه تحريف الكلم عن مواضعه فتدبر، وقد جعل فى

ص: 249

المنهاج هذا دليلًا على عدم جواز نسخ القرآن بالسنة وعكسه وبينه بعض الشارحين بأن التمسك به فى الأول بأن السنة مبينة للكتاب والنسخ رفع لا بيان فلا تنسخه السنة، وفى الثانى لما كانت مبينة له لم يجز نسخها به وإلا لكان بيانًا لها بناء على أن النسخ بيان الانتهاء فيلزم توقف كشف كل منهما على الآخر وهو دور أو يقال الآية تدل على أن المبين هو الرسول فلا يكون الكتاب مبينًا فلا يكون ناسخًا للسنة إذ النسخ بيان أقول لا يخفى ما فيه. اهـ.

ص: 250

قال (مسألة: الجمهور على جواز نسخ القرآن بالخبر المتواتر ومنع الشافعى رضى اللَّه عنه، لنا ما تقدم واستدل بأن لا وصية لوارث نسخ الوصية للوالدين والأقربين والرجم للمحصن نسخ الجلد، وأجيب بأنه يلزم نسخ المعلوم بالمظنون وهو خلاف الفرض، قالوا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ منْهَا أَوْ مثْلِهَا} [البقرة: 106]، والسنة ليست كذلك، ولأنه قال: {نَأْتِ} [البقرة: 106]، والضمير للَّه تعالى، وأجيب بأن المراد الحكم لأن القرآن لا تفاضل فيه فيكون أصلح للمكلف أو مساويًا وصح نأت لأن الجميع من عنده، قالوا: {قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدِّلَهُ} [يونس: 15]، قلنا ظاهر فى الوحى ولو سلم فالسنة بالوحى).

أقول: هذا عكس ما تقدم، وهو نسخ القرآن بالخبر المتواتر، وقد اختلف فى جوازه، والجمهور على جوازه ومنعه الشافعى رحمه الله، لنا ما تقدَّم من أنه لو امتنع لامتنع لغيره والأصل عدمه، واستدل بأنه وقع فإن قوله:"لا وصية لوارث" نسخ الوصية للوالدين والأقربين الثابت بالقرآن، وأيضًا فرجم المحصن ثبت بفعله وهو قد نسخ الجلد فى حقه وهو ثابت بالقرآن.

الجواب: أنه غير صحيح وإلا لزم نفى المعلوم بالمظنون لأن الخبرين المذكورين من قبيل الآحاد وأنه خلاف المفروض وهو نسخ القرآن بالمتواتر، بل من جملة الصور التى لا تجوز بالاتفاق.

قالوا: أولًا: قال اللَّه تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، وهذا يدل على عدم جواز نسخه بالسنة من وجهين: أحدهما: أن ما ينسخ به القرآن يجب أن يكون خيرًا أو مثلًا، والسنة ليست كذلك، ثانيهما: أنه قال: {نَأْتِ} [البقرة: 106]، والضمير للَّه، فيجب أن لا ينسخ إلا بما أتى به، وإنما هو القرآن.

الجواب: قولك: دلت الآية على أن ما ينسخ به القرآن خير منه أو مثله، قلنا لا نسلم بل على أن الحكم الناسخ خير للمكلف من المنسوخ لأن القرآن لا تفاضل فيه فيكون بعضه خيرًا من بعض ثم ما ثبت من الحكم بالسنة قد يكون أصلح بالنسبة إلى المكلف أو مساويًا لما ثبت بالقرآن.

قولك: قال: {نَأْتِ} والضمير للَّه، قلنا: يصح ذلك، وإن كان النسخ بالسنة لأن القرآن والسنة جميعًا من عنده، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ

ص: 251

إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4].

قالوا: ثانيًا: قال تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} [يونس: 15] الآية، نفى جواز التبديل عنه والنسخ تبديل، فينتفى جوازه منه، وهو المطلوب.

الجواب: أنه ظاهر فى الوحى وعدم تبديل لفظه، بأن يضع ما لم ينزل مكان ما أنزل، فلا يدل على منع تبديل الحكم ولو سلم فقد سبق أن السنة بالوحى، فلا يكون قد بدله من تلقاء نفسه، بل اللَّه هو المبدل.

له بخبر الواحد وهو غير جائز بالاتفاق بيننا وإن جوزه بعضهم على ما سبق فى نسخ المتواتر بالآحاد ويظهر بالتأمل أن قوله: وهو خلاف المفروض على هذا التقرير ليس حسن الانتظام لأن النسخ بالآحاد لا يخالف النسخ بالمتواتر بل يؤيده فلهذا ذهب بعضهم إلى أن المراد خلاف الفروض الذى هو امتناع نسخ القرآن.

قوله: (بخبر الواحد) على ما هو مفهوم المدعى حيث قيد الخبر بالمتواتر أو خلاف المجمع عليه المفروض لإجماعنا على امتناع نسخ القرآن بخبر الواحد، وقيل هو اعتراض على الجواب أى إنما يلزم نسخ المعلوم بالمظنون لو لم يكونا متواترين وهو خلاف فرض المستدل وهذا فى غاية البعد.

قوله: (قالوا: أولًا: قال اللَّه تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ. . .} [البقرة: 106]) مبنى الاستدلال على أن الخير أو المثل هو الذى وقع به النسخ وقد سلم ذلك فى الجواب، وهو باطل لأن الإتيان بالخير أو المثل كما رتب على النسخ فقد رتب على الإنساء وهو إذهاب لا إلى بدل، ولأن ترتب الإتيان به على النسخ يقتضى سابقة النسخ فلو كان النسخ به لزم الدور وقد سبق تحقيق ذلك على أنا فى مقام المنع وهو أنا لا نسلم دلالة ذلك على كون الناسخ هو الخير أو المثل بل على أنه إذا نسخ به أو أنساها فقد يأتى بآية أخرى العمل بها أكثر ثوابًا أو مساوٍ وقد يستدل بأن الآية تدل على أن بدل المنسوخ خير منه أو مثل له والناسخ بدل فيجب أن يكون كذلك وليس بشئ لأنه إن أريد بالبدل حكم يتعلق بالفعل المنسوخ حكمه على ما هو الحق فلا دلالة فى الآية على لزوم البدل فضلًا عن كونه خيرًا أو مثلًا كيف والإنساء إذهاب لا إلى بدل، وإن أريد الآية الأخرى التى نأتى بها فلا نسلم أنه الناسخ وقد سبق تحقيق ذلك.

ص: 252

قوله: (لا تفاضل فيه) يعنى بحسب النظم وإلا فالعمل ببعض الأحكام أكثر ثوابًا وقد يمنع ذلك وهو كلام على السند.

قوله: (وكلاهما) أى نسخ الإجماع بنص قاطع أو إجماع قاطع ونسخه بغيرهما

الشارح: (وعدم تبديل لفظه) رده بعضهم بأن ظاهر قوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15]، لا يلائم ذلك لأن المتابعة إنما هى فى الحكم.

قوله: (وقد سبق تحقيق ذلك) أى فيما كتبه على قوله: قد اختلف فى جواز نسخ التكليف من غير تكليف آخر حيث قال: والظاهر أن مراد القائلين بوجوب البدل فى النسخ هو إثبات حكم آخر متعلق بذلك الفعل الذى ارتفع عنه الحكم المنسوخ كالإباحة عند نسخ الوجوب أو الحرمة على ما ذهب إليه صاحب الكشاف من أن النسخ هو الإذهاب إلى بدل والإنساء هو الإذهاب لا إلى بدل واعترض عليه بأن الآية تدل على وجوب البدل فيهما جميعًا، والجواب أن المراد بالبدل حكم آخر متعلق بذلك الفعل والآية الأخرى لا يلزم أن تكون كذلك بل قد تدل على ما لا تعلق له بذلك الفعل. اهـ. رده ميرزاجان بأن كون الإنساء هو الإذهاب لا إلى بدل لا ينافى كونه نسخًا يترتب عليه الإتيان بالجزاء والمثل غير المتعلقين بالفعل وأجاب عن الدور بأن المراد ما نريد أن ننسخ من آية فالإتيان مرتب على إرادة النسخ وهو يقتضى سابقة إرادة النسخ لا النسخ فإذا كان النسخ به لم يلزم الدور.

ص: 253

قال: (مسألة: الجمهور على أن الإجماع لا ينسخ، لنا لو نسخ بنص قاطع أو بإجماع قاطع، كان الأول خطأ وهو باطل، ولو نسخ بغيرهما فأبعد، للعلم بتقديم القاطع. قالوا: لو أجمعت الأمة على قولين فإجماع على أنها اجتهادية، فلو اتفق على أحدهما كان نسخًا قلنا لا نسخ بعد تسليم جوازه وقد تقدمت).

أقول: قد اختلف فى جواز نسخ الإجماع، وهو رفع الحكم الثابت به، والجمهور على عدم جوازه، لنا لو نسخ فإما بنص قاطع أو بإجماع قاطع أو بغيرهما وكلاهما باطل، أما الأول، فلأنه يلزم أن يكون الإجماع على الخطأ لأنه على خلاف القاطع، وهو محال، وأما الثانى فلأنه أبعد من الأول؛ للإجماع على تقديم القاطع على غيره، فيلزم خطأ ذلك الإجماع كما فى الأول مع تقديم الأضعف على الأقوى، وهو خلاف المعقول.

قالوا: لو اختلفت الأمة على قولين فهو إجماع على أن المسألة اجتهادية يجوز الأخذ بكليهما ثم يجوز إجماعهم على أحد القولين كما مر فإذا أجمعوا بطل الجواز الذى هو مقتضى ذلك الإجماع وهو معنى النسخ.

الجواب: لا نسلم جواز ذلك فإنه مختلف فيه، ولو سلم فلا يكون نسخًا، لما تقدَّم أن الإجماع الأول مشروط بعدم الإجماع الثانى.

باطل لاستلزام الأول كون الإجماع المنسوخ على خلاف القاطع أما إذا كان نصًا فلتقدمه قطعًا وأما إذا كان إجماعًا فلأن سنده متقدم قطعًا واعترض بجواز أن يكون السند ظنيًا ولا يبعد أن المحقق عدل عن لفظ الأول فى المتن إلى لفظ الإجماع تنبيهًا على أن اللازم هو خطأ أحد الإجماعين المنسوخ أو الناسخ.

قوله: (ذلك الإجماع) الأولى: هذا الإجماع لكونه إشارة إلى الإجماع على تقديم القاطع.

قوله: (كما فى الأول) أى كما لزم فى الأول وهو نسخ الإجماع بالقاطع خطأ الإجماع.

قوله: (مع تقديم) يعنى لزم فى الثانى محذور آخر هو تقديم الأضعف الذى هو الناسخ الظنى على الأقوى الذى هو الإجماع المنسوخ أو الإجماع على تقديم القاطع، والأول هو الوجه ومبنى ذلك على أن الإجماع المتعارف الذى يتناوله

ص: 254

التعريف هو القطع لا غير فإن قيل: يجوز أن ينقل بطريق الآحاد فيكون ظنيًا قلنا: مرجع النسخ إلى الدلالة والمتن.

قوله: (لا نسلم جواز ذلك) أى لا نسلم الإجماع على جواز الأخذ بكل من القولين وذلك لأن منع الإجماع كاف ولا حاجة إلى منع الجواز ولهذا قال فى السند: فإنه مختلف فيه على ما سبق من منع الإجماع على تسويغ كل من القولين إذ كل فرقة تجوز ما تقول به وتنفى الآخر وقوله: ولو سلم إشارة إلى ما سبق أن الإجماع على تسويغ كل من القولين على تقدير تسليمه إنما يكون ما لم يوجد قاطع بمنعه والإجماع على أحد القولين مانع قاطع فصار الجواب ههنا بعينه ما ذكر فى جواب المانعين لوقوع الإجماع على أحد القولين بعد استقرار الخلاف وذهب العلامة إلى أن المراد بالمنع الأول منع وقوع الإجماع على أحد القولين كما هو رأى الأكثرين وهو الذى ذكر المصنِّفُ أنه بعيد إلا فى القليل.

قوله: (وهو كلام على السند) أى فلا يضر منعه.

المصنف: (كان الأول خطأ وهو باطل) قال فى التحرير: ليس هذا بشئ وإلا امتنع النسخ مطلقًا قال شارحه: وليس كذلك وإذا لم يلزم من القاطع المتأخر خطأ القاطع المتقدم لزم صحة الإجماع الأول إلى ظهور النص القاطع، أما الإجماع القاطع فيرتفع به كقطعى الكتاب بعد مثله ثم قال: بل إنما لا ينسخ الإجماع بنص متأخر لأنه لا يتصور لأن حجيته بقيد بعديته عليه السلام فلا يتصور تأخير النص عنه.

قوله: (فلتقدمه) أى تقدم النص على الإجماع فكان الإجماع خطأ.

قوله: (إلى لفظ الإجماع) أى حيث قال: فلأنه يلزم أن يكون الإجماع على الخطأ ولم يقل لأنه يلزم أن يكون الأول خطأ.

قوله: (أى كما لزم فى الأول. . . إلخ) أى فالتشبيه باعتبار خطأ الإجماع مطلقًا وإن كان فى الأول خطأ الإجماع على حكم يقابله النص أو الإجماع وفى الثانى خطأ الإجماع على تقديم القاطع على غيره.

قوله: (وذلك لأن منع الإجماع كاف فى ذلك) أى إنما فسرنا قوله: لا نسلم جواز ذلك بقولنا: أى لا نسلم الإجماع على الجواز، ولم نفسره على ظاهره.

ص: 255

قوله: (إلى أن المراد بالمنع منع وقوع الإجماع على أحد القولين) أى بعد الإجماع على جواز الأخذ بكل من القولين، وليس المراد بالمنع الأول منع الإجماع على جواز الأخذ بكل من القولين كما قال الشارح.

قوله: (وهو الذى ذكر المصنف أنه بعيد إلا فى القليل) أى يبعد أن يقع إجماع على أحد القولين بعد الإجماع على جواز الأخذ إلا نادرًا.

ص: 256

قال: (مسألة: الجمهور على أن الإجماع لا ينسخ به لأنه إن كان عن نص فالنص الناسخ وإن كان عن غير نص والأول قطعى فالإجماع خطأ أو ظنى فقد زال شرط العمل به وهو رجحانه. قالوا: قال ابن عباس لعثمان رضى اللَّه عنهما، كيف تحجب الأم بالأخوين وقد قال اللَّه تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 111]، والأخوان ليسا إخوة، فقال حجبها قومك يا غلام، قلنا إنما يكون نسخًا بثبوت المفهوم قطعًا، وأن الأخوين ليسا بإخوة قطعًا، فيجب تقدير النص وإلا كان الإجماع خطأ).

أقول: الإجماع كما أنه لا ينسخ فلا ينسخ به غيره عند الجمهور، وذلك لأن الإجماع إما أن يكون عن نص أو لا وعلى التقديرين فلا نسخ به، أما إذا كان عن نص فلأن النص حينئذ هو الناسخ، وأما إذا لم يكن عن نص فلأن الأول إما قطعى أو ظنى، فإن كان قطعيًا كان الإجماع على خلاف القاطع وخلاف القاطع خطأ فيلزم الإجماع على الخطأ وأنه باطل، وإن كان ظنيًا لم يبق مع الإجماع على خلافه دليلًا لأن شرط العمل به رجحانه وإفادته للظن، وقد انتفى بمعارضة القاطع له وهو الإجماع فلا يثبت به حكم فلا يتصور رفع ونسخ.

قالوا: قال ابن عباس لعثمان: كيف تحجب الأم بالأخوين، وقد قال اللَّه تعالى:{فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، والأخوان ليسا إخوة، فقال: حجبها قومك يا غلام. وهذا تصريح بإبطال حكم القرآن بالإجماع وهو النسخ.

الجواب: لا نسلم النسخ فإنه يتوقف على أن الآية أفادت عدم حجب ما ليس بإخوة قطعًا، وعلى أن الأخوين ليسا إخوة قطعًا، فإن ذلك لو ثبت بدليل ظاهر وجب حمله على غير ظاهره دفعًا للنسخ لكن دليل شئ منهما ليس بقاطع، فإن الأولى فرع ثبوت المفهوم، وإن ثبت فبظاهر، والثانية فرع أن الجمع لا يطلق لاثنين وإن ثبت أنه ليس حقيقة فيه فالجواز مجازًا مما لا ينكر، ولو سلم فيجب تقدير نص قد حدث قطعًا ليكون النسخ به وإلا لكان الإجماع على خلاف القاطع فكان خطأ، وأنه باطل.

ص: 257

قال: (مسألة: المختار أن القياس المظنون لا يكون ناسخًا ولا منسوخًا، أما الأول فلأن ما قبله إن كان قطعيًا لم ينسخ بالمظنون، وإن كان ظنيًا تبين زوال شرط العمل به وهو رجحانه لأنه ثبت مقيدًا كان المصيب واحدًا أو لا، وأما الثانى فلأن ما بعده قطعيًا أو ظنيًا تبين زوال شرط العمل به وأما المقطوع فينسخ بالمقطوع فى حياته، وأما بعده فتبين أنه كان منسوخًا، قالوا: صح التخصيص فيصح، قلنا منقوض بالإجماع، والعقل وخبر الواحد).

أقول: قد اختلف فى القياس هل يكون ناسخًا أو منسوخًا، وتفصيله أن القياس إما مظنون أو مقطوع:

القسم الأول: وهو المظنون لا يكون ناسخًا ولا منسوخًا أما إنه لا يكون ناسخًا فلأن ما قبله إما قطعى أو ظنى فإن كان قطعيًا لم يجز نسخه به لأن نسخ المقطوع بالمظنون غير جائز، وإن كان ظنيًا تبين زوال شرط العمل به وهو رجحانه وذلك لأنه ثبت مقيدًا بعدم ظهور معارض راجح أو مساوٍ فلا يجب العمل به عند ظهور معارض راجح سواء قلنا: كل مجتهد مصيب أو قلنا: المصيب واحد وحينئذٍ كان الواجب العمل به ما لم يظهر راجح وقد عمل به فلم يرفع ولا حكم له فى الزمان الذى ظهر فيه الراجح فيرفع فلا رفع على التقديرين لحكمه فلا نسخ، وأما إنه لا يكون منسوخًا، فلأن ما بعده لا بد أن يكون قطعيًا أو ظنيًا راجحًا وأيًا كان فقد بان زوال شرط العمل به لأنه ثبت مقيدًا والتقرير ما مر.

القسم الثانى: وهو المقطوع، ينسخ بالمقطوع فى حياته صلى الله عليه وسلم، وهو إذا نسخ حكم بالأصل بنص فيقاس عليه، وأما بعده فلا ينسخ إذ لا ولاية للنسخ للأمة، نعم قد يظهر أنه كان منسوخًا بأن يظهر نسخ حكم أصله، قالوا: يجوز النسخ بالقياس قياسًا على التخصيص به، والجامع كونهما تخصيصين وكون أحدهما فى الأعيان، والآخر فى الأزمان لا يصلح فارقًا إذ لا أثر له. الجواب: أنه منقوض بالإجماع وبالعقل وبخبر الواحد فإن ثلاثتها تخصص بها ولا ينسخ.

قوله: (القياس إما مظنون أو مقطوع) قيل المقطوع ما يكون علته منصوصة والمظنون مستنبطة وقيل المقطوع ما يكون حكم الأصل والعلة ووجودها فى الفرع قطعيًا والمظنون بخلافه.

ص: 258

قوله: (تبين زوال شرط العمل به) أى بذلك الظنى المتقدم على القياس الظنى وذلك الشرط هو رجحان ذلك الظنى بأن لا يظهر له معارض راجح، أو مساوٍ إذ بمجرد المعارض المساوى تبطل ظنيته فكيف بالراجح والقياس الظنى راجح لأنا فرضناه ناسخًا فيبطل وجوب العمل بالظنى المتقدم لانتفاء شرطه لا لكون القياس ناسخًا له فإن قيل: لا نعنى بالنسخ سوى بطلان حكمه عند ظهور القياس قلنا: بل معنى النسخ أن الحكم كان حقًا ثابتًا إلى الآن، وقد ارتفع وانتهى بالناسخ وههنا لم يبق عند ظهور المعارض حتى يرفع وفيه نظر لأنه لا معنى للرفع ههنا سوى حصول العلم بعدم بقاء ذلك الحكم ولهذا جوزوا نسخ النص الظنى مع جريان هذا الدليل فيه نعم يتم ما ذكرنا لو قلنا عند ظهور المعارض ببطلان حكم القياس المتقدم عن أصله ومن أول الأمر لكنهم لا يقولون بذلك.

قوله: (سواء قلنا) نفى لما ذكره أبو الحسين البصرى بعد تفاصيل المسألة هذا كله إنما يتم على القول بأن كل مجتهد مصيب إذ لو كان المصيب واحدًا فقط لم يكن القياس الأول معتدًا به فلا يكون منسوخًا.

قوله: (والتقرير ما مر) وهو أنه قبل ظهور المعارض قد عمل به فلا رفع وعنده لم يبق حكمه حتى يرفع فعلى التقديرين لا رفع.

قوله: (وهو المقطوع) أى القياس القطعى ينسخ بالمقطوع أى بالنص أو بالقياس القطعى وهذا يفيد كون القياس القطعى ناسخًا ومنسوخًا ولا حاجة إلى تقييد المقطوع الناسخ بالقياس وصورة ذلك أن ينسخ حكم الأصل بنص مشتمل على علة متحققة فى الفرع أيضًا بالقياس على الأصل فيتحقق قياس ناسخ وآخر منسوخ مثاله أن تثبت حرمة الربا فى الذرة بقياس على البر، منصوص العلة ثم تنسخ حرمة الربا فى البر تنصيصًا على علة مشتركة بينه وبين الذرة فتقاس عليه وترتفع حرمة الربا فيها فيكون نسخًا للقياس بالقياس ولو ورد نص نسخ الربا فى الذرة كان نسخًا بالنص.

قوله: (قد يظهر أنه) أى القياس كان منسوخًا كما إذا قاس الذرة على البر ثم اطلع على نص ناسخ لحكم البر فبان له أن حكم الذرة أيضًا كان منسوخًا.

قوله: (أنه منقوض) يعنى أن الثلاثة مما تختص به ولا نسخ اتفاقًا بيننا وبينكم وإن نازع غيرنا فى الإجماع وخبر الواحد كما مر وجعل بعضهم العقل ناسخًا كنسخ وجوب القيام على من قطع رجلاه وإنما اقتصر على النقض لأن الحل قد

ص: 259

سبق مرارًا وهو الفرق بأن النسخ رفع وإبطال بالكلية والتخصيص رفع وجمع بين الدليلين.

الشارح: (القياس: إما مظنون أو مقطوع) واعلم أن الظنون ثلاثة أقسام لأن حرمة الفرع قد تكون أقوى كما فى قياس حرمة الضرب مع حرمة التأفيف، وقد يكون مساويًا كما فى قياس صب البول فى الماء الراكد على البول فيه فى الحرمة، وقد تكون أضعف كما فى قياس حرمة النبيذ على الخمر، وقوله: سواء قلنا كل مجتهد مصيب أو قلنا المصيب واحد دفع لما عساه يتوهم من أن ثبوت القياس حين العمل بالمنسوخ إنما يكون إذا قلنا المصيب واحد لأن الحكم يكون حينئذ ثابتًا ويكون الاجتهاد تابعًا، أما إذا كان المصيب متعددًا فلا لأن الحكم حينئذ يكون تابعًا للاجتهاد فلا يكون له ثبوت قبل الاجتهاد وجه رده أنه إذا كان متعددًا كان مأخذ اجتهاده ثابتًا عند العمل بالظن المعارض له وزوال مأخذ الاجتهاد بمثابة زوال حكمه فيكون العمل بالظن مشروطًا بعدم ظهور معارضه وهو الاجتهاد والقياس كذا فى الأبهرى وهو خلاف تقرير المحشى.

الشارح: (وهو المقطوع ينسخ بالمقطوع. . . إلخ) مثاله أن يكون الشارع ذكر نصًا قاطعًا على خلاف حكم الفرع فيما إذا كان الناسخ النص، أو يكون قد نص على خلاف حكم الفرع فى محل يكون قياس الفرع عليه أقوى، وأما ما ذكره الشارح من قوله: إذا نسخ حكم الأصل فيقاس عليه فمختلف فيه لأنه إذا نسخ حكم الأصل هل يبقى معه حكم الفرع أم لا؟ وعلى تقدير عدم بقائه فافتقاره يرفع حكم الأصل ولأن نسخ حكم الأصل نسخ له بأن يقاس عدمه على عدم حكم الأصل كل ذلك فيه الخلاف.

الشارح: (وكون أحدهما فى الأعيان هو التخصيص) وقوله: والآخر فى الأزمان هو النسخ لأنه بيان انتهاء أمد الحكم على أن هذا الفرق غير ظاهر لأن التخصيص أيضًا قد يكون بحسب الأزمان كما إذا قال: ما أنا فاعل كذا أبدًا ثم قال: أردت عشرين سنة.

قوله: (لأنا فرضناه ناسخًا) أى وذلك إنما يكون لرجحانه.

قوله: (يعنى أن الثلاثة مما يختص به) تحريف وحقه مما يخصص به وقوله والتخصيص رفع تحريف وحقه: دفع بالدال.

ص: 260

قال: (مسألة: المختار جواز نسخ أصل الفحوى دونه وامتناع نسخ الفحوى دون أصله ومنهم من جوزهما، ومنهم من منعهما لنا أن جواز التأفيف بعد تحريمه لا يستلزم جواز الضرب وبقاء تحريمه يستلزم تحريم الضرب وإلا لم يكن معلومًا منه الجوز دلالتان فجاز رفع كل منهما قلنا إذا لم يكن استلزام المانع الفحوى تابعًا فيرتفع بارتفاع متبوعه قلنا تابع للدلالة لا للحكم والدلالة باقية).

أقول: الفحوى مفهوم الموافقة والأصل ما له المفهوم ونسخهما معًا جائز اتفاقًا واختلف فى نسخ أحدهما دون الآخر، فمنهم من جوزهما، ومنهم من منعهما والمختار جواز نسخ الأصل دون الفحوى، وامتناع نسخ الفحوى دون الأصل، لنا أن تحريم التأفيف ملزوم لتحريم الضرب وإلا لم يعلم منه من غير عكس للأولوية فى الفرع ونسخ الفحوى دون الأصل معناه بقاء تحريم التأفيف وانتفاء تحريم الضرب، وهو وجود الملزوم مع عدم اللازم وأنه محال، وأما عكسه وهو انتفاء تحريم التأفيف مع بقاء تحريم الضرب فرفع الملزوم مع بقاء اللازم وأنه لا يمتنع.

القائلون بالجواز فيهما قالوا: إفادة اللفظ للأصل والفحوى دلالتان متغايرتان فجاز رفع كل واحدة منهما بدون الأخرى ضرورة.

الجواب: لا نسلم دلالة التغاير على رفع كل واحد منهما دون الآخر وإنما يصح ذلك إذا لم يكن أحد الغيرين مستلزمًا للآخر.

القائلون بالامتناع فيهما قالوا: أما الفحوى دون الأصل فلما قلتم، وأما الأصل دون الفحوى فلأن الفحوى تابع للأصل فإذا ارتفع الأصل لم يمكن بقاؤه لوجوب ارتفاع التابع بارتفاع متبوعه وإلا لم يكن تابعًا له.

الجواب: أن دلالة اللفظ على الفحوى تابعة لدلالته على الأصل وليس حكمها تابعًا لحكمه فإن فهمنا لتحريم الضرب حصل من فهمنا لتحريم التأفيف لا أن الضرب إنما كان حرامًا لأن التأفيف حرام، ولولا حرمة التأفيف لما كان الضرب حرامًا، والذى يرتفع هو حكم تحريم التأفيف لا دلالة اللفظ عليه فإنها باقية، فالمتبوع لم يرتفع والمرتفع ليس بمتبوع.

قوله: (للأولوية فى الفرع) لما مر من أن فى مفهوم الموافقة المسكوت أولى بالحكم من المنطوق كالضرب فإنه أولى بالحرمة من التأفيف لكون الإيذاء أكثر وقد

ص: 261

يعترض فى هذا المقام بأن المعتبر فى الدلالة الالتزامية اللزوم فى الجملة بمعنى الانتقال إليه وهو لا يوجب اللزوم فى الحكم ولو سلم فعند الإطلاق دون التنصيص كما إذا قيل: اقتله ولا تستخف به.

قوله: (ولولا) عطف على: أن الضرب فينسحب حكم النفى عليهما جميعًا.

قوله: (بأن المعتبر فى الدلالة الالتزامية اللزوم فى الجملة. . . إلخ) أى وإذا كان المعتبر اللزوم فى الجملة لا فى الحكم فلا يمتنع نسخ الفحوى مع بقاء الأصل وليس فيه رفع اللازم مع بقاء الملزوم، ولو سلم أن اللزوم فى الحكم فرفع اللازم مع بقاء الملزوم فى الحكم إنما يمتنع عند عدم التنصيص أما لو نص عليه كما إذا قيل: اضربه ولا تقل له: أف فلا، وفى مسلم الثبوت وشرحه: أن انتساخ الفحوى دون أصله جائز لجواز ظنية اللزوم بين الأصل والفحوى فيجوز تخلف الأصل عن الفحوى ولهذا صح اقتله ولا تستخف به مع أن النهى عن الاستخفاف كاف يدل على النهى عن القتل بجامع الإيذاء لكن لظنيتها تخلف عنه عند طلوع شمس العبارة الناطقة ثم قال مانعو العكس قالوا: الأصل ملزوم للفحوى والفحوى لازم ويجوز انتفاء الملزوم وبقاء اللازم دون العكس فلا يجوز بقاء الأصل دون الفحوى قلنا ذلك أى استحالة بقاء الملزوم دون اللازم إذا كان اللزوم عقليًا قطعًا وهو غير لازم هنا لأنه قد مر أن اللزوم قد يكون ظنيًا ثم قال: إن إنكار استحالة بقاء الملزوم دون اللازم مكابرة وانظر تمام كلامه.

ص: 262

قال: (مسألة: المختار إذا نسخ حكم أصل القياس لا يبقى معه حكم الفرع لنا خرجت العلة عن الاعتبار فلا فرع، قالوا: الفرع تابع للدلالة لا للحكم كالفحوى، قلنا يلزم من زوال الحكم زوال الحكمة المعتبرة فيزول الحكم مطلقًا لانتفاء الحكمة، قالوا: حكمتم بالقياس على انتفاء الحكم بغير علة، قلنا حكمنا بانتفاء الحكم لانتفاء علته).

أقول: إذا نسخ حكم أصل القياس هل يبقى معه حكم الفرع؟ المختار أنه لا يبقى، وقيل يبقى وإذا قلنا: لا يبقى ففى تسميته نسخًا لحكم الفرع نزاع لفظى لنا أنه يستلزم خروج علة الأصل عن كونها معتبرة شرعًا حيث علم إلغاؤها بعدم ترتيب الحكم عليها فى الأصل، والفرع إنما يثبت بالعلة فإذا انتفت العلة انتفى الفرع، وإلا لزم ثبوت الحكم بلا دليل.

قالوا: أولًا: الفرع تابع للدلالة لا لحكم الأصل فلا يلزم من انتفاء الحكم انتفاء الدلالة ولم يحدث شئ إلا انتفاء الحكم والدلالة الثابتة باقية فيبقى حكم الفرع وهو بعينه الذى صرتم إليه فى جواز نسخ الأصل دون الفحوى.

الجواب: لا نسلم أنه لم يحدث شئ إلا انتفاء الحكم بل ثبت انتفاء الحكمة المعتبرة شرعًا وهو ملزوم لانتفاء الحكم لاستحالة بقائه بغير حكمة معتبرة فينتفى الحكم ولا كذلك فى المفهوم إذ لا يلزم من انتفاء الحكمة المحرمة للتأفيف انتفاء الحكمة المحرمة للضرب؛ إذ لا يلزم من ارتفاع الأقوى ارتفاع الأضعف.

قالوا: ثانيًا: هذا حكم يرفع حكم الفرع قياسًا من غير علة جامعة بينهما موجبة للرفع والقياس بلا جامع فاسد.

الجواب: هذا ليس حكمًا بالقياس بل بانتفاء الحكم لانتفاء علته، وذلك نوع آخر من الاستدلال لا يحتاج إلى أصل وفرع وعلة، نعم علمنا عدم اعتبار العلة ببطلان حكم الأصل لا أنا قسنا الفرع فى عدم الحكم بالأصل بجامع عدم العلة.

قوله: (لاستحالة بقائه) يعنى أن العلة ليست مجرد أمارة أو حكمة باعثة على مجرد شرعية الحكم حتى يعتبر ابتداء لا بقاء بل هى حكمة باعثة معتبرة فى ثبوت الحكم وبقائه فينتفى الحكم بانتفائها ضرورة.

قوله: (إذ لا يلزم من ارتفاع الأقوى) كالحكمة المحرمة للتأفيف، ارتفاع

ص: 263

الأضعف كالحكمة المحرمة للضرب وذلك أن ما يكون حكمة باعثة على تحريم التأفيف، كان غاية فى إيجاب التعظيم والمنع عن الإيذاء حتى يستتبع تحريم الشتم والضرب وسائر أنواع الإيذاء بخلاف حكمة تحريم الضرب فإنه لا يكون فى تلك الغاية وحاصله أن الرعاية والعناية فى تحريم التأفيف فوقها فى تحريم الضرب وأخص منها وانتفاء الأعلى والأخص لا يوجب انتفاء الأدنى والأعم وبهذا يظهر فساد ما يقال: إن التأفيف أضعف من الضرب فالمناسب أن يقال لا يلزم من ارتفاع الأضعف ارتفاع الأقوى.

قوله: (وبهذا يظهر فساد ما قيل. . . إلخ) أى بكون المراد بالأقوى والأضعف الحكمة لا نفس الضرب والتأفيف يظهر فساد. . . إلخ.

ص: 264

قال: (مسألة: المختار أن الناسخ قبل تبليغه صلى الله عليه وسلم لا يثبت حكمه لنا لو ثبت لأدى إلى وجوب وتحريم للقطع بأنه لو ترك الأول أثم، وأيضًا فإنه لو عمل بالثانى عصى اتفاقًا، وأيضًا يلزم قبل تبليغ جبريل عليه السلام، وهو اتفاق، قالوا: حكم فلا يعتبر علم المكلف قلنا لا بد من اعتبار التمكن وهو منتف).

أقول: إذا بلغ الناسخ من جبريل إلى الرسول صلى اللَّه عليهما وسلم وهو بعد لم يبلغ إلى المكلفين ففى الزمان المتخلل بين التبليغين هل يثبت حكم الناسخ؟ قال قوم: إنه ثبت والمختار أنه لا يثبت، لنا لو ثبت حكمه لأدى إلى وجوب وتحريم فى محل واحد وأنه محال، بيانه أن حكمه تحريم العمل بالأول فيكون حرامًا وأنه واجب إذ لو ترك العمل به وهو غير معتقد نسخه لأثم قطعًا، ولنا أيضًا أنه لو عمل بالثانى قبل إعلامه وهو معتقد عدم شرعيته لأثم قطعًا، ولو ثبت حكمه لما أثم بالعمل به، ولنا أيضًا أنه لو ثبت حكمه قبل تبليغ الرسول لثبت قبل تبليغ جبريل واللازم باطل بالاتفاق، بيان الملازمة أنهما سواء فى وجود الناسخ وعدم المكلف به ووجوده مقتض لحكمه وعدم علم المكلف لا يصلح مانعًا فيثبت حكمه عملًا بالمقتضى السالم عن المعارض.

قالوا: هذا حكم تجدد فلا يعتبر علم المكلف به كما إذا بلغ إلى مكلف فإن حكمه يثبت فى حق الجميع اتفاقًا.

الجواب: حق أن العلم ليس بمعتبر لكن التمكن من العلم معتبر وإلا كان تكليفًا بالمحال والتمكن فى هذه الصورة منتف فلا يثبت لا لعدم علمه بل لعدم تمكنه من العلم وهو شرط للتكليف.

قوله: (لكن التمكن من العلم معتبر) لتمكن الامتثال وتقرير الشارحين أن التمكن من الامتثال معتبر وهو موقوف على العلم والمآل واحد ولفظ المتن محتمل ووجه انتفاء التمكن من العلم أن ما لا سبيل إليه إلا بإعلام الشارع فعلمه بدونه محال.

ص: 265

قال: (مسألة: العبادات المستقلة ليست نسخًا، وعن بعضهم صلاة سادسة نسخ، وأما زيادة جزء مشترط أو زيادة شرط أو زيادة نرفع مفهوم المخالفة فالشافعية والحنابلة ليس بنسخ والحنفية نسخ، وقيل الثالث: نسخ عبد الجبار إن غيرته حتى صار وجوده كالعدم شرعًا كزيادة ركعة فى الفجر وكعشرين فى القذف وكتخيير فى ثالث بعد اثنين فنسخ. والغزالى: إن اتحدت كركعة فى الفجر فنسخ بخلاف عشرين فى القذف، والمختار أن رفعت حكمًا شرعيًا بعد ثبوته بدليل شرعى فنسخ لأنه حقيقته وما خالفه ليس بنسخ فلو قال فى السائمة الزكاة ثم قال فى المعلوفة الزكاة فلا نسخ فإن تحقق أن المفهوم مراد فنسخ، وإلا فلا ولو زيدت ركعة فى الصبح فنسخ لتحريم الزيادة ثم وجوبها والتغريب على الحد كذلك، فإن قيل منفى بحكم الأصل، قلنا هذا لو لم يثبت تحريمه فلو خير فى المسح بعد وجوب الغسل فنسخ للتخيير بعد الوجوب ولو قال واستشهدوا شهيدين ثم ثبت الحكم بالنص بشاهد ويمين فليس بنسخ إذ لا رفع لشئ ولو ثبت مفهومه ومفهوم فإن لم يكونا رجلين إذ ليس فيه منع الحكم بغيره ولو زيد فى الوضوء اشتراط غسل عضو فليس بنسخ لأنه إنما حصل وجوب مباح الأصل. قالوا: لو كانت مجزئة ثم صارت غير مجزئة، قلنا معنى مجزئة امتثال الأمر بفعلها ولم ترتفع وارتفع عدم توقفها على شرط آخر وذلك مستند إلى حكم الأصل وكذلك لو زيد فى الصلاة ما لم يكن محرمًا).

أقول: زيادة عبادة على ما قد شرع من العبادات هل يكون نسخًا أم لا ينظر فى الثانية أهى مستقلة أو غير مستقلة أما العبادات المستقلة فليست نسخًا بالاتفاق، وعن بعضهم إن شرع إيجاب صلاة سادسة خاصة نسخ لأنه يخرج الوسطى عن كونها وسطى فيبطل وجوب المحافظة عليها الثابت بقوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، وأنه حكم شرعى وهو النسخ، وحله أنه لا يبطل وجوب ما صدق عليه أنها وسطى وإنما يبطل كونها وسطى وليس حكمًا شرعيًا.

وأما العبادات الغير المستقلة فهى على ثلاثة وجوه:

أحدها: أن تكون مع الأولى جزأين لعبادة ويشترط الزيادة فى الأولى فلا تعتبر إذا أفردت ولم تضم إليها الزيادة، كزيادة ركعة فى الفجر.

ص: 266

ثانيها: أن تجعل الزيادة شرطًا للأولى ولا تكونا جزأين لعبادة كالطهارة فى الطواف.

وثالثها: أن يرفع المفهوم المخالفة للأولى، مثل إيجاب الزكاة فى المعلوفة بعد قوله:"فى الغنم السائمة زكاة".

فهذه الصور هى محل الخلاف فقالت الشافعية والحنابلة أنها ليست بنسخ مطلقًا، وقالت الحنفية: نسخ مطلقًا، وقال قوم: الثالث وهو ما يرفع مفهوم المخالفة نسخ دون الأولين وهما الجزء المشترط والشرط، وقال القاضى عبد الجبار: الزيادة إن غيرت الأصل تغييرًا شرعيًا حتى صار وجوده كالعدم فنسخ وإلا فلا وذكر أمثلة:

منها: زيادة ركعة على ركعتى الفجر نسخ لأنهما لا يجزيان دونها.

ومنها: زيادة التغريب على الجلد فإنه لا يحصل الحد بالجلد دونه.

ومنها: زيادة عشرين جلدة على حد القذف فإنه لا يحصل الحد بدون العشرين.

ومنها: أن يخير المكلف فى أمرين ثم يخير فيهما وفى أمر ثالث، يقول أعتق أو صم ثم يقول أعتق أو صم أو أطعم، فإن ترك الأولين مع فعل الثالث غير محرم، وقد كان محرمًا فهو كالعدم فى انتفاء الحرمة عنهما، وقال الغزالى: إن اتصلت الزيادة بالأصل زيادة اتحاد فهو نسخ، وإلا فلا، مثاله: زيادة ركعة على صلاة الفجر لأنه لو عدم لم يكن للركعتين أثر أصلًا، وكان الثلاث واجبة بخلاف زيادة عشرين على حد القذف إذ لو عدم كان للباقى أثر إذ سقط الباقى به ولا يجب إلا العشرون.

والمختار أنه إن رفع حكمًا شرعيًا بدليل شرعى كان نسخًا، وإلا فلا، وذلك أن حقيقة النسخ ذلك فإذا ثبت ثبت وإذا انتفى انتفى، ولنذكر أمثلة:

منها: لو قال: "فى الغنم السائمة الزكاة" ثم قال: "فى المعلوفة زكاة"، فإن ثبت المفهوم وتحقق أنه كان مرادًا فنسخ وإلا فلا إذ لا رفع إنما هو دفع للمفهوم إن ثبت.

ومنها: إذا زاد فى صلاة الصبح ركعة فجعلها ثلاث ركعات، كان نسخًا لأنه قد ثبت تحريم الزيادة عليها، ثم ارتفع بوجوبها وكلاهما حكم شرعى.

ص: 267

ومنها: زيادة التغريب على الجلد لأنه قد ثبت تحريم الزيادة ثم وجوبها وكلاهما بدليل شرعى، فإن قيل وجوب التغريب كان منفيًا بالأصل فرفعه رفع لحكم الأصل ومثله لا يكون نسخًا، قلنا: هذا إنما يصحح لو لم يثبتا تحريمه، فإن التحريم ليس بالأصل بل بدليل شرعى.

ومنها: لو أوجب غسل الرجلين معينًا ثم خير بينه وبين مسح الخف، فهو نسخ لأنه رفع الوجوب عينًا بوجوب أحد الأمرين مخيرًا وهو غيره، وقد ثبتا بدليل شرعى.

ومنها: لو قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة: 282] ثم ورد نص على جواز الحكم بشاهد ويمين، فإنه ليس بنسخ لأن المرفوع به عدم جواز الحكم بشاهد ويمين، وقوله:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} لم يثبته فإن قيل مفهوم قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} ، ومفهوم قوله:{فَإِن لَّمْ يَكونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] يمنع الحكم بالشاهد واليمين لأنه غيرهما، والنص قد نفى الغير بالمفهوم، قلنا دل على طلب الاستشهاد لرجلين ما أمكن ولرجل وامرأتين إذا تعذر، فإن سلم مفهومهما فهو إن غيره غير مطلوب، وأما أنه لا يحكم بغيرهما إذا حصل فلم يدل عليه بمنطوق ولا بمفهوم.

ومنها: لو زيد فى الوضوء غسل عضو فليس بنسخ على الأصح لأنه رفع مباح الأصل.

قالوا: نسخ لأن الأعضاء دونه كانت مجزئة، ولم تبق الآن مجزئة والإجزاء حكم شرعى، وقد ارتفع.

الجواب: أن الإجزاء بدونه يدل على الامتثال بفعله وعدم توقفه على شرط آخر، أما الامتثال بفعله فلم يرتفع، وأما عدم توقفه على شرط آخر وإن ارتفع فليس حكمًا شرعيًا بل هو مستند إلى حكم البراءة الأصلية.

ومنها: لو زيد فى الصلاة ركن فإن كان محرمًا قبل فهو نسخ لحرمته لا للصلاة وإن لم يكن محرمًا فليس بنسخ لأنه رفع لحكم الأصل.

قوله: (وعن بعضهم) كأنه لم يعتد بهم فادعى الاتفاق أو جعل ذكرهم بمنزلة الاستثناء.

ص: 268

قوله: (جزء مشترط) بطريق الوصف دون الإضافة وحاصله أن تكون الزيادة شرطًا فى صحة المزيد عليه ويحصل من مجموع الشرط والمشروط عبارة واحدة فتكون الزيادة بالنسبة إليها جزءًا وبالنسبة إلى المزيد عليه شرطًا كزيادة ركعة فى الفجر بحيث لا تبقى الركعتان بدونها معتدًا بهما فالركعة الزائدة شرطًا للركعتين وجزء من الركعات الثلاث التى هى عبادة واحدة هى صلاة الفجر.

قوله: (وقالت الحنفية نسخ مطلقًا) إنما يصح لو كان فيهم من يقول بمفهوم المخالفة والأولى أن يحمل قول المصنِّف الحنفية: نسخ على الأولين أعنى الجزء المشترط والشرط دون ما يرفع مفهوم المخالفة ومثل هذا الاختصار غير غزير فى كلامه وعبارة الآمدى سالمة عن هذا الإشكال.

قوله: (عبد الجبار) تقرير مذهبه على ما فى المحصول وجميع الشروح أن الزيادة إن غيرت المزيد عليه حتى صار وجوده كالعدم شبهها بمعنى أنه لو فعل كما كان يفعل قبل الزيادة وجب استئنافه كان نسخًا وإلا فلا ولا خفاء فى أن هذا إنما يصح فى زيادة ركعة على ركعتى الفجر لا فى زيادة عشرين على الثمانين إذ لا يجب الاستئناف بل ضم عشرين إلى الثمانين ولا فى التخيير بين الثلاث بعد التخيير بين الاثنين لحصول الامتثال بفعل واحد من الاثنين، والمصنف لما لم يتعرض لوجوب الاستئناف لم يرد عليه الثانى لأن الثمانين بمنزلة العدم فى أنه لا يحصل بها الحد لكن ورود الثالث ظاهر لأن الإتيان بأحد الأولين ليس بمنزلة العدم فتكلف الشارح المحقق على ما هو دأبه فى المضايق ولم يلتفت إلى ظهور أن المراد تساوى الوجود والعدم فى عدم حصول المقصود وقال إن عدم الأصل أعنى ترك الأمرين الأولين كالإعتاق والصوم مثلًا قد كان محرمًا قبل زيادة الإطعام وبعده لم يبق محرمًا بل انتفت عنه الحرمة فصار وجود الأصل أعنى الإتيان بأحد الأمرين بمنزلة عدمه أعنى تركهما جميعًا فى انتفاء الحرمة عنهما أى عن الوجود والعدم إذ له أن يأتى بأحدهما وأن يتركهما جميعًا ويأتى بالثالث وإنما العجب من المصنِّف أولًا ومن الشارح ثانيًا، كيف ذهلا عن كلام الآمدى ووقعا فى ذلك؟ وكيف لم يتحققا مذهب القاضى عبد الجبار من الكتب المعتبرة؟ وكيف زاد الشارح فى الأمثلة تغريب العام؟ وقد قال الآمدى مذهب القاضى عبد الجبار إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه بحيث صار لو فعل بعدها كما كان يفعل قبلها كان وجوده كعدمه

ص: 269

ووجب استئنافه كزيادة ركعة فى الفجر كان نسخًا أو كان قد خير بين فعلين فزيد ثالث كان نسخًا كتحريم ترك الأولين وإلا فلا كزيادة التغريب على الحد، وزيادة عشرين على الثمانين فى القذف وهذا صريح فى أن زيادة التغريب فى العشرين ليس بنسخ وأن التخيير بين الثلاث نسخ لا من حيث دخوله تحت الضابط المذكور وفى معتمد الأصول كذلك بعينه وقد أوردنا عبارته فى شرح التنقيح.

قوله: (إذ لو عدم) أى الزائد وهو العشرون كان للباقى وهو الثمانون أثر إذ سقط الباقى أى وجوبه به أى بفعل الباقى وهو جلد ثمانين.

قوله: (والمختار) ذكر صاحب التنقيح أن هذا كلام خال عن التحصيل لأن كل واحد يعلم ذلك ويعترف به إنما الكلام فى أن أى صورة تقتضى رفع حكم شرعى وأى صورة لا تقتضيه ثم عبارة الشرح ههنا أخص من عبارة المتن إشارة إلى أن قوله بعد ثبوت مما لا حاجة إلى ذكره للقطع بأن رفع الشئ إنما يتصور بعد ثبوته والحق أن قوله بدليل شرعى أيضًا مما لا يليق ذكره بالاختصار سواء تعلق بثبوته على ما اختاره الشارحون أو بالرفع على ما هو الظاهر من الشرح لظهور أن ثبوت الحكم الشرعى أو كون زيادة العبادة رفعًا لما لا يتصور إلا بدليل شرعى ثم لا يخفى ما فى تقرير المثال الأول فى المتن حيث ذكره أولًا أنه لو قال فى الغنم السائمة الزكاة ثم قال فى المعلوفة الزكاة فليس بنسخ ثم قال فإن تحقق أن المفهوم مراد فنسخ وإلا فلا وقيده الشارح بأنه إن ثبت المفهوم وتحقق أنه كان مرادًا فنسخ ضرورة تحقق رفع حكم شرعى وإلا فلا لعدم تحقق الرفع إما لعدم ثبوت المفهوم أو لعدم إرادته على تقدير ثبوته فى الجملة، فهو على الأول ابتداء إيجاب برفع العدم الأصلى وعلى الثانى بيان أن مفهوم المخالفة وإن كان ظاهرًا لكنه غير مراد بمنزلة تخصيص العام واقتصر الشارح على بيان الثانى وكان مراد المصنِّف أنه لا نسخ إن لم يثبت المفهوم وإن ثبت فإن تحقق أنه كان مرادًا فنسخ وإلا فلا.

قوله: (فإن قيل وجوب التغريب) تخصيص للسؤال بزيادة التغريب والشارح العلامة عممه وقال التقدير فإن قيل الزائد فى الصورتين منفى بحكم الأصل ليشمل وجوب الركعة فى الصبح والتغريب فى الحد فليس ببعيد.

قوله: (وهو غيره) أى الوجوب عينًا غير الوجوب مخيرًا لأن موجب الأول المنع عن ترك المعين وموجب الثانى جوازه.

ص: 270

قوله: (فإن قيل) يشير إلى أن قوله ولو ثبت مفهومه إلخ جواب سؤال تقريره هب أن مجرد استشهدوا شهيدين لم يثبت عدم جواز الحكم بشاهد ويمين لكن مفهوم النص أثبته حيث حصر البينة فى النوعين رجلين ورجل وامرأتين وواجب أنه إذا لم يكن رجلان لزم رجل وامرأتان فدل على أنه لا بينة بشاهد ويمين وإلا لما كان اللازم عند عدم الرجلين رجلًا وامرأتين وتقرير الجواب أن المنحصر طلب الاستشهاد بمعنى أن اللازم رجلان على تقدير الإمكان ورجل وامرأتان على تقدير التعذر فإن منع المفهوم كما هو رأى الحنفية فلا نسخ وإن سلم فليس مفهوم قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وقوله:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، سوى أن غير هذا الاستشهاد ليس بمطلوب بمعنى أن طلب الاستشهاد لم يتعلق إلا بهذين النوعين وأنه لا يصح الحكم بغير النوعين فلا دلالة عليه للنص لا بالمنطوق ولا بالمفهوم.

قوله: (لو زيد فى الوضوء) قد يتوهم أنه لو كان فى خلاله لرفع وجوب الترتيب وليس بشئ نعم لو وجب الموالاة كان ذلك رفعًا له فكان نسخًا.

قوله: (وإن لم يكن محرمًا فليس بنسخ) يشكل بالمندوب فإن إيجابه نسخ لكونه رفعًا لحكم شرعى وكذا المكروه.

المصنف: (أو زيادة ترفع مفهوم المخالفة) أى زيادة عبارة غير مستقلة ترفع حكم المخالفة كإيجاب الزكاة فى المعلوفة فإنه عبارة غير مستقلة لتعلقها بالمفهوم الذى رفعته.

المصنف: (والحنفية نسخ) يترتب على النسخ أن ما ذكر لا يثبت بخبر الآحاد إذا كان الأصل قطعيًا.

المصنف: (قالوا لو كانت مجزئة) الصواب إسقاط لو.

الشارح: (فهو كالعدم) أى الإتيان بأحد الأمرين المخير فيهما كالعدم أى كتركهما جميعًا فى انتفاء الحرمة عنهما.

قوله: (فإنه لم يعتد بهم) هذه القولة حقها التأخير على التى بعدها لأنها على الشارح وما بعدها على المصنف.

قوله: (لا من حيث دخوله تحت الضابط المذكور) أى لأنه اعتبر فيه وجوب

ص: 271

الاستئناف وليس محققًا فيه وقد جعله الشارح داخلًا تحت الضابط بعد حذف قيد وجوب الاستئناف من الضابط.

قوله: (وفى معتمد الأصول كذلك بعينه) نقل أبو الحسين عنه فى المعتمد وهو شارح كتاب العدة بعدما هنا أنه عنده أن زيادة شرط منفصل عن العبادة لا يكون نسخًا، ثم اعترض على كلامه بأن ما قاله أولًا من أن الزيادة إنما تكون نسخًا إذا جعلت المزيد عليه بدونها كأنه لم يفعل ووجوب استئنافه منقوض بما قاله من أن زيادة شرط منفصل عن العبادة لا يكون نسخًا لأن زيادة الطهارة فى الطواف مثلًا تجعل الطواف بدونها كأنه لم يفعل ويجب استئنافه فالقاعدة منطبقة عليه وقد جعله ليس نسخًا واعترض كلامه أيضًا بأن زيادة التغريب والعشرين جلدة فى الحديث قد جعلها غير ناسخة مع جعل التخيير بين ثلاثة وقد كان بين اثنين نسخًا مع أنه لا فرق بينهما لأن التخيير بين واجبين لا تعرض فيه لتحريم الثالث ولا إيجابه وكذا لا تعرض فى الحديث لتحريم التغريب والعشرين ولا إيجابهما وإنما يعلم انتفاؤها من الأصل فكما لا نسخ فى زيادة التغريب والعشرين لرفعهما حكم الأصل فكذلك زيادة ثالث فى التخيير لا يقال: إن القاضى قد قال فى زيادة الثالث فى التخيير أنها نسخ لقبح ترك الأولين وقبح تركهما حكم شرعى لأنا نقول قبح تركهما لم يعلم بمجرد التخيير بل منه ومن أن الأصل عدم وجوب ثالث ألا ترى أنه لو لم يعلم إلا وجوب الشئ على البدل ولم يعلم أن الثالث غير واجب لم يعلم قبح تركهما وإذا لم يتمحض كون القبح معلومًا بالشرع كان زيادة الثالث رفعًا لحكم عقلى.

قوله: (إن هذا كلام خال عن التحصيل. . . إلخ) قد أوضحه السبكى فيما كتبه على ابن الحاجب فقال وأنا أقول لا حاصل لهذا التفصيل وليس هو بواقع فى محل النزاع فإنه لا ريب فى أن ما رفع حكيا شرعيًا كان نسخًا لأنه حقيقته ولنا فى مقام إن النسخ رفع أو بيان وما لا فليس بنسخ فالقائل إنا نفرق بين ما رفع حكمًا شرعيًا وما لم يرفع كأنه قال إن كانت الزيادة نسخًا فهى نسخ وإلا فلا وهذا كما تراه، وإنما حاصل النزاع بينهم فى أن الزيادة هل ترفع حكمًا شرعيًا فيكون نسخًا أو لا فلو وقع الاتفاق على أنها ترفع حكمًا شرعيًا لوقع على أنها نسخ أو على أنها لا ترفع لوقع على أنها ليست بنسخ فالنزاع فى الحقيقة فى أنها هل هى رفع أو لا ولذا أكثر الأئمة فى المسألة من تعداد الأمثلة ليعتبرها النظر ويردها إلى مقارها

ص: 272

ويقضى عليها بالنسخ إن كانت رفعًا وبعدمه إن لم تكن قال ولى وراء هذا التقرير كلام آخر فأقول قولنا الزيادة هل هى نسخ ليس معناه إلا أنها هل هى نسخ للمزيد عليه نفسه فلا يتجه حينئذ قول من يقول: إنها إن رفعت حكمًا شرعيًا كانت نسخًا لأنه ليس كلامنا فى أنها هل هى نسخ من حيث هو أم لا إنما كلامنا فى نسخ خاص فهل هى نسخ للمزيد عليه أم لا والمزيد عليه حكم شرعى بلا نظر فهل الزيادة رافعة له فيكون منسوخًا أو لا هذا حرف المسألة ولكنهم توسعوا فى الكلام فذكروا ما إذا رفعت المزيد عليه وما إذا رفعت غيره. اهـ.

قوله: (وتحقق أنه كان مرادًا) أى بأن تحقق شروط اعتباره من كونه ليس التقييد للغالب وما معه.

قوله: (وقال التقدير فإن قيل. . . إلخ) هكذا فى النسخ وهو تحريف والصواب إسقاط التقدير وقوله فليس ببعيد الأولى وليس ببعيد.

قوله: (وأنه لا يصح الحكم) فيه سقط والأصل وأما إنه لا يصح.

ص: 273

قال: (مسألة: إذا نقص جزء العبادة أو شرطها فنسخ للجزء والشرط لا للعبادة وقيل نسخ للعبادة، عبد الجبار: إن كان جزءًا لا شرطًا لنا لو كان نسخًا لوجوبها افتقرت إلى دليل ثان وهو خلاف الإجماع، قالوا: ثبت تحريمها بغير طهارة وبغير الركعتين، ثم ثبت جوازها أو وجوبها بغيرهما، قلنا الفرض لم يتجدد وجوب).

أقول: ما تقدَّم حكم الزيادة فى العبادة، وأما النقصان عنها وهو أن ينقص جزء أو شرط مثل أن يسقط من الظهر ركعتان أو يبطل اشتراط الطهارة فيه فهو نسخ للجزء والشرط اتفاقًا، وهل هو نسخ لتلك العبادة؟ المختار أنه ليس بنسخ لها، وقيل نسخ، وقال عبد الجبار: إن كان جزءًا فنسخ وإن كان شرطًا فلا، لنا لو كان نسخًا للركعتين الباقيتين فى الجزء وللأربع فى الشرط لافتقرت فى وجوبها إلى دليل غير الأول وأنه باطل بالاتفاق، قالوا: ثبت تحريمها بغير الركعتين وبغير طهارة ثم ثبت جوازها أو وجوبها بدونهما.

الجواب: المفروض أنه لم يتجدد وجوب بل أبطل الوجوب فقط، والثابت هو الوجوب الأول والزيادة باقية على الجواز الأصلى، وإنما الزائل وجوبها فارتفع حكم شرعى لا إلى حكم شرعى فلا يكون نسخًا.

قوله: (قالوا: ثبت تحريمها) تقريره أن لتلك العبادة حكمًا شرعيًا هو تحريمها بدون الجزء والشرط أعنى الركعتين والطهارة وقد ارتفع ذلك الحكم بحكم آخر هو جوازها أو وجوبها بدون الركعتين والطهارة ولا معنى للنسخ سوى هذا وأما الجواب بأن المفروض أنه لم يتجدد له وجوب فزعم العلامة أنه بمعارضة تقريرها أنه لو كان نسخًا لأصل العبادة لزم أن يكون للباقية وجوب متجدد ضرورة أنها واجبة ولا يخفى أن مثل هذا مشترك الإلزام إذ للخصم أن يعارض دليلنا بهذا الدليل وفى بعض الشروح أن المراد أنه لا نزاع فى نسخ التحريم بل فى نسخ الوجوب والتقدير أنه لم يتجدد له وجوب وهذا ما قال فى المنتهى وأجيب بأن هذا ليس نسخًا للعبادة فإنها لم تكن حرامًا ولما لم يكن لفرض عدم تجدد الوجوب كثير دخل فى هذا الجواب عدل عنه المحقق وحاصل تقريره أنه لا معنى لتحريم العبادة بدون الزيادة سوى وجوب الزيادة وارتفاعه ليس بنسخ لأنه ليس ينسخ إلى حكم شرعى لأن وجوب الباقى أزلى غير متجدد وجواز الزيادة أصلى غير شرعى فقوله

ص: 274

بل أبطل الجواب أى وجوب الزيادة فقط أى من غير إثبات حكم آخر والحكم الثابت فى الباقى هو الوجوب الأول الثابت بالنص السابق إذ الفرض أنه لم يتجدد وجوب والزيادة أى الجزء أو الشرط كالركعتين والطهارة باقية على الجواز الأصلى إذ التقدير أنه نسخ وجوبها فقط وكان إلزامى وإلا فقد سبق أن النسخ لا يجب أن يكون إلى بدل ثم العجب أنه ادعى الاتفاق على نسخ الزيادة التى هى الجزء أو الشرط ثم زعم أن ارتفاع وجوبها ليس بنسخ وفى بعض نسخ الشرح والثابت هو الوجوب الأولى والثانية باقية ومعناه ما ذكرنا واعلم أن النزاع إنما هو فى نسخ العبادة بمعنى ارتفاع جميع أجزائها وإلا فارتفاع الكل بارتفاع الجزء ضرورى فصح وجوب الركعات الأربع قد ارتفع وينبغى أن يكون هذا مراد القاضى عبد الجبار حيث فرق بين الجزء والشرط.

المصنف: (عبد الجبار إن كان جزءًا لا شرطًا) وجه الفرق أنه زعم أن النزاع فى المجموع ولا شك أن انتفاء الجزء يوجب انتفاء الكل وأما انتفاء شرطية الشرط فلا يرتفع بها حقيقة المجموع لأنه لم يتغير شئ من أركانه.

ص: 275

قال: (مسألة: المختار جواز نسخ وجوب معرفته وتحريم الكفر وغيره خلافًا للمعتزلة وهى فرع التحسين والتقبيح، والمختار جواز نسخ جميع التكاليف خلافًا للغزالى لنا أحكام كغيرها، قالوا: لا ينفك عن وجوب معرفة النسخ والناسخ، وأجيب بأنه يعلمهما وينقطع التكليف بهما وبغيرهما واللَّه أعلم).

أقول: اتفقوا على جواز رفع جميع التكاليف بإعدام العقل وعلى امتناع النهى عن معرفته إلا على تجويز تكليف المحال، لأن العلم بنهيه يستدعى معرفته واختلف فى جواز نسخ وجوب المعرفة وتحريم الكفر وغيره من الظلم والكذب، والمختار جوازه وخالف فيه المعتزلة والمسألة فرع الحسن والقبح العقليين، إذ لو ثبتا لم يتغيرا وقد أبطلناهما، لنا أنها أحكام فجاز نسخها كغيرها من الأحكام، قالوا: إذا نسخت التكاليف المتقدمة فإنما يمكن معرفته بمعرفة النسخ والناسخ فتجب معرفته، وهذا تكليف فيلزم خلاف الفروض.

الجواب: لا يمتنع معرفته بنسخ جميع التكاليف وبالناسخ فليفرض وحينئذٍ يرتفع التكليف بهما لانقطاعه بعد الفعل اتفاقًا، وقد ارتفع التكليف بغيرهما فلا يبقى تكليف أصلًا.

قوله: (والمختار جوازه) أى جواز نسخ وجوب معرفة اللَّه تعالى وتحريم الكفر وغيره كل منهما إلى بدل أو لا إلى بدل لكن قد علم امتناع نسخ وجوب المعرفة إلى بدل مخصوص هو التحريم.

قوله: (إذ لو ثبتا) أى الحسن والقبيح العقليان لم يتغيرا أو لم يزولا فإن قيل فيلزم أن لا ينسخ وجوب ولا تحريم أصلًا لاستلزامهما الحسن والقبح العقليين قلنا يجوز أن لا يكونا ثابتين بل مختلفين باختلاف المصالح بخلاف حسن المعرفة وقبح الكفر فإنهما ذاتيان لا يزولان أصلًا.

قوله: (لنا أنها أحكام) يوهم أنه احتجاج على المختار من الخلافية الثانية أعنى نسخ جميع التكاليف وإن لم يتعرض لها الشارح وكأنه حاول جعله دليلًا على الأمرين جميعًا، أى وجوب المعرفة وتحريم الكفر ونحوه أحكام فيجوز نسخها كسائر الأحكام وأيضًا جميع التكاليف أحكام كغيرها الذى هو البعض المتفق على جواز نسخه فيجوز نسخها.

ص: 276

قوله: (فتجب معرفته) محل نظر، فإن وقوع النسخ وإمكان معرفته ومعرفة الناسخ أعنى الشارع لا يستلزم وجوب المعرفة ليلزم التكليف اللهم إلا أن يقال النسخ لا يكون إلا بدليل شرعى وهو خطاب يجب فهمه ومعرفته.

قوله: (فليفرض) أى وقوع الممكن الذى هو معرفة النسخ والناسخ وبعد تحقق المكلف به ينقطع التكليف به ضرورة، وقد ارتفع جميع التكاليف التى سواهما فثبت أنه لم يبق شئ من التكاليف وهو المعنى بنسخها وبهذا التقرير يندفع ما يتوهم من وجوب معرفة نسخ وجوب المعرفتين وهلم جرًا لا أنه يرد أن هذا لا يكون نسخًا لجميع التكاليف بل ارتفاعًا للبعض بطريق النسخ وانقطاعًا للبعض بطريق الإتيان بالمأمور به فإن قيل يصح جميع التكاليف الموجودة قد نسخت قلنا ممنوع فإن تكليف المعرفتين قد وجدت ولم تنسخ فإن قيل يجوز أن يخبره الشارع بأنه ليس مكلفًا بشئ أصلًا قلنا يستلزم وجوب معرفة ذلك ويعود الكلام.

قوله: (إذ للخصم أن يعارض دليلنا بهذا الدليل) أى فيقول لو سلم أنه ليس بنسخ فيلزمكم الحاجة إلى الدليل على وجوب الباقى لأن النص الدال على المجموع قد ارتفع بورود النسخ وقد خرج عن أن يكون دليلًا فبقاء الباقى بأى دليل فإن كان هو الأول فهو إنما كان يدل على وجوبه فى ضمن وجوب الكل لا استقلالًا.

قوله: (لا نزاع فى نسخ التحريم) أى لأنه لا تحريم للعبادة كما يدل عليه ما بعده وقوله ولما لم يكن لفرض عدم تجدد الوجوب كثير دخل أى لأنه يكفى أن يقال: إنه لا تحريم هنا حتى ينسخ ولا داعى لأن يقال: إن المفروض عدم تجدد الوجوب.

قوله: (وكان إلزامى) تحريف وحقه وكأنه إلزامى وفى بعض نسخ الشرح والثابت هو الوجوب الأولى والثانية باقية تحريف وحقه هو الوجوب الأول والزيادة باقية. . . إلخ. أما غير بعض النسخ الشرح فهو ما ذكره قبل وهو بل أبطل الوجوب فقط والزيادة باقية على الجواز الأصلى.

قوله: (لكن قد علم امتناع نسخ. . . إلخ) أى من أن العلم بالنهى يستدعى المعرفة.

ص: 277

قوله: (أو لم يزولا) تحريف وحقه أى لم يزولا وقوله يجوز أن لا يكونا ثابتين. . . إلخ. يفيد أن الحسن يكون ذاتيًا فى بعض الأفعال غير ذاتى فى البعض الآخر وهو يخالف ما سبق فى بحث الحكم.

قوله: (ويعود الكلام بأنه لا نسخ لجميع التكاليف) أى بل البعض ارتفع بطريق النسخ والبعض بطريق الإتيان بالمأمور به.

ص: 278