المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(المنطوق والمفهوم) قال: (المنطوق والمفهوم الدلالة: منطوق وهو ما دل عليه - شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني - جـ ٣

[عضد الدين الإيجي]

فهرس الكتاب

- ‌(مباحث التخصيص)

- ‌(مسائل الاستثناء)

- ‌(مباحث الشرط والصفة والغاية)

- ‌(مسائل التخصيص بالمنفصل)

- ‌(مسألة: يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب

- ‌(المطلق والمقيد)

- ‌(المجمل)

- ‌(البيان والمبين)

- ‌(الظاهر والمؤول)

- ‌(المنطوق والمفهوم)

- ‌(مباحث النسخ)

- ‌(مسألة: يجوز نسخ القرآن بالقرآن

- ‌(الكلام فى القياس)

- ‌(مباحث مسالك العلة)

- ‌(الطرد والعكس

- ‌القياس جلى وخفى

- ‌(الاعتراضات)

- ‌(فساد الاعتبار)

- ‌ فساد الوضع

- ‌(الكلام فى الاستدلال)

- ‌(الكلام فى الاستصحاب)

- ‌(الكلام فى شرع من قبلنا)

- ‌(الكلام فى مذهب الصحابى)

- ‌(الكلام فى الاستحسان)

- ‌(الكلام فى المصالح المرسلة)

- ‌(الكلام فى الاجتهاد)

- ‌(التقليد والمفتى والمستفتى وما يستفتى فيه)

- ‌(الترجيح)

- ‌ القسم الأول: فى ترجيح المنقولين:

- ‌الصنف الأول: فى الترجيح بحسب السند:

- ‌(الفصل الأول: فى الراوى):

- ‌(الفصل الثانى: فى الترجيح بالرواية):

- ‌(الفصل الثالث: فى الترجيح بحسب المروى):

- ‌(الفصل الرابع: فى الترجيح بحسب المروى عنه):

- ‌ الصنف الثانى: الترجيح بحسب المتن:

- ‌ الصنف الثالث: الترجيح بحسب المدلول:

- ‌ الصنف الرابع: الترجيح بحسب الخارج:

- ‌ القسم الثانى: ترجيح المعقولين:

- ‌الصنف الأول: القياسان:

- ‌الفصل الأول: فى ترجيحه بحسب الأصل:

- ‌ الفصل الثانى: فى الترجيح بحسب العلة:

- ‌ الفصل الثالث: فى الترجيح بحسب الفرع:

- ‌الفصل الرابع: فى الترجيح بحسب الخارج:

- ‌الصنف الثانى: الاستدلالان:

- ‌ القسم الثالث: فى ترجيح المنقول والمعقول:

الفصل: ‌ ‌(المنطوق والمفهوم) قال: (المنطوق والمفهوم الدلالة: منطوق وهو ما دل عليه

(المنطوق والمفهوم)

قال: (المنطوق والمفهوم الدلالة: منطوق وهو ما دل عليه اللفظ فى محل النطق، والمفهوم بخلافه أى لا فى محل النطق).

أقول: ومن أقسام المتن: المنطوق والمفهوم، وذلك أن اللفظ إذا اعتبر بحسب دلالته فقد تكون دلالته بالمنطوق وبالمفهوم، فالمنطوق ما دل عليه اللفظ، فى محل النطق أى يكون حكمًا للمذكور وحالًا من أحواله سواء ذكر ذلك الحكم ونطق به أو لا والمفهوم بخلافه، وهو ما دل لا فى محل النطق بأن يكون حكمًا لغير المذكور وحالًا من أحواله وما ههنا مصدرية لتصلح قسمًا للدلالة.

قوله: (ومما ههنا مصدرية) هذا وإن كان مصححًا لكون المنطوق والمفهوم من أقسام الدلالة لكنه يحوج إلى تكلف عظيم فى تصحيح عبارات القوم لكونها صريحة فى كونها من أقسام المدلول كما قال الآمدى: المنطوق ما فهم من اللفظ قطعًا فى محل النطق والمفهوم ما فهم من اللفظ فى غير محل النطق فعلى ما ذكره الشارح المنطوق أن يدل اللفظ على معنى فى محل النطق واسم كان فى قوله أى يكون ضمير ذلك المعنى والمفهوم أن يدل اللفظ على معنى لا فى محل النطق بأن يكون ذلك المعنى حكمًا لغير المذكور والمنطوق الصريح ما وضع اللفظ له أى دلالة اللفظ على ما وضع له بالاستقلال أو بمشاركة الغير فيشمل المطابقة والتضمن وغير الصريح دلالة اللفظ على ما لم يوضع له وقوله: سواء ذكر ذلك الحكم أو لا ليعم الصريح وغير الصريح فإن الحكم فيه وإن لم يذكر ولم ينطق به لكنه من أحوال المذكور وأحكامه على ما سيجئ من الأمثلة فدلالة: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، على تحريم التأفيف منطوق صريح وعلى تحريم الضرب مفهوم، ودلالة:"تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلى" على أن أكثر الحيض وأقل الطهر خمسة عشر يومًا، منطوق غير صريح والفرق بين المفهوم وغير الصريح من المنطوق محل نظر.

ص: 157

المصنف: (وهو ما دل عليه اللفظ فى محل النطق) الضمير فى "عليه" راجع للمدلول المأخوذ من دل بناء على جعل "ما" مصدرية والمراد بالمدلول على ما شرح عليه العضد: الحكم والمراد بمحل النطق متعلق الحكم ومعنى كونه محل النطق أنه نطق باسمه والمعنى أن المنطوق دلالة اللفظ على حكم الشئ ذكر اسمه سواء ذكر ذلك الحكم كما فى قولك: تجب الزكاة فى الغنم السائمة فالحكم هو وجوب الزكاة قد ذكر ومحله وهو الغنم السائمة قد ذكر اسمه مطابقة أو لم يذكر الحكم كما إذا قيل: هل فى الغنم السائمة زكاة؟ فقال: فى الغنم السائمة فوجوب الزكاة ليس مذكورًا استغناء عن ذكره بالسؤال، لكن المحل وهو الغنم السائمة مذكور فمدار دلالة المنطوق على ذكر محل المحكم إلا أنه إن ذكر مطابقة أو تضمنًا فهو دلالة المنطوق الصريح، وإن ذكر التزامًا كما فى الاقتضاء والإشارة والإيماء فهو المنطوق غير الصريح ودرج ابن السبكى على أن المنطوق اسم للمعنى سواء كان حكمًا أو غيره وجعل المنطوق خاصًا بصريح وأما الاقتضاء وما معه فمن توابع المنطوق، ودرج الآمدى على أن الاقتضاء وما معه ليست من المنطوق ولا من المفهوم بل قسم ثالث وعلى ما درج عليه ابن السبكى والآمدى من أن المنطوق اسم للمعنى لا للدلالة كما لابن الحاجب، فمعنى قوله فى محل النطق فى مقام إيراد اللفظ الدال على ذلك المعنى أى فى المقام الأحق بالإيراد بأن يكون المعنى مدلولًا للفظ دلالة وضعية مطابقية أو تضمنية.

قوله: (على معنى فى محل النطق) أى على حكم متعلق بمحل نطق باسمه كما تقدم.

قوله: (وما وضع اللفظ له) أى ما وضع اللفظ لمحله يعنى أن يكون محل الحكم دل عليه اللفظ بالوضع بالاستقلال أو بالمشاركة وقوله: دلالة اللفظ على ما لم يوضع له أى على محل لم يوضع له، وقوله: ليعم الصريح وغيره فيه أن الصراحة وغيرها ليست تابعة لذكر الحكم وعدم ذكره بل تابعة لذكر متعلق الحكم وضعًا وعدم ذكره وضعًا بل التزام.

قوله: (وعلى تحريم الضرب مفهوم) إنما كانت الدلالة بالمفهوم لأن الضرب الذى هو محل الحكم غير مذكور فأثبت حكم المنطوق وهو التأفيف للمسكوت

ص: 158

وهو الضرب.

قوله: (والفرق بين المفهوم وغير الصريح من المنطوق محل نظر) جنوح إلى ما قاله البيضاوى من جعله من قبيل المفهوم فيكون فى المنطوق غير الصريح أقوال ثلاثة قيل: إنه من توابع المنطوق وقيل: إنه منطوق غير صريح وقيل: إنه مفهوم واعلم أن تقسيم الدلالة إلى المنطوق والمفهوم اصطلاح الشافعية والمالكية، وأما الحنفية فيقسمون الدلالة أربعة أقسام: دلالة عبارة ودلالة إشارة ودلالة اقتضاء ودلالة دلالة فدلالة اللفظ على المعنى مقصودًا أصليًا أو غير أصلى ولو كان ذلك المعنى مدلولًا التزاميًا دلالة عبارة كدلالة قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، على الحل والحرمة والتفرقة بين البيع والربا فإن الدلالتين دلالة عبارة والدلالة الأولى على معنى مقصود غير أصلى، والثانية على معنى مقصود أصلى ودلالة اللفظ على ما لم يقصد به أصلًا وهو معنى لازم إشارة فهى الدلالة الالتزامية لمعنى لفظ لم يقصد بالسوق ويحتاج الوقوف عليها إلى تأمل كالاختصاص بالوالد نسبًا من قوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233]، دون الأم فينفرد بالنفقة ويتبع الولد أباه فى أهليته للإمامة وفى الكفاءة الثابتة للأب ونحو ذلك إلا ما أخرجه الدليل كالحرية والرقية فإنه يتبع فيهما أمه لا أباه ودلالة اللفظ على كون الحكم الذى ثبت للمنطوق للمسكوت لفهم مناطه بمجرد فهم اللغة دلالة الدلالة وتسمى دلالة معنى النص ودلالة اللفظ على مسكوت يتوقف صدق الكلام أو صحته العقلية أو الشرعية عليه دلالة اقتضاء، ولم يذكروا دلالة الإيماء والتنبيه فما سماه الحنفية إشارة واقتضاء جعله ابن الحاجب من المنطوق غير الصريح.

ص: 159

قال: (والأول صريح وهو ما وضع اللفظ له وغير الصريح بخلافه، وهو ما يلزم عنه فإن قصد وتوقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه فدلالة اقتضاء مثل: "رفع عن أمتى الخطأ والنسيان"، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، وأعتق عبدك عنى على ألف لاستدعائه تقدير الملك لتوقف العتق عليه، وإن لم يتوقف واقترن بحكم لو لم يكن لتعليله كان بعيدًا فتنبيه وإيماء كما سيأتى وإن لم يقصد فدلالة إشارة مثل: "النساء ناقصات عقل ودين"، قيل وما نقصان دينهن؟ قال عليه الصلاة والسلام: "تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلى" فليس المقصود بيان أكثر الحيض وأقل الطهر، ولكنه لزم من أن المبالغة فى نقصان دينهم تقتضى ذكر ذلك وكذلك: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، مع {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، وكذلك: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، يلزم منه جواز الإصباح جنبًا، ومثله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ. . .} [البقرة: 187] إلى {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} [البقرة: 187]).

أقول: المنطوق ينقسم إلى: صريح وغير صريح فالصريح ما وضع اللفظ له فيدل عليه بالمطابقة أو بالتضمن وغير الصريح بخلافه وهو ما لم يوضع اللفظ له بل يلزم مما وضع له فيدل عليه بالالتزام، وغير الصريح ينقسم إلى: دلالة اقتضاء وإيماء وإشارة، لأنه إما أن يكون مقصودًا للمتكلم أو لا، فإن كان مقصودًا للمتكلم فذلك بحكم الاستقراء قسمان:

أحدهما: أن يتوقفما الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه وتسمى دلالة اقتضاء، أما الصدق فنحو:"رفع عن أمتى الخطأ والنسيان" ولو لم يقدر المؤاخذة ونحوها لكان كاذبًا لأنهما لم يرفعا، وأما الصحة العقلية فنحو:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، إذ لو لم بقدر أهل القرية لم يصح عقلًا لأن سؤال القرية لا يصح عقلًا، وأما الصحة الشرعية فنحو قول القائل: أعتق عبدك عنى على ألف، لأنه يستدعى تقدير الملك أى مملكًا لى على ألف لأن العتق بدون الملك لا يصح شرعًا.

وثانيهما: أن يقترن بحكم لو لم يكن للتعليل لكان بعيدًا فيفهم منه التعليل ويدل عليه وإن لم يصرح به ويسمى تنبيهًا وإيماء وسيأتى فى باب القياس بأقسام مفصلة، وإن لم يكن مقصودًا للمتكلم سمى دلالة إشارة وضرب لها أمثلة، فمنها قوله عليه الصلاة والسلام فى النساء:"إنهن ناقصات عقل ودين" فقيل: وما

ص: 160

نقصان دينهن؟ قال: "تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلى" أى نصف دهرها، فدل على أن أكثر الحيض خمسة عشر يومًا وكذا أقل الطهر، ولا شك أن بيان ذلك غير مقصود لكن يلزم من حيث إنه قصد به المبالغة فى نقصان دينهن، والمبالغة تقتضى ذكر أكثر ما يتعلق به الغرض فلو كان زمان ترك الصلاة وهو زمان الحيض أكثر من ذلك أو زمان الصلاة وهو زمان الطهر أقل من ذلك لذكره ومنها قوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، مع قوله:{وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، علم منهما أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ولا شك أنه ليس مقصودًا فى الآيتين بل المقصود فى الأولى بيان حق الوالدة وما تقاسيه من التعب فى الحمل والفصال وفى الثانية بيان أكثر مدة الفصال ولكن يلزم منه ذلك كما ترى، ومنها قوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، الآية، فإن قوله:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، يعلم منه جواز الإصباح جنبًا، وعدم إفساده للصوم، ولا شك أنه لم يقصد فى الآية ولكن لزم من استغراق الليل بالرفث والمباشرة أنه إلى التطهر يكون جنبًا فى جزء من النهار قطعًا.

قوله: (بحكم الاستقراء) دفع لما ذكره العلامة من أن المصنِّف لما زاد على عدم التوقف قيد الاقتران الذى لم يذكره الآمدى ولا المنتهى بطل الانحصار بخروج ما لا يتوقف عليه ولا يقترن بحكم كذلك من الأقسام.

قوله: (وثمانيهما أن يقترن) أى الملفوظ الذى هو مقصود المتكلم بحكم أى وصف لو لم يكن ذلك الحكم أى الوصف لتعليل ذلك المقصود لكان اقترانه به بعيدًا مثل قصة الأعرابى فإنه اقترن الأمر بالإعتاق بالوقاع الذى لو لم يكن هو علة لوجوب الإعتاق لكان بعيدًا وسيصرح المصنِّفُ بهذا المعنى فى باب القياس والشارح بتفسير الحكم بالوصف وقد يتوهم من ظاهر العبارة أن المراد بالحكم هو الإعتاق وبالمقترن الوقاع والمقصود أن المقترن علة للحكم وفساده ظاهر على المتأمل.

قوله: (يعلم منه جواز الإصباح جنبًا) كلام المتن أن فى قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة: 187] إشارة إلى جواز الإصباح جنبًا لأن الليلة اسم للمجموع فيجوز الجماع فى آخر جزء منها ويلزم الإصباح جنبًا وكذا فى قوله: {فَالْآنَ

ص: 161

بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187]، إلى قوله:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ. .} [البقرة: 187] لأن حل المباشرة إلى الفجر يقتضى ذلك وكلام الشارح قاصر عن هذا التقرير لكن قوله: من استغراق الليل بالرفث والمباشرة لا يخلو عن إشارة إلى الإشارتين فليتأمل.

الشارح: (فالصريح ما وضع اللفظ له) أى لمحله على ما علمت وقس ما ماثله.

ص: 162

قال: (ثم المفهوم مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة، فالأول أن يكون المسكوت موافقًا فى الحكم، ويسمى فحوى الخطاب، ولحن الخطاب، كتحريم الضرب من قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، وكالجزاء بما فوق المثقال من قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة: 7]، وتأدية ما دون القنطار من قوله: {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]، وعدم الأجر من {لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]، وهو تنبيه بالأدنى فلذلك كان فى غيره أولى، ويعرف بمعرفة المعنى وهو أشد مناسبة فى المسكوت).

أقول: ما ذكرناه أقسام المنطوق، وأما المفهوم فينقسم إلى مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة، لأن حكم غير المذكور إما موافق لحكم المذكور نفيًا وإثباتًا، أو لا: الأول: مفهوم الموافقة وهو أن يكون المسكوت عنه وهو الذى سماه غير محل النطق موافقًا فى الحكم للمذكور وهو ما سماه محل النطق وهذا يسمى فحوى الخطاب ولحن الخطاب وضرب له أمثلة، منها: قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا. . .} [الإسراء: 23]، فعلم من حال التأفيف وهو محل النطق حال الضرب وهو غير محل النطق، مع الاتفاق وهو إثبات الحرمة فيهما. ومنها: قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]، {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8]، المذكور مثقال ذرة والمسكوت عنه ما فوقه والحكم يتحد وهو الجزاء بهما إذ الرؤية كناية عنه.

ومنها: قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]، فعلم منه تأدية ما دون القنطار، وقوله:{وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]، فعلم منه عدم تأدية ما فوق الدينار. وقوله: وهو تنبيه بالأدنى، أى مفهوم الموافقة تنبيه بالأدنى على الأعلى، فلذلك كان الحكم فى غير المذكور أولى منه فى المذكور فالجزاء بأكثر من المثقال أشد مناسبة منه بالثقال، والتأدية بالدينار أنسب منه بالقنطار وعدم التأدية بالقنطار أنسب منه بالدينار، ولا يمكن معرفة ذلك أعنى كون الحكم أشد مناسبة للحكم فى المسكوت عنه منه فى المذكور إلا باعتبار المعنى المناسب المقصود من الحكم كالإكرام فى منع التأفيف وعدم تضييع الإحسان والإساءة فى الجزاء والأمانة فى أداء القنطار وعدمها فى عدم أداء الدينار.

وقوله: تنبيه بالأدنى، أى بالأدنى وهو الأقل مناسبة على الأعلى وهو الأكثر

ص: 163

مناسبة، وفى المنتهى بالأدنى على الأعلى، أو بالأعلى على الأدنى، ولا يخفى تقريره.

قوله: (لحن الخطاب) أى معناه، قال اللَّه تعالى:{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]، واللحن قد يطلق على اللغة وعلى الفطنة وعلى الخروج عن الصواب.

قوله: (وهو تنبيه بالأدنى) المذكور فى الأصل أنه تنبيه بالأدنى على الأعلى أو بالأعلى على الأدنى فالأول كالتنبيه بالتأفيف والذرة والدينار على ما فوقها والثانى كالتنبيه بالقنطار على ما دونه وذكر العلامة أنه إنما لم يذكر فى المتن التبيه بالأعلى على الأدنى اعتمادًا على فهم المتعلم والشارح المحقق جعل التنبيه بالأدنى شاملًا لجميع الصور على ما هو دأبه فى التدقيق وحاصله أنه جعل الأدنى عبارة عن الأقل مناسبة لترتب الحكم عليه والأعلى عن الأكثر مناسبة له فالتأفيف أقل مناسبة بالتحريم من الضرب والذرة أقل مناسبة بالجزاء مما فوقها والقنطار أقل مناسبة بالتأدية مما دونه والدينار أقل مناسبة بعدم التأدية مما فوقه ولكون الأعلى المسكوت عنه أشد مناسبة كان الحكم فيه أولى من المذكور ولهذا احتيج إلى معرفة الحكم وكونه فى المسكوت عنه أشد مناسبة ومبنى هذا الكلام على أنه لا عبرة فى مفهوم الموافقة بالمساواة.

المصنف: (ويسمى فحوى الخطاب ولحن الخطاب) ففحوى الخطاب ولحنه مترادفان على معنى واحد وهو مفهوم الموافقة الأولى كما يدل عليه قوله: وهو تنبيه بالأدنى عن الأعلى وقيل: إن المفهوم الأولوى يسمى فحوى الخطاب، والمساوى لحن الخطاب وعلى الأول ينظر المفهوم المساوى من أى الدلالات هو.

ص: 164

قال: (ومن ثمة قال قوم هو قياس جلى، لنا القطع بذلك لغة قبل شرع القياس، وأيضًا فأصل هذا قد يندرج فى الفرع مثل لا تعطه ذرة فإنها مندرجة فى الذرتين، قالوا: لولا المعنى لما حكم، وأجيب بأنه شرطه لغة ومن ثمة قال به النافى للقياس).

أقول: ومن أجل أن البعدية باعتبار معنى مناسب، قال قوم إنه قياس جلى وأنه غير سديد، لنا أنا قاطعون بإفادة هذه الصيغ لهذه المعانى قبل شرع القياس، وإن من أراد المبالغة قال لا تعطه ذرة وفهم المنع مما فوقها قطعًا مع قطع النظر عن الشرع فلا يكون قياسًا شرعيًا، ولنا أيضًا أن الأصل فى القياس لا يكون مندرجًا فى الفرع إجماعًا وههنا قد يكون مندرجًا مثل لا تعطه ذرة ويدل على عدم إعطاء الأكثر والذرة داخلة فى الأكثر وفى المقدمة الأولى مناقشة، قالوا: لو قطع النظر عن المعنى المشترك المناسب الوجب للحكم وعن كونه آكد فى الفرع لما حكم به ولا معنى للقياس إلا ذاك.

الجواب: أنه شرط لتناوله لغة لا أنه يثبت به الحكم حتى يكون قياسًا ولذلك إن كل من لا يقول بحجية القياس فهو قائل به، ولو كان قياسًا لما قال النافى للقياس به وقد يقال إن الجلى لم ينكر.

قوله: (قبل شرع القياس) إشارة إلى أن المراد أنه ليس من القياس الذى جعله الشارح حجة وإلا فلا نزاع فى أنه إلحاق لفرع بأصل لجامع إلا أن ذلك ما يعرفه كل من يعرف اللغة من غير افتقار إلى نظر واجتهاد بخلاف القياس الشرعى.

قوله: (مناقشة) إذ لا إجماع على امتناع قياس الكل على الجزء.

قوله: (إن الجلى لم ينكر) يعنى لا نافى للقياس الجلى الذى يعرف الحكم فيه بطريق الأولى حتى يصح أن يقال أنه قائل هذا المفهوم دون القياس ويجعل هذا حجة على أنه ليس بقياس والحق أن النزاع لفظى.

قوله: (والحق أن النزاع لفظى) أى راجع إلى التسمية فمن قال: يسمى قياسًا نظر لمجرد الإلحاق وإن كان الوصف المناسب للحكم شرطًا لتناوله لغة، ومن قال: لا يسمى قياسًا نظر لأن شرط القياس أن لا يكون الوصف الثانى الذى به الإلحاق شرطًا لتناول اللفظ له لغة.

ص: 165

قال: (وقد يكون قطعيًا كالأمثلة وظنيًا كقول الشافعى فى كفارة العمد واليمين الغموس).

أقول: مفهوم الموافقة قد يكون قطعيًا وهو إذا كان التعليل بالمعنى وكونه أشد مناسبة للفرع قطعيين كالأمثلة المذكورة، وقد يكون ظنيًا، كما إذا كان أحدهما ظنيًا، كقول الشافعى: إذا كان القتل الخطأ يوجب الكفارة فالعمد أولى، وإذا كان اليمين غير الغموس يوجب الكفارة فالغموس أولى، وإنما قلنا إنه ظنى لجواز أن لا يكون المعنى ثمة الزجر الذى هو أشد مناسبة للعمد والغموس بل التدارك والتلافى للمضرة وربما لا يقبلها العمد والغموس لعظمهما.

قال: (مفهوم المخالفة أن يكون المسكوت عنه مخالفًا ويسمى دليل الخطاب وهو أقسام: مفهوم الصفة، ومفهوم الشرط، مثل: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ} [الطلاق: 6]، والغاية مثل: {حَتَّى تَنْكِحَ} [البقرة: 230]، والعدد الخاص، مثل ثمانين جلدة وشرطه أن لا تظهر أولوية ولا مساواة فى المسكوت عنه فيكون موافقة ولا خرج مخرج الأغلب، مثل: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]، {فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة: 229]، "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها" ولا لسؤال ولا حادثة ولا تقدير جهالة أو خوف أو غير ذلك مما يقتضى تخصيصه بالذكر).

أقول: الثانى من قسمى المفهوم: مفهوم المخالفة، وهو أن يكون المسكوت عنه مخالفًا للمذكور فى الحكم إثباتًا ونفيًا ويسمى دليل الخطاب، وهو أقسام:

الأول: مفهوم الصفة، مثل:"فى الغنم السائمة زكاة"، يفهم منه أن ليس فى المعلوفة زكاة.

الثانى: مفهوم الشرط، مثل:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، يفهم أنهم إن لم يكن أولات حمل فأجلهن بخلافه.

الثالث: مفهوم الغاية، مثل:{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، مفهومه أنها إذا نكحت زوجًا غيره تحل.

الرابع: مفهوم العدد الخاص، مثل:{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، فيفهم أن الزائد على الثمانين غير واجب.

فهذا ما ذكره ومنه: مفهوم الاستثناء، مثل: لا إله إلا اللَّه، ومفهوم إنما، مثل:"إنما الأعمال بالنيات"، ومفهوم الحصر، مثل: العالم زيد، ثم ذكر أن شرط

ص: 166

مفهوم المخالفة بأقسامه أمور:

الأول: أن لا تظهر أولوية المسكوت عنه، بالحكم، أو مساواته فيه وإلا استلزم ثبوت الحكم فى المسكوت عنه فكان مفهوم موافقة لا مخالفة.

الثانى: أن لا يكون قد خرج مخرج الأغلب المعتاد مثل: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]، فإن الغالب كون الربائب فى الحجور ومن شأنهن ذلك فقيد به لذلك، لا لأن حكم اللاتى لسن فى الحجور بخلافه، ومثل قوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وذلك أن الخلع غالبًا إنما يكون عند خوف أن لا يقوم كل من الزوجين بما أمر اللَّه فلا يفهم منه أن عند عدم الخوف لا يجوز الخلع، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم:"أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل"، فإن الغالب أن المرأة إنما تباشر نكاح نفسها عند منع الولى، فلا يفهم منه أنها إذا نكحت نفسها بإذن وليها لم يكن باطلًا.

الثالث: أن لا يكون لسؤال سائل عن المذكور ولا لحادثة خاصة بالمذكور مثل أن يسأل هل فى الغنم السائمة زكاة؟ فيقول فى الغنم السائمة زكاة أو يكون الغرض بيان ذلك لمن له السائمة دون المعلوفة.

الرابع: أن لا يكون هناك تقدير جهالة بحكم المسكوت عنه، وإلا فربما ترك التعرض له لعدم العلم بحاله، ولا يكون خوف يمنع عن ذكر حال المسكوت عنه أو غير ذلك مما يقتضى تخصيصه بالذكر فإن وجه الدلالة فيه أن للصفة فائدة وغير التخصيص بالحكم منتف فيدل عليه فإذا ظهرت فائدة أخرى بطل وجه دلالته عليه.

قوله: (ومنه) أى من مفهوم المخالفة مفهوم الاستثناء يعنى أنه وإن واقتصر فى هذا المقام على الأربعة لكثرتها وشهرتها لكن له أقسام أخر سنذكرها والمراد بالحصر ما يكون بطريق تقديم الوصف على الموصوف الخاص وجعله مبتدأ والموصوف خبرًا فلا يشمل الاستثناء وإنما ونحو ذلك ولا يخفى أن فى مثل لا إله إلا اللَّه، المفهوم هو أن اللَّه إله، ونفى إلهية الغير منطوق وفى:"إنما الأعمال بالنيات"، والعالم زيد المفهوم نفى أى لا عمل بدون النية ولا عالم غير زيد وأما بعض ما ذكره الآمدى كالتخصيص بالأوصاف التى تطرأ وتزول بالذكر وكمفهوم الاسم

ص: 167

المشتق الدال على الجنس مثل: "لا تبيعوا الطعام بالطعام"، فراجع إلى مفهوم الصفة إذ المراد بها ما هو أعم من النعت النحوى ومما يجب التنبيه له أن المراد بتخصيص الوصف ما يفيد بعض الشيوع وقصر العام على البعض لا مجرد ذكر صفة لموصوف فلا يرد ما يكون لمدح أو ذم أو تأكيد أو نحو ذلك على ما توهمه صاحب التنقيح.

قوله: (فكان مفهوم موافقة) ظاهر فى أنه لا يشترط فى مفهوم الموافقة الأولوية بل تكفى المساواة وقد سبق خلاف ذلك وما ذكره العلامة من أن المراد أنه يكون مفهوم موافقة على تقدير الأولوية وأما على تقدير المساواة فلا مفهوم موافقة ولا مخالفة فبعيد من اللفظ.

قوله: (بغير إذن وليها) هو فى المعنى صفة للنكاح أى نكاحًا غير مقترن بإذن الولى أو للمرأة أى امرأة غير مأذونة من جهة الولى وبالجملة ذكر الإمام فى البرهان أن جميع جهات التخصيص راجعة إلى الصفة فإن المحدود والعدود موصوفان بعددهما وحدهما والمخصص بالكون فى زمان ومكان موصوف بالاستقرار فيهما.

قوله: (تقدير جهالة) الظاهر ما ذهب إليه المحقق من اعتبار الجهالة أو الخوف فى المتكلم إذ لا اختصاص للمفهوم بكلام الشارح حتى يمنع ذلك فيه إلا أن زيادة لفظة تقدير ربما تشعر بما ذهب إليه جمهور الشارحين من اعتباره فى جانب المخاطب بأن يكون الحكم فى المسكوت معلومًا له وفى المذكور مجهولًا فيحتاج إلى البيان ولم يتعرض العلامة للخوف سوى أن قال فيه نظر وتكلف بعضهم بأن المراد دفع خوف كما إذا قيل للخائف عن ترك الصلاة المفروضة فى أول الوقت يجوز ترك الصلاة المفروضة فى أول الوقت.

الشارح: (يفهم أنه إن لم يكن أولات حمل فأجلهن أن يضعن حملهن) الصواب بدل فأجلهن. . . إلخ. فلا إنفاق عليهن.

الشارح: (ولا يكون خوف. . . إلخ) نحو أن يقول حديث عهد بالإسلام لعبده بحضرة المسلمين تصدق بهذا الدينار على الفقراء المسلمين وهو يريد وغيرهم، وخص المسلمين بالذكر خوفًا من اتهامه بالنفاق.

ص: 168

قوله: (ما يكون بطريق تقديم الوصف) الأولى ما يكون بطريق التقديم مطلقًا وقوله هو أن اللَّه إله الأولى هو أن اللَّه موجود والمنطوق نفى وجود غير اللَّه.

قوله: (كتخصيص الأوصاف. . . إلخ) نحو فى سائمة الغنم الزكاة فالسائمة فى هذا التركيب وإن لم يكن وصفًا نحويًا فهو وصف معنوى، وقوله التى يطرأ ويزول ربما يتقاضى الذهن طلب سبب التخصيص وإذا لم يجد حمله على انتفاء الحكم.

قوله: (فإن المحدود) أى المغيا بالغاية ثم فى جعل جميع الجهات التخصيص راجعة إلى التخصيص بالصفة نظر لأن بعض من قال بمفهوم الشرط أنكر مفهوم الصفة.

ص: 169

قال: (وأما مفهوم الصفة فقال به الشافعى وأحمد والأشعرى، والإمام وكثير، ونفاه أبو حنيفة والقاضى والغزالى والمعتزلة، البصرى: إن كان للبيان كالسائمة أو للتعليم كالتخالف أو كان ما عدا الصفة داخلًا تحتها كالحكم بالشاهدين وإلا فلا المثبتون، قال أبو عبيد فى لى الواجد يحل عقوبته وعرضه يدل على أن لى من ليس بواجد لا يحل عقوبنه، وفى "مطل الغنى ظلم" مثله وقيل له فى قوله عليه الصلاة والسلام: "خير له من أن يمتلئ شعرًا" المراد الهجاء، أو هجاء الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: لو كان كذلك لم يكن لذكر الامتلاء معنى لأن قليله كذلك فإلزام من تقدير الصفة المفهوم، وقال به الشافعى رحمه الله وهما عالمان بلغة العرب، فالظاهر فهمهما ذلك لغة، قالوا: بنيا على اجتهادهما وأجيب بأن اللغة تثبت بقول الأئمة من أهل اللغة، ولا يقدح فيها التجويز، وعروض بمذهب الأخفش، وأجيب بأنه لم يثبت كذلك ولو سلم فما ذكرناه أرجح، ولو سلم فالمثبت أولى، وأيضًا لو لم يدل على المخالفة لم يكن لتخصيص محل النطق بالذكر فائدة، وتخصيص آحاد البلغاء بغير فائدة ممتنع فالشارع أجدر، اعترض لا يثبت الوضع بما فيه من الفائدة، وأجيب بأنه يعلم بالاستقراء إذا لم تكن للفظ فائدة سوى واحدة تعينت وأيضًا ثبتت دلالة التنبيه بالاستبعاد اتفاقًا فهذا أولى، واعترض بمفهوم اللقب وأجيب بأنه لو أسقط لاختل الكلام فلا مقتضى للمفهوم فيه واعترض بأن فائدته تقوية الدلالة حتى لا يتوهم تخصيص، وأجيب بأن ذلك فرع العموم ولا قائل به، وإن سلم فى بعضها خرج فإن الفرض أنه لا شئ يقتضى تخصيصه سوى المخالفة واعترض بأن فائدته ثواب الاجتهاد بالقياس فيه، وأجيب بأنه بتقدير المساواة يخرج وإلا اندرج).

أقول: قد عرفت أقسام المفهوم جملة وهذا تفصيلها: أما مشهوم الصفة، فقال به الشافعى وأحمد والأشعرى، وكثير من العلماء، ونفاه أبو حنيفة والقاضى والغزالى والمعتزلة، وقال به أبو عبد اللَّه البصرى فى ثلاث صور دون ما عداها، إحداها: أن يكون ذكره للبيان، كما قال:"خذ من غنمهم صدقة" ثم بينه بقوله: "الغنم السائمة فيها زكاة"، وثانيتها: أن يكون للتعليم وتمهيد القاعدة كمخبر التخالف، وهو قوله:"إن تخالف المتبايعان فى القدر أو فى الصفة فليتحالفا وليترادا"، وثالثتها: أن يكون ما عدا الصفة داخلًا فيما له الصفة مثل أن يقول: "احكم بشاهدين" والشاهد الواحد داخل فيه، فيدل على عدم الحكم به، لنا أن

ص: 170

أبا عبيد لما سمع قوله عليه السلام: "لى الواجد يحل عقوبته وعرضه" أى مطل الغنى يحل حبسه ومطالبته، قال: هذا يدل على أن لى غير الواجد لا يحل عقوبته وعرضه، ولما سمع قوله:"مطل الغنى ظلم"، قال يدل على أن مطل غير الغنى ليس بظلم، وقيل له فى قوله عليه الصلاة والسلام:"لأن يمتلئ بطن الرجل قيحًا خير من أن يتملئ شعرًا": المراد بالشعر هاهنا الهجاء مطلقًا، أو هجاء الرسول خاصة؟ فسمعه، فقال:"لو كان كذلك لم يكن لذكر الامتلاء معنى لأن قليله وكثيره سواء فيه"، فجعل الامتلاء من الشعر فى قوة الشعر الكثير يوجب ذلك ففهم منه أن غير الكثير ليس كذلك فاحتج به فقد ألزم من تقدير الصفة المفهوم فكيف من التصريح بها هذا، وقد قال الشافعى بمفهوم الصفة، وهما عالمان بلغة العرب، فالظاهر فهمهما ذلك لغة، ولو لم يفده لغة لما فهم منه فظهر إفادته لغة، وهو المطلوب، واعترض عليه بأنا لا نسلم فهمهيا ذلك لغة، لجواز أن يبنيا على اجتهادهما.

الجواب: أن أكثر اللغة إنما يثبت بقول الأئمة رضى اللَّه عنهم أجمعين، معناه كذا وهذا التجويز قائم فيه وأنه لا يقدح فى إفادته الظن ولو كان قادحًا لما ثبت مفهوم شئ من اللغات، واعترض عليه أيضًا بالمعارضة بمذهب الأخفش، فإنه نفاه مع كونه عالمًا بالعربية، فدل أنه ليس من مفهوم اللغة.

الجواب: أنه لم يثبت نفى الأخفش له كما ثبت إثبات أبى عبيد والشافعى له، فإن أبا عبيد قد كرر ذلك فى مواضع كما علمت فصار القدر المشترك مستفيضًا والشافعى روى عنه أصحاب مذهبه مع كثرتهم والمخالفون له ولا كذلك الأخفش ولو سلم فمن ذكرناه وهو أبو عبيد والشافعى أرجح من الأخفش لأنهما اثنان أعظم منه فى العلم والشهرة ولو سلم فهما يشهدان بالإثبات وهو يشهد بالنفى، والمثبت أولى بالقبول من النافى، لأنه إنما ينفى لعدم الوجدان، وأنه لا يدل على عدم الوجود إلا ظنًا، والمثبت يثبت للوجدان وأنه يدل على الوجود قطعًا، ولنا أيضًا لو لم بدل على أن المراد مخالفة المسكوت عنه للمذكور فى الحكم لما كان لتخصيص المذكور بالذكر فائدة، إذ الفرض عدم فائدة غيره واللازم باطل لأنه لا يستقيم أن يثبت تخصيص آحاد البلغاء بغير فائدة فكلام اللَّه ورسوله أجدر، واعترض بأنه إثبات لوضع التخصيص لنفى الحكم عن المسكوت عنه بما فيه من

ص: 171

الفائدة وأنه باطل لأنه لا يثبت لوضع ما فيه من الفائدة، وإنما يثبت بالنقل.

الجواب: لا نسلم أنه إثبات الوضع بالفائدة بل يثبت بطريق الاستقراء عنهم إن كل ما ظن أن لا فائدة للفظ سواه تعينت لا، أن تكون مرادة وهذه كذلك فاندرج فى القاعدة الكلية الاستقرائية، فكان إثباته بالاستقراء لا بالفائدة وأنه يفيد الظهور فيه فيكتفى به، ولنا أيضًا أنه ثبت دليل التنبيه والإيماء، وهو أن يذكر ما لو لم يرد به التعليل لكان بعيدًا والمفهوم لو لم تثبته لزم أن لا يكون الكلام مفيدًا ولا شك أن البعد أخف محذورًا من عدم الإفادة فإذا أثبتنا التنبيه حذرًا من لزوم البعيد فلأن نثبت المفهوم حذرًا من لزوم غير المفيد أجدر.

واعترض عليه بمفهوم اللقب إذ يجئ فيه مثل ذلك وهو أنه لو لم يثبت به نفى الحكم عما عداه لم يكن مفيدًا فيلزم أن يعتبر وليس بمعتبر اتفاقًا.

الجواب: أن اللقب لو أسقط لاختل الكلام فذكر لعدم الاختلال وهو أعظم فائدة فلم يصدق أنه لو لم يثبت المفهوم لم يكن ذكره مفيدًا وهو المقتضى لإثبات المفهوم فتنتفى دلالته على المفهوم.

واعترض أيضًا بأنا لا نسلم أنه لولا التخصيص فلا فائدة، بل فائدته تقوية دلالته على المذكور، لئلا يتوهم خروجه على سبيل التخصيص، فإنه لو قال:"فى الغنم زكاة" جاز أن يكون المراد المعلوفة تخصيصًا، فلما ذكر السائمة زال الوهم.

الجواب: أن ذلك فرع عموم مثل الغنم فى قوله: "فى الغنم السائمة زكاة" حتى يكون معناه فى الغنم سيما السائمة زكاة، وذلك مما لم يقل به أحد فيجب رده ولو سلم العموم فى بعض الصور كان خارجًا عن محل النزاع، لأن النزاع فيما لا شئ يقتضى التخصيص سوى مخالفة المسكوت عنه للمذكور ودفع وهم التخصيص فائدة سواها، واعترض أيضًا أن فائدته ثواب الاجتهاد بالقياس، وهو إلحاق المسكوت عنه بالمذكور بمعنى جامع وهذه أيضًا فائدة فلا يتعين التخصيص.

الجواب: أنه بتقدير المساواة فى المعنى المقتضى للحكم يخرج عن محل النزاع إذ قد شرطنا عدم المساواة والرجحان، وأما إذا لم يساو فيندرج فى قولنا لا فائدة سوى التخصيص فينتفى ما ذكرتم ويتعين التخصيص فائدة.

قوله: (إن تخالف المتبايعان) كأنه نقل بالمعنى وإلا فلا يوجد بهذه العبارة فى

ص: 172

الكتب المعتبرة ومع ذلك فهو من قبيل مفهوم الشرط وكأن البصرى لا يفرق بينهما أو يجعله فى معنى المتبايعان المتخالفان يتحالفان وكذا احكم بشاهدين من مفهوم العدد الخاص دون الصفة إلا أنك قد عرفت أن مرجع الكل إلى الصفة.

قوله: (أن أبا عبيد) هو معمر بن المثنى صرح بذلك الإمام فى البرهان والقول ما قال الإمام إلا أن المشهور فى أئمة اللغة أبو عبيد القاسم بن سلام على ما ذكره الآمدى فى الأحكام وكنية معمر بن المثنى إنما هو عبيدة بالتاء.

قوله: (هذا وقد قال) إشارة إلى قوله فى المتن، وقال به الشافعى جملة حالية من تتمة الدليل يعنى علم مما ذكرنا أن أبا عبيد يقول بالمفهوم والشافعى أيضًا قال به وهما من أئمة اللغة عالمان بها فالظاهر أنهما فهماه بحسب اللغة.

قوله: (فظهر إفادته لغة) وفى هذا إشارة إلى ما عليه الأكثرون من أن دليل إثبات المفهوم هو اللغة لا الشرع أو العرف العام على ما قيل.

قوله: (على اجتهادهما) لا يريد الاجتهاد فى الأحكام الشرعية بل النظر والاستدلال فى المباحث اللغوية وحاصل الجواب أن هذا المنع لا يضرنا لأنا لا ندعى القطع بمفهوم الصفة بل بالظن وهو حاصل بقولهما وهما من أئمة اللغة سواء استند قولهما إلى اجتهاد أو سماع أو غير ذلك كأكثر اللغات فإن طريق معرفتها قول الأئمة أن معنى هذا اللفظ كذا والتواتر قليل وبهذا سقط اعتراض العلامة بأن هذا مع كونه كلامًا على السند ضعيف لأن اللغة إنما تثبت بقولهم لو نقلوا عن العرب على أنهما لو نقلا يفد لكونه من أخبار الآحاد.

قوله: (ولنا أيضًا أنه ثبت دليل التنبيه) الصائر إليه الشارحون من أنه جواب ثان للاعتراض المذكور تقريره لا نسلم بطلان إثبات الوضع بالفائدة وأسند أنه إذا جاز ذلك تفاديًا عن لزوم المستبعد فالأولى أن يجوز تفاديًا عن لزوم الممتنع والشارح المحقق جعله دليلًا ثالثًا على المطلوب لكونه على وزان قوله وأيضًا لو لم يدل لكن لا يخفى أنه زيادة تقرير لا ابتداء استدلال وأنه لا وجه لتخصيص بعض الاعتراضات بأحد الوجهين والبعض الآخر وإن الأنسب حينئذٍ ترك الواو من قوله واعترض بمفهوم اللقب على ما هو دأبه أول فى الاعتراضات ولهذا تركه الشارح.

قوله: (لا نسلم أنه لولا التخصيص فلا فائدة) حاصل الدعوى أنه إذا لم تكن فائدة أخرى تعين المفهوم فائدة لئلا يلزم الخلو عن الفائدة وحاصل هذا الاعتراض

ص: 173

والذى بعده أنا لا نسلم الخلو عن الفائدة الأخرى فى شئ من الصور بل تقوية الدلالة ونيل ثواب الاجتهاد فائدة فى كل صورة، وحاصل الجواب أن ما ذكرتم من الفائدة ليس بلازم فيجوز عدم الفائدة بحكم الأصل بل عدم ظهورها بحكم الوجدان وهو كاف فى المطلوب فيكون هذا دفعًا للمنع لا مجرد كلام على السند.

قوله: (وذلك) أى كون الغنم الموصوفة بالسائمة عامًا متناولًا للسائمة والمعلوفة مما لم يقل به أحد وإن كان الغنم بدون التقييد بالسائمة عامًا متناولًا لهما بالاتفاق.

الشارح: (أن يكون ما عدا الصفة) أى ما عدا ذا الصفة بدليل قوله داخلًا فيما له الصفة وبهذا يؤول قول الصنف.

الشارح: (لو كان كذلك) أى للهجاء مطلقًا أو هجاء الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن لذكر الامتلاء معنى.

الشارح: (فجعل الامتلاء من الشعر فى قوة الشعر الكثير يوجب ذلك) الامتلاء مفعول أول لجعل، ويوجب المفعول الثانى له، وقوله فى قوة الشعر الكثير حال من الامتلاء أو صفة وإنما قيده بذلك لأن الشعر القليل مطلوب ولا لوم عليه.

الشارح: (ولنا أيضًا أنه ثبت دليل التنبيه. . . إلخ) هو راجع إلى الاستقراء فلا يقال: إنه إثبات للغة بالترجيح.

قوله: (فهو من قبيل مفهوم الشرط) قد يقال: إن محل الشاهد فيه هو قوله فى القدر أو الصفة وهو ظرف مجازى والتقييد بالظرف من قبيل التقييد بالوصف.

قوله: (سواء استند قولهما إلى اجتهاد) ظاهره أن الاجتهاد كاف وهو غير ما يفيده كلام الشارح والمصنف؛ فإن المستفاد منهما أننا لا نعول على احتمال اجتهادهما ويكفى ظن ناقلهما.

قوله: (ولهذا تركه الشارح) النسخة التى بأيدينا بالواو لا بدونها واعلم أن دلالة المفهوم دلالة مطابقة باعتبار الوضع النوعى للتركيب وقيل التزام لأن المسكوت عنه غير موضوع له ورد بأنه ليس لازمًا ذهنيًا وأجيب بأن اللزوم ههنا ليس بلازم أن يكون ذهنيًا وليس المراد أن التركيب مستعمل فيه مجازًا وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز فإن التركيب فى المنطوق حقيقة فلو كان فى المفهوم مجازًا لزم الجمع.

ص: 174

قال: (واستدل لو لم يكن للحصر لزم الاشتراك إذ لا واسطة وليس للاشتراك باتفاق وأجيب: إن عنى السائمة فليس محل النزاع، وإن عنى إيجاب الزكاة فيها فلا دلالة له على واحد منهما، الإمام: لو لم يفد الحصر لم يفد الاختصاص به دون غيره لأنه بمعناه والثانية معلومة وهو مثل ما تقدَّم فإنه عنى لفظة السائمة فليس محل النزاع وإن عنى الحكم المتعلق بها فلا دلالة له على الحصر ويجريان معًا فى اللقب وهو باطل، واستدل بأنه لو قيل الفقهاء الحنفية أئمة فضلاء لنفرت الشافعية ولولا ذلك ما نفرت، وأجيب بأن النفرة من تركهم على الاحتمال كما تنفر من التقديم أو لتوهم المعتقدين ذلك واستدل: بقوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80]، فقال عليه الصلاة والسلام: "لأزيدن على السبعين" (*) ففهم أن ما زاد بخلافه، والحديث صحيح، وأجيب بمنع فهم ذلك لأنها مبالغة فتساويا أو لعله باق على أصله فى الجواز فلم يفهم منه، واستدل بقول يعلى بن أمية لعمر: ما بالنا نقصر وقد أمنا، وقد قال اللَّه تعالى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 101] الآية، فقال عمر:(تعجبت مما تعجبت منه فسألته عليه الصلاة والسلام، فقال: "إنما هى صدقة تصدق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته" (**) ففهما نفى القصر حال عدم الخوف وأقر عليه الصلاة والسلام عمر وأجيب بجواز أنهما استصحبا وجوب الإتمام فلا يتعين واستدل بأن فائدته أكثر فكان أولى تكثيرًا للفائدة وإنما يلزم من جعل تكثير الفائدة يدل على الوضع، وما قيل من أنه دور لأن دلالته تتوقف على تكثير الفائدة وبالعكس، يلزمهم فى كل موضع وجوابه أن دلالته تتوقف على تعقل تكثير الفائدة عندها لا على حصول الفائدة، واستدل لو لم يكن مخالفًا لم يكن السبع فى قوله عليه الصلاة والسلام:"طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعًا" مطهرة لأن تحصيل الحاصل محال، وكذلك: خمس رضعات يحرمن).

أقول: قد استدل على المذهب المختار بوجوه ضعيفة ها هى نذكرها استدل بأنه لو لم يكن ظاهرًا للحصر لزم الاشتراك أعنى اشتراك المسكوت عنه والمذكور فى الحكم واللازم منتف، أما الملازمة فلعدم الواسطة بين الاختصاص والاشتراك فإنه يثبت الحكم فى المذكور قطعًا، فإن لم يثبت فى المسكوت عنه فهو الاختصاص وإن

(*) أخرجه مسلم (1/ 478)(ح 686).

(**) أخرجه مسلم (1/ 234)(ح 279).

ص: 175

ثبت فهو الاشتراك وهذا ترديد بين النفى والإثبات، فلا واسطة بينهما، وأما انتفاء اللازم فلأنه ليس للاشتراك اتفاقًا غايته أنه محتمل.

الجواب: إن عنى بالحصر أن السائمة انتفى عن المعلوفة فمسلم لكنه غير محل النزاع، وإن عنى به أن إيجاب الزكاة فى السائمة انتفى عن المعلوفة، فلا نسلم أن اللفظ لو لم يدل عليه لتعين ثبوت الاشتراك لأنه لم يتعرض لأحدهما لا بنفى ولا بإثبات، فلا دلالة له على أحدهما، والحاصل أنه يلزم من عدم الاختصاص الاشتراك ولا يلزم من عدم إفادة الاختصاص الاشتراك وإفادته له، والإمام قد ذكر ما هو قريب مما تقدَّم وهو أنه لو لم يفد الحصر لم يفد الاختصاص به دون غيره واللازم منتف، أما الملازمة فإذ لا معنى للحصر فيه إلا اختصاصه به دون غيره فإذا لم يحصل لم يحصل، وأما انتفاء اللازم فللعلم الضرورى أنه يفيد اختصاص الحكم بالمذكور، وهذا مثل ما تقدم، والجواب: فإنه إن عنى مثل لفظ السائمة وأنه منتف فى المعلوفة فهو غير محل النزاع، وإن عنى ما يتعلق بالسائمة من الحكم وأنه منتف فى المعلوفة فهو ممنوع بل لا دلالة للفظ عليه إثباتًا أو نفيًا، ولا يلزم من لزوم أحد الأمرين دلالة اللفظ على أحدهما، والأولى أن يقال إن أراد به اختصاص الحكم النفسى فلا نزاع فيه وإن أراد اختصاص متعلقه فممنوع إذ لا يلزم من عدم الحكم فيه الحكم بالعدم فيه، ثم إن الدليلين كليهما منقوضان بمفهوم اللقب فإنهما يجريان فيه مع بطلانه اتفاقًا بيانه أن يقال اللقب لو لم يكن للحصر لكان للاشتراك واللازم باطل ولو لم يفد الحصر لم يفد الاختصاص وأنه يفيده قطعًا، واستدل أيضًا بأنا نعلم أنه إذا قيل الفقهاء الحنفية فضلاء ولا مقتضى للتخصيص مما تقدَّم نفرت الشافعية ولولا فهمهم نفى الفضل عن غيرهم لما نفروا.

والجواب: لا نسلم الملازمة بل النفرة إما للتصريح بغيرهم وتركهم على الاحتمال كما ينفر من التقديم فى الذكر لاحتمال أن يكون للتفضيل وإن جاز أن يكون لغيره، وإما لتوهم المعتقدين لإفادة النفى عن الغير قصد ذلك فى الصورة المذكورة فنفروا عن أن تذكر عبارة يتوهم منها بعض الناس نفى الفضل عنهم أو أن النفرة إنما هو للمعتقدين ذلك بحسب اعتقادهم وأنه توهم واستدل أيضًا بقوله تعالى:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، فقال صلى الله عليه وسلم:"لأزيدن على السبعين"، دل أنه صلى الله عليه وسلم فهم منه أن ما زاد على السبعين حكمه بخلاف

ص: 176

السبعين وذلك مفهوم العدد وكل من قال به قال بمفهوم الصفة فيثبت مفهوم الصفة والحديث صحيح لا قدح فى رواته.

الجواب: منع فهم ذلك لأن ذكر السبعين للمبالغة، وما زاد على السبعين، مثله فى الحكم وهو مبادرة عدم المغفرة فكيف يفهم منه المخالفة ولعله عليه الصلاة والسلام علم أنه غير مراد ههنا بخصوصه سلمناه لكن لا نسلم فهيه منه ولعله باق على أصله فى الجواز إذ لم يتعرض له بنفى ولا إثبات والأصل جواز الاستغفار للرسول وكونه مظنة الإجابة ففهم من حيث إنه الأصل لا من التخصيص بالذكر واستدل أيضًا بقول يعلى بن أمية لعمر: ما بالنا نقصر من الصلاة وقد أمنا، وقد قال اللَّه تعالى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101]، فقال عمر رضى اللَّه عنه: عجبتُ مما عجبتَ منه فسألتُ النبى صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته"، وجه الاستدلال أنهما فهما من تقييد قصر الصلاة بحال الخوف عدم قصرها عند عدم الخوف، وأقر الرسول عليه الصلاة والسلام عمر عليه، ولولا إفادته له لغة لما فهماه، ولما أقره الرسول عليه الصلاة والسلام.

الجواب: لا نسلم أنهما فهما منه لجواز أنهما حكما بذلك باستصحاب الحال فى وجوب إتمام الصلاة وذلك لأن الأصل الإتمام، وخولف فى الخوف بالآية فبقى فى غيره فلا يعدل عنه إلا لدليل، وإذا جاز ذلك لم يتعين أن يكون الفهم منه فلا تقوم به حجة فيه، واعلم أن هذا مفهوم الشرط لا الصفة ولعل الغرض منه إلزام من لا يفصل بينهما واستدل أيضًا بأن إفادته للتخصيص تفضى إلى تكثير الفائدة فإن إثبات المذكور ونفى غيره أكثر فائدة من إثبات المذكور وحده وكثرة فائدته ترجح المصير إليه لأنه ملائم لغرض العقلاء وهذا إنما يلزم من جعل تكثير الفائدة دالًا على الوضع وقد علمت أنا لا نقول به فلا يلزمنا وقد اعترض عليه بأن دلالته على النفى عن الغير حينئذٍ تتوقف على تكثير الفائدة إذ به تثبت وإنما يحصل تكثير الفائدة بدلالته على النفى عن الغير وذلك دور ظاهر.

الجواب: إن هذا لازم فى كل موضع يثبت الشئ لفائدة سواء كان وصفًا أو حكمًا شرعيًا أو غيرهما فيجب أن لا يثبت الشئ كالفائدة أصلًا فتنتفى المقاصد والحكم وأنه ظاهر البطلان، وجوابه الذى تنحل به الشبهة أن حصول الفائدة الموقوف والموقوف عليه ليس بواحد وإن اتحدا لفظًا فلا دور، وذلك أن المتوقف

ص: 177

عليه الدلالة على تكثير الفائدة عقلًا، وهو أن يعقل أنه لو دل لكثرت الفائدة لا على تكثير الفائدة عينًا وهو حصول الفائدة فى الواقع والمتوقف على الدلالة هو تكثير الفائدة عينًا لا عقلًا أى حقولها فى الواقع لا تعقل حقولها عنده واستدل أيضًا لو لم يكن المسكوت عنه مخالفًا للمذكور فى الحكم، ففى نحو قوله:"طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعًا إحداهن بالتراب" يلزم أن لا تكون السبع مطهرة، لأن الطهارة إذا حصلت بدون السبع فلا تحصل بالسبع لأنه تحصيل الحاصل وأنه محال وكذلك فى قوله عليه السلام:"خمس رضعات يحرمن" يلزم أن لا يكون الخمس محرمة لأن الحرمة تحصل بدون الخمس فلا تحصل بالخمس لأنه تحصيل الحاصل.

قوله: (فلا واسطة بينهما) بالغ فى توضيح ذلك ردًا لما قيل لا نسلم عدم الواسطة بين الحصر والاشتراك.

قوله: (والحاصل) يعنى كأن المدعى أن اللفظ ظاهر فى عدم الاختصاص وإلا لزم الاشتراك لعدم الواسطة واللازم باطل للاتفاق على أنه ليس للاشتراك فالمذكور فى بيان الملازمة نفس الاشتراك وفى بيان انتفاء اللازم كون اللفظ له، ومفيدًا إياه، فتعرض فى الحاصل لنفيهما جميعًا، أى عدم إفادة الاختصاص لا يستلزم الاشتراك ولا إفادة اللفظ.

قوله: (لو لم يفد الحصر لم يفد الاختصاص به) لا تفاوت بين المقدم والتالى إلا فى اللفظ ولذا قال لأنه بمعناه كان لفظ الاختصاص أوضح دلالة فجعله التالى.

قوله: (والأولى أن يقال) ظاهره جواب عن تقرير الإمام لكن يمكن تطبيقه على التقرير السابق أيضًا وحاصله أنه إن أراد باختصاص الحكم بالمذكور دون المسكوت أن الحكم النفسى المعبر عنه بالذكر اللفظى مختص به بمعنى أنا حكمنا على السائمة مثلًا ولم نحكم على المعلوفة، فلا نزاع فيه وإن أراد أن متعلق الحكم النفسى وهو النسبة الواقعة فى نفس الأمر المعبر عنها بالحكم الخارجى مختص بالمذكور بمعنى أن الزكاة واجبة فى السائمة، ليست بواجبة فى المعلوفة فممنوع إذ غاية الأمر عدم الحكم بالوجوب فيها وهو لا يستلزم الحكم بالعدم لجواز أن تثبت نسبة ولا يحكم بثبوتها وحاصله تسليم اختصاص النسبة الذهنية دون الخارجية فقد سبق مثل ذلك

ص: 178

مرارًا خصوصًا فى تحقيق أن الاستثناء من النفى إثبات وبالعكس لكن لا يخفى أن هذا إنما يصح فى الإخبار دون الإنشاء، إذ ليس لنفسيه متعلق هو الخارجى إلا أن يؤوّل بالخبر ومن ههنا يذهب الوهم إلى أن المراد بالمتعلق ههنا هو طرف الحكم كالسائمة مثلًا على ما سبق من أن متعلق الذكر النفسى هو الطرفان ليصع فيهما جميعًا ولفظه فى قوله عدم الحكم فيه أى فى المتعلق ربما يشعر بهذا المعنى ثم وجه الأولوية أن كلام المستدل ظاهر فى أن المراد اختصاص الحكم ولا يذهب وهم إلى أن لفظ السائمة يتناول المعلوفة فلا معنى للاستفسار.

قوله: (منقوضان بمفهوم اللقب) لا يخفى أن تقرير النقض على ما ذكره المحقق لا يندفع بأن فائدة اللقب أنه لولاه لم يصح الكلام على ما أشار إليه العلامة وزعم أن المصنِّف غفل عنه أو تغافل وفى بعض الشروح أن كلًا من الدليلين صحيح والمراد إيجاب الحكم فى المسكوت بمعنى أنه لو لم يفد الحصر لكان ذكر الوصف بمنزلة تركه لأن التقدير أنه لا فائدة له سوى المخالفة ولا خفاء فى عموم الحكم عند ترك الوصف فكذا عند ذكره مع أنه باطل بالاتفاق وبهذا يعرف اندفاع النقض وأنتما خبير بأن هذا ليس تقريرًا للدليلين بل لما سبق من أنه لو لم يكن للتخصيص لخلا عن الفائدة لأن التقدير أنه لا فائدة له سواه ومنهم من لم يفهم كلامه فأجاب بأنه لا خلاف ولا خفاء فى عدم الاشتراك وعدم إيجاب الحكم فى المسكوت كالمعلوفة مثلًا.

قوله: (أو أن النفرة) عطف على قوله وإما لتوهم المعتقدين وليس المراد أن هذا وجه آخر مقابل له بل إن معنى قول المصنِّف أو لتوهم المعتقدين ذلك معناه ذاك أو هذا فإذا عدل عن إما إلى أو يعنى لا نسلم حصول النفرة للشافعية عامة بل لمن اعتقد النفى عن الغير لتوهمهم ذلك.

قوله: (والحديث صحيح) دفع لما قال إمام الحرمين من أن هذا الحديث لا يصححه أهل الحديث.

قوله: (وهو مبادرة) أى الحكم المشترك بين السبعين وما فوقها ما يتبادر إلى الفهم من عدم المغفرة فلا يتبادر من ذكر السبعين أن ما فوقها بخلافها وأما ذكر النبى عليه السلام: "لأزيدن على السبعين" فلعله علم أن هذا المعنى المشترك بين السبعين وما فوقها غير مراد فى هذا المقام بخصوصه لا من جهة فهمه هذا الكلام

ص: 179

ولو سلم أنه فهمه من هذا الكلام فيجوز أن لا يكون من التقييد بالعدد بل من جهة أن الأصل قبول استغفار النبى عليه الصلاة والسلام وقد تحقق النفى فى السبعين فبقى ما فوقها على الأصل.

قوله: (وخولف فى حال الخوف بالآية) ولهذا ذكروا الآية عند التعجب يعنى أن القصر حال الخوف إنما يثبت بالآية فما بال حال الأمن لم يبق على ما هو الأصل من الإتمام.

قوله: (وقد علمت) أى فى الدليل الثانى للقائلين بمفهوم الصفة أنا لا نجعل تكثير الفائدة دالًا على الوضع بل نقصره على الناقل تواترًا أو آحادًا على ما مر فى مبادئ اللغة.

قوله: (فيجب) يعنى لو صح ما ذكرتم لزم أن لا يثبت شئ لفائدة لأن ثبوته يتوقف على الفائدة والفائدة على ثبوته ولا يختص على ما ذهب إليه العلامة بالوضع لفائدة مثبتًا بأن دلالة اللفظ الموضوع لفائدة تتوقف على الفائدة لتوقفها على الوضع المتوقف على الفائدة والفائدة تتوقف على الدلالة أو بمطلق الوضع مثبتًا بأن دلالة اللفظ تتوقف على الوضع المتوقف على الفائدة لاستحالة العبث فى فعل الحكيم والفائدة تتوقف على الدلالة فيدور.

قوله: (وجوابه) حاصله أن ما تتوقف عليه الدلالة تعقل كثرة الفائدة لا حصولها والموقوف على الدلالة حصول كثرة الفائدة لا تعقلها وفى قوله لا على تكثير الفائدة ميل إلى جانب المعنى وإلا فالصواب حذف كلمة على.

قوله: (واستدل) لم يصرح بتزييفه على ما هو دأبه وزيفه الآمدى بأنه لا يلزم من عدم دلالة السبع على نفى الطهارة فيما دونها حصول الطهارة قبل السابعة لجواز أن تثبت النجاسة بدليل آخر فإن قيل هذا إنما يتم فى الرضاع بناء على أن الأصل عدم التحريم وأما فى الإناء فالأصل هو الطهارة ما لم يظهر دليل النجاسة والأصل عدمه، قلنا الدليل القاطع قائم وهو الإجماع على التنجس بوجود النجس، فإذا لم يدل العدد على النفى فيما دونه بقى ما كان ثابتًا من النجاسة وعدم التحريم حتى يظهر الدليل.

الشارح: (وإن عنى به أن إيجاب الزكاة. . . إلخ) المراد من الإيجاب هنا الوجوب

ص: 180

بناءً على التغاير بين الإيجاب والوجوب لأنه لو أريد الإيجاب الذى هو إثبات الوجوب فالاختصاص مسلم على ما يأتى له فى قوله والأولى. . . إلخ. لأنه حينئذ هو الحكم المعبر عنه بالإيقاع.

الشارح: (فلا دلالة على أحدهما) أى لأنه يدل على مجرد ثبوت الحكم للمذكور من غير تعرض للاختصاص أو الاشتراك.

الشارح: (لا يلزم من لزوم الأمرين) أى ثبوت الوجوب أو انتفائه فى المعلوفة.

الشارح: (إذ لا يلزم من عدم الحكم فيه الحكم بالعدم) فيه أن الأولى أن يقول إذ لا يلزم من عدم الحكم فيه عدم حصول النسبة فى الخارج لأن المتعلق هو النسبة الخارجية التى تتصف الذات بها فى الخارج وهى الثبوت والانتفاء لا الحكم بالانتفاء وقد مشى على هذا الأولى فيما سيأتى حيث قال: إن الخبر وإن دل. . . إلخ. إلا أن يقال: إنه عدل عنه تنبيهًا على أن الانتفاء وإن لزم كما فى الاستثناء يثبت به المفهوم وإنما يثبت لو لزم الحكم بالانتفاء وهو لا يلزم.

الشارح: (واستدل أيضًا بأنا نعلم إذا قيل الفقهاء الحنفية فضلاء. . . إلخ) جارى المصنف فى ذلك والأولى أن يقال إذا قيل الفقهاء الشافعية فضلاء حتى يكون إلزامًا للحنفية النافين للمفهوم.

الشارح: (ولعله غير مراد ههنا بخصوصه) هذا غير ظاهر بعد منع فهم المخالفة وإن الآية للمبالغة وقطع الطمع فالأحسن كما قال غيره أن يقول: وإنما قال لأزيدن على السبعين استئلافًا للأحياء من أولادهم ولذا لم يقل لأزيدن على السبعين ليغفر لهم إلا أن يقال إن حاصل الجواب الأول منع فهم المخالفة عن الآية على معنى أنها لا دخل لها أصلًا لأنها للمبالغة وقطع الطمع وإنما فهم المخالفة من المقام وعلم أن قطع الطمع ليس مرادًا وحاصل الجواب الثانى تسليم أن الآية ليست للمبالغة وقطع الطمع بل التحديد بالسبعين مراد من الآية ويمتنع فهم المخالفة من تخصيص هذا العدد بالذكر بل من أن الأصل الجواز وقد نفى فى السبعين فبقى ما زاد على الأصل فى الجواز فالآية على الأول لا دخل لها فى الفهم أصلًا وعلى الثانى لها دخل فى الجملة وعلى كلٍّ لم يفهم المخالفة منها وفى شرح مسلم الثبوت أنه لو كانت الصلاة يعنى على أبى بن سلول ووعد الزيادة على السبعين للتأليف فقط وقد قال عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه كيف تصلى عليه وقد نهاك ربك يلزم

ص: 181

العصيان وإخفاء المراد من الآية والرسول صلى الله عليه وسلم برئ منهما ولو لم يكن للتأليف فمع كونه خلاف السياق من الآية لم ينجز وعد وسأزيد على السبعين وأجاب بأن منع أمير المؤمنين كان مبنيًا على فهمه أن قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80]، للتسوية فأجاب النبى صلى الله عليه وسلم بأنه للتخيير كما قال: خيرنى اللَّه وسأزيد على السبعين واختار الاستغفار تأليفًا ثم نسخ التخيير بالآية التى منع فيها الاستغفار للمشركين. اهـ ملخصًا.

قوله: (إنما يصح فى الإخبار دون الإنشاء) قد يقال يصح أيضًا فى الإنشاء فيقال فى الاستدلال على المفهوم إن أراد به اختصاص الحكم النفسى وهو الإيجاب فلا نزاع فيه وإن أراد اختصاص المتعلق وهو الوجوب فلا نسلم. . . إلخ.

قوله: (ولفظ فيه فى قوله عدم الحكم فيه أى فى المتعلق ربما يشعر بهذا المعنى) لم يظهر وجه ذلك ثم قد يقال لا يصح إرادة الطرف من المتعلق لأن المذكور هو السائمة فلو كان المراد باختصاص الحكم اختصاص طرفه الذى هو السائمة لكان فيه تخصيص الشئ بنفسه وهو واضح الفساد.

قوله: (يعرف اندفاع النقض) أى النقض الذى ذكره المصنف باللقب وقوله ومنهم من لم يفهم كلامه أى كلام المصنف فى قوله ويجريان معًا فى اللقب وانظر ما فهمه حتى أجاب بالجواب المذكور.

قوله: (ولا يختص على ما ذهب إليه العلامة بالوضع) يعنى أن النقض عام فى كل شئ ثبت لفائدة والعلامة خص بالنقض بالوضع لأجل الفائدة وبمطلق الوضع لأن لا بد أن يكون لفائدة فيأتى الدور فيه فيمتنع مع أنه ليس بممتنع.

قوله: (وهو الإجماع على التنجس بوجود النجس) وجود النجس فى صورة الولوغ لا يتمشى على مذهب الإمام مالك رضى اللَّه عنه.

ص: 182

قال: (النافى لو ثبت لثبت بدليل وهو عقلى ونقلى إلخ، وأجيب بمنع اشتراط التواتر والقطع بقبول الآحاد كالأصمعى والخليل وأبى عبيد وسيبويه، قالوا: لو ثبت لثبت فى الخبر وهو باطل لأن من قال فى الشام الغنم السائمة لم يدل على خلافه قطعًا وأجيب بالتزامه وبأنه قياس ولا يستقيمان والحق الفرق بأن الخبر وإن دل على أن المسكوت عنه غير مخبر به فلا يلزم أن لا يكون حاصلًا بخلاف الحكم إذ لا خارجى له فيجرى فيه ذلك، قالوا: لو صح لما صح: (أدّ زكاة السائمة والمعلوفة) كما لا يصح لا تقل له أف واضربه لعدم الفائدة والتناقض، وأجيب بأن الفائدة عدم تخصيصه ولا تناقض فى الظواهر، قالوا: لو كان لما ثبت خلافه للتعارض والأصل عدمه وقد ثبت فى نحو لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة أجيب بأن القاطع عارض الظاهر فلم يقو ويجب مخالفة الأصل بالدليل).

أقول: هذه أدلة النافين للمفهوم، قالوا: أولًا: لو ثبت المفهوم لثبت بدليل ولا دليل لأنه إما عقلى، ولا مدخل له فى مثله، وإما نقلى: إما متواتر فكان يجب أن لا يختلف فيه وإما آحاد وأنه لا يفيد فى مثله لأن المسألة أصولية.

الجواب: منع اشتراط التواتر وعدم إفادة الآحاد فى مثله وإلا امتنع العمل بأكثر أدلة الأحكام لعدم التواتر فى مفرداتها، وأيضًا فإنا نقطع أن العلماء فى الأعصار والأمصار كانوا يكتفون فى فهم معانى الألفاظ بالآحاد، كنقلهم عن الأصمعى والخليل وأبى عبيد وسيبويه.

قالوا: ثانيًا: لو ثبت المفهوم لثبت فى الخبر واللازم باطل، أما الملازمة فلأن الذى به ثبت فى الأمر وهو الحذر من عدم الفائدة قائم فى الخبر وأما انتفاء اللازم فلأنه لو قال فى الشام الغنم السائمة لم يدل على عدم المعلوفة بها، وهو معلوم من اللغة والعرف قطعًا، وقد أجيب عنه بجوابين:

أحدهما: منع انتفاء اللازم فإنا نلتزم أن الخبر فيه مثل الأمر وما ذكرتم من المثال ظاهر فى نفى المعلوفة بها إلا لدليل.

ثانيهما: أنه قياس للخبر على الأمر والقياس فى اللغة لا يصح، وهذان الجوابان لا يستقيمان، فالأول لأنه مكابرة، والثانى لما مر أن مثله استقرائى لا قياسى.

والجواب الحق: أن الخبر وإن دل أن المسكوت عنه غير مخبر به فلا يلزم أن لا يكون حاصلًا فى الخارج بخلاف الحكم فإنه لا خارجى له حتى يجرى فيه ذلك فإن وجوب الزكاة هو نفس قوله أوجبت فإذا انتفى هذا القول فيه فقد انتفى

ص: 183

وجوب الزكاة فيه، قال: وهذا دقيق لكنه رجوع إلى نفى المفهوم، وكونه سكوتًا وعدم حكم وتعرض وهو بعينه مذهب الخصم.

قالوا: ثالثًا: لو صح القول بالمفهوم لما صح أن يقال أدّ زكاة الغنم السائمة والغنم المعلوفة، لا مجتمعًا ولا متفرقًا، واللازم ظاهر البطلان، بيان الملازمة أن وزانه فى منافاة مفهوم كلٍّ لمنطوق الآخر وزان قولك فى مفهوم الموافقة لا تقل له أف واضربه، ولا شك أن ذلك غير جائز فكذا هذا وإنما لم يجز ذلك لوجهين: أحدهما: أن المنطوقين مع المفهومين متعارضان، والمنطوق أقوى من المفهوم فيندفع المفهومان، فلا يبقى لذكر القيدين فائدة، إذ فائدة التقييد المفهوم ويكون بمثابة قولك أدّ زكاة الغنم فيضيع ذكر السائمة، والمعلوفة بخصوصها، ثانيهما: أنه تناقض فإن مفهوم كلٍّ مناقض لمنطوق الآخر.

الجواب: لا نسلم أنه كمفهوم الموافقة لقطعية ذلك وظنية هذا، وأما ما ذكرت فى بيانه فالجواب عن الأول: أن الفائدة فى ذكر القيدين عدم تخصيص أحدهما عن العام فإن العام ظاهر فى تناول الخاصين ويمكن إخراج أحدهما عنه تخصيصًا له، وإذا ذكرهما بالنصوصية لم يمكن ذلك، وعن الثانى أنه لا تناقض فى الظواهر، مع إمكان الصرف عن معانيها لدليل ودفع التناقض أقوى دليل عليه.

قالوا: رابعًا: لو كان المفهوم حقًا لما ثبت خلاف المفهوم واللازم باطل، أما الملازمة فلأنه يلزم التعارض بين المفهوم ودليل خلافه والأصل عدم التعارض وأما انتفاء اللازم فلأنه قد ثبت فى نحو:{لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]، إذ مفهومه عدم النهى عن القليل منه والنهى ثابت فى القليل والكثير.

الجواب: لا نسلم الملازمة، قولك يلزم التعارض ممنوع بل القاطع يقع فى مقابلة الظاهر فلا يقوى الظاهر للمعارضة فلا يقع تعارض من الطرفين، سلمنا لكن التعارض وإن كان خلاف الأصل وجب المصير إليه عند قيام الدليل، كما أن الأصل البراءة ويخالفها بالدليل وهو أكثر من أن يحصى، واعلم أنه قد يورد هذا على وجه يندفع، الجوابان وهو أنه لو كان المفهوم ثابتًا لزم التعارض عند المخالفة وهو خلاف الأصل، وأما إذا لم يثبت لم يلزم وما يفضى إلى خلاف الأصل مرجوح إلا لدليل يدل عليه فإن أقام عليه دليلًا صح دليلنا، فكان ذلك معارضة.

قوله: (والثانى لا مر) أى فى جواب الاعتراض على الدليل الثانى للمثلثين من

ص: 184

أنه ثبت بالاستقراء أن كل ما ظن أن لا فائدة للفظ سواه تعين أن يكون مرادًا.

قوله: (والجواب الحق أن) هذا منع للملازمة بالفرق بين الخبر وغيره فإن قيل الفرق إنما يقدح لو كان الاستدلال قياسًا للخبر على غيره وأما لو كان احتجاجًا بأن ثبت بالاستقراء أن ما لا فائدة للفظ سواه تعين أن يكون مرادًا به فلا قلنا حاصله أن فى الخبر فائدة التخصيص بالوصف من مخالفة المسكوت عنه للمذكور فى الحكم النفسى فإبقاؤه عن المسكوت عنه يتعين مرادًا قضاء بالاستقراء لكنه لا يستلزم انتفاء الحكم الخارجى بخلاف الحكم الذى هو الخطاب فإنه نسبة نفسية ليس لها متعلق هى النسبة الخارجية فإذا انتفى فى المسكوت عنه ولم يتعلق به ثبت فيه عدم الحكم الذى هو الإيجاب والتحريم ونحوهما فالخبر كقولنا فى الشام الغنم السائمة وإن دل على أن المعلوفة لم يخبر عنها بالسكون فى الشام لكن لا يلزم منه أن لا يكون الخبر أى مضمونه الذى هو وجود المعلوفة فى الشام حاصلًا فى الخارج لجواز أن يحصل فى الخارج ما لا يخبر به قط بخلاف حكم الشارع بأن فى السائمة الزكاة فإن معناه أن خطاب الطلب لم يتعلق بالزكاة فى المعلوفة فلم تجب قال المصنِّفُ فى المنتهى وهذا دقيق نفيس لكن اعتراض المحقق عليه قوى وهو أنه اعتراف بما ذهب إليه الخصم من أن الحكم على غير المذكور كالمعلوفة مثلًا معدوم مسكوت عنه غير متعرض له لا بالنفى ولا بالإثبات لأنه يسلم أن غير المذكور كالمعلوفة فى الخبر لم يحكم عليه ولم يخبر عنه وفى الإنشاء ينفى عنه القول الذى هو أوجبت فعدم وجوبه بناء على عدم دليل وجوبه لا على دليل عدم وجوبه وهذا نفس ما ادعاه الخصم واعلم أن الحق عدم التفرقة بين الخبر والإنشاء كما فى قولنا الفقهاء الحنفية أئمة فضلاء، ومطل الغنى ظلم، عند قصد الإخبار إلى غير ذلك من المواضع، ونفى المفهوم فى بعض الواضع بمعونة القرائن كما فى قولنا فى الشام الغنم السائمة لا ينافى ذلك.

قوله: (لا مجتمعًا) مثل أدّ زكاة الغنم السائمة والمعلوفة ولا متفرقًا، مثل: أدّ زكاة الغنم السائمة، أدّ زكاة الغنم المعلوفة والغرض من هذا التفصيل التنبيه على أن فى صورة الاجتماع أيضًا قد تحقق التخصيص بالصفة حيث علق الحكم بالسائمة تارة وبالمعلوفة أخرى فيندفع ما يقال إن هذا ليس من التخصيص.

قوله: (وإنما لم يجز ذلك) لا خفاء فى أنه إذا كان وزانه وزان مفهوم الموافقة فى منافاة المفهوم للمنطوق كان عدم صحته غنيًا عن البيان وإنما المفتقر إلى البيان

ص: 185

تحقق المنافاة فى مفهوم الموافقة على ما يشعر به لفظ ذلك لظهور كونه إشارة إلى قولك لا تقل له أف واضربه لكن تقرير الوجه الأول صريح فى أنه بيان لامتناع أن يقال أدّ زكاة الغنم السائمة والمعلوفة مجتمعًا أو متفرقًا بناء على أنه لا يبقى لذكر قيد السائمة والمعلوفة فائدة لا بيان للمنافاة فى مثل لا تقل له أف واضربه نعم يمكن تقرير الوجه الثانى وهو لزوم التناقض على وجه يجرى فى مفهوم الموافقة بأن يقال مفهوم لا تقل له أف وهو حرمة الضرب يناقض منطوق اضربه وهو جواز الضرب ومفهوم اضرب وهو جواز أن يقال له أف يناقض منطوق لا تقل له أف وإنما جرى الشارح على ذلك اتباعًا للمتن لأن قوله للتناقض وإن أمكن إجراؤه فى مثل لا تقل له أف واضربه لكن قوله ولعدم الفائدة إنما يجرى فى أدّ زكاة السائمة والمعلوفة فتأمل وفى بعض الشروح ما يشعر بأن قوله للتناقض مقرون بالواو حتى كأنه بين الملازمة بثلاثة أوجه القياس والتناقض وعدم الفائدة وسكت فى الجواب عن القياس لظهوره.

قوله: (والأصل عدم التعارض) إشارة إلى بيان انتفاء اللازم من القياس الاستثنائى المؤلف لبيان الملازمة فى أصل الدليل وتقريره أنه لو ثبت المفهوم لما ثبت خلافه وأما الملازمة فلأنه لو ثبت لثبت التعارض بين دليل المفهوم ودليل خلافه وهو منتف بحكم الأصل وأما انتفاء اللازم فلثبوت خلافه فى مثل: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران: 130] الآية، فإن قوله أضعافًا مضاعفة، فى معنى الوصف على ما سبق وقد تحقق التحريم عند انتفائه وأجاب أوّلًا بمنع الملازمة فى أصل الدليل لجواز أن يكون المفهوم حقًا وثبت خلافه أحيانًا بناءً على دليل قطعى لا يعارضه دليل المفهوم لكونه ظنيًا وثانيًا بمنع انتفاء اللازم لجواز أن يثبت التعارض لقيام دليل عليه وإن كان الأصل عدمه.

قوله: (وأما إذا لم يثبت) أى المفهوم لم يلزم أى التعارض الذى هو خلاف الأصل فإن قيل انتفاء الملزوم لا يستلزم انتفاء اللازم قلنا هذا تلازم تساو لأن التعارض بين دليل المفهوم ودليل خلافه إنما يتصوّر على تقدير ثبوت المفهوم.

قوله: (فإن أقام) يعنى أن دليلنا على نفى المفهوم بأن ثبوته قد يفضى إلى خلاف الأصل وهو التعارض بمعنى تقابل الدليلين فى الجملة لا بمعنى تقابل الدليلين المتساويين فى القوة حتى يرد منع لزومه وكل ما قد يفضى إلى خلاف الأصل مرجوح بالنسبة إلى ما لا يفضى إليه كعدم ثبوت المفهوم وكل مرجوح فهو منتف ما

ص: 186

لم يقم عليه دليل صحيح فإن عجز الخصم عن إقامة الدليل عن ثبوت المفهوم فقد سلم دليلنا عن المعارض وإن أقام كان دليله معارضة والمعارضة لا تقدح فى صحة الدليل نعم يمكن إبطال هذا الدليل بعد تسليم أن التعارض بالمعنى المذكور خلاف الأصل بأن الإفضاء إلى خلاف الأصل فى الجملة لا يقتضى إلا المرجوحية فى الجملة وهى لا تقتضى إلا الانتفاء فى الجملة وهو لا ينافى ما يدعيه من الثبوت فى الجملة.

الشارح: (لأنه مكابرة) الحق أنه لا مكابرة فيه كما قال المحشى فإن مدلول فى الشأن الغنم السائمة بطريق المفهوم عدم وجود المعلوفة بها إلا لمانع كالعلم بأن فيها المعلوفة وقوله فلا يلزم أن لا يكون حاصلًا فى الخارج أى لأنه ثابت بدون الإخبار غير متوقف عليه فإذا لم يخبر به لا ينتفى بخلاف الإنشاء فلا خارج له فمتعلقه ينتفى إذا لم يتعلق به الإنشاء بمقتضى التقييد وقوله فإذا انتفى هذا القول فيه فقد انتفى وجوب الزكاة أى لأنه هو المثبت وقد انتفى فى المسكوت القول فانتفى الحكم وقوله قال وهذا دقيق أى قال المصنف ابن الحاجب وقوله لكنه رجوع إلى نفى المفهوم وكونه سكوتًا أى لا كونه محكومًا بنقيض الحكم.

قوله: (واعلم أن الحق عدم التفرقة. . . إلخ) أى لأن الخبر وإن كان له خارج إلا أن مدلوله هو الإيقاع من حيث تعلقه بالوقوع للمتعلق ففائدة القيد نفى الإيقاع من حيث ذلك التعلق لما لا يكون فيه القيد وهو نفى للمتعلق الذى انتفى فيه القيد.

قوله: (كان عدم صحته غنيًا عن البيان) أى لأن حكم المقيس يعلم من حكم المقيس عليه فالبيان المحتاج إليه هو بيان المقيس عليه وقوله للتناقض. . . إلخ. ظاهر هذا أن النسخة التى وقعت له هى للتناقض وعدم الفائدة والنسخة التى بأيدينا لعدم الفائدة وللتناقض وقوله وفى بعض الشروح. . . إلخ. هو أيضًا على نسخة تأخير عدم الفائدة على التناقض وقوله القياس أى المشار إليه بقوله كما لا يصح لا تقل له أف واضربه وقوله لظهور بينه الشارح بقوله لقطعية ذلك وظنية هذا يعنى ويضمحل الضعيف مع القوى فيتعطل المفهوم لمنع القوى له ووجه بعضهم إجراء الوجه الأول فى المقيس عليه بأن يقال المراد بالقيدين أف واضربه لأن فى كل من المفعول والمعطوف نوع تقييد للفعل المعطوف عليه وهو قوله: فلا تقل ويندفع بمنطوق كل منهما مفهوم موافقة الآخر فلا يبقى لذكرهما فائدة.

ص: 187

قال: (وأما مفهوم الشرط فقال به بعض من لا يقول بالصفة، والقاضى وعبد الجبار والبصرى على المنع، للقائل به ما تقدم، وأيضًا يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط، وأجيب قد يكون سببًا قلنا أجدر إن قيل بالاتحاد والأصل عدمه إن قيل بالتعدد وأورد: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]، وأجيب بالأغلب وبمعارضة الإجماع).

أقول: مفهوم الشرط أقوى من مفهوم الصفة فكل من قال بمفهوم الصفة قال به، وقد قال به بعض من لا يقول بمفهوم الصفة، والقاضى وعبد الجبار والبصرى من المانعين لمفهوم الصفة على المنع من مفهومه أيضًا للقائل به ما تقدَّم فى مفهوم الصفة من مقبول ومزيف فتنقل إلى ههنا بعينها وله أيضًا دليل يختص به وهو أنه إذا ثبت كونه شرطًا لزم من انتفائه انتفاء المشروط فإن ذلك هو معنى الشرط وربما يقال: هو شرط لإيقاع الحكم لا لثبوته، وقد اعترض عليه بأنه لا يتعين أن يكون شرطًا لجواز استعمال إن فى السببية بل غلبته فيها اتفاقًا.

الجواب: لا يضرنا ذلك سواء قلنا بوجوب اتحاد السبب أو بجواز تعدده أما إن قلنا بالاتحاد فلأنه إذا انتفى انتفى المسبب، لامتناع المسبب بدون سببه بل مع عدم السبب أجدر بالانتفاء من المشروط، لانتفاء شرطه، مع وجود السبب، وأما إن قلنا بجواز التعدد فلأن الأصل عدم غيره وإن جاز فإذا انتفى فقد انتفى السبب مطلقًا، فينتفى المسبب.

وقد اعترض عليه بإيراد نقض وهو قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]، فلو ثبت مفهوم الشرط لثبت جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن ولا إكراه عليه غير جائز بحال من الأحوال إجماعًا.

الجواب: أولًا: أنه مما خرج مخرج الأغلب، إذ الغالب أن الإكراه يكون عند إرادة التحصن ولا مفهوم فى مثله كما عرفت.

وثانيًا: أن المفهوم اقتضى ذلك وقد انتفى لمعارض أقوى منه وهو الإجماع، وقد يجاب عنه بأنه يدل على عدم الحرمة عند عدم الإرادة وأنه ثابت إذ لا يمكن الإكراه حينئذٍ لأنهن إذا لم يردن التحصن لم يكرهن البغاء والإكراه إنما هو إلزام فعل مكروه وإذا لم يمكن لم يتعلق به التحريم لأن شرط التكليف الإمكان ولا يلزم من عدم التحريم الإباحة.

ص: 188

قوله: (من مقبول) كالنقل عن أئمة اللغة وعدم فائدة التقييد لولا المفهوم ومزيف كحديث يعلى بن أمية وتكثير الفائدة وغير ذلك.

قوله: (وربما يقال هو) أى المذكور بعد كلمة إن ونحوها شرط لإيقاع الحكم لا لثبوت الحكم فلا يلزم من انتفائه سوى انتفاء الإيقاع وهو لا يستلزم انتفاء الوقوع وتحقيق ذلك أنه إن أريد أنه شرط بالنسبة للنفسية فمسلم ولا يلزم من انتفائه إلا عدم حكم النفس وإن أريد أنه شرط لمتعلقها الخارجى فممنوع ومرجعه إلى الاختلاف فى أن أثر الشرط فى منع السبب أو فى منع الحكم فقط لكن الحق هو الثانى للقطع بأنا إذا قلنا إن دخلت الدار فأنت حر فإن الدخول شرط لوقوع العتق لا إيقاعه الذى هو تصرف منا بالتنجيز أو التعليق، وبحث آخر وهو أنه إذا كان شرطًا للنسبة النفسية ففى الإنشاء يلزم من انتفائه انتفاء الحكم ضرورة أنه لا معنى لانتفاء الوجوب مثلًا سوى عدم تعلق الطلب على ما سبق تحقيقه وقد سبق الجواب أيضًا وهو أن هذا اعتراف بمذهب الخصم حيث جعل غير المذكور بمنزلة المسكوت عنه لم يتعلق به الطلب، فإن كان الأصل انتفاءه بقى عليه مثل: أدّ زكاة الغنم إن كانت معلوفة، وإن كان الأصل ثبوته لقيام دليل عليه لم ينتف كما فى قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا. . .} [النساء: 25] الآية، فإنه لا يدل على جواز نكاح الأمة عند طول الحرة ولا على حرمته بل يكون فى حكم المسكوت عنه ويبقى الجواز بقوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ. . .} [النساء: 24]، وأما من يجعل الشرط شرطًا للوقوع دالًا على انتفاء الحكم عند انتفائه فهذا الحكم عنده مخصص بمفهوم قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ. . .} [النساء: 25] الآية.

قوله: (وقد اعترض) حاصله أن ما علق به الحكم ككلمة إن ونحوها مما يسمى شرطًا بمعنى ما يلزم من انتفائه انتفاء الشئ لا على وجه السببية فإنه فى الغالب يكون سببًا وانتفاء السبب لا يوجب انتفاء المسبب والجواب أنه إن لزم اتحاد السبب فذاك وإن لم يلزم بل جاز تعدده فعند انتفاء السبب الخاص يحكم بانتفاء مطلق السبب لأن الآخر وإن كان جائزًا لكن الأصل عدمه ما لم يثبت وجوده وحينئذٍ يثبت انتفاء الحكم ظاهرًا وإن لم يثبت قطعًا.

قوله: (لثبت جواز الإكراه) لأنه أدنى مراتب انتفاء التحريم.

ص: 189

قوله: (إذ الغالب أن الإكراه يكون عند إرادة التحصن) مبناه على تصور الإكراه على البغاء بدون إرادة التحصن وإلا لكان دائمًا لا غالبًا.

قوله: (وقد يجاب) حاصله سلمنا دلالة الشرط على عدم حرمة الإكراه لكن بناء على أنه غير متصور وهذا لا يستلزم الإذن فيه وقوله لم يكرهن البغاء أى لم يكن البغاء مكروهًا عندهن وهذا كاف فى امتناع الإكراه عليه ولا حاجة إلى ما يقال أنهن إذا لم يردن التحصن فقد أردن البغاء مع أنه ممنوع لجواز أن لا يردن شيئًا منهما.

المصنف: (وأيضًا يلزم من انتفائه انتفاء المشروط) رده الحنفية بأن ذلك فى الشرط الشرعى والعقلى لا النحوى المراد هنا إذ لا يلزم من انتفاء الملزوم انتفاء اللازم وقوله ويكون بمثابة قولك أد زكاة الغنم. . . إلخ. إشارة إلى وجود علة حكم الأصل فى الفرع وعدم فائدة ذكر القيدين فيه من السائمة والمعلوفة لاندفاع منطوق كل بمفهوم الآخر والضمير فى يكون للفرع المقيس وعلى هذا فالبيان للمقيس عليه لا للمقيس وهو تكلف.

قوله: (ومرجعه إلى الاختلاف فى أن أثر الشرط. . . إلخ) يعنى أنه وقع خلاف فيما إذا قال مثلًا إن دخلت الدار فأنت طالق هل دخول الدار شرط لجعل أنت طالق سببًا موجبًا لوقوع الطلاق أو شرطًا لوقوع الطلاق، وعبر مسلم الثبوت عن ذلك بمسألة التعليق هل يمنع السبب أو الحكم عن الثبوت فقط لا السبب عن الانعقاد اختار الحنفية الأول والشافعية الثانى وتفرع على ذلك الخلاف فى مفهوم الشرط فلما مال الشافعية إلى أن الجزاء سبب للحكم وموجب له والشرط يمنع ثبوت الحكم عند عدمه قالوا: إن عدم الحكم لعدم الشرط ولما مال الحنفية إلى أن الشرط يمنع السبب وإيجابه الحكم عند عدمه قالوا: إن عدم الحكم لانتفاء السبب والموجب كما كان من قبل فليس لعدم الشرط دخل فيه بل هو عدم أصلى وفى التحرير أن تفرع خلافية المفهوم على خلافية منع الشرط السبب أو الحكم غلط لأن السبب الذى يدعى الشافعية انتفاء الحكم بانتفائه فى خلافية مفهوم الشرط هو مدلول لفظ الشرط وفى خلافية السبب السبب هو الجزاء فأين أحدهما من الآخر، وإنما هى مبنية على الخلاف فى اعتبار الجزاء من التركيب الشرطى مفيدًا حكمه على عموم التقادير خصصه الشرط بإخراج ما سوى ما تضمنه عن ثبوت الحكم

ص: 190

فيكون النفى مضافًا إليه لأنه دليل التخصيص وأهل النظر يمنعون إفادته شيئًا حال وقوعه جزاء الشرط بل هو كزاى زيد فضلًا عن إيجابه حكمًا على جميع التقادير والمجموع يفيد حكمًا مقيدًا بالشرط فإنما دلالته على الوجود عند وجوده فإذا لم يوجد بقى ما قيد وجوده بوجوده على عدمه الأصلى وقال قبل ذلك فى وجه رد التفرع إن المفرع أوسع دائرة من المفرع عليه لأن المعلق قد يكون نفس الحكم لا سببه كما فى إذا جاء فأكرمه وقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9]، ورده شارح مسلم الثبوت بأن المقصود أنه لما منع الشرط ترتب الحكم على السبب الذى هو الجزاء يكون انتفاء الحكم مضافًا إلى الشرط فصار مدلولًا له ولا غلط فى ذلك نعم يوجه الغلط بأن مسألة المفهوم لغوية ومسألة السبب شرعية فلا يصح التفرع ووجه كون مسألة السبب شرعية أن حاصلها أن الذى جعل سببًا شرعًا هل تبطل سببيته شرعًا بالشرط والتعليق ثم قال: ولك أن تقول إن الجزاء عند الشافعية مفيد للحكم على جميع التقادير لغة وموجب له والشرط يخصصه بتقدير وجوده وإخراج تقدير عدمه ولهذا عدوا الشرط من المخصصات فانتفاء الحكم عند عدم الشرط إنما جاء من تخصيص الشرط فأفاد حكمًا مخالفًا لغة كالاستثناء إلا أنه مفيد للحكم المخالف فى المنطوق والشرط فى المسكوت وأما عندنا يعنى الحنفية فالجزاء مع الشرط يفيد حكمًا مقيدًا وما وراءه يبقى على الأصل سواء كان الحكم فى الجزاء والشرط قيد بمنزلة الظرف والحال أو كان الحكم بين الشرط والجزاء فعلى أن الشرط بمنزلة استثناء تقديرات ما وراءه عن الحكم الجزائى وكان الجزاء عامًا لها لغة يكون الشرط دالًا على نفى الحكم عما عداه وعلى أن الشرط مع الجزاء مفيد لحكم مقيد فقط يكون حكم ما عداه مسكوتًا عنه. اهـ باختصار. وعلى هذا فقول المحشى ومرجعه أى مرجع الخلاف فى أن المذكور بعد أداة الشرط شرط للإيقاع أو للوقوع إلى أن الشرط هل يؤثر فى السبب فيمنع سببيته عند عدمه وهو مبنى رجوع الشرط للإيقاع أو يؤثر فى الحكم فينتفى الحكم بانتفاء الشرط وهو مبنى رجوع الشرط للوقوع.

قوله: (مبناه على تصور. . . إلخ) أى وهو لا يتصور فلا يصح اعتبار الأغلبية جوابًا واعلم أنه قد أجيب عن إشكال التقييد بهذا الشرط بأنه نظر فيه للحادثة وبأنه لتهييج الحمية فى قلوب أولياء الفتيات لأنهن إذا كن يردن الإحصان فأولياؤهن أولى بأن يريدوا منهن الإحصان ولا بجبروهن على البغاء.

ص: 191

قال: (مفهوم الغاية قال به بعض من لا يقول بشرط القاضى وعبد الجبار، للقائل به ما تقدَّم وبأن معنى صوموا إلى أن تغيب الشمس آخره غيبوبة الشمس فلو قدر وجوب بعده لم يكن آخر).

أقول: مفهوم الغاية أقوى من الشرط فقال به كل من قال بمفهوم الشرط وبعض من لم يقل به كالقاضى وعبد الجبار ومنعه البعض من الفقهاء، واحتج القائل به بما تقدَّم فى الصفة وبوجه يخصه، وهو أن قول القائل: صوموا إلى أن تغيب الشمس معناه آخر وجوب الصوم غيبوبة الشمس، فلو قدرنا ثبوت الوجوب بعد أن غابت الشمس لم تكن الغيبوبة آخرًا وهو خلاف المنطوق، وقد يقال الكلام فى الآخر نفسه لا فيما بعد الآخر، ففى قوله:{إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] المرافق آخر، وليس النزاع فى دخول ما بعد المرفق.

قوله: (وقد يقال) اعتراض ومؤاخذة على قوله فلو قدر وجوب بعده يعنى سلمنا أن ما بعد الغاية لو دخل لم تكن الغاية آخرًا لكن النزاع لم يقع فيه إذ لم يقل أحد بدخول ما بعد المرافق فى الغسل وإنما النزاع فى نفس الغاية فإن غيبوبة الشمس ونفس المرافق هل يلزم انتفاء الحكم فيه ولا نعنى بمفهوم الغاية سوى أنها لا تدخل فى الحكم بل ينتفى الحكم عند تحققها هذا ولكن عبارة الآمدى وغيره أن مفهوم الغاية نفى الحكم فيما بعد الغاية.

ص: 192

قال: (وأما مفهوم اللقب فقال به الدقاق وبعض الحنابلة وقد تقدَّم وأيضًا فإنه كان يلزم من محمد رسول اللَّه، وزيد موجود وأشباهه ظهور الكفر، واستدل بأنه يلزم منه إبطال القياس لظهور الأصل فى المخالفة وأجيب بأن القياس يستلزم التساوى فى المتفق عليه، فلا مفهوم فكيف ههنا، قالوا: لو قال لمن يخاصمه ليست أمى بزانية، ولا أختى تبادر نسبة الزنا إلى أم خصمه، وأخته، ووجب الحد عند مالك وأحمد قلنا من القرائن لا مما نحن فيه).

أقول: مفهوم اللقب وهو نفى الحكم عما لم يتناوله الاسم مثل فى الغنم زكاة فينتفى من غير الغنم قد منعه الجمهور، وقال به أبو بكر الدقاق وبعض الحنابلة، وقد تقدَّم أن المفهوم إنما يعتبر لتعينه فائدة، لأجل أن لا فائدة غيره واللقب قد انتفى فيه المقتضى لاعتبار المفهوم إذ لو طرح لاختل الكلام، ولنا أيضًا: أنه كان يلزم من قولنا محمد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ظهور الكفر لأن مفهومه نفى رسالة غيره من الأنبياء، وكذا من قولنا العالم موجود وزيد موجود أو بكر عالم أو قادر إذ يفهم منه نفى هذه الصفات عن الغير فيلزم نفيها عن اللَّه تعالى بل كان زيد موجود ظاهرًا كذبه واللوازم باطلة إجماعًا واستدل بأن القول بمفهوم اللقب يلزم منه إبطال القياس والقياس حق، والمفضى إلى إبطال الحق باطل فيكون القول بمفهوم اللقب باطلًا، بيان اللزوم أن النص الدال على حكم الأصل إن تناول الفرع ثبت الحكم فيه بالنص وإلا دل على انتفاء الحكم فيه فكان إثباته بالقياس قياسًا فى مقابلة النص فلا يعتبر.

الجواب: أن القياس يستدعى مساواة فرع الأصل فى المعنى الذى أثبت له الحكم وإذا حصل ذلك دل على الحكم فى الفرع بمفهوم الموافقة وبطل مفهوم المخالفة كما علمت هذا فى الصفة والشرط مما هو أقوى، وقد اتفق على حقيقة مفهومه فكيف فى اللقب وهو الأضعف المختلف فيه، وقد أنكره كثير ممن أثبت ذلك والحاصل أن موضع القياس لا يثبت فيه مفهوم اللقب اتفاقًا، فإذا لم يجتمعا فى محل فكيف يدفع القياس، قالوا: لو قال لمن يخاصمه ليست أمى بزانية ولا أختى تبادرت منه إلى الفهم نسبة الزنا إلى أم الخصم وأخته ولذلك وجب عليه الحد عند مالك وأحمد ولولا مفهوم اللقب لما تبادر ذلك.

الجواب: أن ذلك مفهوم من القرائن الحالية وهى الخصام وإرادة الإيذاء

ص: 193

والتقبيح فيما يورد فيه غالبًا وليس مما نحن فيه من المفهوم الذى يكون اللفظ ظاهرًا فيه لغة.

قوله: (ظهور الكفر) لأن دلالة المفهوم بحسب الظهور دون القطع.

قوله: (بل كان زيد موجود ظاهرًا كذبه) وجه الإضراب إليه أن بطلان اللازم فيه أظهر.

قوله: (كما علمت) أن شرط مفهوم المخالفة أن لا تظهر أولوية، ولا مساواة، وأنه إذا حصل ذلك ثبت مفهوم الموافقة لكن قد علم أيضًا أن شرط مفهوم الموافقة الأولوية ولا تكفى المساواة ولو صح ما ذكر ههنا من أن القياس يستدعى المساواة وإذا حصل المساواة دل على ثبوت الحكم فى الفرع بمفهوم الموافقة لكان كل قياس مفهومًا والثابت ثابتًا بالنص ولزم رفض كثير من القواعد.

قوله: (ولا تكفى المساواة) قال الغزالى فى المستصفى إذا فهم المسكوت من الملفوظ بشرط أن يكون أسبق إلى الفهم من المنطوق أو معه وليس متأخرًا عنه يسمى مفهوم الموافقة. اهـ. فلعله نبه هنا على أن المساوى من مفهوم الموافقة عند بعضهم.

قوله: (لكان كل قياس مفهومًا والثابت به ثابتًا بالنص) رد بعضهم هذه الملازمة بأنه يجوز أن يكون حكم الأصل ثابتًا بالإجماع لا بالنص وعلى تقدير ثبوته بالنص يجوز أن يكون أدنى من الأصل فيما ثبت لأجله الحكم فليس حينئذ هذا الحل محل المفهوم باتفاق ولكنه محل القياس على ما ذهب إليه صاحب المنهاج من جواز القياس فى الأدنى وإن لم يجوزه المصنف.

قوله: (ولزم رفض كثير من القواعد) أى التى اعتبرت فى أركان القياس.

ص: 194

قال: (وأما الحصر بإنما فقيل لا يفيد وقيل منطوق وقيل مفهوم، الأول: إنما زيد قائم، بمعنى إن زيدًا قائم، والزائد كالعدم، الثانى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} [طه: 98]، بمعنى ما إلهكم إلا اللَّه، وهو المدعى وأما مثل: "إنما الأعمال" و"إنما الولاء" فضعيف لأن العموم فيه لغيره فلا يستقيم لغير المعتق ولاء ظاهرًا).

أقول: مفهوم إنما هو نفى غير المذكور فى الكلام آخرًا مثل إنما زيد قائم وإنما العالم زيد وإنما ضرب زيد عمرًا يوم الجمعة أمام الأمير قائمًا، وقد اختلف فيه فقيل: لا يفيد الحصر فهو "إن" و"ما" مؤكدة فقولك: إنما أنت نذير فى قوة إنك نذير، وقيل يفيده بالمنطوق فلا فرق بين إنما أنت نذير وبين ما أنت إلا نذير، وقيل يفيده بالمفهوم، قال: الأول وهو القائل بأنه لا يفيده لا فرق بين إن زيدًا قائم، وإنما زيد قائم، و"ما" ههنا زائدة فهى كالعدم.

وقال الثانى -وهو القائل بأنه يفيده بالمنطوق-: لا فرق بين: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} [طه: 98]، وبين لا إله لكم إلا اللَّه، وكلاهما تقرير المدعى وإعادته بعبارة أوضح استدلال والمنع عليهما ظاهر، وقد يحتج فى إفادته للحصر بمثل:"إنما الأعمال بالنيات"، "إنما الولاء لمن أعتق" إذ يتبادر منه عدم صحة العمل بلا نية، وعدم الولاء لغير المعتق.

الجواب: أن الحصر نشأ من عموم الأعمال والولاء إذ معناه كل عمل بنية وكل ولاء للمعتق، وهو كلى موجب فينتفى مقابلة الجزئى السالب، وهو بعض العمل بغير نية وبعض الولاء ليس لمن أعتق بل لغيره، فإن قلت يحتمل الولاء للمعتق ولغيره إذ لا منافاة، قلت: هو ظاهر فى نفى الولاء عن غيره وإلا كان ما للغير ولاء وليس للمعتق ولا يمكن أن يقال هذا تغاير بالإضافة، لا تغاير وجودى، وذلك كما يقال ملكية الدار لزيد فإنه ظاهر فى الاستقلال وإن لم تمتنع الشركة بما ذكرنا إذ ملكية غيره ملكية وليست له.

قوله: (وقد اتفق على حقيقة مفهومه) أى مفهوم ما هو قوى كالشرط والصفة ونحوهما والمراد اتفاقنا واتفاق القائلين باللقب لا اتفاق الكل.

قوله: (مفهوم إنما) يعنى أن مفهوم المخالفة الذى يدل عليه إنما هو نفى غير ما ذكر آخرًا فى الكلام المصدر بإنما لأنه يدل على الحصر فى الجزء الأخير من كلامه

ص: 195

بمعنى الإثبات فيه والنفى فيما يقابله وقد استدل على ذلك باستعمال الفصحاء والنقل عن أئمة النحو والتفسير وأما أن ذلك مفهوم لا منطوق فتدل عليه أمارات مثل جواز إنما زيد قائم لا قاعد بخلاف ما زيد إلا قائم لا قاعد، ومثل أن صريح النفى والاستثناء يستعمل عند إصرار المخاطب على الإنكار بخلاف إنما، وقد فصلنا ذلك فى علم المعانى.

قوله: (وكلاهما تقرير المدعى) شرح لقوله وهو المدعى وإشارة إلى أنه من كلام المعترض لا المستدل، على ما ذهب إليه بعض الشارحين لقلة جدواه حينئذٍ.

قوله: (والمنع عليهما ظاهر) أى لا نسلم عدم الفرق بين: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} [طه: 98]، وبين ما إلهكم إلا اللَّه، بل نفى الغير فى الأول مفهوم، وفى الثانى منطوق، وحاصله أن قولنا إنما أنا تميمى بمعنى ما أنا إلا تميمى وإنما قام زيد بمعنى زيد القائم لا بمعنى ما قام إلا زيد.

قوله: (وقد يحتج) ذهب جمهور الشارحين إلى أن قوله وأما مثل: "إنما الأعمال. . "، و"إنما الولاء. . " فضعيف إشارة إلى استدلال عدم إفادة الحصر مع جواب عنه تقرير الاستدلال أنه لو أفاد الحصر لما صح عمل بغير نية ولما ثبت ولاء لغير المعتق واللازم باطل لعموم صحة العمل بالنية وغيرها وعموم الولاء للمعتق وغيره كمن باع العبد من نفسه وتقرير الجواب أن عموم صحة العمل وكذا عموم الولاء إنما ثبت بغير هذا الحديث كالإجماع والحديث يدل بحسب الظاهر على أنه لا يستقيم الولاء لغير المعتق إلا أن الظاهر قد يعدل عنه بدليل قطعى، ولما كان هذا فى غاية التكلف سيما تقرير الجواب ذهب المحقق إلى أنه استدلال على إفادته الحصر وهو المذكور فى المنتهى حيث قال:"وإنما الأعمال. . "، "وإنما الولاء لمن أعتق" فالحصر بغير إنما لما فيه من العموم لأنه لو كان بعض الولاء لمن لم يعتق لزم خلاف ظاهر:"الولاء لمن أعتق" وقد تنبه الشارح العلامة أيضًا لهذا الوجه إلا أنه قال الوجه الأول أقوى.

قوله: (فإن قلت) يعنى أن قوله فلا يستقيم لغيره ولاء ظاهر إشارة إلى جواب سؤال تقريره أنا لا نسلم أن مجرد عموم الموضوع كالولاء مثلًا بدون كلمة إنما يفيد الحصر فإن غايته أن كل الولاء للمعتق، وهذا لا ينافى ثبوت كله أو بعضه لغير المعتق لجواز اشتراكهما فى إضافة الكل إليهما، والجواب أنه يفيد نفى الولاء عن

ص: 196

غيره ظاهرًا إذ لو ثبت لغيره ولاء لما كان ثابتًا للمعتق ضرورة امتناع قيام الصفة الواحدة بمحلين فيصدق ليس بعض الولاء للمعتق وقد كان كل ولاء له منتف، فإن قيل هذا إنما يتم لو كان ولاء المعتق مغايرًا لولاء غيره بحسب الوجود وهو ممنوع لجواز أن يكون تغايرهما بمجرد الإضافة فلا يصدق أن الولاء الذى لغير المعتق ليس للمعتق قلنا لا يمكن ذلك لأن هذا مثل قولنا ملكية الدار لزيد وهو وإن أمكن شركة زيد وغيره فى ملكية الدار لكنه ظاهر فى استقلال زيد بالملكية بمثل ما ذكرنا فى الولاء فإنه لو كان لغيره ملكية وليست لزيد لم يصدق أن كل ملكيتها لزيد والحاصل أن الحكم ضرورى وهذا المقال منبه عليه بحيث لا مجال للنزاع فيه.

المصنف: (وأما الحصر بإنما) المراد بالحصر هنا النفى عن غير المذكور وقوله فقيل لا يفيد أى قيل إنما لا يفيد.

الشارح: (بعبارة أوضح استدلال) هكذا فى نسخ الشارح وهو تحريف وحقه لا استدلال بزيادة لا النافية.

الشارح: (وذلك كما يقال. . . إلخ) عطف على قوله ولا يمكن أن يقال. . . إلخ. وهو يستنبط من التعليل له.

قوله: (مثل جواز إنما زيد قائم. . . إلخ) الذى فى شرح التحرير أن الذى صرح به عبد القاهر وقال المتأخرون: إنه الأقرب نفى حسن مجامعة لا العاطفة للنفى والاستثناء لا نفى الصحة وتصريح المفتاح بعدم الصحة متعقب وقوله ومثل إنما صريح النفى والاستثناء. . . إلخ. رده فى شرح التحرير أيضًا بأن ذلك بالنظر لما يقتضيه علم البلاغة لا العربية إذ لا يقوم دليل على امتناع ذلك من حيث العربية لا صورة ولا معنى.

قوله: (لقلة جدواه) أى لأن المعنى حينئذ ما إلهكم إلا اللَّه وإذا كان المعنى ما إلهكم إلا اللَّه ثبت المدعى ولا يخفى عدم فائدته.

قوله: (أى لا نسلم عدم الفرق بين إنما إلهكم اللَّه وبين ما إلهكم إلا اللَّه) هذا راجع لمنع الدعوى الثانية، وقوله: وحاصله أن قولنا: إنما أنا تميمى بمعنى ما أنا إلا تميمى؛ فى العبارة تحريف والصواب إسقاط قوله: حاصله، وعطف "أن قولنا" على قوله "عدم الفرق" بيان لمنع الدعوى الأولى وأن يقول بمعنى أنا التميمى لا

ص: 197

بمعنى ما أنا إلا تميمى.

قوله: (إنما ثبت بغير هذا الحديث) وعلى هذا فالضمير فى قول المصنف لأن العموم فيه لغيره راجع لحديث: إنما الأعمال وإنما الولاء بخلافه على الثانى فراجع لإنما والعموم على هذا عموم الأعمال والولاء القاضى بحصرهما فى الخبر على الوجه الثانى وعلى الأول هو عموم الأعمال لما هو بالنية ولما ليس بالنية وعموم الولاء للمعتق وغيره كمن باع عبده من نفسه فليس له الولاء عليه فقد صدق أن الولاء ليس لمن أعتق.

قوله: (وقد كان كل ولاء له منتف) الأولى حذف منتف وإبدالها بهف أى فاسد.

ص: 198

قال: (وأما مفهوم الحصر فمثل صديقى زيد، والعالم زيد، ولا قرينة عهد فقيل لا يفيد وقيل منطوق وقيل مفهوم، الأول لو أفاده لأفاده العكس لأنه فيهما لا يصلح للجنس ولا لمعهود معين لعدم القرينة وهو دليلهم، وأيضًا لو كان لكان التقديم بغير مدلول الكلمة القائل به لو لم يفده لأخبر عن الأعم بالأخص لتعذر الجنس والعهد فوجب جعله لمعهود ذهنى بمعنى الكامل والمنتهى، قلنا صحيح واللام للمبالغة فأين الحصر وأجيب بل جعله لمعهود ذهنى مثل أكلت الخبز، ومثل: زيد العالم، هو المعروف، وأيضًا يلزمه زيد العالم بعين ما ذكر وهو الذى نص عليه سيبويه فى زيد الرجل فإن زعم أنه يخبر بالأعم فغلط لأن شرطه التنكير فإن زعم أن اللام لزيد فغلط لوجوب استقلاله بالتعريف منقطعًا، عن زيد كالموصول).

أقول: مفهوم الحصر أن يقدم الوصف على الموصوف الخاص خبرًا له والترتيب الطبيعى خلافه فيفهم من العدول إليه قصد النفى عن غيره، مثاله: إذا لم يقل زيد صديقى أو زيد العالم بل قال: صديقى زيد أو العالم زيد، والمراد بصديقى وبالعالم هو الجنس باقيًا على عمومه لعدم قرينة العهد إذ لو وجدت خرج عن محل النزاع ولم يدل على نفى الصداقة والعلم عن غير زيد اتفاقًا وهذا مثل إنما فقيل لا يفيد أصلًا، وقيل يفيد بالمنطوق وقيل بالمفهوم الأول وهو المانع لإفادة الحصر قال: لو كان قولنا: العالم زيد يفيد الحصر لكان العكس وهو قولنا: زيد العالم يفيد الحصر وأنهم لا يقولون به، بيانه أن دليلهم فى العالم زيد أن العالم لا يصلح للجنس وهو الحقيقة الكلية لأن الإخبار عنها بإنها زيد الجزئى كاذب ولا معين لعدم القرينة الصارفة إلى العهد فرضًا فكان لما يصدق عليه الجنس مطلقًا فيفيدان كل ما صدق عليه العالم زيد وهو معنى الحصر وهذا الدليل آت بعينه فى قولنا: زيد العالم والاشتراك فى الدليل يوجب الاشتراك فى الحكم، وأيضًا لو كان العالم زيد للحصر وزيد العالم ليس للحصر لكان التقديم مغيرًا لمفهوم الكلمة واللازم باطل، أما الملازمة فلأنه لو اتحد مفهوم العالم مقدمًا ومؤخرًا وكلا التركيبين يفيد بين زيد والعالم الاتحاد بهو هو وكون ذات أحدهما هو ذات الآخر للزم، أما شمول الحصر إن أفاد العموم أو شمول عدمه إن لم يفده وهو خلاف المفروض، وأما بطلان اللازم فظاهر لأنه إنما يتغير بالتقديم والتأخير الهيئة التركيبية دون المفردات وقد يقال عليهما: إن الوصف إذا وقع مسندًا إليه قصد به الذات

ص: 199

الموصوفة وإذا وقع مسندًا قصد به كونه ذاتًا موصوفة به وهو عارض للأول فاندفع الأول، وأما الثانى فإن أردت بتغير المفهوم هذا القدر منعنا بطلانه وإن عنيت غيره منعنا الملازمة الثانى، وهو القائل بالحصر قال: لو لم يفد الحصر لأدى إلى الإخبار بالخاص عن العام وأنه باطل، أما اللازمة فلأنه لا قرينة للعهد وليس للجنس بل لما صدق عليه العالم فلو فرض غير زيد وهو عمرو مثلًا يصدق عليه العالم لكان العالم أعم من زيد وعمرو وقد أخبرت عنه بزيد، وأما بطلان التالى فلأن الخبر الثابت للعام ثابت لجزئياته، فيلزم ثبوت زيد لعمرو، وإذا ثبت هذا بطل جعله للجنس، ولما صدق عليه مع بقائه على العموم فوجب جعله لما صدق عليه بعد تخصيصه بما يصلح أن يحمل عليه زيد من معين، وما ذلك إلا لجعله لمعهود ذهنى وهو شخص كامل أو منته فى العلم قد تصوّره الخاطب وتوهمه وأنت تعلم ذلك فتخبر عن ذلك الشخص المتصوّر الموهوم بأنه زيد.

الجواب: أولًا: إن ما ذكرتم صحيح ونحن نقول به لكن لا يثبت مطلوبكم بل ينافيه لأنه لم يحصل حصر العالم فى زيد بما قررتم بل كون زيد كاملًا أو منتهيًا فى العلم ويكون حاصله أن اللام للمبالغة فى علمه لا لحصر العلم فيه وهو مناف لما زعمتم. وثانيًا: أنه يلزم فى زيد العالم مثل ذلك فيقال يلزم الإخبار بالعام عن الخاص وتبين الملازمة وانتفاء اللازم بما بينا بتمامه هنالك وربما توهم الفرق بين الصورتين بأحد الوجهين:

الأول: أن الإخبار بالأعم عن الأخص جائز قطعًا فلا يسمع الدليل على بطلانه بخلاف العكس، وهذا غلط لأنه إنما يصح الإخبار بالعام عن الخاص إذا كان العام نكرة يدل على كون الخاص شائعًا فيه وأما إذا كان معرفة فلا، لا نقول الإنسان هو الحيوان بعين ما ذكرتم.

الثانى: أن اللام فى العالم إذا تأخر عن زيد كان لمعلوم هو زيد بخلاف ما لم يتقدم ما يصلح أن يكون له فيصدق ثمة أن لا عهد وهو إحدى مقدمات الدليل ولا يصدق هنا، وهذا أيضًا غلط لأن العالم ينبغى أن يكون وهو منقطع عن زيد مستقلًا بإفادة معناه الإفرادى ثم ينسب كالموصولات فإنك إذا قلت: زيد هو الذى علم كان الذى علم مستقلًا عند إفراده، ولم يكن إشارة إلى زيد، وإنما يتعلق به ويصير هو إياه بعد الإسناد الحاصل بالتركيب فكذا اللام التى هى بمعناه.

ص: 200

قوله: (وأما مفهوم الحصر) يريد بالحصر ههنا بعض أنواعه وهو أن يعرّف المبتدأ بحيث يكون ظاهرًا فى العموم سواء كان صفة أو اسم جنس ويجعل الخبر ما هو أخص منه بحسب المفهوم سواء كان علمًا أو غير علم مثل: العالم زيد والرجل عمرو والكرم فى العرب والأئمة من قريش، وصديقى خالد، ولا خلاف فى ذلك بين علماء المعانى تمسكًا باستعمال الفصحاء ولا فى عكسه أيضًا زيد العالم حتى قال صاحب المفتاح: المنطلق زيد وزيد المنطلق كلاهما يفيد حصر الانطلاق على زيد ووجه المناسبة أنه لما كان ظاهرًا فى الجنسية والعموم على ما هو قانون الخطابيات أفاد اتحاد الجنس مع زيد بحسب الوجود ولا معنى للحصر سوى هذا، وأما المنطقيون فيأخذون بالأقل المتيقن فيجعلونه فى قوّة الجزئية أى بعض المنطلق زيد على ما هو قانون الاستدلال، وأما كون هذا الحصر مفهومًا لا منطوقًا فمما لا ينبغى أن يقع فيه خلاف للقطع بأنه لا ينطق بالنفى أصلًا.

قوله: (خبرًا له) حال من الموصوف الخاص لا من الوصف لأن مبنى كلامه على أن الوصف المتقدم مبتدأ على ما هو الحق، وقد صرح بذلك فى أثناء هذا البحث غير مرة لا خبر على ما ذهب إليه الإمام الرازى.

قوله: (لو اتحد مفهوم العالم مقدمًا ومؤخرًا) يندفع بهذا التقرير ما ذكره الشارح العلامة من أن الحصر ليس مدلول الكلمة بل الهيئة وقد تغيرت، ولو سلم فتغيير المدلول بالتقديم والتأخير جائز معهود، مثل ما ضرب زيد إلا عمرًا، وما ضرب عمرًا إلا زيد، وما هرب إلا زيد عمرًا.

قوله: (وهو خلاف المفروض) لأن التقدير أن صورة تقديم العالم تفيد الخصر دون تأخيره فلا شمول وجود الحصر ولا شمول عدمه.

قوله: (وقد يقال عليهما) أى على الدليلين أن فى صورة التقديم الوصف مبتدأ محكوم عليه فيراد به الذات الموصوفة بالوصف العنوانى وفى صورة التأخير هو خبر محكوم به فيراد به مفهوم ذات مّا موصوفة بذلك الوصف وهذا عارض للذات المخصوصة وبهذا القدر يندفع الدليل الأول لأن اتحاد زيد بحسب الوجود مع الذات الموصوفة يفيد الحصر بخلاف اتحاده مع عارض له فإنه لا يمنع اشتراك المعروضات فيه واتحاد كل منهما بحصة منه والحق أن ما ذكره إنما هو فى الوصف

ص: 201

النكرة مثل: زيد عالم دون زيد العالم فإن معناه الذات الموصوفة فردًا، أو جنسًا كما فى العالم زيد فيكون عدم الفرق ضروريًا فيندفع المنع والسند جميعًا، وأما وجه اندفاع الدليل الثانى بهذا الكلام فهو أنه إن أريد بتغير المفهوم مجرد القصد إلى الذات الموصوفة عند التقديم وإلى التعارض الذى هو ذات موصوفة عند التأخير فلا نسلم بطلانه كيف وهو لازم عند انعكاس القضية ضرورة أن المراد بالموضوع الذات وبالمحمول المفهوم وإن أريد تغير غير هذا فلا نسلم لزومه ولا يخفى أن هذا استفسار ومنع بعد البيان إذ قد بين أن المراد بالتغير هو العموم وعدمه وأنه لازم للقول بالحصر عند التقديم دون التأخير.

قوله: (وليس للجنس) أى الحقيقة الكلية لامتناع الإخبار عنها بزيد الجزئى.

قوله: (وأما بطلان التالى) مغالطة لأن اللازم من صدق العالم على زيد وعمرو هو أن يكون أعم منهما بحسب الصدق والعام الذى يلزم من ثبوت الخبر له ثبوته لجزئياته هو العام بمعنى الاستغراق على ما هو موضوع الإيجاب الكلى ألا ترى أن الضاحك ثابت للحيوان ولا يثبت للفرس، ولهذا قال بطل جعله للجنس ولما صدق عليه مع بقائه على العموم أى الشمول والاستغراق ولم يرد العموم بحسب الصدق.

قوله: (وتبين الملازمة) يعنى أن اللام فى زيد العالم ليس للعهد لعدم القرينة ولا للجنس أى الحقيقة الكلية لامتناع حملها على زيد بل لما صدق عليه فلو صدق على غير زيد أيضًا لكان أعم منه، ويمتنع حمل العالم مع بقاء العموم على شئ من الجزئيات فيكون للكامل والمنتهى فى العلم ويتحد مع زيد فى الوجود وهو معنى الحصر ولا يخفى أن أكثر المقدمات مزخرف وأن بيان بطلان التالى بمثل ما مر موجبتان فى الشكل الثانى لأن العالم ههنا محمول.

قوله: (وربما توهم) توجيه الاعتراض الأول وأن بيان انتفاء اللازم بما ذكرتم تشكيك فى الضروريات وحاصل الجواب منع الضرورة والتوضيح بمثل الإنسان هو الحيوان ليس على ما ينبغى لأن كذبه من جهة ضمير الفصل المفيد أن غير الإنسان ليس بحيوان وإنما الكلام فى مثل قولنا: الإنسان الحيوان وتوجيه الثانى منع المقدمة القائلة إن العالم ليس للعهد لعدم القرينة وحاصل الجواب أن العالم المحمول على زيد ينبغى أن يكون مستقلًا بمعناه الإفرادى والمعهود ليس بمستقل لكونه إشارة إلى

ص: 202

زيد فيفتقر إلى اعتبار تعلقه به لا يقال إن أريد بالاستقلال أن يتعقل المراد به مع قطع النظر عن زيد فاشتراطه ممنوع وإن أريد أنه لا يفتقر فى إفادة معناه الإفرادى إلى ما ينضم إليه فانتفاؤه ممنوع وما ذكره يقتضى أن لا يصح زيد العالم على قصد العهد بل الجواب أن كلامنا فيما إذا لم يكن العالم للعهد وإلا فلا نزاع فى عدم إفادته حصر العلم على زيد سواء قدم أو أخر، لأنا نقول المراد الأول والمنع ضعيف لأنه لا بد فى القضية من تحصيل معنى الطرفين وتعقله ثم إيقاع النسبة بينهما فلا يجوز أن يكون تحصيل معنى المحكوم به وتعقله بمعونة إسناده إلى المحكوم عليه وذكره بعد ذكره على ما توهمه المعترض وهذا بخلاف ما إذا حصل العهد من قرينة أخرى كما تقول أكرمت عالمًا والعالم زيد وزيد العالم من غير فرق بين التقديم والتأخير واعلم أن ما ذكره فى بحث مفهوم الحصر يشهد للمصنف بقلة التدرب فى علم المعانى والشارح المحقق إنما حاول تقرير كلامه بقدر الإمكان.

قوله: (على كون الخاص شائعًا فيه) أى مشتركًا فى العام مندرجًا تحته.

المصنف: (فأين الحصر وأجيب بل جعله لمعهود ذهنى مثل أكلت الخبز ومثل زيد العالم هو المعروف) هكذا فى نسخ وحاصله جعل اللام للمعهود لذهنى بمعنى البعض كما فى هذين المثالين فإن "ال" فى الخبر لذلك لأنه لم يأكل الخبر كله وكذا "ال" فى العالم لأن كون زيد هو العالم ليس بمعنى جميع العالم الموصوف ولكن الذى وجد فى نسخ أخرى بعد قوله فأين الحصر وأيضًا يلزمه. . . إلخ.

الشارح: (وهو الحقيقة الكلية) إن أراد أنه الحقيقة بشرط الكلية صح أن يكون الإخبار عنها بأنها زيد كاذب لكن لا نسلم أن المراد الحقيقة بشرط الكلية وإن أراد الحقيقة المعروضة للكلية وإن كانت لا بشرط الكلية فلا نسلم أن الإخبار عنها كاذب لجواز إرادة الحقيقة المتحققة فى بعض إلا أن يقال أن ذلك عبارة عن العهد الذهنى ولم يلتفت إليه للزوم ترجيح البعض من غير مرجح، وقوله لما يصدق عليه الجنس مطلقًا أى الجنس فى جميع الأفراد.

الشارح: (بل لما صدق عليه العالم) أى لجميع ما صدق عليه العالم وقوله لكان العالم أعم من زيد وعمر أى عموما شموليًا لفرض صدقه على عمر وكما يصدق على زيد صدقًا شموليًا وقوله فلان الخبر الثابت للعام ثابت لجزئياته أى الخبر

ص: 203

الثابت للخبر عنه المستغرق ثابت لكل واحد من جزئياته وإلا كذب الإيجاب الكلى فإنك إذا قلت كل ج ب ولم تكن الباء ثابتة لبعض أفراد ج كان الإيجاب الكلى كاذبًا فيلزم ثبوت زيد لعمرو.

قوله: (وأما المنطقيون. . . إلخ) رده فى التحرير بأن "ال" فى المنطق زيد سور الكلية عند المناطقة فهى كلية عندهم.

قوله: (للقطع بأنه لا ينطق بالنفى أصلًا) رده فى التحرير بأن عدم النطق بحرف النفى المعهود لا يستلزم عدم النفى وعدم الدلالة على نفى الحكم من غير ما ثبت له الحكم غاية الأمر أنه ليس متبادرًا من اللفظ لأن اللام للعموم فقط أو للحقيقة وأيا ما كان فليس النفى جزءًا حتى يكون بالمنطوق فإنما ثبت النفى عن الغير فيما فيه أل بطريق اللزوم لإثبات العموم لواحد لا غير أو الحقيقة له.

قوله: (يندفع بهذا التقرير ما ذكره العلامة. . . إلخ) أى لاقتضاء هذا التقرير أن الحصر إنما جاء من العموم المأخوذ من اللام وأن التركيبين لا فرق بينهما فى إفادة الحصر إذا اعتبر العموم وعدمه إذا لم يعتبر فجعل الحصر عند تقديم العالم على زيد دون تأخيره لا يكون إلا باعتبار العموم عند التقديم وعدمه عند عدمه فتختلف الكلمة بالتقديم والتأخير.

قوله: (والحق أن ما ذكره. . . إلخ) رد بأن الذى قرر فى المنطق أن المحمول يراد منه المفهوم مطلقًا معرفة أو نكرة والموضوع يراد منه الذات.

قوله: (فردًا أو جنسًا) لعله أراد بالفرد المعهود وبالجنس العام المستغرق وقوله كما فى العالم زيد أى فإنه للفرد أو للجنس.

قوله: (لأن اللازم من صدق العالم. . . إلخ) مردود بأن اللام فى العالم للاستغراق حيث لا عهد ولا يصلح الجنس وقوله ولا يخفى أن أكثر المقدمات مزخرف قد علمت رده وقوله وإن بيان بطلان التالى بمثل ما مر موجبتان. . . إلخ. أى لأنك تقول فى بيانه لو صدق العالم على غير زيد لصدق زيد العالم عمرو العالم فينتج زيد عمرو وهو باطل.

قوله: (ليس على ما ينبغى. . . إلخ) رد بأن الضمير فيه لم يقصد منه الحصر.

ص: 204