الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الكلام فى القياس)
قال: (القياس التقدير والمساواة وفى الاصطلاح مساواة فرع الأصل فى علة حكمه، ويلزم المصوبة زيادة فى نظر الجتهد لأنه صحيح وإن تبين الغلط والرجوع بخلاف المخطئة وإن أريد الفاسد معه قبل تشبيه).
أقول: القياس التقدير والمساواة يقال قست النعل بالنعل، أى: قدرته به فساواه، وقست الثوب بالذراع، أى: قدرته به، وفلان لا يقاس بفلان، أى لا يساوى به، وفى الاصطلاح: مساواة فرع الأصل فى علة حكمه، وذلك أنه من أدلة الأحكام فلا بد من حكم مطلوب به وله محل ضرورة والمقصود إثباته فيه لثبوته فى محل آخر يقاس هذا به فكان هذا فرعًا وذلك أصلًا لحاجته إليه وابتنائه عليه، ولا يمكن ذلك فى كل شيئين بل إذا كان بينهما أمر مشترك ولا كل مشترك بل مشترك يوجب الاشتراك فى الحكم بأن يستلزم الحكم ونسميه علة الحكم فلا بد أن يعلم علة الحكم فى الأصل ويعلم ثبوت مثلها فى الفرع إذ ثبوت عينها مما لا يتصور لأن المعنى الشخصى لا يقوم بعينه بمحلين وبذلك يحصل ظن مثل الحكم فى الفرع وهو المطلوب مثاله أن يكون المطلوب ربوية الذرة فيدل عليه مساواته للبر فيما هو علة لربوية البر من طعم أو قوت أو كيل فإن ذلك دليل على ربوية الذرة وربويتها هو الحكم المثبت بالقياس وثمرته، واعلم أن المراد بالمساواة المذكورة فى الحد المساواة فى نفس الأمر فيختص بالقياس الصحيح وهذا عند من يثبت ما لا مساواة فيه فى نفس الأمر قياسًا فاسدًا، وأما المصوبة وهم القائلون بأن كل مجتهد مصيب فالقياس الصحيح عندهم ما حصلت فيه المساواة فى نظر المجتهد سواء ثبتت فى نفس الأمر أو لا حتى لو تبين غلطه ووجب الرجوع عنه فإنه لا يقدح فى صحته عندهم، بل ذلك انقطاع لحكمه لدليل صحيح آخر حدث وكان قبل حدوثه القياس الأول صحيحًا، وإن زال صحته بخلاف المخطئة فإنهم لا يرون ما ظهر غلطه والرجوع عنه محكومًا بصحته إلى زمان ظهور غلطه بل مما كان فاسدًا وتبين فساده، فإذًا لا يشترط المصوبة المساواة إلا فى نظر المجتهد فحقهم أن يقولوا هو مساواة فرع الأصل فى نظر المجتهد هذا إذا حددنا القياس الصحيح، ولو أردنا
دخول القياس الفاسد معه فى الحد لم نشترط المساواة لا فى نفس الأمر ولا فى نظر المجتهد، وقلنا بدلها: إنه تشبيه فرع بالأصل؛ لأنه قد يكون مطابقًا لحصول الشبه، وقد لا يكون لعدمه وقد يكون المشبه يرى ذلك، وقد لا يراه.
قوله: (القياس التقدير والمساواة) تمثيله بالأمثلة الثلاثة مشعر بأن المراد أنه قد يكون بهما جييعًا وقد يكون للتقدير فقط أو للمساواة فقط وقال الآمدى هو فى اللغة التقدير وهو يستدعى أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة فهو نسبة وإضافة بين شيئين يقال فلان لا يقاس بفلان أى لا يساويه وإنما قيل فى الشرع قاس عليه ليدل على البناء فإن انتقال الصلة للتضمين.
قوله: (وذلك) تحقيق لاشتمال القياس على الأصل والفرع والعلة والحكم وتنبيه على أن المراد بالفرع محل الحكم المطلوب إثباته فيه وبالأصل محل الحكم المعلوم ثبوته فيه فلا دور وإنما يلزم لو أريد بالفرع المقيس وبالأصل المقيس عليه وتحقيقه أن المراد بهما ذات الأصل والفرع والموقوف على القياس وصفا الفرعية والأصلية.
قوله: (وبذلك يحصل ظن مثل الحكم) إشارة إلى أن العلم بعلة الحكم وثبوتها فى الفرع وإن كان يقينًا لا يفيد فى الفرع إلا الظن بجواز أن يكون الأصل شرطًا أو خصوصية الفرع مانعًا وإنما قال مثل الحكم لأن ثبوت عينها مما لا يتصور كما ذكر فى العلة.
قوله: (وربويتها) أى كون الذرة مما يحرم فيه التفاضل هو الحكم.
قوله: (المساواة فى نفس الأمر) لأنه المتبادر إلى الفهم وبهذا يسقط ما ذكر فى بعض الشروح من أن المساواة أعم من أن تكون فى نظر المجتهد أو فى نفس الأمر فالتعريف المذكور شامل للصحيح والفاسد وعلى المخطئة أن يزيدوا قيدًا فى الواقع ليخرج الفاسد.
قوله: (فحقهم أن يقولوا) لم يصرح لقوله فى علة الحكم فقولنا فى علة الحكم متعلق بالمساواة وقولنا فى نظر المجتهد بالمساواة فى علة الحكم.
قوله: (تشبيه فرع بالأصل) أى الدلالة على مشاركته فى أمر هو الشبه والجامع فإن كان حاصلًا فالتشبيه مطابق وإلا فغير مطابق وعلى كل تقدير فالمشبه إما أن
يعتقد حصوله فصحيح فى الواقع أو فى نظره وأما أن لا يعتقد حصوله ففاسد واعلم أن القياس وإن كان من أدلة الأحكام مثل الكتاب والسنة لكن جميع تعريفاته واستعمالاته منبئ عن كونه فعل المجتهد فتعريفه بنفس المساواة محل نظر ولهذا يعبر عنه الشارح المحقق بما حصلت فيه المساواة.
المصنف: (فى علة حكمه) كان عليه أن يقيد الحكم بالشرعى والعلة بالتى لا تدرك من النص على حكم الأصل بمجرد فهم اللغة ليخرج مفهوم الموافقة والمساواة فى علة حكم عقلى والمساواة فى علة حكم لغوى فلا يقاس فى اللغة.
المصنف: (ويلزم المصوبة. . . إلخ) فى مسلم الثبوت وشرحه أنه عند المصوبة لا مساواة فى الواقع إلا بنظر المجتهد فإن ما يحصل بنظره فهو واقعى وليس عندهم مساواة واقعية حتى قد يجدها المجتهد وقد يخطى والرجوع كالنسخ فلا يحتاجون إلى قيد فى نظر المجتهد. اهـ. يريد بذلك الرد على ابن الحاجب وقد رده فى التحرير وشرحه حيث قال لزم المصوبة زيادة فى نظر المجتهد لأنها أى المساواة لما لم تكن إلا فى نظره كان الإطلاق كقيد مخرج للأفراد إذ يفيد التقييد بنفس الأمر وافق نظره أم لا حتى كأنه قيل المساواة فى نفس الأمر ولا مساواة عندهم فى نفس الأمر أصلًا بل فى نظر المجتهد فكان قيدًا مخرجًا لجميع أفراد المحدود فلا يصدق الحد على شئ فكان باطلًا وقصد بذلك رد ما يتوهم فى بادئ النظر من أنه إذا لم تكن عندهم المساواة إلا المساواة فى نفس الأمر كانت عند الإطلاق منصرفة إلى إرادتها فى نظر المجتهد.
الشارح: (ويعلم ثبوت مثلها. . . إلخ) رده فى التحرير وشرحه بأن الوصف المنوط به الحكم هو الوصف الكلى وهو بعينه ثابت فى الحال أصلًا وفرعًا فمناط حرمة الخمر الإسكار مطلقًا لا إسكار الخمر لأنه قاصر عليه فتمتنع التعدية لأن اشتماله على المفاسد ليس بقيد كونه إسكار كذا وكذا رد تقدير مثل الحكم بأن حكم كل من الأصل والفرع واحد له إضافتان إلى الأصل باعتبار تعلقه به وباعتباره يسمى حكم الأصل وإلى الفرع باعتبار تعلقه به ويسمى باعتباره حكم الفرع فلا يتعدد فى ذاته بل هو واحد له تعلق بكثيرين كما أن القدرة شئ واحد متعلق بالمقدورات ولا تصير القدرة متعددة وليس هذا من باب قيام العرض
الشخصى بمحلين بل مجرد إضافات متعددة لشئ واحد.
الشارح: (سواء ثبتت فى نفس الأمر أو لا) أى كما هو عند المخطئة وإلا فليس عند المصوبة إلا نظر المجتهد.
قوله: (ويضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة) أى فيكون تقدير الشئ مستلزمًا المساواة بينهما ولذا قال بعضهم: إن القياس فى المساواة مجاز من استعمال الملزوم فى اللازم وفى التحرير أن حقيقته لغة التقدير وتحته فردان استعلام القدر والتسوية فى المقدار وليس مشتركًا لفظيًا فيهما فقط أو فيهما وفى المجموع منهما ولا حقيقة فى التقدير مجازا فى المساواة كما قيل.
قوله: (فإن انتقال الصلة للتضمين) أى انتقالها من الأصل وهو أن يقال يقاس به إلى يقاس عليه لتضمين القياس معنى البناء.
قوله: (وتنبيه على أن المراد. . . إلخ) قال فى التحرير أنه خلاف المتبادر.
قوله: (أى كون الذرة مما يحرم فيه التفاضل) الأولى أن يقول أى حرمة بيعها متفاضلًا لأن كونها من جنس ما يحرم فيه التفاضل ليس حكمًا شرعيًا.
قوله: (لم يصرح بقوله فى علة الحكم) يقال اكتفى عنه بجعل إضافة المساواة لما بعده للعهد.
قوله: (فالتشبيه مطابق وإلا فغير مطابق) أى فيكون صحيحًا عند المطابقة لما فى نفس الأمر وفاسدًا عند عدمها كما هو رأى المخطئة فى الواقع.
قوله: (فصحيح فى الواقع أو فى نظر المجتهد) أى صحيح فى الواقع إن كان الشبه مطابقًا للواقع مع اعتقاد المشبه كما هو رأى المخطئة أو فى نظر المجتهد كما هو رأى المصوبة.
قوله: (مثل الكتاب والسنة. . . إلخ) أى فحقه أن لا يكون فعل المجتهد لأنه دليل فى نفسه وجد مجتهد أم لا وقوله منبئ عن كونه فعل المجتهد أى ولا مانع من أن يجعل الشارع فعل المجتهد دليلًا كما جعل الإجماع مع أنه فعل المجتهد وقوله محل نظر أى فإن كان يرى أن القياس لا يكون فعل المجتهد لأنه دليل فى نفسه فقد ناقض نفسه حيث قال وإن أريد الفاسد معه قيل تشبيه.
قال: (وأورد قياس الدلالة فإنه لا يذكر فيه علة وأجيب إما بأنه غير مراد وإما بأنه يتضمن المساواة فيها، وأورد قياس العكس، مثل لما وجب الصيام فى الاعتكاف بالنذر وجب بغير نذر عكسه الصلاة لما لم تجب فيه بالنذر لم تجب بغير نذر وأجيب بالأول أو بأن المقصود مساواة الاعتكاف بغير نذر فى اشتراط الصوم له بالنذر بمعنى لا فارق أو بالسبر وذكرت الصلاة لبيان الإلغاء أو قياس الصيام بالنذر على الصلاة بالنذر).
أقول: قد أورد على عكس الحد إشكالان:
الأول: أنه لا يتناول قياس الدلالة فإن شرطه أن لا يذكر فيه العلة لأنه قسيم قياس العلة، مثاله: فى المكره يأثم بالقتل فيجب عليه القصاص كالمكره فإن الإثم بالقتل ليس علة لوجوب القصاص، مثال آخر: فى المسروق عين يجب ردها قائمة، وإن قطع فيها فيجب ضمانها تالفة كالمغصوب فإن وجوب الرد ليس علة للضمان فى صورة المغصوب.
الجواب: أولًا: أنه غير مراد لنا ولا نعنى بلفظ القياس إذا أطلقناه إلا قياس العلة ولا نطلقه على قياس الدلالة إلا مقيدًا ولو أراده غيرنا باصطلاح آخر فلا يضرنا، وثانيًا: لا نسلم أنه لا مساواة فى العلة فإنه يتضمنها وإن لم يصرح بها فإن المساواة فى التأثيم دلت على قصد الشارع حفظ النفس بهما، وهو العلة والمساواة فى وجوب الرد دلت على قصده حفظ المال بهما، وهو العلة، ونحن قد أردنا بالمساواة أعم من الضمنية، والمصرح بها فيتناوله الحد.
الثانى: أنه لا يتناول قياس العكس فإنه يثبت فيه نقيض حكم الأصل بنقيض علته، مثاله: قول الحنفية: لما وجب الصيام فى الاعتكاف بالنذر وجب بغير النذر كالصلاة فإنها لا لم تجب فيه بالنذر لم تجب بغير النذر، فالحكم فى الأصل عدم الوجوب بغير نذر والعلة عدم وجوبه بالنذر المطلوب فى الفرع وجوبه بغير نذر والعلة وجوبه بالنذر.
الجواب: أولًا: بالأول من جوابى قياس الدلالة وهو أنه غير مراد، وثانيًا بأنه مساواة من وجهين:
أحدهما: أن المقصود مساواة الاعتكاف بغير نذر فى أن الصوم شرط فيه للاعتكاف بنذر الصوم وتقريره إما بإلغاء الفارق وهو النذر لأنه غير مؤثر كما فى
الصلاة إذ وجوده وعدمه سواء فتبقى العلة فى الاعتكاف المشترك وإما بالسبر وهو أن العلة إما الاعتكاف أو الاعتكاف بالنذر أو غيرهما والأصل عدم غيرهما، وكونه بالنذر لا يصلح علة ولا جزء علة لأنه غير مؤثر بدليل ثبوته فى الصلاة بدون الحكم فالصلاة لم تذكر للقياس عليها بل لبيان إلغاء الفارق أو لإلغاء أحد أوصاف السبر فلا يجب المساواة لها فلا يضر عدمها.
ثانيهما: أنه قياس للصيام بالنذر على الصلاة بالنذر فى أنها لا تجب بالنذر ولا تأثير للنذر فى وجوبها فكذا الصيام ويلزمه أن يجب بدون النذر كما يجب مع النذر وإلا لكان للنذر فيه تأثير فالذى فيه القياس حصل فيه المساواة والذى فيه عدم المساواة لازم له فلا يضر، وقد يجاب بأنه ملازمة والقياس لبيان الملازمة والمساواة حاصلة على التقدير، وحاصله لو لم يشترط لم يجب بالنذر واللازم منتف ثم تبين الملازمة بالقياس على الصلاة، فإنها لا لم تكن شرطًا لم تجب بالنذر ولا شك أن على تقدير عدم وجوبه بالنذر فالمساواة حاصلة بينها وبين الصوم وإن لم تكن حاصلة فى نفس الأمر، وقد يجاب بما هو أوضح منها وهو مساواة الصيام للصلاة فى تساوى حكميه حالى النذر وعدمه، مثال آخر فى الوتر يؤدى على الراحلة فهو نافل كصلاة الصبح لما كان فرضًا لم يؤد على الراحلة، مثال آخر فى النكاح بلا ولى ثبت للولى الاعتراض عليها فلا يصح منها النكاح كالرجل لما صح منه لم يثبت الاعتراض عليه، وهذان المثالان إذا تأملتهما أرشداك إلى أن الجواب هو الثالث، فإن السؤال إذا كان عامًا فالجواب المقصور على مثال واحد قاصر.
قوله: (قياس الدلالة) هو ما لا تذكر فيه العلة بل وصف ملازم لها كما لو علل فى قياس النبيذ على الخمر برائحة المشتد وسيجئ ذكره.
قوله: (فى المكره) على لفظ اسم الفاعل ومعنى إثمه بالقتل إثمه بسبب القتل الذى وقع بإكراهه.
قوله: (فإنه) أى قياس الدلالة يتضمنها أى المساواة فى العلة وإن لم يصرح بها أى بالعلة أو بالمساواة فيها وضمير بهما الأول للتأثيمين وبهما الثانى للوجوبين أعنى وجوب الرد فى المسروق ووجوبه فى المغصوب ووقع فى نسخ الأصل فى وجوب الضمان وهو من سهو القلم.
قوله: (لما لم تجب بالنذر لم تجب بغير النذر) هذا هو الصواب لا ما وقع فى بعض نسخ الأصل لم تجب بغير النذر لم تجب بالنذر لأن انطباقه على قوله لما أوجب الصيام فى الاعتكاف بالنذر وجب بغير نذر يقتضى أن يكون مضمون الشرط علة ومضمون الجزاء حكمًا وإن جاز العكس أيضًا كما ذكر أن صلاة الصبح لما كان فرضًا لم يؤد على الراحلة للقطع بأن الفرضية حكم وعدم التأدى على الراحلة علة لكن لا بمعنى كونه علة لثبوت الحكم بل للعلم به وكذا فى مثال النكاح بلا ولى ولا يخفى أنه لو قال لما كان يؤدى الوتر على الراحلة كان نفلًا كالصبح، لما كان لا يؤدى على الراحلة كان فرضًا، والمرأة لما ثبت عليها الاعتراض لم يصح منها النكاح كالرجل لما لم يثبت عليه الاعتراض صح منه النكاح لكان أنسب وبالجملة الأصل الصلاة والفرع الصوم والحكم فى الأصل عدم الوجوب بغير نذر وفى الفرع نقيضه وهو الوجوب بالنذر وكذا فى المثال الثانى حكم الأصل أعنى الصبح من الفرضية والعلة عدم التأدى عن الراحلة وحكم الفرع أعنى الوتر هى النفلية وعلته التأدى على الراحلة، وفى المثال الثالث حكم الأصل أعنى الرجل صحة النكاح منه وعلته عدم ثبوت الاعتراض عليه وحكم الفرع أعنى المرأة عدم صحة النكاح منها وعلته ثبوت الاعتراض عليها.
قوله: (مساواة من وجهين) فعلى الوجه الأول يكون الاعتكاف بنذر الصوم أصلًا والاعتكاف بغير نذر الصوم فرعًا واشتراط الصوم فيهما حكمًا والاعتكاف علة وذكر الصلاة ليس لكونها الأصل المقيس عليه بل فى التقرير الأول لبيان إلغاء الوصف الفارق للعلة وهو كونها مقترنة بالنذر وفى التقرير الثانى لبيان أن العلة ليست هى الاعتكاف بالنذر وعلى الوجه الثانى الأصل الصلاة بالنذر والفرع الصيام بالنذر والعلة كونهما عبادتين والحكم فى التحقيق عدم تأثير النذر فى الوجوب والمقصود إضافة وجوب الصوم إلى نفس الاعتكاف ولهذا قال ويلزمه أن يجب بدون النذر كما يجب مع النذر وهذا هو المراد بالذى فيه عدم المساواة وأما الذى فيه القياس فهو عدم الوجوب بالنذر.
قوله: (وكونه) أى الاعتكاف بالنذر أى مقرونًا بنذر شئ من الصوم أو الصلاة لا يصلح علة مستقلة لاشتراك الصوم ولا جزء علة بأن تكون العلة هى الاعتكاف مع وصف اقترانه بنذر لأنه غير مؤثر لا بالاستقلال ولا بالانضمام بدليل أنه مع
الاعتكاف يثبت فى الصلاة ولا يثبت الحكم الذى هو الاشتراط فاندفع بهذا التقرير ما يتوهم من الاعتراض بأن عدم التأثير لا ينافى كونه جزء علة.
قوله: (ولا شك) يعنى أنا لما فرضنا عدم اشتراط الصوم ونفينا استلزامه بعدم الوجوب بالنذر قياسًا على الصلاة كانت المساواة حاصلة بين الصوم والصلاة فى عدم الوجوب بالنذر وإن لم تكن حاصلة فى نفس الأمر وما وقع فى بعض نسخ الأصل بينهما وبين الصوم بتثنية الضمير لا يخفى أنه من سهو القلم.
قوله: (بما هو واضح منها) أى من الأجوبة السابقة لعلة مقدماته وحاصله أن الصلاة تتساوى حكمًا حالة نذرها فى الاعتكاف وحالة عدم نذرها للإجماع على عدم وجوبها فى الحالين فكذا الصوم يتساوى حكماهما فى الحالين وليس التساوى بأن يكونا عدم الوجوب للإجماع على الوجوب حالة النذر فتعين أن يكونا ثبوت الوجوب واعلم أن أصل الاعتراض هو أنه لا يوجد فى قياس العكس ما هو تعريف القياس أعنى المساواة فى علة حكم الأصل والأجوبة المذكورة إنما تثبت المساواة فى أمر آخر لكنها تستلزم المساواة فى العلة فيصدق الحد.
قوله: (وهذان المثالان) يريد أنه لا اعتداد بالجواب الأول لأن قياس العكس من أقسام القياس فلا بد من دخوله فى الحد والجواب الثانى الذى هو سواء اعتداد أول وجهى المساواة المبنى على إلغاء الفارق أو على اليسر أو ثانى وجهها المبنى على أن هذا قياس للصيام بالنذر على الصلاة بالنذر والجواب الرابع الأوضح المبنى على مساواتهما فى تساوى حكميهما حالة النذر وعدمه لا خفاء فى اختصاصها بالمثال المذكور والجواب الثالث المبنى على أن هذا ملازمة والقياس لبيان الملازمة جار فى جميع الأمثلة مثلًا لو لم يكن الوتر نفلًا لما كان يؤدى على الراحلة قياسًا على فرض الصبح واللازم منتف ولو صح النكاح من المرأة لما ثبت الاعتراض عليها قياسًا على الرجل واللازم منتف فتعين أن يكون هو الجواب عن الاعتراض لقياس العكس على الإطلاق.
الشارح: (مثاله قول الحتفية) أى والمالكية لأنهم يقولون بوجوب الصوم فى الاعتكاف بغير نذر خلافًا للشافعية فإنهم لا يقولون بوجوب الصوم فى الاعتكاف إلا إذا نذره بأن قال للَّه على أن اعتكف صائمًا فالحنفية والمالكية يوردون على
الشافعية قائلين إن عدم وجوب الصلاة فى الاعتكاف بنذرها اقتضى عدم وجوبها فيه عند عدم نذرها والاتفاق على وجوب الصوم فى الاعتكاف بنذره فكما اقتضى عدم الوجوب فى الصلاة عدم الوجوب اقتضى وجوب الصوم بالنذر الوجوب عند عدمه فنقيض العلة علة لنقيض الحكم.
الشارح: (إنه غير مؤثر كما فى الصلاة) وقد أجاب الشافعية عن هذا بالفرق بين الصيام والصلاة بأن الصيام مما يلائم الاعتكاف فى أن كلًا حبس ولذا يبطل الاعتكاف بالجماع باتفاق فإذا قال: للَّه على أن أعتكف دائمًا فصائمًا وقع حالًا وهو قيد فى العامل فيفيد مقارنته له وهى قربة لقوله صلى الله عليه وسلم لا اعتكاف إلا بالصيام فتلزم بالنذر بخلاف الصلاة فلم يلزم مقارنتها بالاعتكاف بل يصح الاعتكاف بدونها.
قوله: (وإن جاز العكس أيضًا) أى لأن لما تدل على الملازمة بين الشيئين مع وقوع الملزوم ولا تدل على كون الملزوم علة بل يجوز أن يكون علة وأن يكون معلولًا وأن يكون الملزوم واللازم معلولين لعلة واحدة أو متضايفين.
قوله: (وفى الفرع نقيضه وهو الوجوب بالنذر) تحريف وحقه وهو الوجوب بغير النذر والمناسب لما ذكره بعد أن يقول والعلة فى الأصل عدم الوجوب بالنذر وفى الفرع الوجوب بالنذر.
قال: (وقولهم بذل الجهد فى استخراج الحق، وقولهم الدليل الموصل إلى الحق، وقولهم العلم عن نظر مردود بالنص والإجماع، وبأن البذل حال القياس والعلم ثمرة القياس، أبو هاشم: حمل الشئ على غيره بإجراء حكمه عليه ويحتاج لجامع، وقول القاضى: حمل معلوم على معلوم فى إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما حسن إلا أن حمل ثمرته وإثبات الحكم فيهما معًا ليس به بل هو فى الأصل بدليل غيره بجامع كاف وقولهم ثبوت حكم الفرع فرع القياس فتعريفه به دور وأجيب بأن الحدود القياس الذهنى وثبوت حكم الفرع الذهنى والخارجى ليس فرعًا له).
أقول: قد ذكر للقياس حدود مزيفة:
منها: قولهم: بذل الجهد فى استخراج الحق، وهو مردود ببذل الجهد فى استخراج الحق من النص والإجماع، لأن مقتضاهما قد لا يكون ظاهرًا فيحتاج إلى اجتهاد فى صيغ العموم والمفهوم والإيماء والإشارة، ورد المطلق إلى المقيد، وتصحيح السند، وغير ذلك، وأيضًا فإن البذل حال القائس وهو غير القياس فإنه الدليل المنصوب من جهة الشارع سواء نظر فيه القائس أم لا.
ومنها: قولهم: الدليل الوصل إلى الحق. وهو أيضًا مردود بالنص والإجماع.
ومنها: قولهم: العلم عن نظر. وهو مردود أيضًا بالعلم الحاصل عن النظر فى نص أو إجماع وأيضًا فالعلم ثمرة القياس لا هو فلا يصدق عليه، وقد جمع المصنِّفُ الثلاثة على الترتيب المذكور، ثم قال: إنها مردودة كلها بالنص والإجماع، والأول خاصة بان البذل حال القائس والثالث خاصة بأن العلم ثمرة القياس كما قررنا.
ومنها: ما ذكره أبو هاشم وهو أنه حمل الشئ على غيره بإجراء حكمه عليه، وهو منقوض بحمل لا بجامع، فإنه يصدق عليه الحد وليس بقياس إذ لا تتحقق حقيقته لا صحيحًا ولا فاسدًا، فيحتاج إلى قيد آخر يخرج ذلك وهو أن يقال بجامع محافظة على طرده.
ومنها: ما ذكره القاضى أبو بكر قال: هو حمل معلوم على معلوم فى إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من: إثبات حكم أو صفة أو نفيهما، فقوله: معلوم على معلوم، يتناول جميع ما يجرى فيه القياس من موجود ومعدوم
ممكن ومستحيل، ولو قال شئ على شئ لاختص بالموجود، قوله: فى إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما، ليتناول القياس فى الحكم الوجودى نحو قتل عمد عدوان فيجب القصاص كما فى المحدد وفى الحكم العدمى نحو قتل ممكن فيه الشبهة، فلا يوجب القصاص كالعصا الصغيرة، قوله بأمر جامع بينهما إلى آخره ليتناول الحكم الشرعى نحو العدوانية والوصف العقلى نحو العمدية ونفيهما كما يقال فى الخطأ ليس بعمد ولا عدوان، فلا يجب القصاص كما فى الصبى، واستحسنه المصنِّفُ ثم استدرك عليه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الحمل قد جعله جنسًا له وأنه غير صادق عليه لأنه ثمرة القياس ولا شئ من ثمرة القياس بقياس.
ثانيها: أنه يشعر بأن إثبات الحكم فيهما جميعًا بالقياس وليس كذلك، فإن الحكم فى الأصل ثابت بغيره.
ثالثها: أن قوله يجامع بينهما كاف فى التمييز ولا حاجة إلى تفصيل الجامع فى الحد وقد يقال عليه يندفع الأول لأن المراد بالحمل وجوب التسوية فى الحكم إذا أريد بذلك إثبات الحكم لهما لا ثبوت الحكم فى الفرع، والثانى: بأن الإثبات فيهما معًا إنما يحصل بالإثبات فى الفرع الثابت بالقياس لا أن الإثبات فى كل واحد به، والثالث: بأنه تعيين الطريق فإن زعم أن الأوجز أولى قلنا ذلك إذا لم يحصل منه غير التمييز مقصود وههنا يفيد تفصيل الأقسام أيضًا فكان أولى، وقد صرح بأنهم إنما عدلوا عن ذكر حكم الفرع إلى حكم شئ أو معلوم لأنه دور، وفيه دعوى بطلان حد المصنِّف فأشار إلى تقريره وجوابه، أما تقريره فإن حكم الفرع فرع القياس ومتأخر عنه فيتوقف عليه فيكون تعريفه به دورًا.
والجواب: أن ثبوت حكم الفرع الجزئى الخارجى فرع للقياس الجزئى الخارجى والذى نريد تعريفه هو القياس الذهنى أى الماهية العقلية للقياس وحكم الفرع الذهنى أى تعقل حقيقة الفرع وكذا الخارجى وهو حصول الحكم الجزئى ليس شئ منهما فرع القياس الذهنى أى لا يتوقف على تعقل ماهية القياس فلا دور.
قوله: (لأن مقتضاهما قد لا يكون ظاهرًا) بهذا يندفع ما يقال أنه غير منعكس لعدم تناوله القياس المنصوص العلة المحسوس ثبوتها فى الأصل، والفرع إذ لا بذل
جهد فى ذلك فإنه لا بد من بذل جهد فى صرفة صحة النص متنًا وسندًا وعدم المعارض وسلامة العلة فى الفرع عن ثبوت مانع أو انتفاء شرط.
قوله: (وقد جمع المصنِّف) نفى لا ذهب إليه بعض الشارحين من أن كلًا من الاعتراضات مختص بواحد من التعريفات على طريق اللف والنشر.
قوله: (حمل الشئ على غيره) لم يتعرض للاعتراض بأن الحمل ثمرة القياس لا نفسه لما سنذكره فى تعريف القاضى، وأما الاعتراض بأن الشئ لا يتناول المستحيل فمدفوع بأنه شئ لغة وإن لم يكن ثابتًا.
قوله: (بلا جامع) أى لا فى نفس الأمر ولا فى نظر المجتهد.
قوله: (أو نفيه عنهما) قد يعترض عليه بأنه مستدرك إذ الحكم أعم من الإيجاب والسلب وليس بشئ لأن المراد الحكم الشرعى إذ لا يجرى القياس فى غيره ولو سلم فالنسبة الحكمية التى يراد إيقاعها وهو الإثبات أو انتزاعها وهو النفى لا الإسناد التام المتناول للإيجاب والسلب بقرينة إضافة الإثبات إليه وفى جعل الصفة قسمًا للحكم إشارة إلى أن المراد به الحكم الشرعى كما صرح به المحقق ليتناول الحكم الشرعى يريد أن الجامع قد يكون حكمًا شرعيًا إثباتًا أو نفيًا ككون القتل عدوانًا أو ليس بعدوان وقد يكون وصفًا عقليًا إثباتًا أو نفيًا ككونه عمدًا أو ليس بعمد ومن الأمثلة الواضحة قولنا الكلب نجس فلا يصح بيعه كالخنزير والنجس المغسول بالخل ليس بطاهر فلا تصح الصلاة فيه كالمغسول باللبن والنبيذ مسكر فيكون حرامًا كالخمر والصبى ليس بعاقل فلا يكلف كالمجنون وفى تفسيره الحكم الشرعى إشارة إلى دفع ما يقال أن الحكم إما أن يتناول بالصفة فيكون ذكرها مستدركًا أولًا فيجب أن يقال فى إثبات حكم بهما أو صفة ووجه الدفع أن الثابت بالقياس لا يكون إلا حكمًا شرعيًا كما سيجئ بخلاف الجامع فإنه قد يكون وصفًا عقليًا.
قوله: (واستحسنه المصنِّف) اتباعًا للجمهور لا فيه من المحافظة على القيود مع ضعف الاعتراضات الوردة عليه لأن الآمدى أورد عليه ستة اعتراضات أقواها الثلاثة المذكورة فى المتن بتغيير ما فى الأول وأجاب عن الكل إلا أن المصنِّف كأنه استضعف الأجوبة فلم يعول عليها ولهذا قال فى المنتهى إن أريد بالحمل التشبيه فمجاز إشارة إلى رد ما ذكره الآمدى من أن المراد من حمل المعلوم على المعلوم هو
التشريك والتسوية بينهما فى حكم أحدهما مطلقًا، وقوله فى إثبات حكم أو نفيه تفصيل لذلك فلا تكرار وإلى هذا ينظر جواب المحقق يعنى ليس المراد بالحمل ثبوت الحكم فى الفرع ليكون ثمرة القياس بل وجوب التسوية فى الحكم عند قصد إثبات الحكم فيهما بذلك الحمل فقوله إذا أريد تفسير لقوله فى إثبات حكم لهما يعنى أنه ليس صلة للحمل بل ظرفًا متعلقًا بمضمونه، وفى قوله بذلك تأكيد للاعتراض الثانى وهو الإشعار بثبوت حكم الأصل بالقياس وحينئذٍ يحتاج فى جوابه إلى ما ذكره المحقق وحاصله أن الحكم فيهما جميعًا يثبت بالقياس باعتبار أحد ضربيه الذى هو الحكم فى الفرع، وظاهر أن افتقار المجموع إلى شئ لا يقتضى افتقار كل من ضربيه إليه بل يكفى افتقار أحد جزأيه وأنا أظن أن ما ذكره من الإشعار إنما يظهر إذا كان قوله بأمر جامع متعلقًا بإثبات حكم أما إذا تعلق بالحمل على ما هو الحق فلا وقد ظهر بما ذكرنا أن قوله لا ثبوت الحكم فى الفرع عطف على وجوب التسوية قد سبق إلى وهم بعض الناظرين فى هذا الكتاب أنه عطف على إثبات الحكم وأن قوله بذلك إشارة إلى إثبات حكم والمعنى أن المراد بالحمل وجوب التسوية إذا أريد بقوله فى إثبات حكم الإثبات بهما كما هو ظاهر اللفظ إذ لو أريد ثبوت الحكم فى الفرع لم يصح إرادة التسوية إذ يصير المعنى أنه التسوية فى ثبوت الحكم فى الفرع وليس بمستقيم ولولا أنى على ثقة من حال الشارح المحقق أعلى اللَّه درجته فى دار السلام لتناءت بى الظنون وذهبت بى الأوهام عند الاطلاع على أمثال هذه التغيرات، فمن قرأ الكتاب عليه مع الفحص عن دقائقه وصرف شطرًا صالحًا من العمر إلى الكشف عن حقائقه.
قوله: (وقد صرح) ذكر الآمدى بعد الجواب عن الاعتراضات المذكورة على تعريف القاضى أنه يرد إشكال لا محيص عنه وهو أن الحكم فى الفرع نفيًا وإثباتًا متفرع على القياس متأخر عنه بالإجماع وقد جعله ركنًا له متقدمًا عليه حيث أخذه فى تعريفه حين قال فى إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما إشارة إلى الفرع والأصل وهذا دور ممتنع حيث جعل القياس متوقفًا على حكم الفرع المتوقف عليه فأجاب عنه المصنِّفُ بأنه إنما يقتضى توقف معرفة القياس وتعقل ماهيته على معرفة حكم الفرع وتعقل ماهيته وهو لا يتوقف على تعقل ماهية القياس لا تعقله ولا حصوله بل غاية الأمر أن حصوله يتوقف على حصول القياس ومثله ليس من الدور فى
شئ وهذا كلام لا غبار عليه إلا أن الشارح المحقق قد تصرف فيه بما أخرجه عن حد الاستقامة حيث جعله اعتراضًا على من زعم أن القاضى وأبا هاشم وأتباعهما إنما عدلوا عن حكم الفرع إلى حكم شئ أو معلوم حيث قالوا حمل الشئ على غيره وحمل معلوم على معلوم ولم يقولوا حمل فرع على أصل لأن حكم الفرع متوقف على القياس لثبوته به فأخذه فى تعريف القياس يكون دورًا والمصنف قد أخذ الفرع فى تعريف القياس حيث قال هو مساواة فرع الأصل فى علة حكمه فيلزمه الدور فاحتاج إلى الجواب بأن المأخوذ فى حد القياس ثبوت حكم الفرع الموقوف على وجود القياس لا تعقله والمحدود الماهية المعقولة التى لا يتوقف عليها حصول حكم الفرع ولا تعقله فلا دور وأنت خبير بأنه ليس فى تعريف أبى هاشم وتعريف المصنِّف، ذكر حكم الفرع أصلًا بل فى تعريف المصنف ذكر الفرع نفسه وتوهم الدور فيه إنما يكون من جهة تفسيره بالمقيس المتوقف على معرفة القياس على ما سبق وكلام المصنِّف ههنا تقريرًا وجوابًا لا يلائم ذلك والدليل على أنه ليس فى دعوى كون ذكر حكم الفرع دورًا دعوى بطلانه حد المصنِّف أن الآمدى بعدما جزم بورود هذا الدور على تعريف القاضى، قال: والمختار فى حد القياس أنه عبارة عن الاستواء بين الأصل والفرع فى علة حكم الأصل وهذا بعينه تعريف المصنِّف ثم قال وهذا جامع مانع لا يرد عليه شئ من الاعتراضات المذكورة، ومن البعيد ما ذكر فى بعض الشروح أن هذا إشارة إلى تعريف آخر وهو ما به ثبوت الحكم فى الفرع ثم جواب عما أورد عليه من استلزامه الدور.
قوله: (الذى هو سواء اعتبر. . . إلخ) تحريف وصوابه الذى هو مساواة من وجهين سواء اعتبر. . إلخ.
قوله: (ولو سلم فالنسبة الحكمية) أى لو سلم أنه ليس المراد الحكم الشرعى فهو النسبة الحكمية.
قوله: (الكلب نجس فلا يصح بيعه كالخنزير) فنجس فيه حكم شرعى وجودى وقع جامعًا وقوله والنجس المغسول بالخل ليس بطاهر فلا تصح الصلاة فيه فقوله ليس بطاهر حكم شرعى عدمى وقع جامعًا.
قوله: (أما إذا تعلق بالحمل على ما هو الحق فلا) رده فى شرح التحرير حيث
قال وفيه نظر بل إنما يكون فيه الإشعار المذكور على هذا التقدير لو قال فى إثبات حكم أحدهما للآخر أو نفيه عنه ثم قال وقال أى القاضى فى إثبات حكم لهما أى المعلومين أو نفيه عنهما ليتناول القياس فى الحكم الوجودى نحو أن يقال فى القتل بالمثقل قتل عمد عدوان فيجب القصاص كما فى القتل بالمحدد وفى الحكم العدمى نحو أن يقال فى القتل بالمثقل أيضا قتل تمكن فيه الشبهة فلا يجب فيه القصاص كالقتل بالعصى الصغيرة ثم ذكر أن الشيخ تقى الدين السبكى اعترض قوله فى التعريف أو نفيه بأنه حشو لأن الإلحاق فى النفى إنما هو فى الحكم بالعدم لا فى نفس العدم والحكم بالعدم ثبوتى لا عدمى كالحكم بالوجودى ألا ترى أنا نقول الحكم خطاب اللَّه المتعلق بأفعال المكلفين وهو ثبوتى وإن كان منه عدم التحريم وعدم الحل والعدم إنما هو فى المحكوم به أو فى نفس العبارة كقولنا: لا يحرم ومعناه يحل فإن قلت عدم الحرمة أعم من الحل قلت: نعم ولكن عدم الحرمة الذى لا حل معه هو العدم العقلى وذلك لا يثبت بالقياس ولا يقاس عليه شرعًا وعدم الحرمة المسند إلى الشرع هو الحل بعينه. اهـ.
قوله: (إذ لو أريد ثبوت الحكم) أى لو أريد بإثبات الحكم ثبوت الحكم فى الفرع.
قوله: (وليس بمستقيم) أى لأن التسوية إنما هى فى ثبوت حكم الأصل لا فى ثبوت حكم الفرع.
قوله: (على أمثال هذه التعبيرات فمن وقف. . . إلخ) لعله تحريف وأصله ممن وقف يعنى أنه لولا الثقة من حال الشارح لا أتبع هذه التعبيرات الواقعة ممن قرأ الكتاب على الشارح. . . إلخ.
قوله: (إن هذا إشارة) أى قول المصنف وقولهم ثبوت حكم الفرع فرع القياس فتعريفه به دور إشارة إلى تعريف آخر وقوله ثم جواب عما أورد عليه أى بقوله أجيب بأن المحدود. . . إلخ.
وقال: (وأركانه: الأصل والفرع وحكم الأصل والوصف الجامع الأصل الأكثر محل الحكم المشبه به وقيل دليله وقيل حكمه والفرع المحل المشبه، وقيل حكمه والأصل ما يبتنى عليه غيره فلا بعد فى الجميع ولذلك كان الجامع فرعًا للأصل أصلًا للفرع).
أقول: أركان الشئ أجزاؤه فى الوجود التى لا يحصل إلا بحصولها، داخلة فى حقيقته محققة لهويته.
وأركان القياس أربعة: الأصل، والفرع، وحكم الأصل، والوصف الجامع.
وأما حكم الفرع فثمرة القياس فيتأخر عنه فلا يكون ركنًا له.
أما الأصل فهو المحل المشبه به الذى يثبت فيه الحكم، وقيل: حكمه، وقيل: دليله.
فإذا قلنا النبيذ مسكر فيحرم قياسًا على الخمر بدليل قوله: حرمت الخمر، فالأصل هو الخمر، لأنه الشبه به أو الحرمة لأنها حكمه، أو قوله: حرمت الخمر لأنه دليله.
وأما الفرع فقيل على الأول أن محل الحكم المشبه، وعلى الثانى أنه حكمه، ولم يقل أحد أنه دليله وكيف يقال ودليله القياس.
وتحقيقه أن الأصل ما يبتنى عليه الشئ فلا بعد فى الكل لأن الحكم فى الفرع يبتنى على الحكم فى الأصل وهو على مأخذه ومحله، فالكل مما يبتنى عليه الحكم فى الفرع ابتداء أو بواسطة فلا بعد فى التسمية ولذلك قال بعض العلماء وهو الصحيح الجامع أصل للحكم فى الفرع والحكم فرع له إذ يعلم ثبوته بثبوته وفى الأصل بالعكس فإن الحكم أصل للجامع والجامع فرع له إذ يستنبط منه بعد العلم بثبوته، وأما فى الفرع فالحكم هو المبتنى، والمحل يسمى بها مجازًا، واعلم أن الاصطلاح المتعارف بين الفقهاء أن الأصل والفرع هما المحلان ونحن على هذا الاصطلاح نستمر.
قوله: (التى لا يحصل إلا بحصولها) تفسير للأجزاء وتمييز لها عن العوارض وقوله داخلة فى حقيقته أى بالنظر إلى الوجود العقلى محققة لهويته أى بالنظر إلى الوجود الخارجى وهذا تأكيد لما ذكر وتوضيح.
قوله: (وأركان القياس أربعة) لأنها المأخوذة فى حقيقته حيث يفسر بمساواة فرع الأصل فى علة حكمه، وهذا كما يقال أركان التشبيه أربعة: المشبه، والمشبه به، ووجه الشبه، والأداة.
قوله: (وهو الصحيح) لأن فى ذلك حقيقة الابتناء وفيما عداه لا بد من تجوز وملاحظة واسطة تظهر بالتأمل.
قوله: (إذ يستنبط) أى الجامع منه أى من الحكم فى الأصل يعنى بالنظر إلى الأعم الأغلب وإلا فقد تكون العلة منصوصة.
قال: (ومن شروط حكم الأصل أن يكون شرعيًا).
أقول: إن للقياس شروطًا كل عدة منها يتعلق بركن من أركانه فمن شروط حكم الأصل أن يكون حكمًا شرعيًا، فلو كان حسيًا أو عقليًا لم يجز لأن المطلوب إثبات حكم شرعى للمساواة فى علته ولا يتصور إلا بذلك، فلو قال شراب مشتد فيوجب الحد كما يوجب الإسكار أو كما يسمى خمرًا كان باطلًا من القول خارجًا عن الانتظام، وهذا مبنى على أن القياس لا يجرى فى اللغة وقد مر ولا فى العقليات من الصفات والأفعال وهو الصحيح عنده وفائدته تظهر فيما إذا قاس النفى فإذا لم يكن المقتضى ثابتًا فى الأصل كان نفيًا أصليًا، والنفى الأصلى لا يقاس عليه النفى الطارئ وهو حكم شرعى ولا الأصلى لثبوته بدون القياس وبلا جامع، وقد يذكر فى كثير من المسائل، ولذلك يقول الناظر لا بد من بيان المقتضى فى الأصل وما ذلك إلا ليكون النفى حكمًا شرعيًا.
قوله: (فلو كان حسيًا أو عقليًا) الأنسب بما ذكر من البيان والمثال أن يقول فلو كان لغويًا أو عقليًا وهو الموافق لكلام الآمدى والشارحين.
قوله: (وهذا مبنى) أى انحصار المطلوب من القياس فى إثبات حكم شرعى حتى يلزم كون الأصل حكمًا شرعيًا مبنى على أن القياس لا يجرى فى القضايا اللغوية والعقلية وإلا فالمطلوب لا يلزم أن يكون إثبات حكم شرعى بل لغوى أو عقلى فلا يشترط كون حكم الأصل حكمًا شرعيًا وفى هذا دفع لما يتوهم من أن قياس إيجاب الحد على إيجاب السكر أو التسمية بالخمر إنما كان باطلًا خارجًا عن الانتظام من جهة أن الفرع قد أخذ حكمًا شرعيًا حتى لو أخذ عقليًا أو لغويًا كالأصل لصح وانتظم.
قوله: (من الصفات) كما يقاس الغائب على الشاهد فى كونه عالمًا بعلم من صفة قائمة والأفعال كما يقاس الشاهد على الغائب فى كون فعله باختياره.
قوله: (وهو الصحيح عنده) أى عند المصنِّف خلافًا لبعض أئمة اللغة حيث يجرونه فى اللغات وأكثر المتكلمين حيث يجرونه فى العقليات.
الشارح: (فلو قال شراب مشتد فيوجب الحد كما يوجب الإسكار) أى أن النبيذ
من حيث إيجابه الحد مقيس على النبيذ من حيث كونه موجبًا للإسكار أى والجامع أنه شراب مشتد.
الشارح: (وهذا مبنى على أن القياس لا يجرى فى اللغة) قد فهم من قول المصنف أو كان يسمى خمرًا أنه قياس فى اللغة إن قلنا بصحة القياس المذكور مع أنه إنما يفيد جواز كون الحكم حسيًا أى إطلاق الخمر حسى لأنه يحس بحاسة السمع وقياس النبيذ فى إيجاب الحد عليه فى إطلاق الخمر عليه ليس فى شئ من القياس فى اللغة.
الشارح: (ولا فى العقليات من الصفات وهو الصحيح عنده) أى خلافًا للمتكلمين حيث جوزوها فيها إذا تحقق جامع عقلى من علة أو حد أو شرط أو دليل قال فى التحرير: وإنما لم يجز على الصحيح لعدم إمكان إثبات المناط وقوله وقد ذكر فى كثير من الأمثلة أى ذكر أن النفى أصلى فلا يقاس عليه.
قوله: (الأنسب بما ذكر. . . إلخ) قد عرفت ما فيه.
قوله: (بل لغوى أو عقلى) أى بل يكون إثبات حكم لغوى أو عقلى كما يكون إثبات حكم شرعى.
قوله: (وفى هذا دفع. . . إلخ) أى فى قول الشارح وهذا مبنى على أن القياس لا يجرى فى اللغة دفع. . . إلخ، ووجه الدفع أن عدم الانتظار وكونه باطلًا من جهة أنه لا قياس فى اللغة والعقليات لا من جهة أن الحكم فى المقيس شرعى وفى المقيس عليه لغوى أو عقلى.
قوله: (فى كونه عالمًا بعلم من صفة قائمة به) أى أن الحكم الذى اقتضاه قياس الغائب على الشاهد فى أن كلا عالم هو أنه عالم بعلم هو صفة قائمة به.
قال: (وأن لا يكون منسوخًا لزوال اعتبار الجامع).
أقول: ومن شروط حكم الأصل أن لا يكون منسوخا لأنه إنما تعدى باعتبار الشارع الوصف الجامع فى الأصل حيث أثبت الحكم به ولما زال الحكم مع ثبوت الوصف علم أنه لم يبق معتبرًا فى نظره فلا يتعدى الحكم به إذ لم يبق الاستلزام الذى كان دليلًا للثبوت وقد تقدَّم.
قوله: (وقد تقدَّم) فى بحث النسخ أنه إذا نسخ حكم الأصل لا ينفى معه حكم الفرع.
قال: (وأن لا يكون فرعًا خلافًا للحنابلة والبصرى، لنا إن اتحدت فذكر الوسط ضائع كالشافعية فى السفرجل مطعوم فيكون ربويًا كالتفاح ثم يقيس التفاح على البر وإن لم يتحد فسد لأن الأولى لم يثبت اعتبارها، والثانية ليست فى الفرع، كقوله فى الجذام عيب يفسخ به البيع فيفسخ به النكاح كالقرن والرتق، ثم يقيس القرن على الجب لفوات الاستمتاع).
أقول: من شروط حكم الأصل أن لا يكون فرعًا، أى: مثبتًا بالقياس بل بإجماع أو نص وجوزه الحنابلة والبصرى، لنا أن العلة إما أن تتحد فى القياسين أو لا تتحد، فإن اتحدت العلة فى القياسين فذكر الوسط أعنى ما هو أصل فى قياس وفرع فى آخر ضائع لإمكان طرحه من الوسط وقياس أحد الطرفين على الآخر.
مثاله: أن تقول الشافعية فى السفرجل أنه مطعوم فيكون ربويًا كالتفاح فيمنع الخصم كون التفاح ربويًا فيقول لأنه مطعوم كالبر، فإنه كان يمكنه أن يقول فى السفرجل لأنه مطعوم كالبر من غير التعرض للتفاح فكان ذكر التفاح عديم الفائدة، وإن لم تتحد العلة فى القياسين فإنه قد صرح باعتبار العلة المذكورة.
ثانيًا: فى إثبات حكم الأصل وأنها ليست ثابتة فى الفرع والمذكورة أولًا وإن ثبتت فى الفرع فإنها غير معتبرة فلا مساواة بينهما فى العلة المعتبرة فلا تعدية.
مثاله: قول المستدل فى الجذام عيب يفسخ به البيع فيفسخ به النكاح كالقرن والرتق فيمنع الخصم أن البيع يفسخ بالرتق والقرن فيقول لأنه مفوت للاستمتاع كالجب، ففوات الاستمتاع هو الذى ثبت لأجله الحكم فى الرتق والقرن وأنه غير موجود فى الجذام والثابت فى الجذام وهو كونه عيبًا يفسخ به البيع لم يثبت اعتباره.
مثال آخر جامع للصورتين: أن يقول فى الوضوء: عبادة، فيشترط فيه النية كالتيمم، ثم يقول لأنه عبادة كالصلاة فتتحد العلة أو يقول أولًا طهارة كالتيمم ثم يقول إنه عبادة كالصلاة فلا تتحد.
قالوا: لا يجب أن يثبت فى الفرع بما يثبت به فى الأصل كالإجماع والنص فجاز أن يثبت فى الأصل بعلة وفى الفرع بأخرى.
الجواب: الفرق بما ذكرنا.
قوله: (فإنه قد صرح) لا خفاء فى أن ههنا قياسين:
أحدهما: لإثبات المطلوب والآخر لإثبات أصله، فهذا فرع مطلق كالجذام وأصل مطلق كالجب وأصل من وجه وفرع من وجه كالقرن وعلة لإثبات الحكم فى الفرع المطلق كعيب يفسخ به البيع وعلة لإثبات حكم ما هو أصل من وجه فرع من وجه كفوات الاستمتاع وإليها الإشارة بالعلة المذكورة.
ثانيًا: فى إثبات حكم الأصل يعنى الأصل الذى هو فرع من وجه، وقوله وأنها ليست ثابتة فى الفرع، يعنى: الفرع المطلق فإن الجذام لا يمنع الاستمتاع، وقوله المذكورة أولًا، يعنى: علة إثبات حكم الفرع المطلق ككونه عيبًا يفسخ به البيع، فإنه وإن ثبت فى الجذام لكن لم يثبت اعتباره فى حكم أصله الذى هو القرن والرتق فإن جواز فسخ النكاح بهما لم يعلل بكونهما من العيوب التى يفسخ بها البيع بل بفوت الاستمتاع فلا مساواة بين الفرع الذى هو الجذام والأصل الذى هو القرن والرتق فى العلة المعتبرة التى هى فوات الاستمتاع، ولا يخفى على المتأمل أن قوله فيمنع الخصم أن البيع يفسخ بالقرن من سهو القلم والصواب أن النكاح لأنه الحكم فى الأصل وأما منع فسخ البيع فإنما هو منع لوجود الوصف فى الأصل.
قوله: (جامع للصورتين) يعنى صورة إيجاد العلة فى القياسين كقياس الوضوء على التيمم والتيمم على الصلاة بجامع العبادة فيهما وعدم إيجادها كقياس الوضوء على التيمم بجامع الطهارة وكقياس التيمم على الصلاة بجامع العبادة.
قوله: (قالوا لا يجب) ظاهر سوق الكلام أنه دليل للحنابلة والبصرى لكنه فى التحقيق اعتراض منهم على دليلنا المذكور فى صورة عدم إيجاد العلة حاصله منع لزوم المساواة فى العلة بل يجوز أن يثبت الحكم فى الفرع بعلة وفى الأصل بعلة أخرى، كما يجوز أن يعلم ثبوته فى الفرع بدليل هو القياس وفى الأصل بدليل آخر هو نص أو إجماع والجواب الفرق بين العلة والدليل بأنه يلزم من عدم المساواة فى العلة امتناع التعدية، وانتفاء القياس لأن ذلك حقيقته بخلاف اختلاف الدليلين فإنه لا محذور.
قال: (فإن كان فرعًا يخالفه المستدل كقول الحنفى فى الصوم بنية النفل أتى بما أمر به فيصح كفريضة الحج ففاسد لأنه يتضمن اعترافه بالخطأ فى الأصل).
أقول: ما ذكرناه كان فرعًا يوافقه المستدل ويخالفه المعترض وأما إذا كان فرعًا يخالفه المستدل ويوافقه المعترض، فمثاله قول الحنفى فى الصوم بنية النفل أتى بما أمر به فيصح كفريضة الحج وهو لا يقول بصحة فريضة الحج بنية النفل بل خصمه هو القائل به، وهذا قياس فاسد لأنه اعترف ضمنًا بخطئه فى الأصل وهو إثبات الصحة فى فريضة الحج والاعتراف ببطلان إحدى مقدمات دليله، اعتراف ببطلان دليله، ولا يسمع من المدعى ما هو معترف ببطلانه ولا يمكن من دعواه، مثال آخر أن يقول الشافعى فى قتل المسلم بالذمى تمكنت فيه الشبهة فلا يوجب القصاص كالمثقل فإنه فرع يخالفه المستدل وهو على مذهب المعترض وفرع من فروعه، فلا يمكن المستدل من تقرير مذهبه به، مع اعترافه ببطلانه فإن قبل فذلك يصلح إلزامًا للخصم إذ لو التزمه لزم المقصود وإلا كان مناقضًا فى مذهبه لعمله بالعلة فى موضع دون موضع.
والجواب: أن الإلزام مندفع بوجهين: أحدهما: أن يقول العلة فى الأصل عندى غير ذلك ولا يجب ذكرى لها، وثانيهما: أن يقول يلزم منه إما خطئى فى الأصل أو فى الفرع ولا يلزم منه الخطأ فى الفرع معينًا وهو مطلوبك، وربما اعترف بخطئى فى الأصل ولا يضرنى ذلك فى الفرع.
قوله: (ما ذكرناه كان فرعًا) ظاهر هذا الكلام أن أصل القياس إن كان فرعًا يوافقه المستدل ويخالفه المعترض كربوية التفاح وكون القرن مما يفسخ به النكاح فهذا هو محل الخلاف بيننا وبين الحنابلة وأما إذا كان بالعكس أى يخالفه المستدل ويوافقه المعترض كصحة فرض الحج بنية النفل وعدم القصاص فى القتل بالمثقل فباطل بلا خلاف وهو نقيض صحة فرضية الحج بنية النفل مما ثبت بالقياس وكذا عدم وجوب القصاص بالقتل بالمثقل وفى الشرح إشارة إلى أن معنى الفرعية فى ذلك أنه فرع من فروع الذهب وقيل لأن كلًا منهما حكم مختلف فيه فلا بد أن يستند إلى أصل وقيل لأنه ليس بمنصوص عليه ولا مجمع عليه وأنت خبير بأنه حينئذٍ لا يكون مما نحن فيه وكلام الآمدى لا يقتضى ذلك لأنه قال هذا إذا كان
حكم الأصل مقولًا به من جهة المستدل فكما فى المثال المذكور فلا يصح.
قوله: (وإلا كان مناقضًا) حيث جعل الوصف علة وليس بعلة.
قوله: (أن يقول) المناسب بقوله أحدهما ثانيهما لكنه وقع فى النسخ هكذا.
قوله: (وهو نقيض صحة فرضية الحج) تحريف وصوابه وهو يقتضى أن صحة فرضية. . . إلخ.
قوله: (وأنت خبير. . . إلخ) يظهر أنه راجع لما فى الشارح والقولين المذكورين فى المحشى وإنما لم يكن مما نحن فيه لأن ما نحن فيه هو أن لا يكون حكم الأصل فرعًا يعنى فى قياس آخر.
قوله: (لأنه قال هذا. . . إلخ) أى فلم يجعل ذلك فى خصوص فرع القياس وقوله فكما فى المثال المذكور تحريف وحقه فأما إذا كان غير مقول به من جهة المستدل كما فى المثال المذكور. . . إلخ.
قوله: (المناسب لقوله أحدهما ثانيهما) لعل النسخة التى وقعت له نصها هكذا أحدهما
…
إلخ.
قال: (ومنها أن لا يكون معدولًا به عن سنن القياس كشهادة خزيمة وأعداد الركعات ومقادير الحدود والكفارات ومنه ما لا نظير له كان له معنى ظاهر كترخص المسافر أو غير ظاهر كالقسامة).
أقول: شرط القياس وجود مثل علة الحكم فى غير محله، فإذا علم انتفاء ذلك قيل إنه معدول به عن من القياس أى طربقه والباء للتعدية أى جعل عادلًا ومتجاوزًا عنه فلم يبق على منهاج القياس فلا يقاس عليه، فمنه ما لا يعقل معناه وينقسم إلى قسمين:
قسم أخرج عن قاعدة مقررة كشهادة خزيمة، قال عليه الصلاة والسلام:"من شهد له خزيمة فهو حسبه"(*)، فلا يثبت ذلك الحكم لغيره وإن كان أعلى منه رتبة فى المعنى المناسب لذلك من التدين والصدق كالصديق، فإنه علم ضرورة أن القاعدة مقررة شرعًا لم يخرج منها إلا هذا الفرد كالمستثنى منها وثبوت حكم خلافه فى جميع ما عداه شرعًا مقطوع به.
وقسم لم يخرج عن قاعدة كأعداد الركعات وكمقادير الحدود وخصوصية سائر الكفارات، ومنه ما لا نظير له وهو أيضًا قسمان:
قسم له معنى ظاهر كترخص المسافر إذ علته السفر وهو معنى مناسب للرخصة لما فيه من المشقة، لكن هذا الوصف لم يوجد فى موضع آخر.
وقسم ليس له معنى ظاهر كالقسامة، وهى تحليف مدعى القتل مع اللوث خمسين قسمًا ومعناه التغليظ فى حقن الدماء وإلا لم يتعذر للأعداء القتل بغير مشهد الشاهدين، ولا للأشرار الذين لا يزعهم وازع لتقوى الحلف عليه حلفة واحدة فروعى فيه المصلحتان ولا نظير له.
قوله: (فى غير محله) أى محل الحكم وهذا أيضًا من شروط الأصل لأن حاصله أن يكون حكم الأصل بحيث يوجد مثل علته فى أصل آخر غير محل الحكم وليس المراد أنه بجب أن يوجد فى محل آخر هو الفرع لأن هذا معلوم من
(*) أخرجه الحاكم فى المستدرك (2/ 22)(ح 2188)، والبيهقى فى الكبرى (10/ 146)، وابن أبى عاصم فى الآحاد والمثانى (4/ 115)(ح 2084)، والطبرانى فى الكبير (4/ 87)(ح 3730).
كون العلة وصفًا مشتركًا ويحتمل أن يكون ضمير محله للقياس والحاصل واحد.
قوله: (وكمقادير الحدود وخصوصية سائر الكفارات) فتدبر بذلك لما سيجئ من جريان القياس فى نفس الحدود والكفارات.
قوله: (لكن هذا الوصف) وهو المعنى المقتضى للرخصة لما فيه من المشقة لم يوجد فى موضع آخر مما يشتمل على مشقة وإن كانت فوق مشقة السفر من مزاولة الأعمال الشاقة.
قوله: (فروعى فيه المصلحتان) أى دفع مفسدة القتل للأعداء من غير حضور شاهد لشرعية التحليف ودفع مفسدة الدعاوى الباطلة للأشرار لشرعية العدد الكثير وإن لم تعلم حكمة الخمسين بالتعيين.
قوله: (ولا نظير له) أى لا يوجد مثل ذلك فى أصل آخر.
المصنف: (أن لا يكون معدولًا به عن سنن القياس) سنن القياس أن يعقل معنى حكم الأصل ويوجد فى غيره أى يكون له علة توجبه وتكون موجودة فى غير ذلك الأصل من أصل آخر فما لم يعقل معناه كأعداد الركعات فى الصلوات المكتوبات والمندوبات ومقادير الزكاة والحدود والكفارات أو عقل معناه ولم يتعد كشهادة خزيمة فلا يقاس عليه وقصته كما روى الطبرانى وابن خزيمة بسند رجاله موثقون عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن أبيه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اشترى فرسًا من سواد ابن الحارث المحاربى فجحده فشهد له خزيمة بن ثابت فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا ولم تكن حاضرًا معنا فقال صدقتك بما جئت به وعلمت أنك لا تقول إلا حقًا فقال النبى صلى الله عليه وسلم من شهد له أو شهد عليه خزيمة فحسبه كذا فى شرح التحرير والذى فى شرح مسلم الثبوت أن القصة أن النبى صلى الله عليه وسلم اشترى ناقة من أعرابى وأوفاه ثمنها ثم جحد الأعرابى استيفاءه وجعل يقول هلم شهيدًا فقال عليه وعلى آله وأصحابه الصلاة والتسليم: من يشهد لى؟ فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد لك يا رسول اللَّه أنك أديت الأعرابى ثمن الناقة؛ فقال عليه وعلى آله وأصحابه الصلاة والسلام: كيف تشهد لى ولم تحضرنى؟ فقال: أنا أصدقك فيما تأتينا به من خبر السماء أفلا أصدقك فيما تخبر به من أداء ثمن الناقة؛ فقال رسول صلى الله عليه وسلم: من شهد له خزيمة فهو حسبه ثم قال فى مسلم
الثبوت وأنت تعلم أن الاكتفاء به معقول فى الشهادة لكمال التدين وكذا الإخراج من قاعدة عامة من اشتراط العدد مطلقًا للاختصاص بالفهم للأمور على ما هى عليه فليس مما لا يعقل كما فى شرح مختصر ابن الحاجب.
المصنف: (كالقسامة) أى فإن توجيه اليمين ابتداء على المدعى للقتل وتعددها لا نظير له.
قوله: (وهو المعنى المقتضى للرخصة) هو السفر وقوله لم يوجد فى موضع آخر أى حتى يترتب عليه الترخيص بالإفطار فى صوم الفرض يعنى أن السفر جعل مقتضيًا للترخيص من حيث إن فيه مشقة وليس كل ما اشتمل على المشقة يكون مقتضيًا للترخص بالإفطار بل الشارع إنما رخص فى السفر والمشقة من غيره ليست مشقة سفر فلم يوجد الحكم فى غيره.
قال: (ومنها أن لا يكون ذا قياس مركب وهو أن يستغنى بموافقة الخصم فى الأصل مع منعه علة الأصل أو منعه وجودها فى الأصل، فالأول مركب الأصل مثل عبد فلا يقتل به الحر كالمكاتب، فيقول الحنفى العلة جهالة المستحق من السيد والورثة فإن صحت بطل الإلحاق وإن بطلت منع حكم الأصل فما ينفك عن عدم العلة فى الفرع أو منع الأصل الثانى مركب الوصف مثل تعليق الطلاق فلا يصح قبل النكاح كما لو قال زينب التى أتزوجها طالق، فيقول الحنفى العلة عندى مفقودة فى الأصل فإن صح بطل الإلحاق وإلا منع حكم الأصل فما ينفك عن منع الأصل أو عدم العلة فى الأصل فلو سلم أنها العلة وأنها موجودة أو أثبت أنها موجودة، انتهض الدليل عليه لاعترافه كما لو كان مجتهدًا).
أقول: ومن شروط حكم الأصل أن لا يكون فيه قياس مركب وهو أن يستغنى عن إثبات حكم الأصل بالدليل بموافقة الخصم له فيه مع أن الخصم يكون مانعًا لكون الحكم فيه معللًا بعلة المستدل ولذلك إما بمنعه لعليتها أو لوجودها فيه والأول يسمى مركب الأول، والثانى مركب الوصف، قال فى المنتهى وسمى مركبًا لاختلافهما فى تركيب الحكم فالمستدل يركب العلة على الحكم والخصم بخلافه والظاهر أنه إنما يسمى مركبًا لإثباتهما الحكم كل بقياس فقد اجتمع قياسهما ثم إن الأول اتفقا فيه على الحكم وهو الأصل باصطلاح دون الوصف الذى يعلل به المستدل فسمى مركب الأصل والثانى اتفقا فيه على الوصف الذى يعلل به المستدل فسمى مركب الوصف تمييزًا له عن صاحبه، بأدنى مناسبة.
مثال الأول: وهو مركب الأصل أن يقول الشافعية فى مسألة العبد هل يقتل به الحر عبد فلا يقتل به الحر كالكاتب فإنه محل الاتفاق فيقول الحنفى العلة عندى فى عدم قتله بالكاتب ليس هو كونه عبدًا بل جهالة المستحق للقصاص من السيد والورثة لاحتمال أن يبقى عبدًا بعجزه عن أداء النجوم فيستحقه السيد وأن يصير حرًا بأدائها فيستحقه الورثة وجهالة المستحق لم تثبت فى العبد فإن صحت هذه العلة بطل إلحاق العبد به فى الحكم لعدم مشاركته له فى العلة وإن بطلت فيمنع حكم الأصل ويقول يقتل الحر بالمكاتب لعدم المانع، وحاصله أن الخصم فى هذه الصورة لا ينفك عن عدم العلة فى الفرع كما لو كانت هى الجهالة أو منع الحكم فى الأصل كما لو كانت كونه عبدًا وعلى التقديرين فلا يتم القياس.
مثال الثانى: وهو مركب الوصف أن يقال فى مسألة تعليق الطلاق قبل النكاح تعليق للطلاق فلا يصح كما لو قال زينب التى أتزوجها طالق فيقول الحنفى العلة وهى كونه تعليقًا مفقودة فى الأصل وإن قوله زينب التى أتزوجها طالق تنجيز لا تعليق فإن صح هذا بطل إلحاق التعليق به لعدم الجامع وإلا منع حكم الأصل وهو عدم الوقوع فى قوله زينب التى أتزوجها طالق لأنى إنما منعت الوقرع لأنه تنجيز فلو كان تعليقًا لقلت به وحاصله أن الخصم فى هذه الصورة لا ينفك عن منع علة الأصل كما لو لم يكن التعليق ثابتًا فيه أو منع حكم الأصل كما إذا كان ثابتًا وعلى التقديرين لا يتم القياس قوله فلو سلم أنها العلة اعلم أن كل موضع يستدل فيه الخصم باتفاق الطرفين يتأتى فيه دعوى أنه ذو قياس مركب فإن الخصم لا يعجز عن إظهار قيد يختص بالأصل، يدعى أن ذلك هو العلة عنده ولا سبيل إلى دفعه بالدليل على أن علتك هى العلة عنده بل لو قال علتى غير ذلك ولم يعينه يسمع منه فإذا طريق ثبوت ذلك هو تسليمه واعترافه فإذا اعترف فإن سلم أنها موجودة فذاك، وإلا فللمستدل أن يثبت وجودها فى الأصل بدليل من عقل أو حس أو شرع، وعلى التقديرين ينتهض الدليل عليه لأنه معترف بصحة الموجب وبثبوته أو وقد ثبت بالدليل فلزمه القول بموجبه كما لو كان مجتهدًا وظن ذلك فإنه لا يسعه المخالفة والمناظر تلو الناظر إذ غرضه إظهار ما يحصل به الظن ليوافقه صاحبه عليه فيبعد ترك ما ظن بتضافرهما.
قوله: (وهو) أى القياس المركب بل اشتمال حكم الأصل عليه أن يستغنى المستدل عن إثبات حكم الأصل بالدليل استغناء بموافقة الخصم له أى للمستدل فيه أى فى حكم الأصل مع منع الخصم بعلته علة المستدل أو لوجودها فى الأصل، قال الآمدى القياس المركب هو أن يكون الحكم فى الأصل غير منصوص عليه ولا مجمع عليه بين الأمة وهو إما مركب الأصل وهو أن يعتبر المستدل علة فى الأصل فيعين المعترض علة أخرى ويزعم أنها العلة فى حكم الأصل وإنما سمى مركبًا لاختلاف الخصمين فى تركيب الحكم على العلة فى الأصل فإن المستدل يزعم أن العلة مستنبطة من حكم الأصل وهى فرع له والمعترض يزعم أن الحكم فى الأصل فرع على العلة ولا طريق إلى إثباته سواها ولذلك يمنع ثبوت الحكم عند انتفائها
وإنما سمى مركب الأصل لأنه يظن فى علة حكم الأصل وأما مركب الوصف وهو ما وقع الاختلاف فى وصف المستدل فهل له وجود فى الأصل أم لا، وسمى بذلك لأنه خلاف فى نفس الوصف الجامع وزعم بعضهم أنه إنما سمى قياسًا مركب لاختلاف الخصمين فى علة الحكم وليس بحق وإلا لكان كل قياس اختلف فى علة أصله وإن كان منصوصًا أو مجمعًا عليه قياسًا مركبًا هذا كلام الآمدى وبه يظهر كلام المنتهى وذهب الشارح المحقق إلى أنه سمى مركبًا لإثبات المستدل والخصم كل منهما الحكم بقياس آخر فقد اجتمع قياسهما وهو معنى تركيب القياس وذلك أنهما اتفقا على أن الحر لا يقتل بالمكاتب وإنما اختلفا فى أن العلة هى كونه عبدًا أو جهالة المستحق، وكذا اتفقا على عدم الصحة فى زينب التى أتزوجها طالق وإنما اختلفا فى أن العلة كونه متعلقًا أو تنجيزًا، وفى بعض الشروح إنما سمى بذلك لأن الأصل فيه وصفان يصلح كل منهما أن يكون علة ولا يخفى ما فيه.
قوله: (بأدنى مناسبة) يعنى أنهما اتفقا على علية الوصف حتى لو تحقق القياس وثبت اشتراك الأصل والفرع فى العلة كان مركب الوصف وإن كان فى الظاهر اتفاقًا فى مجرد حكم الأصل دون الوصف وهذا القدر كاف فى التميز.
قوله: (وحاصله) يشير أن ضمير ينفك فى الصورتين للخصم والشارحون على أنه فى الأولى للقياس الأول، وفى الثانية للثانى، ولا خفاء فى أن منع الأصل أوفق بما ذكروه وعدم العلة بما ذكروه، فإن قيل قد سبق أن الخصم فى مركب الأصل يمنع العلية وفى مركب الوصف يمنع وجود العلة فى الأصل فكيف يصح أنه فى الأول لا ينفك عن عدم العلة فى الفرع أو منع الحكم فى الأصل، وفى الثانى عن منع علة الأصل أو حكمه قلنا عدم العلة فى الفرع نتيجة منع علة المستدل ودعوى علية وصف آخر لا يوجد فى الفرع ومنع حكم الأصل نتيجة بطلان علية ذلك الوصف على سبيل الفرض والتقدير بناء على أنه المانع وكذا منع علة الأصل هو بعينه منع وجود العلة فى الأصل ومنع حكم الأصل هو نتيجة تسليم العلة فى الأصل على سبيل الفرض والتقدير فليتأمل حتى لا يتوهم أن منع حكم الأصل نتيجة منع وجود العلة ولازمه على ما سبق إلى بعض الأوهام ألا ترى أنه منع أولًا كون زينب التى أتزوجها طالق تعليقًا ثم قال لو ثبت كونه تعليقًا
فلا نسلم صحته الذى هو الحكم فجعل منع الحكم متفرعًا على ثبوت العلة وفى شرح العلامة وبه يشعر كلام الآمدى أن منع حكم الأصل فى الصورتين إنما يصح إذا كان الخصم مجتهدًا إذ ليس للمقلد مخالفة أمامه، وقد استبعد فى بعض الشروح ما سلكه المصنِّفُ فى مركب الوصف من منع وجود علة الفرع فى الأصل والمعهود فى دأب الفروق والأقيسة عكس ذلك.
قوله: (يدعى أن ذلك) أى القيد هو العلة إما بالاستقلال أو بالانضمام عند الخصم.
قوله: (فإن سلم) أى الخصم أنها أى العلة عنده موجودة فى الأصل فقد تم المطلوب وإن لم يسلم فللمستدل إثبات وجودها فى الأصل بدليله كما ثبت فى المثال المذكور أن قولنا زينب التى أتزوجها طالق بمنزلة إن تزوجت زينب فهى طالق بشهادة الاستعمال أو إطباق أئمة العربية، وبهذا يظهر أنه لو قال من عقل أو حس أو شرع أو غيرها لكان أحسن.
قوله: (أو وقد ثبت) عطف على قوله وثبوته على معين أو معرف بصحة الموجب وقد ثبت بالدليل وإن لم يعترف بثبوته.
قوله: (والمناظر تلو الناظر) يعنى قد أعتبر فى المناظرة أن يكون الغرض إظهار الصواب كما أن غرض الناظر ظهور الصواب بحسب ظنه.
قوله: (بتضافرهما) أى تعاونهما وقد وقع فى بعض النسخ بالظاء وهو غلط كما سبق.
المصنف: (أن لا يكون ذا قياسين) أى أن لا يكون حكم الأصل مختلف العلة عند المستدل والمعترض حتى يترتب على ذلك الاختلاف أن يكون حكم الأصل ثابتًا بقياس عند المستدل وثابتًا بقياس آخر عند المعترض فيتمكن الخصم من منع العلة فى الفرع الذى يريد المستدل إثباته بالقياس على حكم الأصل الذى ثبت باتفاقهما والذى فى الأبهرى أن معنى كونه ذا قياسين أن يكون حكم الأصل أصلًا فى قياسين لاختلاف علته فباعتبار كل علة يقاس عليه فإن وجد الجامع فى كليهما كان كل منهما صحيحًا وإلا فما وجد فيه صح وما لا فلا ورد كون المراد به أن يكون ثابتًا بقياسين نظرًا لاختلاف العلتين لأن ذلك عبارة عن كونه فرعًا لأصل
آخر وقد تقدم وأيضًا فإن فرض المسألة أن حكم الأصل متفق عليه والمستدل مستغن عن إثباته بالدليل بموافقة الخصم وفيه أنه ليس المراد إثبات حكم الأصل بقياس بل معناه أنه عند اختلاف العلة لو تعرض لإثباته لكان بقياسين.
المصنف: (على منعه) أى منع الخصم.
المصنف: (فلا يقتل به الحر كالمكاتب) أى الذى ترك ما يفى بنجوم كتابته وله وارث غير السيد وقوله مثل تعليق الطلاق فلا يصح أى يلغو.
الشارح: (كما لو كان مجتهدًا) أى مثال لزوم المعترض القول بموجب الدليل ما إذا كان المعترض مجتهدًا فإنه إذا ظن وجود العلة فى الأصل بالدليل الذى أورده المستدل لزمه القول بموجب ذلك لأن ظنه مناط حكمه الشرعى بخلاف المقلد فإنه لا يلزمه القول بموجب الدليل إذا ظن ذلك إذ لا اعتداد بظنه فى درك الأحكام الشرعية ولا يجوز له مخالفة المجتهد بظن بطلان دليله وقوله والمناظر تلو الناظر جملة تذيلية بمنزلة دليل على أنه يلزم المعترض القول بموجب الدليل فإذا ظن أحد المتناظرين وهو مجتهد الصواب وجب عليه القول به فكيف إذا تظافرا.
قوله: (وهو أى القياس المركب بل اشتمال الحكم عليه) إنما فسر الضمير بالقياس لئلا يتوهم عوده على عدم كون الحكم ذا قياس مركب ثم قال اشتمال الحكم لأن الاستغناء بموافقة الحكم ليست هى القياس وقوله أن يستغنى أى ذو أن يستغنى.
قوله: (لاختلاف الخصمين فى تركيب الحكم. . . إلخ) فالمراد من التركيب البناء ومعنى مركب الأصل أن الحكم الذى هو الأصل فيه تركب مع علته فالمستدل حينما يجد الحكم فى الأصل متفقًا عليه يركب العلة عليه ويأخذها منه كى يقيس فرعه على الأصل لتلك العلة فرتب حكمه فى الفرع والمعترض يركب الحكم على العلة ويقول: إن هناك علة أوجبت ذلك الحكم فليس علته ما أخذه المستدل.
قوله: (وإنما سمى مركب الأصل لأنه يظن فى علة حكم الأصل) تحريف وصوابه لأنه خلاف فى علة حكم زعم أكثر المتكلمين حتى قالوا الأحكام ليست معللة بالمصالح أصلًا وقال بعضهم بمنع القياس واكتفى بعضهم بالطرد أى عدم مناسبة الوصف للحكم وإنما هو أمارة على الحكم وهو ممنوع فإن منفعة التعليل بالمصالح عائدة إليهم بل فرع الكمال وذلك أنه لما كان حكيمًا كان لا بد لأفعاله وأحكامه من غايات تترتب عليها ولما كان جوادًا محضًا رحمانًا رحيمًا ورحمته أن
يراعى مصالح عباده حكم على مقتضى الصالح فالأحكام المتعلقة باقتضاء المصالح فرع حكمته وجوده ومن لازم ذلك أن تكون رعاية الصالح فرع كماله وفقه المقام أنه لما كان من عنايته التى اقتضتها الرحمة والحكمة السعادة الأبدية للناس ناطها بأحكام معقولة القياس وذلك أنه لما أوجدهم أجسامًا عقلاء أوجب عليهم المعرفة بذاته وصفاته وسائر الاعتقادات تكميلًا لقواهم العقلية وفرض عليهم العبادات البدنية تعظيمًا وتكميلًا للقوة العملية وإذ من عليهم بالأموال النامية كلفهم بالغرامات المالية شكرًا وإذ قد خلقوا ضعفاء جعل الأنساب بينهم حقًا تحصيلًا للولاية حتى يبلغوا أشدهم فسن المناكحات وجاءت أحكامها ولما كانوا مدنيين بالطبع شرع بينهم العقود والفسوخ انتفاعًا ثم للأشياء مكملات ومحسنات فاستحسن اعتبارها تتميمًا انتهى من مسلم الثبوت وشرحه واعلم أن المراد كما يؤخذ من الشارح بالحكمة فى قول المصنف أى مشتملة على حكمة المصلحة ودفع المفسدة والمراد بها فى قوله وصفًا ضابطًا لحكمة الأمر المناسب الذى يلائم ترتب الحكم عليه والحكمة الأولى لابد من اشتمال العلة عليها بمعنى أن تترتب على الحكم المرتب عليها لكون تلك العلة مظنة لما يترتب عليه الحكم بخلاف الحكمة الثانية فإنها الباعث وقد اعتبر الشارع المظنة وإن لم توجد لأن المظنة لا يلزم اطرادها ولا انعكاسها والحكمة بمعنى المناسب لترتيب الحكم عليه هى التى اختلف فى جواز أن تكون علة وعدم الجواز وعلى هذا فالوصف الظاهر الضابط للحكم الذى اعتبر علة هو مظنة المناسب وليس هو المناسب ويكون تقسيم العلة إلى مناسب وغيره تقسيمًا فى الحقيقة للحكمة التى اشتمل عليها الوصف الظاهر هى العلة فى الحقيقة إلا أنها لم تعتبر لخفائها وعدم انضباطها فاعتبر مظنتها وهو الوصف الضابط لها فتأمل.
قوله: (لأنه خلاف فى نفس الوصف الجامع) أى هل هو موجود فى الأصلى كما عليه المستدل أو مفقود كما عليه المعترض يعنى وليس الاختلاف فى علة الوصف كما فى الأول بل على تقدير عليته فليس موجودًا فى الأصل وعلى تقدير وجوده يمنع حكم الأصل.
قوله: (وبه يظهر كلام المنتهى) أى الذى ذكره الشارح.
قوله: (وذهب الشارح المحقق. . . إلخ) وعليه فمعنى التركيب الاجتماع.
قوله: (ولا يخفى ما فيه) أى لأن مثله ليس من مركب القياس بل هو قياس صحيح.
قوله: (يعنى أنهما اتفقا على علية الوصف حتى لو تحقق القياس وثبت الاشتراك بين الأصل والفرع فى العلة كان مركب الوصف وإن كان فى الظاهر اتفاقًا من مجرد حكم الأصل دون الوصف) هكذا وجدناه فى النسخ التى بأيدينا والمناسب للمقام أن يقال يعنى أنهما اتفقا على علية الوصف تقديرًا حتى لو تحقق القياس وثبت الاشتراك بين الأصل والفرع فى العلة كان القياس صحيحًا غير مركب الوصف وإن كان فى الحقيقة اتفاقًا فى مجرد حكم الأصل فتأمل.
قوله: (فلا نسلم صحته) تحريف وصوابه عدم صحته.
قوله: (والمعهود. . . إلخ) أى منع وجود العلة فى الفرع.
قوله: (وبهذا يظهر. . . إلخ) أى ليشمل شهادة الاستعمال وإطباق أئمة العربية.
قوله: (عطف على قوله وثبوته على معنى أو معرف) تحريف وصوابه على معنى أو يعترف.
قال: (وكذلك لو أثبت الأصل بنص ثم أثبت العلة بطريقها على الأصح لأنه لو لم يقبل لم يقبل مقدمة تقبل المنع).
أقول: ما ذكرناه كله إذا لم يكن حكم الأصل مجمعًا عليه مطلقًا وقنع بإجماع الخصمين فإذا كان مجمعًا عليه فلا كلام فيه، وإذا لم يكن مجمعًا عليه مطلقًا ولا بين الخصمين بل حاول إثبات حكم الأصل بنص ثم أثبت العلة بطريق من طرقها من إجماع أو نص أو سبر أو إحالة فكذلك يقبل منه فى الأصح، وقيل: لا يقبل بل لا بد من الإجماع إما مطلقًا أو بين الخصمين كما ذكرنا وذلك لضم نشر الجدال.
مثاله: أن يقول فى المتبايعين: إذا كانت السلعة هالكة متبايعان تخالفا فيتحالفان ويترادان كما لو كانت قائمة لقوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان فليتحالفا ويترادا" فثبت الحكم بالنص، وعلته التحالف بالإيماء، لنا لو لم يقبل لم يقبل فى المناظرة مقدمة تقبل المنع واللازم باطل بيان الملازمة أن من يمنع ذلك ويشترط فى حكم الأصل الإجماع، إنما قال لئلا يحصل الانتقال من مطلوب إلى آخر وانتشار كلام يوجب تسلسل البحث ويمنع من حصول مقصود المناظرة، وهذا لا يختص حكم الأصل بل هو ثابت فى كل مقدمة تقبل المنع وربما يفرق بأن هذا حكم شرعى مثل الأول يستدعى ما يستدعيه بخلاف المقدمات الأخر، وبالجملة فهذه اصطلاحات ولكل نظر فيما يصطلح عليه لا يمكن المشاحة فيه.
قوله: (أو سبر) هو حصر الأوصاف وإبطال بعضها لتعيين الباقى أو إخالة هو تعيين العلة بمجرد إبداء المناسبة من ذات الأصل لا بنص ولا بغيره وسيأتى.
قوله: (فثبت الحكم) وهو التحالف والتراد بنص الحديث وثبت علية التحالف بالإيماء من النص إذ لو لم يكن اقترانه بالحكم للتعليل لكان بعيدًا وسيأتى.
قوله: (تسلسل) أى ترتب إثبات المقدمات إلى أن ينتهى إلى البديهيات، فيفوت المقصود لكثرة الوسائط.
قوله: (وربما يفرق) معنى قد يمنع الملازمة بناء على أن ما ذكره فى بيانها ليس بتام لأن حكم الأصل حكم شرعى مثل حكم الفرع يستدعى مثل ما يستدعيه من الأدلة والشرائط فيقبل طول المقام ونشر الجدال بخلاف مقدمات المناظرة فإنها قد
تنتهى سريعًا إلى الضروريات ولما كان فى هذا نوع ضعف أحال الأمر إلى الاصطلاح فيجوز أن يصطلح قوم على اشتراط الإجماع مطلقًا أو بين المتخاصمين كما اشترط الكرخى عند إثبات الأصل بالنص عدم مخالفة الأصول أو أحد أمور ثلاثة التنصيص على العلة أو الإجماع على التعليل مطلقًا أو موافقة أصول أخر وعثمان البتى قيام ما يدل على جواز القياس عليه بخصوصه وبشراطوبسى الإجماع عليه أو التنصيص على العلة والكل ضعيف على ما بين فى موضعه.
قوله: (ولما كان فى هذا نوع ضعف) وجهه أنه قد يكون مقدمة الدليل حكمًا شرعيًا وأيضًا تسلسل البحث كما يلزم فى الحكم الشرعى يلزم فى غيره فلا دخل لكونه حكمًا شرعيًا وقوله أحال الأمر إلى الاصطلاح أشار لضعفه أيضًا مسلم الثبوت بأنه لو أثبت الأصل أولًا ثم قاس قبل اتفاقًا فكذا العكس لأن المسافة واحدة صاعدًا ونازلًا وتعيين الطريق ليس من دأب المناظرين.
قال: (ومنها أن لا يكون دليل حكم الأصل شاملًا لحكم الفرع).
أقول: من شروط حكم الأصل أن لا يكون دليله شاملًا لحكم الفرع وإلا لم يكن جعل أحدهما أصلًا والآخر فرعًا أولى من العكس، ولكان القياس ضائعًا وتطويلًا بلا طائل، مثاله: فى الذرة مطعوم فلا يجوز بيعه بجنسه متفاضلًا قياسًا على البر، فيمنع فى البر فيقول: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا يدًا بيد سواءً بسواءٍ"(*)، فإن الطعام يتناول الذرة كما يتناول البر، وأنت تعلم مما ذكر أن دليل العلة إذا كان نصًا وجب أن لا يتناول الفرع بلفظه مثل أن يقول: النباش يقطع لأنه سارق كالسارق من الحى، فيقال: ولم قلت أن السارق من الحى إنما يقطع لأنه سارق؟ فيقول: لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، رتب القطع على السرقة بفاء التعقيب فدل على أنه المقتضى للقطع، كما سيأتى فيقال فهذا يوجب ثبوت الحكم فى الفرع بالنص فإن ثبوت العلة بعد ثبوت الحكم ولا مخلص للمستدل إلا منع كونه عامًا وسيأتيك لذلك زيادة بيان.
قوله: (وإلا لم يكن جعل أحدهما أصلًا) قد يجاب بأنه يجوز أن بكون دلالته أقوى فيكون بالأصالة أولى فإن تعاضد الأدلة مما يقوى الظن وقد كثر فى كتب الفقه إثبات حكم واحد بأنواع من الأدلة.
الشارح: (فإن ثبوت العلة بعد ثبوت الحكم) أى لأن النص قد أفاد أنها علة للحكم فيكون ثبوت الحكم قبل ثبوت العلة وإذا كان الحكم يثبت قبل ثبوت العلة فلا يثبت بالعلة حتى يكون فرعًا.
الشارح: (وسيأتيك لذلك زيادة بيان) هو ما سيجئ فى بحث شروط العلة أنه يجب أن لا يكون الدال عليها متناولًا لحكم الفرع لا بعمومه ولا بخصوصه لأنه يمكن إثبات حكم الفرع بالنص كما يمكن إثبات حكم الأصل به فالعدول عنه إلى القياس تطويل بلا فائدة لأنه يحتاج إلى إثبات حكم الأصل بالنص ثم العلة ثم وجودها فى الفرع ثم بيان ثبوت حكم الفرع بها والأول يحتاج إلى البحث عن سند النص ومتنه وإثبات حكم الأصل أيضًا يحتاج إليها.
(*) أخرجه مسلم (3/ 1211)(ح 1587).
قوله: (قد يجاب بأنه يجوز أن يكون دلالته أقوى) أى دلالة الدليل على حكم الأصل أقوى من دلالته على الفرع وهذا جواب عن قوله: وإلا لم يكن أحدهما أصلًا والآخر فرعًا وأما الجواب عن قوله ولكان قياسًا ضائعًا وتطويلًا بلا طائل فقد ذكره بعد بقوله: وبأن تعاضد الأدلة. . . إلخ. فكان حق المحشى أن يزيد بعد قوله قوله وإلا لم يكن أحدهما أصلًا لفظ. . . إلخ.
قال: (ومن شروط علة الأصل أن تكون بمعنى الباعث أى مشتملة على حكمة مقصودة للشارع، من شرع الحكم لأنها إذا كانت مجرد أمارة وهى مستنبطة من حكم الأصل كان دورًا).
أقول: ما تقدَّم شروط حكم الأصل وهذه شروط علة الأصل، ونعنى به ما يعلل به الحكم فى الأصل، فمنها: أن تكون بمعنى الباعث، لا أمارة مجردة ومعناها أن تكون مشتملة على حكمة مقصودة للشارع من شرع الحكم به من تحصيل مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تقليلها، لأنها لو كانت مجرد أمارة لم تكن لها فائدة إلا تعريف الحكم، وإنما يعرف بها الحكم إذا لم تكن منصوصة أو مجمعًا عليها وإلا عرف الحكم أيضًا بالنص أو الإجماع لا بها، فإن قوله: الحرمة فى الخمر معللة بالإسكار تصريح بحرمة الخمر فلا يكون قد عرف بالعلة بقى أن يعرف بها وهى مستنبطة وحينئذٍ يلزم الدور لأن المستنبطة لا تعرف إلا بثبوت الحكم فلو عرف ثبوت الحكم بها لزم الدور.
قوله: (ونعنى به) يريد أن العلة وإن أضيفت إلى الأصل فمعناها الحكم فى الأصل.
قوله: (لا أمارة مجردة) أى وصفًا طرديًا لا مناسبًا ولا شبيهًا له وإلا لزم الدور بيناه على ما ذكره الآمدى وجمهور الشارحين أن العلة تتفرع على حكم الأصل لكونها مستنبطة منه وإذا كانت مجردة لا فائدة لها سوى تعريف الحكم كان الحكم متفرعًا عليها فيلزم الدور واعترض عليه فى بعض الشروح بأن العلة إنما تتفرع على حكم الأصل والمتفرع على العلة إنما هو الحكم فى الفرع فلا دور وفساده واضح لأن الوصف إذا كان أمارة لحكم الأصل معرفًا له كان المتفرع عليه هو حكم الأصل وأيضًا لو كان معرفًا فالحكم الفرع دون الأصل والتقدير أنه ليس بباعث لم يكن للأصل مدخل فى الفرع بقى أنه لم لا يجوز أن يتفرع حكم الأصل عليها بناء على أنها معرفة لكنها لا تتفرع على حكم الأصل بل تكون منصوصة أو مجمعًا عليها فإرشاد المحقق فى أثناء التقرير إلى دفع ذلك بأن كونها مما يعرف الحكم لا يتصور إلا إذا كانت مستنبطة لأن التنصيص عليها أو الإجماع تصريح بالحكم فلا يصدق لأن الحكم إنما عرف بها وفيه بحث لأن كون الوصف معرفًا للحكم ليس
معناه أنه لا يثبت الحكم إلا به كيف وهو حكم شرعى لا بد له من دليل شرعى نص أو إجماع بل معناه أن الحكم ثبت بدليله ويكون الوصف أمارة بها يعرف أن الحكم الثابت حاصل فى هذه المادة مثلًا إذا ثبت بالنص حرمة الخمر وعلل بكونها مانعًا أحمر يقذف بالزبد كان ذلك أمارة على ثبوت الحرمة فى كل ما يوجد ذلك الوصف من أفراد الخمر وبهذا يندفع الدور والحاصل أن العلة تتوقف على العلم بشرعية الحكم بدليله والمتوقف على العلة هو معرفة ثبوت الحكم فى المواد الجزئية.
المصنف: (بمعنى الباعث) أى مشتملة على حكمه مقصودة للشارع من شرع الحكم فسر الباعث بذلك دفعًا لتوهم أنه بمعنى الغرض الذى يبعث الفاعل على الفعل ثم تفسير العلة بذلك مبنى على أن الأحكام مبنية على مصالح العباد دنيوية وأخروية تفضلًا منه تعالى على عباده فلزوم استكماله تعالى بتلك المصالح كما هو منشأ مصلحة أو مفسدة لأنه كما سيأتى هو المتوهم حتى يحتاج إلى نفيه، كما خص كونه مظنة بالصورتين الأخريين لأنه المتوهم فيحتاج إلى نفيه والظاهر كما قاله بعض الشارحين أنه إذا كان وجود ذلك الأمر الذى فرضنا التعليل بعدمه منشأ لمصلحة كان العدم ليس مقتضًا للحكم لا بذاته حتى يكون مناسبًا ولا بغيره حتى يكون مظنة لأنه مفوت للمصلحة وإذا كان منشأ لمفسدة كان العدم ليس مناسبًا وإنما يتوهم أنه مناسب لكونه دافعًا للمفسدة، وأما إذا كان وجوده ليس منشأ لمصلحة ولا مفسدة ولكنه ينافى المناسب كان العدم ليس مناسبًا ولا مظنة للمناسب وإنما يتوهم أنه مظنة لاستلزامه المناسب وإن كان لخفائه لا يصلح أن يكون مظنة وإذا كان وجوده وعدمه سواء لم يكن العدم مناسبًا ولا مظنة وإن كان يتوهم أنه مظنة لإمكان اجتماعه مع المناسب وقول المصنف: لم يصلح العدم مظنة لنقيضه أى نقيض ذلك الأمر المنافى للمناسب وذلك النقيض هو المناسب.
قوله: (فمعناها الحكم فى الأصل) المناسب أن يقول: فمعناها علة حكم الأصل وقوله: أى وصفًا طرديًا لا مناسبًا ولا شبيهًا له سيأتى أن الطردى هو ما وجوده كعدمه كما يقال الخل لا يبنى عليه القنطرة والمناسب هو الذى إذا عرض على العقول تلقته بالقبول والشبه هو الذى لا تثبت مناسبته إلا بدليل منفصل وقيل ما
يوهم المناسب وليس بمناسب واعلم أن كون الوصف شرع عنده الحكم لحصول المصلحة هو معنى مناسبته وذلك الوصف هو المناسب وكون الشارع قضى بالحكم عنده للحكمة هو معنى اعتبار الشارع لذلك الوصف ومعرفة ذلك الاعتبار مسالك العلة وطرقها.
قوله: (كان ذلك أمارة على ثبوت الحرمة فى كل ما يوجد فيه ذلك الوصف من أفراد الخمر) فيه أن الوصف عام معرف لكليهما أى حكم الأصل والفرع فلا وجه لجعل أحدهما أصلًا والآخر فرعًا.
قال: (ومنها: أن تكون وصفًا ضابطًا لحكمة لا حكمة مجردة لخفائها أو لعدم انضباطها ولو أمكن اعتبارها جاز على الأصح).
أقول: ومن شروط العلة: أن تكون وصفًا ظاهرًا منضبطًا فى نفسه حتى تكون ضابطًا للحكمة لا حكمة مجردة وذلك لخفائها كالرضا فى التجارة فنيط بصيغ العقود لكونها ظاهرة منضبطة أو لعدم انضباطها كالمشقة فإن لها مراتب لا تحصى وتختلف بالأحوال والأشخاص اختلافًا عظيمًا، ثم ليس كل مرتبة مناطًا ولا يمكن تعيين مرتبة منها إذ لا طريق إلى تمييزها بذاتها وضبطها فى نفسها فنيطت بالسفر فلو وجدت حكمة مجردة وكانت ظاهرة بنفسها منضبطة بحيث يمكن اعتبارها ومعرفتها جاز اعتبارها وربط الحكم بها على الأصح لأنا نعلم قطعًا أنها هى المقصودة للشارع واعتبر المظنة لأجلها لمانع خفائها واضطرابها، فإذا زال المانع من اعتبارها جاز اعتبارها قطعًا، وقيل لا يجوز وإلا لوقع من الشارع ولم يقع ولم يعتبر المظان بدونها وقد اعتبر كما فى الملك المرفه فى السفر وصاحب الصنعة الشاقة فى الحضر.
الجواب: المنع لانتفاء حكمة كذلك مما يقصده الشارع فى أحكامه والمظنة لا يجب اطرادها وانعكاسها كما سيجئ.
قوله: (وقيل لا يجوز) لوجهين: أحدهما: أنه لو جاز لوقع من الشارع للقطع بأنها إذا وجدت الحكمة التى هى المقصود الأصلى المطلوب بالذات من غير مانع ربط الشارع الحكم بها لا بمظنتها التى ربما توهم أنها المقصود واللازم منتف بحكم الاستقراء وثانيهما: أنه لو جاز لم يعتبر الشارع المظان عند تحقق خلوها عن الحكمة إذ لا عبرة بالمظنة فى مقابلة المئنة واللازم منتف لأنه قد اعتبرها حيث ناط الترخص بالسفر وإن خلا عن المشقة كسفر الملوك ولم ينطها بالحضر وإن اشتمل على المشقة كما فى الحمالين والملاحين فدل ذلك على أن المعتبر وجودًا وعدمًا هو المظنة دون الحكمة، والجواب عنهما: منع الملازمة مستندًا إلى انتفاء حكمة ظاهرة منضبطة من جملة ما يقصده الشارع فى أحكامه ولا خفاء فى أن وقوع اعتبار الشارع إياها وعدم اعتبار المظان الخالية عنها فرع وجودها وفرض الوجود لا يستلزم الوجود فلذا كان الواقع اعتبار المظنة دون الحكم وحين اعتبرت المظنة لم يرد سفر الملوك ولا حضر
الحمالين لأن مظنة الشئ لا يجب اضطرادها بمعنى إذا وجدت وجدت الحكمة ولا انعاكسها بمعنى إذا انتفت انتفت الحكمة على ما سيجئ عن قريب.
المصنف: (لا حكمة مجردة) المراد بالحكمة ههنا ما كان منشأ لترتب الحكم على الوصف الذى جعل علة لا المصلحة ودفع المفسدة المقصودان من ترتب الحكم على الوصف كالمشقة فإنها الواسطة فى جعل السفر علة لترتب الترخص عليه ودفع الضرر هو المقصود من ذلك.
قوله: (التى هى المقصود الأصلى) قد يتوهم من ذلك أن المراد بالحكمة ما قصد من تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة وليس كذلك كما علمت.
قوله: (وفرض الوجود لا يستلزم الوجود) أى والمعتبر هنا فرض الوجود.
قال: (ومنها: أن لا يكون عدمًا فى الحكم الثبوتى لنا لو كان عدمًا لكان مناسبًا أو مظنة وتقرير الثانية أن العدم المطلق باطل والمخصص بأمر إن كان وجوده منشأ مصلحة فباطل، وإن كان منشأ مفسدة فمانع وعدم المانع ليس علة وإن كان وجوده ينافى وجود المناسب لم يصلح عدمه مظنة لنقيضه لأنه إن كان ظاهرًا تعين بنفسه وإن كان خفيًا فنقيضه خفى ولا يصلح الخفى مظنة للخفى وإن لم يكن فوجوده كعدمه وأيضًا لم يسمع أحد يقول العلة كذا أو عدم كذا واستدل بأن لا علة عدم فنقيضه وجود وفيه مصادرة وقد تقدَّم مثله).
أقول: يجوز تعليل الحكم الثبوتى بالثبوتى كالتحريم بالإسكار، والعدمى بالعدمى كعدم نفاذ التصرف بعدم العقل، والعدمى بالوجودى كعدم نفاذ التصرف بالإسراف، وأما عكسه وهو تعليل الحكم الوجودى بالوصف العدمى ففيه الخلاف، والأكثر على جوازه، والمختار منعه، لنا لو كان العدم علة للحكم الثبوتى لكان مناسبًا أو مظنة، واللازم باطل بقسميه، أما الأولى وهى الملازمة فلأنه لا بد وأن تكون علة بمعنى الباعث فهى إما نفس الباعث وهو المناسب، أو أمر مشتمل عليه وهو المظنة، وأما الثانية وهو بطلان اللازم فتقريرها أن العدم المعلل به إما عدم مطلق أو عدم مخصص بأمر يضاف هو إليه أما العدم المطلق فواضح أنه لا يعلل به لعدم تخصصه بمحل وحكم واستواء نسبته إلى الكل، وأما العدم المخصص بأمر فلأنه إما أن يكون وجود ذلك الأمر منشأ لمصلحة أو لمفسدة، أو لا يكون فإن كان منشأ لمصلحة فباطل لأن اعتبار عدمه تفويت لتلك المصلحة، ولا يصلح مقصودًا، وإن كان منشأ لمفسدة فهو مانع وعدمه عدم المانع وعدم المانع ليس علة بل لا بد معه من مقتض يقال: أعطاه لعلمه ولفقره وسافر للعلم وللتجارة ولو علل شئ منها بعدم المانع لعد جنونًا وسخفًا هذا إذا كان وجوده منشأ لمصلحة أو لمفسدة حتى يكون عدمه مناسبًا وإن لم يكن كذلك حتى يكون عدمه مظنة فإما أن يكون وجوده منافيًا لمناسب أو لا فإن كان فهو بحيث يستلزم وجوده عدم المناسب ولا بد أن يستلزم عدمه وجود المناسب لتحصل الحكمة به وحينئذٍ يكون هو نقيض المناسب ويكون حاصله أنه كلما عدم نقيض المناسب فالحكم كذا ويجعل عدم نقيض المناسب مظنة لوجود المناسب وهذا لا يصح لأن نقيضه أعنى المناسب إن كان ظاهرًا أغنى عن المظنة بنفسه، وكان هو العلة بالحقيقة
وإن كان خفيًا فنقيضه وهو ما عدمه مظنة أيضًا خفى لأن النقيضين سيان فى الجلاء والخفاء ولذلك إنا كما نعلم وجود المحسوسات ضرورة نعلم عدمها كذلك فيكون عدم نقيضه أيضًا خفيًا والخفى لا يصلح مظنة للخفى، وإن لم يكن منافيًا لمناسب فالمناسب يحصل عند وجوده كما يحصل عند عدمه فيكون وجوده وعدمه سواء فى تحصيل المصلحة لا خصوصية لأحدهما به فلا يكون عدمه خاصة مظنة للمصلحة فلا يصلح علة وقد فرضناه علة هذا خلف، ولنوضح ذلك بمثال وهو أنه إذا قيل فى المرتد يقتل لعدم إسلامه فذلك إما لأن فى قتله مع الإسلام مصلحة فيلزم من اعتبار عدمه تفويتها، أو فيه مفسدة فغايته أن الإسلام مانع فما المقتضى لقتله وإلا فإما أن ينافى مناسبًا للقتل هو الكفر مثلًا، فإن كان الكفر ظاهرًا فليقل يقتل لأنه كافر وإن كان خفيًا فالإسلام كذلك فعدمه كذلك، ولا فرق ضرورة بين معرفة الكفر ومعرفة عدم الإسلام فى الخفاء، وإن كان لا ينافى مناسبًا إذ ليس الكفر هو المناسب، ولذلك قال مالك: يقتل، وإن رجع إلى الإسلام فالمناسب أمر آخر يجتمع مع الإسلام، فالإسلام وعدمه سواء فى تحصيل المصلحة فلا يكون عدمه مظنة، الحل المختار أنه ينافى مناسبًا قولك فيكون عدمه مظنة لنقيضه ممنوع، وإنما يلزم لو لم يكن ذلك المناسب هو العدم بعينه لجواز أن يكون تعليق الحكم بالعدم كالقتل فى مسألتنا بعدم الإسلام فيه المصلحة المقصودة وهو التزام الإسلام خوفًا من القتل، وإن أردت أمرًا وجوديًا مناسبًا فنختار أنه لا ينافيه قولك فوجوده كعدمه قلنا ممنوع إذ عدمه يستلزم المقصود ووجوده وإن لم يناف فلا يستلزم وإن شئت فاعتبر ذلك فى المثال المذكور، ولنا أيضًا أنه لم يسمع أحد يقول العلة كذا أو عدم كذا مع كثرة السبر والتقسيم، ولو كان صالحًا لسمع ولو قليلًا وقد يقال قد سمع فإنه لا فرق بين أن يقال علة الإجبار عدم الإصابة أو البكارة وعلة تصرف الولى فى مال موليه الجنون أو عدم العقل، والتعبير عن العلل العدمية بعبارات وجودية واقع، وعدمه بالعبارات العدمية مجرد دعوى وقد استدل بأن العلة وجودية فلا يتصف بها العدم، بيان أنها وجودية أن نقيضها وهو لا علة عدم لصدقه على المعدوم فهو وجود وإلا عدم النقيضان، وقد تقدَّم تقرير مثله فى مسألة الحسن والقبح مع جوابه من النقض بالإمكان وكون إثبات الوجود بصورة السلب مصادرة لجواز كونه ثبوتًا أو منقسمًا ويزاد هنا أنه يقتضى أن لا يعلل بالعدم أصلًا وتعليل العدمى بالعدمى جائز اتفاقًا.
قوله: (وأما العدم المخصص بأمر) تقرير الشارحين أن ذلك الأمر إما أن يكون وجوده منشأ لمصلحة أولًا وحينئذٍ إما أن يكون وجوده منشأ لمفسدة أو لا وحينئذٍ إما أن يكون منافيًا لمناسب أو لا فهذه أقسام أربعة يجب أن يبين امتناع أن يكون عدم ذلك الأمر مناسبًا أو مظنة على تقدير كل واحد منها ولا يكفى بيان امتناع كونه مناسبًا على الأولين ومظنة على الآخرين كما هو ظاهر كلام المصنِّف ثم استقبحوا جعل المنافى للمناسب قسيمًا لما هو منشأ لمفسدة لظهور أن لا تقابل بينهما وأوردوا اعتراضات مثل أنه يجوز أن يكون الوجود منشأ مصلحة والعدم منشأ مصلحة أرجح فيكون مناسبًا أو مظنة وأن يشغل عدم المانع على مصلحة فيكون علة وأن يكون أحد المتقابلين خفيًا دون الآخر وإنما يستحيل ذلك فى التضايف وأن ظهور المناسب لا ينافى أن يكون عدم المنافى مظنة غايته اجتماع العلتين والصنف يقول به ولو سلم أنه لا يكون مظنة فلم لا يجوز أن يكون مناسبًا فيجتمع مناسبان والشارح المحقق بالغ فى توضيح المقام على ما هو دأبه فى مظان الاشتباه مشير إلى دفع ما يحتاج إلى الدفع من الإشكالات وجرى على ما هو ظاهر كلام المتن من تخصيص بيان امتناع كون العدم مناسبًا بما إذا كان الوجود منشأ مصلحة أو مفسدة أو مظنة بما إذا كان الوجود منافيًا لمناسب أو ليس بمناف لأنه لو أريد بيان امتناع كونه مناسبًا أو مظنة على كل من التقديرات الأربع لما كان للشرطية القائلة بأنه لو كان عدمًا لكان مناسبًا أو مظنة كثير معنى إذ يكفى أن يقال لو كان عدمًا فإما أن يكون عدمًا مطلقًا أو مضافًا لكن لا يخفى ما فى الكلام من الإبهام ولا يصلح مقصودًا لأن تفويت المصلحة مفسدة وما قيل لعله يكون مصلحة أرجح مدفوع بأنه حينئذٍ يكون الوجود منشأ مفسدة لأن ترك المصلحة الراجحة مفسدة.
قوله: (ولو علل شئ منها) أى من الأحكام إشارة إلى أن كون عدم المانع غير صالح للعلية ضرورى.
قوله: (حتى يكون عدمه) أى عدم الأمر الذى وجوده منشا لمصلحة أو لمفسدة مناسبًا عليه إشكال ظاهر وهو أن ما يكون وجوده منشأ لمصلحة كيف يتصور أن يكون عدمه مناسبًا وقد سبق أن لا يصلح هذا فيما يكون وجوده منشأ لمفسدة أيضًا لما سبق من أن عدمه عدم مانع وهو لا يصلح أن يكون علة فضلًا عن أن يكون
مناسبًا والجواب أن المراد أن عدمه يكون مناسبًا بحسب التوهم والاحتمال فيحتاج نفيه إلى البيان وكذا قوله وإن لم يكن أى وجود الأمر كذلك أى منشأ لمصلحة أو لمفسدة حتى يكون عدم ذلك الأمر مظنة أى بحسب التوهم فيحتاج نفيه إلى البيان، وقد يجاب بأن الغرض أن كون العدم مناسبًا بذاته إنما يتصور إذا كان بالنظر إلى نفس العدم إذ لو كان بالنظر إلى ما يشمله العدم يكون مظنة فليس النظر إلى ذلك الوجود من كونه مصلحة أو مفسدة ولا أرى لهذا الكلام معنى.
قوله: (فإن كان) أى وجود ذلك الأمر منافيًا لمناسب لمشروعية ذلك الحكم فذلك الأمر بحيث يستلزم وجوده عدم المناسب تحقيقًا للمنافاة ويجب أيضًا أن يستلزم عدمه وجود المناسب لتحصل بذلك العدم الحكمة فيكون مظنة إذا كان ذلك الأمر بحيث يستلزم وجوده عدم المناسب وعدمه وجود المناسب كان ذلك الأمر يقتضى المناسب نظرًا إلى أن المساوى للنقيض فى حكم النقيض.
قوله: (لأن نقيضه) أى نقيض ذلك الأمر الذى هو نقيض المناسب ولا خفاء فى أن نقيض نقيض المناسب عين المناسب فلذا قال أعنى المناسب إن كان ظاهرًا أى وصفًا منضبطًا ظاهرًا بحيث يصلح لترتب الحكم عليه.
قوله: (فيكون وجوده وعدمه سواء) لأن المفروض أن وجوده ليس منشأ لمصلحة ولا لمفسدة وبهذا تظهر فائدة تقييد هذا التقسيم أعنى كون وجوده منافيًا لمناسب أو ليس منافيًا بما إذا لم يكن وجوده منشأ لمصلحة أو مفسدة وجعله بحيث يقابله.
قوله: (فلا يصلح) أى عدمه علة.
قوله: (فى قتله) مع الإسلام مصلحة ظاهرة غير مطابق للممثل له لأنا فرضنا التعليل بعد الإسلام فينبغى أن يقال فى الإسلام مصلحة لكن قد سبق أن معنى الباعث أن يكون مشتملًا على حكمة مقصودة للشارع فى شرع الحكم من تحصيل مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تقليلها وحاصله أن فى شرعية الحكم لأجله وترتبه عليه تحصيل مصلحة مثلًا كالإسكار، فإن تحريم الخمر مع الإسكار مصلحة وليس المقصود أن فى الإسكار مصلحة فلتتنبه لذلك فإن كثيرًا من الأمثلة من هذا القبيل فكذا ههنا معنى كون الإسلام منشأ لمصلحة أن فى إيجاب القتل معه صحة، وأما فى جانب المنافى للمناسب فقد جرى على ما هو الظاهر حيث قال وإلا أى، وإن لم يكن فى قتله مع الإسلام مصلحة ولا مفسدة فإما أن يكون الإسلام منافيًا
مناسبًا للقتل هو الكفر مثلًا أو لا يكون فإن كان فوجود الإسلام يستلزم عدم الكفر تحقيقًا للمنافاة وعدمه يستلزم وجوده تحصيلًا للحكمة فالإسلام نقيض الكفر المناسب وعدمه الذى هو المظنة لوجود المناسب عدم نقيض المناسب فالكفر إن كان ظاهرًا منضبطًا كان هو العلة لا عدم نقيض الكفر وإلا فالإسلام الذى هو نقيضه أيضًا غير ظاهر منضبط فعدمه الذى هو نقيضه أيضًا كذلك فلا يصلح للعلية فإن قيل فقد جعلتم للإسلام نقيضين الكفر وعدم الإسلام قلنا أحدهما حقيقه النقيض والآخر مساويه بحسب الفرض وإن لم يكن الإسلام منافيًا لمناسب القتل بناء على أن المناسب ليس هو الكفر بل أمر آخر لا ينافيه الإسلام فلا يكون فى عدم الإسلام تحصيل مصلحة له فلا يصلح مظنة.
قوله: (الحل) إشارة إلى أن ما ذكره مغلطة حلها أنا نختار أن ذلك أمر الذى يضاف إليه العدم كالإسلام فى المثال ينافى مناسبًا ولا يلزم ما ذكر من جعل عدم نقيض المناسب مظنة المناسب لجواز أن يكون عدم نقيض المناسب وهو عدم الإسلام نفس المناسب بأن يتعلق به إيجاب القتل ويحصل بذلك المقصود الذى هو إلزام الإسلام وإن أردتم أن هناك أمرًا آخر وجوديًا هو المناسب نختار أن ذلك الأمر الذى يضاف إليه العدم وليس منافيًا له بل يجامعه ولا يلزم ما ذكرتم من أن وجود ذلك الأمر أعنى الإسلام وعدمه سواء فى تحصيل المصلحة بل عدم الإسلام أعنى ترتب القتل على عدم الإسلام يستلزم المصلحة التى هى التزام الإسلام، ووجود الإسلام أعنى القتل مع الإسلام لا يستلزمها كما أنه لا ينافيها.
قوله: (ولو كان صالحًا لسمع) لم يلتفت إلى منع الملازمة لكونه لزومًا عاديًا بل أشار إلى منع انتفاء اللازم بقوله وعدمه أى عدم وقوع التعبير عن العلل بالعبارات العدمية مجرد دعوى.
قوله: (وقد تقدَّم) حيث استدل على وجودية الحسن بأن نقيضه لا حسن وهو عدمى لصدقه على المعدوم وأما النقيض بالإمكان فعلى تقرير الشارحين أن هذا الدليل يقتضى وجودية الإمكان مع أنه عدمى بالاتفاق وعلى تقرير المحقق أنه يقتضى أن لا يتصف العدم بالإمكان وهو باطل وأما كون إثبات الوجود بصورة السلب مصادرة فعلى تقريرهم أن صورة السلب قد تكون وجودًا كاللاعدم وقد تكون منقسمًا كاللاممكن، وإنما يكون سلبًا لو كان ما دخله النفى وجودًا فإثبات
وجوديته بكون صورة النفى سلبًا دور ومصادرة على المطلوب حيث صار المدعى جزءًا من الدليل وعلى تقريره أن ما دخله النفى قد يكون ثبوت أمر لأمر كاللامتناع وقد يكون منقسمًا كاللامعلوم ولا يلزم كونه وجودًا إلا إذا ثبت أن السلب ليس من أحد القبيلين بل هو سلب لوجود وهو مصادرة.
المصنف: (لكان مناسبًا أو مظنة) الترديد بينما بناء على أن العلة إما هى الوصف المناسب وإما مظنته ثم إن المناسب على تقرير الشارح كما هو ظاهر المصنف فيما إذا كان وجود الأمر الذى جعل عدمه علة منشأ مصلحة أو مفسدة والمظنة فيما إذا لم يكن وجوده كذلك لكنه ينافى وجود المناسب، وإنما خص كونه مناسبًا بما إذا كان وجوده الأصل أى أن التركيب جاء من الاختلاف فى علة حكم الأصل لأن المستدل يعلل بعلة يمنعها المعترض بعلة أخرى.
الشارح: (ولا يصلح مقصودًا) أى لأنا تتبعنا أحكام الشارع فوجدنا أن نظر الشارع فى مشروعية الأحكام إلى تحصيل المصالح ودفع المفاسد لا تفويت المصالح.
الشارح: (أو لمفسدة حتى يكون عدمه مناسبًا) أرجع بعض الحواشى قوله حتى يكون عدمه مناسبًا لقوله أو لمفسدة لا له وللمعطوف عليه لأن العدم فى المعطوف عليه مفوت للمصلحة فلا يتوهم كونه مناسبًا.
الشارح: (فإنه لا فرق. . . إلخ) يعنى قد سمع التعليل بالأمر العدمى معبرًا عنه بعبارة وجودية لا فرق بين أن يعبر عن العلل العدمية بعبارات وجودية أو بعبارات عدمية فحينئذ قد وقع العدم علة وعدم وقوع التعبير بالعبارات العدمية مجرد دعوى.
الشارح: (فلا يتصف بها العدم) أى لأن الوجودى لا يكون وصفًا للعدمى.
الشارح: (وإلا عدم النقيضان) أى وأن لا تكن العلة وجودًا بأن انتفى الوجود عنها والفرض أن العدم انتفى عنها أيضًا لأنه نقيضها فقد ارتفع عنها الوجود والعدم وهما نقيضان لا يصح ارتفاعهما.
قوله: (ثم استقبحوا جعل المنافى للمناسب قسيمًا لما هو منشأ المفسدة) سيأتى رده وسيأتى الكلام عليه.
قوله: (مثل أنه يجوز أن يكون الوجود منشأ مصلحة. . . إلخ) سيأتى رده بأنه
حينئذ يكون الوجود منشأ مفسدة.
قوله: (لكن لا يخفى ما فيه من الإبهام) أى حيث لم يبين وجه اختصاص الأولين بالمناسب والآخرين بالمظنة.
قوله: (أن كون العدم مناسبًا بذاته) أى لا بواسطة غيره حتى يكون هو مظنة.
قوله: (ولا أرى لهذا الكلام معنى) أى لأن النظر فى نفس العدم غير صحيح ولا يترتب عليه أن يكون مناسبًا بذاته والنظر إلى وجود الشئ الذى فيه مصلحة أو مفسدة لا يوجب كونه مظنة.
قوله: (لأن المفروض أن وجوده ليس منشئًا لمصلحة ولا مفسدة) أى وبهذا الفرض صح أن يكون من أقسام هذا المفروض ما يكون وجوده وعدمه سواء قوله وبهذا تظهر فائدة تقييم القسيم أى القسيم لما وجوده منشأ لمصلحة أو مفسدة يعنى بكون المفروض ذلك تظهر فائدة التقييد المذكور فيندفع الاعتراض باستقباح جعل المنافى قسيمًا لما فيه مفسدة لظهور أن لا تقابل بينهما وفيه أن الاعتراض به غير مدفوع بهذا الفرض لأنه لا وجه له إلا أن يقال: إن وجه ذلك الفرض أن ما وجوده مناف للمناسب إذا كان فيه مفسدة فهو داخل فيما وجوده منشأ لمفسدة فنفرض المقابل فى غيره.
قوله: (فإن تحريم الخمر) تحريف وحقه فإن فى تحريم الخمر.
قوله: (هو إلزام الإسلام) تحريف والأصل هو التزام الإسلام وقوله وليس منافيًا له تحريف والأصل إسقاط الواو.
قوله: (فعلى تقرير الشارحين أن هذا الدليل يقتضى وجودية الإمكان مع أنه عدمى بالاتفاق) قد نقله فيما تقدم واعترض عليه حيث قال: وكلام بعض الشارحين هو أن الاعتراض الأول نقض إجمالى للدليلين المذكورين على كون الحسن وجوديًا فإنما يجربان فى الإمكان بأن يقال نقيضه لا إمكان وهو سلب لما ذكر وأيضًا لو كان الإمكان عدميًا لم يكن وصفًا ذاتيًا للممكن مع أن كون الإمكان ثبوتيًا باطل بالاتفاق وهذا مع فساده وابتنائه على الفاسد لا يوافق كلام الأصل. . . إلخ.
قوله: (وعلى تقرير المحقق يقتضى أن لا يتصف العدم بالإمكان) أى لأن الإمكان وجودى بدليل أن اللامكان سلب وإذا كان وجوديًا فلا يكون وصفًا للعدم.
قال: (قالوا: صح تعليل الضرب بانتفاء الامتثال قلنا بالكف، وأن لا يكون العدم جزءًا منها، قالوا: انتفاء معارضة المعجز جزء من المعرف لها وكذلك الدوران وجزؤه عدم قلنا شرط لا جزء).
أقول: للخصم حجتان:
قالوا: أولًا: صح تعليل الضرب بانتفاء الامتثال مع أن الضرب ثبوتى وانتفاء الامتثال عدمى. قلنا: لا نسلم صحته، بل التعليل ثم بالكف عن الامتثال وهو أمر ثبوتى محقق.
قالوا: ثانيًا: معرفة كون المعجز معجزًا أمر وجودى وهو معلل بالتحدى بالمعجزة مع انتفاء المعارض، فهذه علة جزؤها عدم وما جزؤه عدم فهو عدم، وقد علل به وجودى فبطل سلبكم الكلى، وكذلك الدوران علة لمعرفة كون المدار علة وهى وجودية، والدوران عدمى لأنه عبارة عن الوجود مع الوجود والعدم مع العدم فأحد جزأيه عدم فهو عدم.
الجواب: العدم فى الصورتين شرط لا جزء ولا يخفى أن نفس التحدى لا يستقل بتعريف المعجز.
قوله: (قالوا ثانيًا) ذكر الآمدى أنه إذا عرف امتناع تعليل الوجود بالعدم المحض فبمثله يعلم امتناع كون العدم جزءًا من علة الوجودى والوجه فى الاعتراض والجواب كما تقدَّم ويخصه اعتراض وهو أن عدم المعارضة جزء من المعرف لكون المعجزة معجزة، والعدم عند العدم جزء من الدوران المعرف لعلية المدار والجواب أنا لا نسلم أن العدم فى الصورتين جزء من المعرف بل شرطًا ولما كان العدمى أعم من أن يكون عدمًا محضًا أو أحد جزأيه وجودًا عد المصنِّفُ ذلك الاعتراض من أدلة القائلين بأن الوجود يعلل بالعدمى وذكر بعض الشارحين أن المراد من شروط العلة أن لا يكون العدم جزءًا من علة الوجود وهو مصرح فى بعض النسخ ولا خفاء فى أن التعريف لا يحصل إلا بمجموع الأمرين ولا نعنى بكون العدم جزءا له سوى هذا وهذا هو المراد بقوله ولا يخفى أن نفس التحدى لا يستقل بتعريف المعجز بمعنى أن لا يكون لشئ آخر مدخل فى التعريف ولم يصرح بأمر الدوران لأن الجزئية فيه أظهر.
المصنف: (انتفاء المعارضة جزء من العرف لها) أى للمعجزة لأنها الأمر الخارق للعادة مع التحدى وانتفاء المعارضة للمعجز.
قوله: (فبمثله يعلم امتناع كون العدم جزءًا من علة الوجودى) أى لما ذكره الشارح من أن الذى جزؤه عدم فهو عدم وقوله والوجه فى الاعتراض والجواب ما تقدم أما الاعتراض فهو أن الضرب علل بانتفاء الامتثال وأما الجواب فهو أن التعليل ثم بالكف عن الامتثال. . . إلخ.
قوله: (وهو أن عدم المعارضة. . . إلخ) أى فقد وقع التعليل بما جزؤه عدم.
قوله: (ولا خفاء. . . إلخ) رد لقوله بل شرط.
قال: (وأن لا تكون المتعدية المحل ولا جزءًا منه لامتناع الإلحاق بخلاف القاصرة، والقاصرة بنص أو إجماع صحيحة باتفاق، والأكثر على صحتها بغيرهما كتعليل الربا فى النقدين بجوهريهما خلافًا لأبى حنيفة رضى اللَّه عنه لنا أن الظن حاصل بأن الحكم لأجلها وهو المعنى بالصحة بدليل صحة المنصوص عليها واستدل لو كانت صحتها موقوفة على تعديتها لم تنعكس للدور، والثانية اتفاق وأجيب بأنه وقف معينة. قالوا: لو كانت صحيحة لكانت مفيدة والحكم فى الأصل بغيرها ولا فرع، ورد بجريانه فى القاصرة بنص وبأن النص دليل الدليل وبأن الفائدة معرفة الباعث المناسب فيكون أدعى إلى القبول وإذا قدر وصف آخر متعد لم يتعد إلا بدليل على استقلاله).
أقول: العلة تنقسم إلى متعدية تتعدى الأصل فتوجد فى غيره وإلى قاصرة لا تتعداه، أما المتعدية فيشترط فيها أن لا تكون هى المحل أو جزءًا للمحل حقيقة إذ لا يتصور تعديتهما، وأما الجزء المحمول الأعم فلا يسميه المتكلم جزءًا بل وصفًا نفسيًا، وأما القاصرة إن جوزت فقد تكون المحل أو جزأه إذ لا مانع، بقى النظر فى القاصرة فى جواز التعليل بها وعدمه أما إذا كان ثبوتها بالنص أو الإجماع فيصح اتفاقًا، وإن كان بغيرهما من مسالك العلية كالمناسبة والسبر فالأكثر على صحتها، مثاله تعليل حرمة الربا فى النقدين بجوهريهما، أى بكونهما ذهبًا وفضة، وهو نفس المحل أو بجوهريتهما أى بكونهما جوهرى الثمن وهو وصف قاصر، وخالف فى ذلك أبو حنيفة رضى اللَّه عنه، لنا أن الظن حاصل بأن الحكم لأجلها لأنه المفروض وهو معنى صحة التعليل بها بدليل صحة المنصوص عليها اتفاقًا وإن لم يفد النص إلا الظن فلو كان معنى التعليل القطع بأن الحكم لأجلها لما جاز ذلك أيضًا واستدل بأنه لو كانت صحة العلية موقوفة على تعديتها لم تكن تعديتها موقوفة على صحتها لامتناع الدور واللازم منتف للاتفاق على توقف التعدية على ثبوت العلية الموقوف على صحتها.
والجواب: منع الملازمة قولك يلزم الدور، قلنا نعم لكنه دور المعية لا دور تقدم، وأنه جائز بيانه أن العلة لا تكون إلا متعدية لا أن كونها متعدية ثبتت أولًا ثم تكون علة والمتعدية لا تكون إلا علة لا أنها تكون علة ثم علة متعدية وهو واضح وقد يجاب أيضًا بأن التعدية شرط العلية بمعنى وجود الوصف فى غيره
ومشروطة بها بمعنى وجود الحكم به فى غيره فذلك غلط نشأ من الاشتراك.
قالوا: لو كانت العلة القاصرة صحيحة لكانت مفيدة لأن إثبات ما لا فائدة فيه لا يصح شرعًا ولا عقلًا لكنها غير مفيدة لأن فائدتها منحصرة فى إثبات الحكم بها وهو منتف وإلا فإما فى الأصل أو فى الفرع؛ أما الأصل فالحكم فيه ثبت بغيرها من نص أو إجماع، وأما الفرع فالمفروض أنه لا فرع.
الجواب: أولًا: النقض بالقاصرة إذا ثبتت بنص أو إجماع فإن هذا الدليل بعينه يجرى فيها مع جوازه اتفاقًا، وثانيًا: بأنا لا نسلم أن الحكم فى الأصل عرف بغير العلة بل عرف بالعلة والنص دل على كونه دليلًا فإذا قال جوهر الثمن ربوى فقد عرف كون النقدين ربويين بكون الربوية معللة بجوهربة الثمن والنص دليل الدليل، وثالثًا: بأنا لا نسلم حصر الفائدة فى معرفة الحكم بل ههنا فائدتان أخريان: إحداهما: معرفة الباعث المناسب فإن الحكم إذا عرف كذلك كان أقرب إلى القبول والإذعان من التعبد المحض، وثانيتهما: أنه إذا قدر وصف آخر متعد وقد علمت قاصرة جاز أن يكرنا جزأى العلة فلا تعدية وأن يكون كل مستقلة فتحصل التعدية، وإذا جاز الأمران فلا تعدى إلا بدليل يدل على كونه مستقلًا لا جزءًا، وقد يدفع هذا بأن الاستقلال يترجح بالتعدية فلا توقف.
قوله: (جزءًا للمحل حقيقة) أى تركب محل الحكم منه ومن غيره بحيث يكون كل منهما متقدمًا عليه فى الوجود لا يحمل عليه أصلًا فلا حاجة إلى تقييد الجزء بالمختص لأن ما يكون جزءًا لشئ حقيقة لا يكون إلا كذلك مثلًا الخل الذى هو من السكنجبين حقيقة لا توجد فى غيره وأما مطلق الخل الذى يوجد فيه وفى غيره فليس جزءًا منه حقيقة وبهذا يخرج الجزء المحمول الأعم أيضًا على أنه لا يسمى باصطلاح المتكلمين جزءًا بل صفة نفسية وكذا المساوى لما سبق من تفسير الصفة النفسية، وإنما خص الأعم بالذكر لتصريح الآمدى بأن الحق التفصيل وهو أنه لا يكون نفس المحل ويجوز أن يكون غيره لاحتمال كونه أعم.
قوله: (بجوهريهما) أى ذاتيهما وحقيقتيهما وفى بعض نسخ المتن بجوهريتهما، أى كونهما جوهرتين مثقبتين لثمنية الأشياء.
قوله: (وإن لم يفد النص إلا الظن) لأن المراد ما يقابل الإجماع ويشمل الكتاب
والسنة بأقسامهما لا ما يقابل الظاهر حتى يكون قطعيًا البتة وخص البيان بالمنصوص عليها لأن المجمع عليها لا تكون إلا قطعية ومن معكوس الكلام ما ذكره العلامة من أنه مثل المعنى بصحة القاصرة وحصول اليقين بأن الحكم لأجلها قلنا هذا وإن سلم حصوله فى المنصوصة فلا نسلم فى المجمع عليها إذ الإجماع لا يفيد اليقين.
قوله: (فذلك) أى توهم لزوم الدور غلط من اشتراك لفظ التعدية بين ثبوت الوصف فى محل آخر وبين ثبوت الحكم به فى محل آخر والموقوف على العلية هو الثانى والموقوف عليه هو الأول.
قوله: (بل عرف بالعلة) لا خفاء فى ضعف هذا المنع والسند فإن الحكم الشرعى لا يثبت إلا بدليل شرعى والعلة لا تستنبط إلا بعد معرفة الحكم بدليله.
قوله: (وقد يدفع هذا) وإن كان كلامًا على السند لكنه قوى، فإن الأصل فى العلة التعدية لكثرة فائدتها والاتفاق على صحتها وقد يعارض بأن اجتماع العلتين مختلف فيه ولو سلم فالأصل عدمه.
الشارح: (وقد يدفع هذا) أى قوله وثانيتهما. . . إلخ.
قوله: (وبهذا يخرج الجزء المحمول الأعم) أى لأنه لا يتقدم فى الوجود على كله وقوله أيضًا أى كما خرج الجزء الأعم الخارجى نحو مطلق الخلل وقوله وكذا المساوى لما سبق من تفسير النفسية أى بأنها ما لا تعقل الذات إلا بها فهو كالجزء الأعم المحمول.
قوله: (وإنما خص الأعم بالذكر لتصريح الآمدى. . . إلخ) أى أن الجزء المساوى كالجزء الأعم وإنما خص الشارح الأعم بالذكر متابعة للآمدى.
قوله: (ومن معكوس الكلام. . . إلخ) أى لأنه جعل اليقين موضع الظن والظن موضع اليقين.
قوله: (وإن كان كلامًا على السند) لعل الأصل وهو وإن كان كلامًا على السند وقوله وقد يعارض أى ما ذكره من قوله وثانيتهما فقد توجه عليه المنع والمعارضة مع كونه كلامًا على السند واعلم أن الخلاف فى جواز التعليل بالقاصرة المستنبطة قيل: إنه لفظى لأن التعليل باصطلاح الحنفية هو القياس والقاصرة إبداء حكمة
ولا يسمى ذلك الإبداء تعليلًا لمرادفة التعليل باصطلاحهم للقياس ولا يقاس فى القاصرة، والجمهور أرادوا بالتعليل إبداء المناسب واستخراجه فحكموا بصحة التعليل به ولا يجعلون التعليل مرادفًا للقياس فلا خلاف فى المعنى للاتفاف على عدم القياس فى العلة القاصرة وإنما الخلاف فى تسمية استخراج المناسب تعليلًا لأن التعليل لا يخص القياس أو لا يسمى تعليلًا لأن التعليل هو القياس وقيل: إن الخلاف معنوى مبنى على اشتراط التأثير فى العلة كما ذهب إليه الحنفية فيلزم فى العلة المستنبطة أن تكون متعدية وعدم اشتراط التأثير والاكتفاء بالإخالة كما هو مذهب الجمهور فلا يلزم فى العلة المستنبطة التعدية لا يقال: إن العلة القاصرة عند الحنفية يجوز أن يكون لجنسها تأثير فى جنس الحكم فلا ينفع البناء على التأثير لأنا نقول المقصود أن المراد بالتعدية ما يوجد هو أو جنسه فى غير الأصل وبالقاصرة ما لا يوجد هو ولا جنسه فيه بل يختص بالأصل والتعدية لعينه أو لجنسه لازمة على تقدير التأثير بخلاف الإخالة وحينئذ صح البناء وهذا بالحقيقة تحرير للمسألة لتكون محلًا للنزاع ولا تؤول إلى النزاع اللفظى الذى يبعد كل البعد صدوره عن المحصلين. اهـ ملخصًا من مسلم الثبوت وشرحه.
قال: (وفى النقض وهو وجود المدعى علة مع تخلف الحكم، ثالثها يجوز فى المنصوصة لا المستنبطة، ورابعها عكسه، وخامسها يجوز فى المستنبطة وإن لم يكن لمانع ولا عدم شرط، والمختار إن كانت مستنبطة لم يجز إلا لمانع أو عدم شرط لأنها لا تثبت عليتها إلا ببيان أحدهما لأن انتفاء الحكم إذا لم يكن ذلك لعدم المقتضى وإن كانت منصوصة فبظاهر عام فيجب تخصيصه كعام وخاص، ووجب تقدير المانع، لنا لو بطلت لبطل المخصص وأيضًا جمع بين الدليلين ولبطلت القاطعة كعلل القصاص والجلد وغيرهما).
أقول: قد يعد من شروط العلة أن تكون مطردة أى كلما وجدت وجد الحكم وعدمه يسمى نقضًا وهو أن يوجد الوصف الذى يدعى أنه علة فى محل ما مع عدم الحكم فيه وتخلفه عنها، وقد اختلف فى جواز النقض أى كونه غير قادح فى العلية فيبقى معه ظن العلية على مذاهب: أولها: يجوز مطلقًا، ثانيها: لا يجوز مطلقًا، ثالثها: يجوز فى المنصوصة دون المستنبطة، رابعها: يجوز فى المستنبطة بمانع أو عدم شرط دون المنصوصة، خامسها: يجوز فى المستنبطة ولو بلا مانع أو عدم شرط دون المنصوصة والمختار هذا التفصيل وهو أنها إن كانت مستنبطة لم يجز إلا بمانع أو عدم شرط لأن العلية لا تثبت عند التخلف إلا ببيان أحدهما لأن انتفاء الحكم إذا لم يكن لمانع ولا عدم شرط فهو لعدم المقتضى قطعًا فلو كان الوصف مقتضيًا لثبت الحكم فى صورة النقض ولم يثبت فليس مقتضيًا وإن كانت منصوصة فلا تكون بقاطع فى خصوصية محل النقض وإلا ثبت الحكم ولا فى غيره وإلا فلا تعارض وانما يكون بظاهر عام وحينئذٍ يجب تخصيصه بغير صورة النقض لأن ذلك النص عام يدل على العلية فى محل النقض وغيره وعدم الحكم خاص يدل على عدم العلية فى محل النقض وإذا تعارض عام وخاص فقد علمت أن الواجب تخصيص العام مثاله أن مجئ الخارج النجس ناقض للوضوء ثم يثبت أن الفصد لا ينقض فيحمل على غير الفصد وأنه لم يرد بالعموم ووجب تقدير مانع يمنع من العلية ثمة وإن كنا لا نعلمه بعينه لئلا يلزم الحكم بدون العلة فإن فيه إبطال العلية لما ذكرنا أن الحكم بدونهما لعدم المقتضى فيبطل الاقتضاء وحاصل هذا المذهب أنه لا بد من مانع أو عدم شرط لكن فى المستنبطة يجب العلم بعينه وإلا لم يظن العلية وفى المنصوصة لا يجب ويكفى فى ظن العلية تقديره وفى
الصورتين لا تبطل العلية بالتخلف، لنا لو بطلت العلية بالتخلف لبطل المخصص مطلقًا واللازم منتف بيان اللازمة أنه ليس إلا مخصصًا لعموم دليل كونه علة وخصوصية هذا المدلول ملغى قطعًا فانتفى الفرق بينه وبين سائر المخصصات فلو لم يجز لم يجز شئ منها ولنا أيضًا أنه جمع بين الدليلين؛ دليل الاعتبار إذ يعمل به فى غير صورة النقض ودليل الإهدار إذ يعمل به فى محله وهو صورة النقض فوجب المصير إليه كغيره، ولنا أيضًا لو بطلت لبطلت العلل القاطعة كعلة القصاص وهو القتل العمد العدوان للتخلف فى الوالد، وكعلة الجلد وهى الزنى للتخلف فى المحصن، وعلة القطع وهو السرقة للتخلف فى مال الابن والغريم إلى غير ذلك واللازم باطل، بيان الملازمة أن الفروض منافاة التخلف للعلية إذ لولاه فلا مانع من صحة المظنونة.
قوله: (بمانع أو عدم شرط) لا بد من التقييد بذلك ليتميز عن الخامس ولا خفاء فى أن عكس الثالث بالتحقيق هو الخامس فكان الأولى بالمصنف أن يقول رابعها عكسه خامسها يجوز فى المستنبطة بمانع أو عدم شرط دون المنصوصة.
قوله: (إذا لم يكن مانع) الموافق لهذا التفسير أن يكون لفظ المتن إذا لم يكن بذلك لكنه فى النسخ إذا لم يكن ذلك أى إذا لم يتحقق وجود مانع أو عدم شرط على أن كان تامة.
قوله: (وإلا ثبت الحكم) ضرورة ثبوت الحكم عند ثبوت علته قطعًا.
قوله: (ولا فى غيره) أى غير محل النقض وإلا فلا تعارض لأن النص القاطع إنما دل على عليته فى غير محل النقض ويختلف الحكم إنما دل على عليته فى محل النقض ولا تعارض عند تغاير المحلين وحيث لا تعارض لا نقض لأن معناه أن الدليل دل على علية الوصف فيه ويختلف الحكم دل على عدم عليته فيه ولا خفاء فى أنه لو ثبت العلية فى غير محل النقض خاصة بظنى فلا تعارض أيضًا وإنما يكون النقض والتعارض إذا ثبتت العلية فيهما جميعًا بظاهر عام، فيدل بعمومه على العلية فى محل النقض وغيره ويعارضه عدم الحكم فى محل النقض لدلالته على عدم العلية فيه فيجب تخصيص العام به وبهذا يظهر أن معنى عدم التعارض عند اختصاص النص بغير محل النقض ما ذكرنا لا ما يقال: إن التخلف
فى صورة النقض إما بظنى فلا تعارض لأن الظنى لا يعارض القطعى وإما بقطعى فلا يعارضه أيضًا لأن القطعيين لا يتعارضان فليتأمل.
قوله: (ووجب تقدير مانع) اكتفى به اقتداء بالمتن والمراد ما يعم انتفاء الشرط فإنه أيضًا مانع.
قوله: (لبطل المخصص) على لفظ اسم المفعول وكذا سائر المخصصات، وقوله: أنه أى التخلف ليس إلا مخصصًا على لفظ اسم الفاعل وخصوصية هذا المدلول هو كون الوصف علة وحاصله أن الدليل العام للحكم يجوز تخصيصه سواء كان المخصص هو العلية أو حكمًا آخر سواها.
قوله: (العلل القاطعة) يعنى التى حصل القطع بعليتها فى غير صورة النقض بطريق الإجماع والاتفاق بعد دلالة النص على عليتها بطريق الظن عمومًا.
المصنف: (والمختار إن كانت مستنبطة. . . إلخ) هو مذهب سادس وقيل هو قول الأكثر القائل بالجواز مطلقًا أى منصوصة أو مستنبطة وقوله: لا تثبت عليتها إلا ببيان أحدهما أى لا تثبت عليتها فى غير صور النقض عند التخلف إلا ببيان أن التخلف لمانع أو فقد شرط وإلا لم تثبت عليتها أصلًا.
الشارح: (أو لها يجوز مطلقًا) دليله يعلم من دليل جواز المستنبطة ولو لغير مانع أو فقد شرط ومن دليل جواز المنصوصة دون المستنبطة.
الشارح: (فهو لعدم المقتضى قطعًا) أى فلا تثبت علية الوصف أصلًا لا فى صورة التخلف ولا فى غيرها بخلاف ما إذا كان التخلف لمانع أو فقد شرط فتثبت العلة وإن تخلف مقتضاها حينئذ.
الشارح: (لئلا يلزم الحكم بدون العلة) تحريف وصوابه لئلا يلزم العلة بدون الحكم والمعنى وإنما قلنا بتقدير مانع يمنع من العلية عند تخلف الحكم لئلا يلزم لو كان التخلف لغير المانع وجود العلة بدون الحكم فتبطل العلية وقوله لما ذكرنا علة لبطلان العلة حينئذ وقوله: إن الحكم بدونهما تحريف وصوابه أن انتفاء الحكم بدونهما.
الشارح: (فلا مانع من صحة المظنونة) أى المستنبطة.
قوله: (وتخلف الحكم إنما دل على عليته فى محل النقض) تحريف وصوابه على
عدم عليته.
قوله: (لأن معناه أن الدليل دل. . . إلخ) أى معنى تغاير المحلين أن الدليل دل على علية الوصف فى غير محل النقض وتخلف الحكم دل على عدم عليته فيه فقوله دل على علية الوصف فيه تحريف وحقه دل على عدم عموم علية الوصف.
قوله: (ولا خفاء فى أنه لو ثبتت العلة فى غير محل النقض خاصة بظنى فلا تعارض أيضًا) أى فلا خصوصية لثبوت العلة فيه بقطعى.
قوله: (بعد دلالة النص على عليتها بطريق الظن عمومًا) زاد هذا ليظهر التخلف باعتباره وإلا فلو نظر للإجماع والاتفاق فالعلة اعتبرت فى غير صورة النقض وقوله تعسف هكذا فى النسخ وهو تحريف وأصله وهذا فاسد فلعل الأصل هف أى هذا فاسد وقوله وفى بعض الشروح. . . إلخ. قد ذكره الأصفهانى.
قال: (أبو الحسين: النقض يلزم فيه مانع أو انتفاء شرط فيتبين أن نقيضه من الأولى قلنا: ليس ذلك من الباعث ويرجع النزاع لفظيًا، قالوا: لو صحت للزم الحكم، وأجيب بأن صحتها كونها باعثة لا للزوم الحكم فإنه مشروط، قالوا: تعارض دليل الاعتبار ودليل الإهدار، قلنا: الانتفاء للَّه عارض لا ينافى الشهادة، قالوا: تفسد كالعقلية، وأجيب بأن العقلية بالذات وهذه بالوضع).
أقول: هذه حجج القائلين بعدم جواز النقض، فقال أبو الحسين: النقض إنما يصح مع وجود مانع أو عدم شرط، فيكون نقيضه وهو عدم المانع، ووجود الشرط جزءًا من العلة لأن المستلزم هو العلة مع ذلك فلا تكون الأولى تمام العلة فتنقدح عليتها، مثاله: إذا علم أن الربا لا يثبت فى الحديد لكونه موزونًا فنقض بالرصاص، فقيل المانع البياض أو الشرط السواد، فقد علم أن العلة كونه موزونًا مع أنه ليس أبيض أو مع أنه أسود فلا يكون كونه موزونًا هو العلة بل جزء العلة.
الجواب: لا يلزم من كونه لا بد منه أن يكون جزءًا من العلة إذ المراد بالعلة الباعث وليس ذلك من الباعث فى شئ وعلى هذا فيرجع النزاع لفظيًا مبنيًا على تفسير العلة فإن فسرت بالباعث على الحكم جاز النقض، وإن فسرت بما يستلزم وجوده وجود الحكم لم يجز.
قالوا: ثانيًا: لو صحت العلية مع التخلف للزم الحكم فى صورة التخلف لأن من ضرورة صحة العلية لزوم المعلول لعلته.
الجواب: منع كونه من لوازم العلية لأن مرادنا بها كونها باعثة لا لزوم الحكم لها مطلقًا فإن لزوم الحكم مشروط بعدم المانع ووجود الشرط فكونه علة يلزمه اللزوم إذ لم يوجد مانع ولم يعدم شرط وذلك غير متحقق فينتفى اللزوم.
قالوا: ثالثًا: لنا تعارض دليل العلية وهو وجود الحكم معه، ودليل الإهدار وهو التخلف عنه، فتساقطا فلا يعمل بدليل العلية، وهو المطلوب.
الجواب: لا نسلم أن التخلف دليل الإهدار فإن الحكم فى تلك الصورة المخصوصة قد انتفى لمعارض وهو لا يبطل العلية، وذلك كالشهادة إذا عورضت بشهادة فتعارضت البينتان فإنه لا يبطل حكم الشهادة مطلقًا فالعلة شاهدة بالحكم والتخلف فى صورة معينة لمانع يخصها لا يبطل شهادة العلة بالحكم ولا يوجب
عدم قبولها مطلقًا.
قالوا: رابعًا: التخلف يفسد العلية كما يفسد العلة العقلية، فإنه إذا وجدت الحركة ولم توجد العالمية علم قطعًا أن الحركة ليست علة للعالمية.
الجواب: أن العلل العقلية علل بالذات وتستلزم معلولها استلزامًا ذاتيًا، وما بالذات لا ينفك لا جرم دل الانفكاك على عدم العلية وهذه علل بالوضع فقد لا تستلزم معلولها ولا يضر الانفكاك.
قوله: (فقال أبو الحسين) يعنى أن هذه الحجة له خاصة بخلاف الثلاث الباقية.
قوله: (إنما يصح) أى النقض ويختلف الحكم عند وجود مانع أو عدم شرط وإلا لكان انتفاء الحكم لعدم المقتضى تعسف.
قوله: (فلا تكون الأولى) أى العلة بدون عدم المانع ووجود الشرط تمام العلة حتى تبطل عليتها بتخلف الحكم إذ التخلف عند عدم تمام العلة جائز اتفاقًا.
قوله: (وهو وجود الحكم معه) وفى بعض الشروح أن دليل الاعتبار هو ما تثبت به العلية من مالك العلة وأن معنى قوله الانتفاء بمعارض لا ينافى الشهادة هو أن انتفاء الحكم لمعارض لا ينافى دلالة الدليل على العلية فى الجملة والأقرب ما ذكره المحقق أما الأول فلأنه الموافق لكلام الجمهور ولما سيجئ من تأتى دليلى المذهب الثالث ولأن المقابل لتخلف الحكم عن الوصف هو ترتبه عليه، وأما الثانى فلأن معنى تعارض الدليلين منافاة كل منهما لمدلول الآخر لا لدلالته عليه والخصم لم يدع أن التخلف أى انتفاء الحكم ينافى دلالة الدليل على علية الوصف بل أنه ينافى كونه علة شاهدة بثبوت الحكم وهو معنى الاقتدار فليتأمل.
قال: (المجوز فى المنصوصة لو صحت مع النقض لكان لتحقق المانع ولا يتحقق إلا بعد صحتها فكان دورًا، أجيب بأنه دور معية، والجواب: أن استمرار الظن بصحتها عند التخلف يتوقف على المانع وتحقق المانع يتوقف على ظهور الصحة فلا دور كإعطاء الفقير يظن أنه لفقره فإن لم يعط آخر توقف الظن فإن تبين مانع عاد وإلا زال، قالوا: دليلها اقتران وقد تساقطا وقد تقدَّم).
أقول: هاتان حجتان لأصحاب المذهب الثالث وهم المجوزون فى المنصوصة دون المستنبطة.
قالوا: أولًا: لو صحت العلة المستنبطة مع كونها منقوضة لكان لتحقق المانع واللازم منتف، أما الملازمة فلأن التخلف بلا مانع قاطع فى عدم الاقتضاء كما مر، وأما انتفاء اللازم فلأن المانع إنما يتحقق بعد صحة العلية، إذ لو لم تصح العلية فعدم الحكم لعدم العلة ولا أثر لما يتصور مانعًا، فلا يكون مانعًا فتتوقف الصحة على المانع، والمانع على الصحة ويلزم الدور.
وقد أجيب عنه بأن الدور إنما يستحيل إذا كان دور تقدَّم بأن يعتبر التقدم فى الطرفين وأما إذا كان دور معية فلا وهذا دور معية إذ غايته امتناع انفكاك كل عن الآخر وأما عدم الانفكاك بصفة التقدم فلا وهذا ليس بصواب لظهور تقدم كل على الآخر، إذ لا تعلم المانعية إلا بعد العلم بالاقتضاء ولا يعلم الاقتضاء إلا بعد العلم بالمانعية، بل الصواب أنا ببادى الرأى والنظر إلى المناسبة أو غيرها يظهر لنا صحة العلة، ونظنها ظنًا حتى يتحقق التخلف وعند التخلف إن وجدنا أمرًا ينسب إليه لصلوحه، لذلك حكمنا على ذلك الأمر أنه مانع واستمر ظن الصحة وإلا زال فإذًا استمرار الظن بصحتها يتوقف على وجود المانع، وكونه مانعًا يتوقف على ظهور الصحة وظنها لا على استمراره فزال الدور، مثاله: المحقق فى العرفيات أن من أعطى فقيرًا فظن أنه إنما أعطاه لفقره فإن لم يعط فقيرًا آخر توقف الظن لجواز وجود المانع وعدمه فإن تبين مانع كفسقه عاد ظنه أنه كان للفقر وههنا مع ذلك الباعث لم يعطه لفسقه، وإلا زال ظن كونه للفقر واعلم أن هذا مشكل إذا كان العلم بالتخلف مقارنًا لا متأخرًا، فالأصوب أن المانعية كونه بحيث إذا جامع علة باعثة منعها مقتضاها والفسق للإعطاء كذلك وجد الباعث أولًا، ووجود المانع المتوقف عليه العلية هو هذا القدر لا كونه مانعًا بالفعل الذى يتوقف على العلية
فلا دور.
قالوا: ثانيًا: دليل المستنبطة اقتران الحكم بها وقد شهد لها بالاعتبار فى الأصل وعليها بالإهدار فى محل النقض فتعارضا وتساقطا، وبطلت العلية.
الجواب: أنه قد تقدَّم أن الانتفاء لمعارض لا يبطل الشهادة.
قوله: (إذ لا تعلم المانعية) إشارة إلى أن المعتبر فى تحقق المقتضى والمانع هو العلم بذلك لينافى ترتب الحكم ففى المثال المذكور لا يعلم أن الفسق مانع إلا بعد العلم بأن الفقر مقتض وإلا لجاز أن يكون عدم الإعطاء بناء على عدم المقتضى ولا يعلم أن الفقر مقتضٍ إلا بعد العلم بأن الفسق كان مانعًا فى صورة التخلف وإلا لكان التخلف قاطعًا فى عدم المقتضى.
قوله: (فالأصوب) لما كان ما ذكره أن الصواب لا يتم فيما إذا علم التخلف مقارنًا للعلم بالعلية كما إذا سأله فقيران فأعطى واحدًا ومنع الآخر الفاسق فإن العلم بعلية الفقر يتوقف على العلم بمانعية الفسق وبالعكس أشار إلى الأصوب الذى يندفع عنه هذا الإشكال، وحاصله أن ما يتوقف على العلية هو المانعية بالفعل وما تتوقف عليه العلية هو المانعية بالقوة بمعنى كون الشئ بحيث إذا جامع الباعث منع مقتضاه.
قوله: (فى الأصل) أى فى غير محل النقض ولا خفاء فى أن الأصل فى العلة عدم الانتقاض.
قوله: (لا تبطل الشهادة) أى شهادة العلة بالحكم على ما سبق وإن كان الظاهر أن المراد شهادة الدليل أعنى اقتران الحكم بها لها بالاعتبار على ما ذكره غيره من الشارحين.
الشارح: (وهذا ليس بصواب) أى لأن كون الدور دور معى إنما هو إذا كان الكلام فى اعتبار الشارع للعلة وليس الكلام فى ذلك إنما الكلام فى الدلالة على العلية.
قوله: (أى فى غير محل النقض) دفع لما يتوهم أن المراد بالأصل المقيس عليه.
قال: (المجوز فى المستنبطة المنصوصة دليلها نص عام فلا يقبل، وأجيب إن كان قطعيًا فمسلم وإن كان ظاهرًا وجب قبوله).
أقول: هذه حجة أصحاب المذهب الرابع، وهم المجوزون فى المستنبطة دون المنصوصة.
قالوا: المنصوصة دليلها نص عام فيتناول محل النقض صريحًا فيثبت فيه العلية صريحًا، فلا يقبل النقض إذ يلزم إبطال النص بخلاف المستنبطة فإن دليلها الاقتران مع عدم المانع ولا تخلف عنه.
الجواب: إن كان النص العام قطعيًا فمسلم أنه لا يقبل التخصيص كغيره من التخصيصات ولا يختص بتخصيص العلة فليس محل النزاع، وإن كان ظاهرًا وجب قبوله وتقدير المانع كما ذكرنا.
قوله: (نص عام) إذ لو اختص بغير صورة النقض لم يتصور النقض.
قوله: (يلزم إبطال النص) لدلالته على العلية حيث لا علية بناء على انتفاء لازمها الذى هو ترتب الحكم.
قوله: (فإن دليلها) أى دليل المستنبطة اقتران الحكم بها مع عدم المانع أى ترتب الحكم عليها عند خلوها عن المانع ولا تخلف للحكم عن هذا الدليل لأن انتفاء العلية فى صورة النقض مبنى على انتفاء الدليل وحاصله أن دليل المنصوصة يبطل بانتقاضها بخلاف دليل المستنبطة فإن قيل فعند تحقق المانع لا دليل فلا علية فلا نقض قلنا المراد نقض ما هو علة فى الجملة لا فى صورة ثبوت عليتها فيها فإنه محال.
قوله: (كما ذكرنا) فى تحقيق القول المختار أنه لا بد من تقدير مانع يمنع من العلية لئلا تلزم العلة بدون الحكم فتبطل العلية.
قال: (الخامس: المستنبطة علة بدليل ظاهر وتخلف الحكم مشكك فلا يعارض الظاهر، وأجيب تخلف الحكم ظاهر أنه ليس بعلة والمناسبة والاستنباط مشكك والتحقيق أن الشك فى أحد المتقابلين يوجب الشك فى الآخر، قالوا: لو توقف كونها أمارة على ثبوت الحكم فى محل آخر لانعكس فكان دورًا أو تحكمًا، وأجيب بأنه دور معية، والحق أن استمرار الظن بكونها أمارة يتوقف على المانع، أو ثبوت الحكم وهما على ظهور كونها أمارة).
أقول: هاتان حجتان لأصحاب المذهب الخامس، وهم القائلون بالجواز فى المستنبطة وإذ لم يكن مانع ولا فوات شرط.
قالوا: أولًا: المستنبطة علة بدليل ظاهر يوجب ظن العلية والتخلف مشكك، فلا يوجب ظن عدم العلية إنما يوجب الشك فيه إذ بتقدير المانع لا يبطل وبتقدير عدمه يبطل، وكلاهما جائز على السواء، والظن لا يرفع بالشك، فالتخلف لا يبطل العلية، وقد أجيب عنه بالمعارضة وهو أن التخلف دليل ظاهر على عدم العلية، ودليل المستنبطة مشكك إذ مع المانع يدل ومع عدمه لا يدل، وكلاهما جائز على السواء. وهذا الجواب جدلى، والتحقيق أن الشك فى أحد المتقابلين يوجب الشك فى الآخر فإذا كان التخلف مشككًا فى عدم العلية كان مشككًا فى العلية إذ حقيقة الشك احتمال المتقابلين سواء، فإذًا قولك العلية مظنونة بدليلها وعدم العلية مشكوك فيه بدليله كلام متناقض لا يلتفت إليه فإن قلت فقد كثر فى ألسن الفقهاء أن اليقين لا يرفع بالظن والظن لا يرفع بالشك، وإنما ذلك حكمهما عند تعارضهما وذلك غير متصور، إذ لا يجتمعان فى متعلق واحد لتضاد أنواع الاعتقاد على ما قررته، قلت: معناه أن حكم الأول الأقوى لا يزول بحكم الثانى الأضعف الطارئ عليه الرافع له لا أنه لا يزول فإن قيل فيقول الخصم بمثله فيما نحن فيه، قلنا: الكلام ههنا فى نفس ظن العلية واعلم أن ههنا زيادة تحقيق وهو أن عند التعارض يحصل الشك فى الطرفين وعند الانفراد يوجب كل الظن، والشك إنما نشأ من التعارض لا أن مقتضى أحدهما الظن والآخر الشك إذا انفردا حتى يقدم عند الاجتماع ما مقتضاه الظن فيعمل به.
قالوا: ثانيًا: لو توقف كونها أمارة وهو ثبوت الحكم بها فى صورة التخلف على ثبوت الحكم بها فى غيرها لانعكس فيتوقف ثبوته فى غيرها على ثبوته فيها،
ويلزم الدور أو لم ينعكس، ولزم التحكم والترجيح بلا مرجح فقوله أو تحكمًا ليس عطفًا على قوله فكان دورًا إذ التحكم ليس لازمًا للانعكاس بل تقديره أو كان تحكمًا عطفًا على لانعكس، وقد أجيب عنه بأنه دور معية لا دور تقدم كما مر، وهذا ليس بحق إذ لا تعلم عليتها إلا بثبوت الحكم بها فى جميع صور وجوده فلو علم ثبوت الحكم بها لزم دور التقدم قطعًا إذ ما به يعلم الشئ قبل العلم بالشئ.
والجواب الحق: أن الدليل إذا دل على علية الوصف فببادى الرأى وأول النظر من غير تتبع الصور والوقف على التخلف وعدمه يظن العلية فإذا أمعن فيما هو شرط العلية من أحد الأمرين إما ثبوت الحكم معه فى جميع الصور أو وجود مانع من ثبوته إذ لو انتفيا فلا علية فإن علم تحققه استمر الظن وإلا زال فاستمرار ظن كونها أمارة يتوقف على أحدهما، وهما على ظهور كونها أمارة وهو ابتداء ظنه فلا دور.
قوله: (وهم القائلون بالجواز فى المستنبطة) أى دون المنصوصة كما ذكر فى المذهب الرابع فلذا لم يتعرض له.
قوله: (كلام متناقض) لدلالته مطابقة على أن العلية مظنونة والتزامًا على أنها ليست بمظنونة لأنه إذا كان عدم العلية مشكوكًا فيه كانت العلية مشكوكًا فيها فلا تكون مظنونة ضرورة تنافى الشك والظن.
قوله: (وإنما ذلك) أى كون الظنى لا يرفع بالشك حكم الظن والشك عند تعارضهما وكذا كون اليقين لا يرفع بالظن ولا تعارض إلا عند تعلقهما بشئ واحد وهو محال لما سبق فى تقسيم ما عند الذكر الحكمى أن العلم والظن والشك وغيرها أنواع متضادة يمتنع اجتماعها لاشتمال كل على قيد ينافى الآخر.
قوله: (لا أنه) أى ليس معناه أن الأقوى كاليقين مع الظن والظن مع الشك لا يزول بالأضعف فإن زوال الضد عند طريان الضد ضرورى لكن يجوز أن يجعل الشرع حكم الضد الزائل باقيًا بأن تجوز الصلاة مع زوال ظن الطهارة بالشك فى الحدث، وأما فيما نحن فيه فالمعتبر ظن العلية فإذا زال بالشك حكمنا بعدم الاعتبار نعم لو ثبت عن الشارع جواز القياس مع زوال ظن العلية بالشك لتابعناه.
قوله: (واعلم أن ههنا زيادة تحقيق) ودفع لما ذكره المستدل من أن الدليل الظاهر
يفيد ظن العلية والتخلف يوجب الشك فلا يدفعه وذلك لأن مقتضى التخلف ليس هو الشك بل ظن عدم العلية كما أن مقتضى الدليل الظاهر ظن العلية فعند اعتبار الاجتماع والتعارض يحصل الشك فى العلية وعدمها فلا تثبت العلية.
قوله: (أو تحكمًا) فى كثير من النسخ وإلا تحكمًا أى وإن لم ينعكس كان تحكمًا وهو ظاهر.
قوله: (لأنا لا نعلم عليتها) لا خفاء فى أن الأنسب أن يقال لأنا لا نعلم ثبوت الحكم إلا بها وبعليتها فلو علم عليتها بثبوت الحكم لها فى جميع الصور لزم الدور.
قوله: (والجواب الحق) لا خفاء فى إشكاله فيما إذا كان العلم بالتخلف مقارنًا لا متأخرًا ولم يعده لظهوره.
قوله: (على أحدهما) أن شرط العلية أحد الأمرين وهما يتوقفان على ظهور كونه أى الوصف أمارة أما ثبوت الحكم فظاهر وأما وجود المانع فلأنه إنما يمنع العلية وكون الوصف أمارة الحكم وليس المراد بالأمارة مجرد الأمارة أعنى ما يعرف الحكم ولا يكون باعثًا بل ما يفيد ظن الحكم.
الشارح: (فإن قلت فقد كثر. . . إلخ) أو فقد لزم من كلامهم اجتماع الظن والشك، وأن الظن لا يزول بالشك وهو غير متصور إذ هو محال.
الشارح: (لو توقف كونها أمارة وهو ثبوت الحكم بها) فسرها بذلك إشارة إلى أنه ليس المراد مجرد أمارة يعرف بها الحكم وقوله فى صورة التخلف الأولى أن يقول فى غير صورة التخلف ويبدل قوله فى غيرها فى الموضعين بعده بأن يقول فيها.
الشارح: (والجواب الحق) حاصله أن دليلكم إنما بفيد لو توقف ظن عليتها على ثبوت الحكم فى جميع الصور حتى يتجه أن يقال لو توقف ظن عليتها فى غير صورة التخلف على ثبوت الحكم بها وعليتها فى صورة التخلف لانعكس فدار أو لم ينعكس فكان تحكمًا وليس كذلك بل ظن عليتها إنما يتوقف على دليل عليتها من مناسبة أو غيرها نعم استمرار ظن العلية متوقف على ثبوت الحكم فى جميع الصور أو فى بعضها مع وجود مانع فى بعض آخر وهما يتوقفان على ظن العلية
لا على استمرار ظنها فلا دور وبهذا سقط الإشكال بما إذا كان العلم بالتخلف مقارنًا لا متأخرًا كما مر فى المذهب الثالث إذ غاية ما يمكن أن يقال ههنا مع كونه كلامًا على السند أنه يجوز أن يكون ظن العلية والعلم بالتخلف هنا معًا فلا يكون استمرار ظن العلية متوقفًا على وجود المانع وهذا لا يضرنا.
قوله: (لا خفاء فى أن الأنسب. . . إلخ) أى لأنه لا يلزم من توقف العلم بثبوت الحكم على ذات العلة وتوقف علية العلة على ثبوت الحكم الدور لاختلاف الجهة إلا أن يقال توقف العلم بثبوت الحكم على العلة ليس من حيث ذاتها بل من حيث كونها علة.
قال: (وفى الكسر وهو وجود الحكمة المقصودة مع تخلف الحكم المختار لا يبطل كقول الحنفى فى العاصى بسفره مسافر فبترخص كغير العاصى ثم يبين المناسبة بالمشقة فيعترض بصنعة شاقة فى الحضر لنا أن العلة السفر لعسر انضباط المشقة ولم يرد النقض عليه، قالوا: الحكمة هى المعتبرة قطعًا فالنقض وارد، قلنا: قدر الحكمة المساوية فى محل النقض مظنون ولعله لمعارض والعلة موجودة فى الأصل قطعًا فلا يعارض الظن القطع حتى لو قدرنا وجود قدر الحكمة أو أكثر قطعًا وإن بعد أبطل إلا أن يثبت حكم آخر أليق بها كما لو علل القطع بحكمة الزجر فيعترض بالقتل العمد العدوان فإن الحكمة أزيد لو قطع فنقول ثبت حكم آخر أليق لها تحصل به وزيادة وهو القتل).
أقول: قد شرط قوم فى علة الحكم إذا لم تكن حكمة بل مظنة حكمة أن تكون حكمتها مطردة أى كلما وجدت الحكمة وجد الحكم، فإذا وجدت فى محل بدون العلة ولم يوجد الحكم فيه سمى كسرًا ويعبر عنه بأن الكسر يبطل العلية والمختار فيه أنه لا يبطل العلية، مثاله: أن يقول الحنفى فى المسافر العاصى بسفره مسافر فيترخص بسفره كغير العاصى، فإذا قيل له: ولم قلت إن السفر علة للترخص؟ قال: بالمناسبة لما فيه من المشقة المقتضية للترخص لأنه تخفيف، وهو نفع للمرخص، فيعترض عليه بصنعة شاقة فى الحضر كحمل الأثقال وضرب المعاول وما يوجب قرب النار فى ظهيرة القيظ فى القطر الحار لنا أن العلة هو السفر ولم يرد النقض عليه فوجب العمل به، بيان أن العلة السفر هو أنه وإن كان المقصود المشقة لكنها يعسر ضبطها لاختلاف مراتبها بحسب الأشخاص والأحوال، وليس كل قدر منها يوجب الترخص وإلا سقطت العبادات وتعيين القدر منها الذى يوجبه متعذر فضبطت بوصف ظاهر منضبط هو السفر فجعل أمارة لها ولا معنى للعلة إلا ذلك.
قالوا: الحكمة هى المعتبرة قطعًا والوصف معتبر تبعًا لها فالنقض وارد على العلة لأنها إذا وجدت الحكمة المعينة ولم يوجد الحكم علم أن تلك الحكمة غير معتبرة، فكذا الوصف المعتبر بتبعيتها فإن المقصود إذا لم يعتبر فالوسيلة أجدر.
الجواب: إن قدر الحكمة كالمشقة فى مثالنا يختلف ولا بد فى ورود النقض من وجود حكمة فى محل النقض مساوية لما يراد نقضه فإن عدم اعتبار الأضعف لا
يوجب عدم اعتبار الأقوى وذلك غير متيقن فلعله أقل حكمة أو لعله لمعارض ومع المعارض ينقص قدر الحكمة أو تبطل فلذلك لم يعتبره الشارع ووجود العلة فى الأصل قطعى، وإذا ثبت ذلك وجب اعتبار العلة القطعية ولا يصلح التخلف الظنى معارضًا له فإن الظن لا يعارض القطع، فإن قلت يفرض الكلام فى صورة يعلم وجود قدر الحكمة أو أكثر فيجب أن تبطل العلية لأن القاطع إذا عارض القاطع تساقطا قلنا هذا بعيد ولو تحقق مع بعده ولكن لا فى كل صورة بل إذا لم يثبت حكم آخر أليق بتحصيل تلك الحكمة منه كما فى المثال المذكور وهو أن يقول المعلل إنما قطع اليد باليد للزجر فيقول المعترض: ولو قطع فى القتل العمد العدوان لحصل الحكمة أكثر لأن مقصود الزجر عن القتل أزيد من مقصود الزجر عن القطع ويليق بالزجر الأكثر وهو الزجر عن القتل ولم يشرع القطع فانتقض عليه الزجر.
الجواب: إنما لم يقطع لا لأن حكمة الزجر غير مقصودة بل لأن ذلك القدر الحاصل منها بالقطع كاف فى الزجر عن القطع ويليق بالزجر الأكثر وهو الزجر عن القطع ما يحصل به الزجر الأكثر وهو ما يحصل به ما يحصل بالقطع وزيادة فشرع القتل، فإن القطع يحصل به إبطال اليد والقتل يحصل به إبطال اليد وإبطال ما عداها فيكون أليق وأشد زجرًا من القطع ولا يلزم عدم اعتبار تلك الحكمة وأنت تعلم مما ذكرنا أنه يلزم من مساواة الفرع الأصل فى الحكمة المساواة فى الحكم ولا يلزم ذلك من الأقل إذ قد لا يعتبر، ومن الأكثر إذ قد لا يحصل بذلك الحكم.
قوله: (ويعبر عنه) أى عن هذا الاشتراط بأن الكسر يبطل العلية والكسر على ما ذكر أن توجد حكمة العلة بدون العلة ولا يوجد الحكم، قال فى المحصول: هو بالحقيقة قدح فى تمام العلة بعدم التأثير وفى جزئها بالنقض، وقال القاضى: هو عدم تأثير أحد الجزأين ونقض الآخر والأكثرون على أنه إسقاط وصف من أوصاف العلة المركبة عن درجة الاعتبار ونقض الباقى فلم يفرقوا بينه وبين النقض المكسور.
قوله: (ولا معنى للعلة إلا ذلك) أى وصف ظاهر منضبط يناط به الحكم.
قوله: (مساوية لما يراد نقضه) يعنى حكمة الأصل إذا كانت أقل لم يلزم من
عدم اعتبارها عدم اعتبار الأقوى أعنى التى فى غير صورة النقض وكذا إذا كانت أزيد.
قوله: (وذلك) أى وجود الحكمة المساوية غير متيقن فلعله أى ما وجد فى صورة النقض أقل حكمة أو لعل التخلف لمعارض يجعل قدر الحكمة ناقصًا عديم المساواة أو باطلًا بالكلية فلذلك أى لكونها أقل فى نفسها أو ناقصة أو باطلة بواسطة المعارض لم يعتبره الشارع.
قوله: (فإن قلت) يعنى أن قوله حتى لو قدرنا وجود قدر الحكمة إشارة إلى سؤال وجواب تقرير السؤال أنا نفرض النقض فى صورة يكون وجود حكمة مساوية أو زائدة متيقنًا مقطوعًا فيتعارض قطعيان أعنى وجود العلة قطعًا وانتقاضها تبعًا لانتقاض حكمتها المساوية أو الزائدة قطعًا فيتساقطان فتبطل العلية وتقرير الجواب أن هذا المفروض بعيد التحقق ولو تحقق وجب أن تبطل العلية لكن لا فى كل صورة بل فى صورة لم يثبت حكم آخر أليق بتحصيل تلك الحكمة من ذلك الحكم كما ثبت فى المثال المذكور فى المتن والبطلان فى صورة لا ينافى صحة العلية وصلوح الأصل لكونه مقيسًا عليه.
قوله: (الجواب) الأحسن أن يقول فيجيب أى المعلل عطفًا على فيقول المعترض يعنى أن عدم قطع يد القاتل ليس مبنيًا على أن حكمة الزجر غير مقصودة بل على أن ذلك القدر الحاصل من حكمة الزجر بالقطع بطريق القصاص متحقق فى الزجر عن القتل العدوان ثم لا خفاء فى أن القتل أكثر عدوانًا من القطع فيليق بالزجر عنه حكم يحصل به زجر أكثر من زجر القطع وذلك الحكم أمر يحصل به ما يحصل بقطع اليد وزيادة على ذلك فشرع القتل الذى يحصل به إبطال اليد وسائر الأعضاء ليكون زائدًا على القطع الذى لا يحصل به سوى إبطال اليد والحاصل أنه لما كان القتل أقوى افتقر إلى زاجر أقوى ولم يلزم منه عدم اعتبار حكمة الزجر بل قوة اعتباره فقوله فى الزجر خبر أن وما يحصل به الزجر فاعل يليق وضمير وهو الزجر للزجر الأكثر وضمير وهو ما يحصل لما يحصل به الزجر الأكثر.
قوله: (ولا يلزم ذلك) أى المساواة فى الحكم من حكمة أقل من حكمة الأصل لجواز أن لا يعتبر الأقل ولا من حكمة أكثر منها لجواز أن لا تحصل تلك الحكمة الأكثر بمثل ذلك الحكم الثابت فى الأصل بل يفتقر إلى حكم آخر فوقه كالزجر عن القتل العدوان لا يحصل بمجرد قطع اليد بل يفتقر إلى شرعية القتل.
الشارح: (ولو تحقق مع بعده ولكن لا فى كل صورة) الكلام فيه حذف والأصل ولو تحقق مع بعده أبطل ولكن لا فى كل صورة.
قوله: (فقوله فى الزجر خبران) هو على نسخة ليس فيها لفظ كاف فى الزجر وإلا فالخبر هو كاف.
قال: (وفى النقض المكسور وهو نقض بعض الأوصاف المختار لا يبطل كقول الشافعى فى بيع الغائب مبيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد فلا يصح مثل: بعتك عبدًا فيعترض بما لو تزوج امرأة لم يرها، لنا أن العلة المجموع فلا نقض فإن بين عدم تأثير كونه مبيعًا كان كالعدم فيصح النقض ولا يفيد مجرد ذكره دفع النقض).
أقول: إذا نقض العلة بترك بعض الصفات سمى نقضًا مكسورًا، وهو بالحقيقة نقض بعض الصفات وأنه بين النقض والكسر، كأنه قال: الحكمة المعتبرة تحصل باعتبار هذا البعض، وقد وجد فى المحل، ولم يوجد الحكم فيه، فهو نقض لما ادعاه علة باعتبار الحكمة، وقد اختلف فى أنه هل يبطل العلية؟ والمختار أنه لا يبطل.
مثاله: أن يقول الشافعى فى منع بيع الغائب: إنه بيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد فلا يصح بيعه، كما لو قال: بعتك عبدًا من غير تعيين، فيقول المعترض: هذا منقوض بما لو تزوج امرأة لم يرها فإنها مجهولة الصفة عند العاقد حال العقد وهو صحيح، قد حذف قيد كونه مبيعًا ونقض الباقى وهو كونه مجهول الصفة عند العقد حال العاقد، لنا: العلة المجموع فلا نقض عليه إذ لا يلزم من عدم علية البعض عدم علية الجميع هذا إذا اقتصر على نقض البعض.
وأما إذا أضاف إليه إلغاء وصف المتروك وكونه وصفًا طرديًا لا مدخل له فى العلية بأن يبين عدم تأثير كونه مبيعًا بأن العلة كونه مجهول الصفة عند العاقد حال العقد لأنه مستقل بالمناسبة فحينئذٍ يكون وصف كونه مبيعًا كالعدم فيصح النقض لوروده على ما يصلح علة ولا يكون مجرد ذكره دافعًا للنقض، خلافًا لشرذمة لأنه بمجرد ذكره لا يصير جزءًا من العلة إذا قام الدليل على أنه ليس جزءًا ويتعين الباقى لصلوح العلية فيبطله بالنقض، ويصير حاصله سؤال ترديد وهو أن العلة إما المجموع أو الباقى وكلاهما باطل، أما المجموع فلإلغاء الملغى، وأما الباقى فللنقض.
قوله: (وصف المتروك) المتروك هو المبيع والموصف كونه مبيعًا ومع ذلك فالأحسن الوصف المتروك.
الشارح: (وأنه بين النقض والكسر) أى لأنه إن نسب لمجموع الوصف فهو كسر لوجود الحكمة بدونه وبدون الحكم وإن نسب إلى بعضه الذى تخلف عنه الحكم فهو نقض وقوله الحكمة المعتبرة لعلها هنا الغرر وقوله وصف المتروك الإضافة بيانية فلا حاجة إلى اعتبار الكون مبيعًا وصفًا والمبيع الموصوف متروكًا.
قال: (وأما العكس وهو انتفاء الحكم لانتفاء العلة فاشتراطه مبنى على تعليل الحكم بعلتين لانتفاء الحكم عند انتفاء دليله ونعنى انتفاء العلم، أو الظن لأنه لا يلزم من انتفاء الدليل على الصانع انتفاؤه).
أقول: شرط قوم فى علة حكم الأصل الانعكاس وهو أنه كلما عدم الوصف عدم الحكم ولم يشترطه آخرون، والحق أنه مبنى على جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين مختلفتين لأنه إذا جاز ذلك صح أن ينتفى الوصف ولا ينتفى الحكم لوجود الوصف الآخر وقيامه مقامه وأما إذا لم يجز فثبوت الحكم بدون الوصف يدل على أنه ليس علة له وأمارة عليه وإلا لانتفى الحكم بانتفائه لوجوب انتفاء الحكم عند انتفاء دليله ونعنى بذلك انتفاء العلم أو الظن لا انتفاء نفس الحكم إذ لا يلزم من انتفاء دليل الشئ انتفاؤه وإلا لزم من انتفاء الدليل على الصانع انتفاء الصانع تعالى، وأنه باطل، نعم يلزم انتفاء العلم أو الظن بالصانع فإنا نعلم قطعًا أن الصانع لو لم يخلق العالم أو لو لم يخلق فيه الدلالة لما لزم انتفاؤه قطعًا هذا بناء على رأينا، وأما عند المصوبة فلا حاجة إلى هذا العذر لأن مناط الحكم عندهم العلم أو الظن فإذا انتفيا انتفى الحكم، على رأينا يمكن أن يقال بسقوط الحكم لئلا يلزم تكليف المحال، وقد يقال العلة الدليل الباعث على الحكم، وقد يخالف مطلق الدليل فيلزم من عدمه عدم الحكم وكيف لا والحكم لا يكون إلا لباعث إما وجوبًا أو تفضلًا.
قوله: (والحق أنه مبنى) أى عدم الاشتراط مبنى على جواز التعليل بعلتين والخلاف فى الاشتراط وعدمه مبنى على الخلاف فى الجواز فمن جوزه لم يشترط ومن منعه اشترط.
قوله: (على رأينا) وهو أن المصيب واحد يمكن أن يقال بانتفاء الحكم نفسه عند انتفاء الدليل لئلا يلزم التكليف بالمحال لأن الامتثال والإتيان بالفعل بدون العلم أو الظن بالتكليف وتعلق الخطاب محال وأيضًا يمكن أن يقال: إن هذا الدليل بخصوصه أعنى الباعث على الحكم يجوز أن ينتفى الحكم عند انتفائه لكونه لازمًا للحكم إما بطريق الوجوب كما هو رأى المعتزلة أو بطريق التفضيل كما هو رأينا والحاصل أنه يجوز أن ينتفى الحكم الشرعى بانتفاء دليله الذى هو الباعث عليه
لخصوصية فى المدلول أو فى الدليل ولا يلزم منه انتفاء المدلول بانتفاء الدليل على الإطلاق.
المصنف: (مبنى على تعليل الحكم بعلتين) هكذا فى نسخ الشارح والصواب على امتناع تعليل الحكم بعلتين كما فى نسخ المتن المجردة.
قوله: (لخصوصية فى المدلول) هو كونه ممنوع التكليف به عند عدم العلم بدليله للزوم التكليف بالمحال وقوله أو فى الدليل هو كونه بمعنى الباعث المشتمل على مصلحة فى ترتب الحكم عليه أو دفع مفسدة.
قال: (وفى تعليل الحكم بعلتين أو علل كل مستقل، ثالثها للقاضى يجوز فى المنصوصة المستنبطة ورابعها عكسه ومختار الإمام يجوز ولكن لم يقع لنا لو لم يجز لم يقع وقد وقع فإن اللمس والبول والغائط والمذى يثبت بكل واحد منها الحدث والقصاص والردة يثبت بكل واحد منهما القتل، قولهم الأحكام متعددة ولذلك ينتفى قتل القصاص ويبقى الآخر وبالعكس، قلنا إضافة الشئ إلى أحد دليليه الواجب تعددًا وإلا لزم مغايرة حدث البول لحدث الغائط وأيضًا لو امتنع لامتنع تعدد الأدلة لأنها أدلة).
أقول: لما علمت أن اشتراط الانعكاس فرع تعدد العلة فلنتخذ ذلك مبحثًا ولنتكلم فيه، فنقول: البحث تعليل الحكم الواحد بعلتين أو بعلل كل واحد منهما أو منها مستقل باقتضاء الحكم لا أنه جزء المجموع المركب منهما، أو منها فإن ذلك بحث آخر سنذكره برأسه، وفيه مذاهب أحدها: يجوز، ثانيها: لا يجوز، ثالثها وهو مذهب القاضى: يجوز فى المنصوصة دون المستنبطة، رابعها: عكسه، وهو أنه يجوز فى المستنبطة دون المنصوصة، ثم بعد الجواز قد اختلف فى الوقوع، فالجمهور على الوقوع ومختار الإمام أنه يجوز ولكن لم يقع، لنا لو لم يجز لم يقع ضرورة، وقد وقع فإن اللمس والمس والبول والمذى والغائط أمور مختلفة الحقيقة، وهى علل مستقلة للحدث لثبوت الحدث بها، وهو معنى الاستقلال، وكذلك القصاص والردة مختلفتان وهما علتان مستقلتان لجواز القتل لثبوت جواز القتل بكل واحد منهما، فإن قيل لا نسلم أن الحكم فيما ذكرتم واحد بل الأحكام متعددة، فإن القتل بالقصاص غير القتل بالردة ولذلك ينتفى أحدهما ويبقى الآخر كما ينتفى قتل القصاص بالعفو، ويبقى قتل الردة وينتفى قتل الردة بالإسلام، ويبقى قتل القصاص.
الجواب: أنه لو تعددت الأحكام ثم لتعددت بإضافتها إلى الأدلة إذ ليس ثَمَّ ما به الاختلاف إلا ذلك واللازم باطل لأن إضافة الحكم إلى أحد الدليلين تارة وإلى الآخر أخرى، لا توجب تعددًا وإلا لزم مغايرة حدث البول لحدث الغائط فكان يتصور أن ينتفى أحدهما ويبقى الآخر، ولنا أيضًا أنه لو امتنع تعدد العلل لامتنع تعدد الأدلة، لأن العلل الشرعية أدلة لا مؤثرات، وقد يمنع ويسند بأن الأدلة الباعثة أخص ولا يلزم من امتناعه امتناع الأعم.
قوله: (فرع تعدد العلة) لا يريد أن الاشتراط فرع جواز التعدد لأن الأمر بالعكس بل يريد أن هذا المبحث والخلاف فرع ذلك على الوجه الذى ذكرنا.
قوله: (ثم بعد الجواز) يشير إلى أن هذا اختلاف آخر فى المذهب الأول لا ما توهمه الشارحون أن مختار الإمام مذهب خامس مقابل للأربعة السابقة.
قوله: (لثبوت الحدث بها) أى بكل من المذكورات فإن قيل المبحث توارد العلل ولا توارد ههنا لأنها لو وقعت بالترتيب فالحدث بالأول أو معًا فالحدث بواحد لا على التعيين قلنا ليس المبحث سوى كون الحكم بحيث يكون له علل مستقلة يقع بأيها كانت ولو سلم فعند الاجتماع يقع بكل منها للقطع بأنه لو حلف لم يقع له حدَث البول مثلًا حنث ولهذا لم ينازع المعترض فى تعدد العلل بل فى إيجاد الحكم وسيجئ تفصيل المذاهب فى ذلك.
قوله: (لجواز القتل) يعنى للإذن فيه على ما يشمل الوجوب.
قوله: (ليس ثمة) أى فيما ذكرناه من تعدد علة القتل ما به الاختلاف إلا الإضافة إلى العلل ممنوع بل أحدهما حق للَّه تعالى يجب على الإمام ويسقط بالإسلام والآخر حق للعبد يجوز له بإذن الإمام ويسقط بالعفو بقوله وإلا لزم مغايرة فيه أيضًا بحث لأنه إن أريد بالمغايرة جواز الانفكاك فلا نسلم أن عدم الاتحاد يستلزمها وإن أريد عدم الاتحاد فلا نسلم أنها تستلزم جواز انتفاء أحدهما وبقاء الآخر لجواز التلازم فى الوجود وأيضًا النزاع فى الواحد الشخصى على ما صرح به الآمدى والخصم يمنع كون الحكم فيما ذكر من الصور واحدًا بالشخص لا بالنوع.
الشارح: (الجواب أنه لو تعددت الأحكام. . . إلخ) مراده بهذا الجواب تحقيق أن الحكم فيما ذكر متحد وإلا ترتب عليه أمر باطل وهو تغاير حدث البول لحدث الغائط ولعله يقول فى قول الخصم إن القتل بالقصاص ينتفى ويثبت القتل بالردة والعكس إن القتل لم ينتف وإنما الذى انتفى علة وثبتت علة أخرى ولا تغاير بين القتل قصاصًا والقتل ردة إلا بالإضافة للدليل وما ذكره المحشى من أن أحدهما حق للَّه والآخر حق للعبد فمن توابع الإضافة للدليل وليس اختلافًا من غيره.
قوله: (على الوجه الذى ذكرنا) هو قوله فيما تقدم والخلاف فى الاشتراط وعدمه مبنى على الخلاف فى الجواز فمن جوزه لم يشترط ومن منعه اشترط.
قوله: (ولو سلم فعند الاجتماع يقع بكل) أى فيكون توارد العلل ظاهرًا وقوله للقطع. . . إلخ. أى ولو كان لا يقع بكل بل بواحد غير معين لم يحنث وفيه أنه قد يقال إنه يحنث لتحقق واحد ما فى هذا الفرد المخصوص.
قوله: (ولهذا لم ينازع المعترض فى تعدد العلل بل فى اتحاد الحكم) أى ولكون الكلام ليس فى توارد العلل بل فى كون الحكم بحيث يكون له علل مستقلة يقع بأيها كانت أو فى تواردها وهو حاصل عند الاجتماع لم ينازع المعترض فى تعدد العلل.
قوله: (وأيضًا النزاع فى الواحد الشخصى. . . إلخ) غير ظاهر بل الظاهر أن النزاع فى الحكم النوعى الذى يصح أن يثبت مثله للفرع عند المساواة فى العلة.
قال: (المانع لو جاز لكانت كل واحدة مستقلة غير مستقلة لأن معنى استقلالها ثبوت الحكم بها فإذا انفردت يثبت الحكم بها فإذا تعددت تناقضت، وأجيب بأن معنى استقلالها أنها إذا انفردت استقلت فلا تناقض فى التعدد، قالوا: لو جاز لاجتمع المثلان فيستلزم النقيضين لأن المحل يكون مستغنيًا غير مستغن وفى الترتيب تحصيل الحاصل، قلنا فى العلل العقلية فإما مدلول الدليلين فلا، قالوا: لو جاز لما تعلق الأئمة فى علة الربا بالترجيح، لأن من ضرورته صحة الاستقلال، وأجيب بأنهم تعرضوا للإبطال لا للترجيح، ولو سلم فللإجماع على اتحاد العلة ههنا وإلا لزم جعلها أجزاء).
أقول: للمانعين تعدد العلل حجج، قالوا: أولًا: لو جاز تعدد العلل المستقلة لكان كل واحدة منها مستقلة بالغرض غير مستقلة لأن معنى استقلالها ثبوت الحكم بها وقد قلنا يثبت لا بها بل بغيرها، وأيضًا فلنفرض التعدد فى محل واحد فى زمان واحد بأن يلمس ويمس معًا فيلزم التناقض إذ يثبت الحكم بكل بدون الآخر فيثبت بهما ولا يثبت بهما.
الجواب: لا نسلم لزوم الأمرين معًا فإن معنى استقلالها ليس ثبوت الحكم بها فى الواقع بل إنها لو وجدت منفردة يثبت الحكم بها وذلك لا ينافى ثبوت الحكم لا بها إذا لم توجد أو بها وبغيرها إذا وجدت غير منفردة، وبذلك يندفع لزوم عدم استقلالها وهو ظاهر وكذا لزوم التناقض عند الاجتماع فإن انتفاء الاستقلال عند الاجتماع لا ينافى الاستقلال على تقدير الانفراد وثبوت الاستقلال على تقدير الانفراد أمر ثابت عند الاجتماع ونسميه بالاستقلال مجازًا.
قالوا: ثانيًا: لو جاز تعدد العلل لزم اجتماع المثلين وأنه محال، أما الملازمة فلجواز اجتماعهما فى محل وكل واحد منهما يوجب مثل ما يوجبه الآخر فموجباهما مثلان وقد اجتمعا فى المحل، وأما استحالة اللازم فلأن اجتماع المثلين فى محل يوجب اجتماع النقيضين لأن المحل يستغنى فى ثبوت حكمهما له بكل واحد عن كل واحد فيكون مستغنيًا عنهما غير مستغن عنهما، مثلًا لو فرضنا علمين بمعلوم واحد فى محل لثبت به حكم العلم وهو العالمية وأنه حكم واحد لا تعدد فيه فيكون فى العالمية محتاجًا إلى كل واحد من العلمين مستغنيًا عنه بالآخر، فهذا لازمه مطلقًا وإذا فرضنا الترتيب وهو حصول أحدهما بعد الآخر لزم تحصيل
الحاصل وهو حصول العالمية بالثانى من العلمين بعد حصوله بالأول منهما، قوله: وفى الترتيب تحصيل الحاصل أى ويستلزم فى الترتيب تحصيل الحاصل أيضًا كما يستلزم اجتماع النقيضين مطلقًا سواء فيه الترتيب والمعية.
الجواب: هذا إنما يلزم إذا كانت العلة المستقلة عقلية، وهى ما تفيد وجود أمر وأما إذا كانت شرعية وهى ما تفيد العلم بوجود أمر فلا لأنها بمعنى الدليل ويجوز اجتماع الأدلة على مدلول واحد.
قالوا: ثالثًا: تعلق الأئمة فى علل الربا أهى الطعم أو الكيل أو القوت بالترجيح ولو جاز التعدد لما تعلقوا بالترجيح لأن من ضرورة الترجيح صحة استقلال كل واحد بالعلية فكان يجب لو جاز التعدد أن يقولوا بالتعدد ولا يتعلقوا بالترجيح لتعيين واحدة ونفى ما سواها.
الجواب: منع كونهم تعلقوا بالترجيح بل تعرضوا لتعيين ما يصلح علة مستقلة ونفى ذلك عما سواه بإبطاله ولو سلم فللإجماع ههنا على أن العلة واحد من هذه الثلاثة ولولا الإجماع لوجب جعل كل واحد منها جزءًا وعدم المسير إلى الترجيح لأن المفروض أنهم يرون صلاحية كل للعلية ولا دليل على إلغاء كل واحد منها فوجب اعتبارها وذلك بالقول بالجزئية لا سيما عند عدم ظهور وجه الترجيح.
قوله: (وأيضًا فلنفرض) بين لزوم التناقض بوجهين أحدهما لزوم الاستقلال على ما هو المفروض وعدم الاستقلال على ما هو لازم الثبوت بالغير لأن معنى استقلالها ثبوت الحكم بها دون غيرها صرح به فى المنتهى ولما كان ظاهر معنى الاستقلال ثبوت الحكم بها نفسها من غير احتياج إلى انضمام شئ آخر ولم يكن لعدم الثبوت بالغير مدخل فى ذلك اقتصر الشارح المحقق عليه ولم يذكر دون غيرها لكنه اضطر إليه آخر الأمر حيث قال: وقد قلنا يثبت لا بها بل بغيرها لأن هذا معنى استقلال الأخرى فقد أخذ فيه الثبوت بها لا بغيرها وثانيهما لزوم ثبوت الحكم بكل منهما وعدم الثبوت وذلك عند اجتماع العلل والجواب منع لزوم الأمرين اللذين أحدهما الاستقلال وعدمه وثانيهما الثبوت بهما وعدمه وإنما يلزم لو كان معنى الاستقلال ما ذكرتم وليس كذلك بل معناه كونها بحيث إذا وجدت منفردة يثبت الحكم بها وهذه الحيثية لا تزول عنها فيما إذا ثبت الحكم بغيرها وحده
أو بهما جميعًا فلا يلزم عدم الاستقلال أصلًا ولا يلزم فى صورة الاجتماع الثبوت بها وعدم الثبوت لأن الثبوت حينئذ بهما جميعًا وهى فى هذه الحالة مستقلة بمعنى أنها بحيث إذ لو وجدت منفردة يثبت الحكم بها وأنت خبير بأنه إذا كان معنى الاستقلال هذا لم يحتج إلى جعله مجازًا وبالجملة يندفع اعتراض الشروح بأن ما ذكر يقتضى عدم الاستقلال عند الاجتماع وهو خلاف ما اختاره هذا فظاهر عبارة الشارح أى استحالة عدم الاستقلال على تقدير وجوده ليس من جهة أنه تناقض بل خلف والمستحيلة من جهة التناقض إنما هو الثانى.
قوله: (لزم اجتماع المثلين) فى بعض الشروح أنه لا حاجة إلى توسط اجتماع المثلين بل يكفى أن يقال لو تعدد العلل لزم أن يكون المحل مستغنيًا عنهما غير مستغن عنهما وهو محال ولو قال واستلزم النقيضين ليكونا دليلين لكان حسنًا.
قوله: (فهذا لازمه) أى لازم تعدد العلل سواء كانت مترتبة أو معًا وأما إذا كانت مترتبة فتستلزم محالًا آخر وهو تحصيل الحاصل حيث حصل بالعلة الثانية ما كان حاصلًا بالأولى بخلاف ما إذا كانتا معًا وفى هذا إشارة إلى دفع ما ذكر فى بعض الشروح أنه لا جهة لتخصيص اجتماع المثلين بصورة المعية وتحصيل الحاصل بصورة الترتيب.
قوله: (الجواب هذا) أى ما ذكر من اجتماع المثلين وتحصيل الحاصل إنما يلزم فى تعدد العلل العقلية المفيدة للوجود دون الشرعية المفيدة للعلم بالشئ وقد سقط هذا الجواب عن كثير من نسخ الشرح ويمكن الجواب أيضًا بمثل ما سبق من أن كلًا من العلل عند الاجتماع يكون جزءًا والعلة هى المجموع وبأنه على تقدير الاستقلال قد يتخلف عنه المعلول لمانع وهو الحصول بعلة أخرى.
قوله: (أهى الطعم) الضمير عائد إلى العلة المفهومة من العلل لا إلى العلل لما لا يخفى.
قوله: (لأن من ضرورة الترجيح صحة الاستقلال) ظاهره بيان الملازمة وليس كذلك بل تركه لظهوره وهو أنه إذا جاز التعدد كان الترجيح عبثًا بل كان باطلًا لكن لما كان يرد عليه أن هذا إنما يتم لو كان كل صالحًا للعلية بالاستقلال ذكر أن صحة الاستقلال من لوازم الترجيح إذ لا معنى للترجيح بين ما يصلح وما لا يصلح ولهذا فرع المحقق بيان الملازمة على ثبوت هذه المقدمة فقال فكان يجب .. إلخ.
قوله: (لوجب جعل كل واحد منها جزءًا) إشارة إلى قوله وإلا لوجب جعلها أجزاء كلام مسوق على طريق التوزيع حيث جعل العلل أجزاء بمعنى أن كلًا منها جزء فيندفع ما قال العلامة أن قوله مرجع ضمير جعلها تعسفًا نعم عبارة المنتهى وهو وإلا لزم جعل كل واحد منها جزءًا أوضح.
المصنف: (فإذا انفردت يثبت الحكم بها فإذا تعددت تناقضت) الظاهر من كلام المصنف أن المجموع بيان لوجه كون العلة مستقلة وغير مستقلة إذا جاز تعددها بأنها حينما تكون وحدها يثبت الحكم بها وعند تعددها ولو لم تكن مجتمعة لا يثبت الحكم بذلك الغير لاستقلاله فيكون كل واحدة من العلتين مستقلًا وغير مستقل وهو تناقض وقد شرحه الشارح على أن قوله فإذا تعددت تناقضت وجه آخر وهو أنه عند الاجتماع فى زمن واحد ومحل واحد يحصل التناقض بين ثبوت الحكم بكل وعدم ثبوته بكل نظرًا لاستقلال العلة وعلى هذا فقوله فلا تناقض فى التعدد أى سواء كان من غير اجتماع أو مع الاجتماع.
الشارح: (ولولا الإجماع لوجب جعل كل واحد منها جزءًا) أى لامتناع التعليل بعلتين عنده.
قوله: (وفى هذا إشارة إلى دفع ما فى بعض الشراح. . . إلخ) أى فى جعل اجتماع المثلين لازمًا فى المعية والترتيب وتحصيل الحاصل لازمًا فى الترتيب اندفع ما فى بعض الشراح. . . إلخ.
قوله: (لكن لما كان يرد عليه أن هذا) وهو قوله لو جاز لما تعلقا بالترجيح إنما يتم إذا كان كل صالحًا للعلية يعنى لا يكون دليلًا على الامتناع إلا إذا كان كل واحد من المتعدد صالحًا للعلية وإلا فيجوز أن يكون الامتناع لعدم الصلاحية للعلية ذكر أن صحة الاستقلال من لوازم الترجيح.
قال: (القاضى لا بعد فى المنصوصة وأما المستنبطة فتستلزم الجزئية لدفع التحكم فإن عينت بالنص رجعت منصوصة، وأجيب بأنه يثبت به الحكم فى محال أفرادها فتستنبط).
أقول: القاضى وهو المجوز فى المنصوصة دون المستنبطة له مقامان أحدهما الجواز فى المنصوصة فقال لا بعد فى تعددها إذ لا مانع أن يعين اللَّه تعالى لحكم أمارتين ثانيهما عدم الجواز فى المستنبطة فقال إذا اجتمعت أوصاف كل صالح للعلية حكمنا بكون كل واحد جزءًا من العلة إذ الحكم بالعلية دون الجزئية تحكم لقيام الاحتمالين فى نظر العقل ولا نص يعين أحدهما وإلا رجعت منصوصة وهو خلاف المفروض.
الجواب: لا نسلم لزوم التحكم فإنه يمكن استنباط الاستقلال بالعقل وهو أن يكون كما اجتمعت فى محل ينفرد كل فى محل فيثبت فيه الحكم فيستنبط أن العلة كل واحد لا الكل كما وجدنا المس وحده واللمس وحده فى محلين وثبت الحدث معهما فعلمنا أن كل واحد منهما علة مستقلة وإلا لما ثبت الحكم فى محل أفرادهما فيحكم بذلك عند الاجتماع.
قوله: (إذ الحكم بالعلية دون الجزئية تحكم) هذا تقرير واضح لكن لا يخفى إمكان معارضته بالمثل فإن الحكم بالجزئية دون العلية تحكم وتقرير الشارحين أنه تحكم بالجزئية لأن الحكم بعلية البعض دون البعض تحكم والمنع عليه ظاهر لجواز الحكم بعلية كل واحد من غير تحكم وترجيح فإن دفع بامتناع اجتماع العلل على ما فى بعض الشروح فمصادرة أو بلزوم التناقض أعنى الاستغناء وعدمه على ما ذكره بعض الشارحين فباقى المقدمات مستدرك لما سبق من أنه دليل على حدة.
قوله: (فيحكم بذلك) أى بكون كل منها علة مستقلة عند الاجتماع وهذا يخالف ما سبق أن كلًا منها عند الاجتماع جزء وتسميته بالاستقلال مجاز: لمعنى أنها بحيث لو انفردت كانت مستقلة إلا أن مثله لا يبعد فى مقام الجواب والأوفق ما فى الشروح أنه يستنبط أنها عند الانفراد علل مستقلة وعند الاجتماع أجزاء إلا أنه لا يلائم تقرير الدليل إذ ربما يشعر بتسليم مقتضاه فلذا لم يحمل عليه قوله فيحكم بذلك عند الاجتماع.
قوله: (فإن الحكم بالجزئية دون العلية تحكم) رد بأن العلية تحتاج إلى دليل صلوحيتها للاستقلال بخلاف الجزئية فيكفى فيها عدم الدليل على العلية فلذلك قيل بالتحكم فى العلية لقيام الاحتمالين احتمال الجزئية واحتمال العلية على حد سواء بخلاف الجزئية وسيأتى الجواب بقيام الدليل فى العلية على الصلاحية للاستقلال وقوله فإن دفع أى المنع المذكور.
قوله: (فمصادرة) أى لأخذ الدعوى فى الدليل لأن الدعوى امتناع تعدد العلل فى المستنبطة وقوله فباقى المقدمات مستدرك. . . إلخ. أى فلا حاجة لذكر التحكم بل كان يكفى أن يقال للزوم التناقض وحيث لم ينفع دفع المنع المذكور لم يصح توجيه التحكم بما ذكر.
قوله: (لا يلائم تقرير الدليل) أى دليل القاضى وقوله إذ ربما يشعر بتسليم مقتضاه أى مقتضى دليل القاضى فإنه يقول بالجزئية فى صورة الاجتماع وحينئذ فلا يصح أن يكون هذا الكلام جوابًا عن ذلك الدليل وقوله ولا الاحتمال أى احتمال أن تكون هى العلة أو غيرها هو العلة.
قال: (العاكس المنصوصة قطعية والمستنبطة وهمية فقد يتساوى الإمكان وجوابه واضح).
أقول: العاكس لمذهب القاضى وهو المانع فى المنصوصة المجوز فى المستنبطة فله أيضًا مقامان:
أحدهما: المنع فى المنصوصة وأثبته بأن المنصوصة قطعية بتعيين الشارع باعثة على الحكم فلا يقع فيه التعارض والاحتمال.
وثانيهما: الجواز فى المستنبطة وأثبته بأن المستنبطة وهمية فقد يتساوى الإمكان فيهما ويؤيد كلًا مرجح فيغلبان على الظن فيجب اتباعهما، والجواب واضح وهو منع كون المنصوصة قطعية وإن سلم فلا يمتنع القطع بالاستقلال لجواز تعدد البواعث.
قوله: (باعثة) مفعول التعيين يعنى أن معنى قطعية المنصوصة أن الشارع عين ما كانت هى الباعثة له على الحكم فلا يقع فيه إلا فيما عينه التعارض لامتناع تعارض القطعيات ولا الاحتمال وإلا لما كانت قطعية وهذا بخلاف المستنبطة فإنها وهمية أى ليست بقطعية فيمكن أن يكون الباعث هذا كما يمكن أن يكون ذاك على سواء وقد يترجح كل بما يثبته من مسالك العلة فيحصل الظن بعلية كل منهما وفى هذا دفع لما قيل أن تساوى إمكانهما لا يفيد صحة التعليل بهما بل ربما ينافى التعليل بواحدة منهما لعدم المرجح والجواب أن المنصوصية ههنا فى مقابلة الاستنباط لا الظهور حتى يستلزم القطعية ولو سلم فتعدد البواعث جائز فلا يكون فى اجتماعهما تعارض حتى يلزم تعارض القطعيات.
قوله: (وفى هذا) أى فى قوله وقد يترجح كل بما يثبته. . . إلخ. وقوله لا الظهور أى لا فى مقابلة الظهور.
قال: (الإمام وقال إنه النهاية القصوى وفلق الصبح لو لم يكن ممتنعًا شرعًا لوقع عادة ولو نادرًا لأن إمكانه واضح ولو وقع لعلم ثم ادعى تعدد الأحكام فيما تقدَّم).
أقول: الإمام وهو القائل بعدم الوقوع قد ذكر فى بيانه وجهًا وزعم أنه الغاية القصوى فى القوة وفلق الصبح فى الوضوح وهو أنه لو لم يكن ممتنعًا شرعًا لوقع ولو على سبيل الندرة واللازم منتف، أما الملازمة فلأن إمكانه واضح وما خفى إمكانه وجوازه يمكن أن يتوهم امتناعه فلا يقع لكن ما كان إمكانه وجوازه واضحًا معلومًا لكل أحد مع التكثر والتكرار لموارده مما تقضى العادة بامتناع أن لا يقع أصلًا، وأما انتفاء اللازم فلأنه لو وقع لعلم عادة ولما لم يعلم علم أنه لم يقع ثم ادعى لتصحيح دعواه عدم الوقوع فيما تقدَّم من أسباب الحدث والقتل أن الأحكام متعددة للانفكاك وربما التزمه فى الحدث فإنه قد قبل أنه إذا نوى رفع أحد أحداثه لم يرتفع الآخر.
والجواب: منع أنه لم يقع ولم ينقل كما فى الصور المذكورة وأنى له إثبات التعدد فى الحدث والتجويز لا يكفيه لأنه مستدل.
قوله: (لو لم يكن ممتنعًا شرعًا) ظاهره مخالف لما سبق من أنه قائل بالجواز دون الوقوع وأيضًا ليس هذا دليلًا على عدم الوقوع بل جعل عدم الوقوع مقدمة لهذا الدليل وأثبتها بأنه لم يسلم الوقوع ويظهر مقصود المقام بإيراد كلام الإمام قال فى البرهان نحن نقول تعليل الحكم الواحد بعلتين ليس ممتنعًا عقلًا نظرًا إلى المصالح الكلية ولكنه ممتنع شرعًا وإمكانه من طريق العقل فى غاية الظهور فلو كان ثابتًا شرعًا لما كان يمتنع وقوعه على حكم الندور والنادر لا بد أن يقع على مر الدهور فإذا لم يتفق وقوع هذا فى مسألة ولم يتشوق إلى طلبه طالب لاح كفلق الصبح أن ذلك ممتنع شرعًا ليس ممتنعًا عقلًا.
قوله: (عدم الوقوع) مفعول دعواه وفيما تقدَّم متعلق بادعى وأن الأحكام متعددة مفعول ادعى وللانفكاك علة تعددها بمعنى أنه قد يوجد القتل للقصاص بدون القتل للارتداد وبالعكس وكذا يوجد حدث اللمس بدون حدث المس وبالعكس ثم إن ألزم بأنه لو جاز الانفكاك فى الوجود لجاز فى العدم فيجب جواز أن يرتفع أحدهما ويبقى الآخر فربما يلتزمه على ما هو رأى البعض وإنما قال فى
الحدث لأنه محل الإلزام إذ لا نزاع فى ارتفاع أحدهما دون الآخر فى القتل.
قوله: (والجواب منع أنه لم يقع) قولكم لو وقع لعلم لكن لم يعلم قلنا ممنوع قولكم لو علم لنقل إذ لا طريق لهذا العلم سواه لكن لم ينقل قلنا ممنوع فإن فى الصورة المذكورة من القتل والحدث العلل متعددة فمنع عدم النقل ناظر إلى كلام الإمام حيث قال ولو وقع لعلم ولكن لم ينقل من زمن النبى عليه السلام إلى زماننا من الصحابة والتابعين والسلف الصالحين أنهم أسندوا حكمًا واحدًا إلى علتين فإن زعم الإمام أن الحكم أيضًا متعدد احتاج إلى إثباته ولا يتيسر فإن اكتفى بأنه يجوز أن يكون الحكم متعددًا كما ذهب إليه البعض لم يكفه لأنه فى معرض الاستدلال على امتناع التعدد وعلى أن الحكم فى صورة تعدد العلل متعدد.
قوله: (والمختار أن كل واحدة علة مستقلة) يعنى حقيقة لا مجازًا كما سبق وإلا لكان هذا مذهب القائلين بأن كل واحدة جزء والعلة هى المجموع.
قوله: (ويظهر مقصود المقام. . . إلخ) محصله أنه يقول بالجواز عقلًا والامتناع شرعًا لا بالجواز شرعًا وعدم الوقوع كما توهم.
قال: (القائلون بالوقوع إذا اجتمعت فالمختار كل واحدة علة، وقيل: جزء، وقيل: العلة واحدة لا بعينها، لنا لو لم تكن كل واحدة علة لكانت جزءًا وكانت العلة واحدة، والأول باطل لثبوت الاستقلال، والثانى للتحكم، وأيضًا لامتنع اجتماع الأدلة، القائل بالجزء لو كانت كل مستقلة لاجتمع المثلان، وقد تقدم، وأيضًا لزم التحكم لأنه إن ثبت بالجميع فهو المدعى وإلا لزم التحكم، وأجيب ثبت بالجميع كالأدلة العقلية والسمعية القائل لا بعينها لو لم يكن كذلك لزم التحكم أو الجزئية فيتعين).
أقول: القائلون بوقوع تعدد العلل المستقلة اتفقوا على أنها إذا ترتبت حصل الحكم بالأولى، وأما إذا اجتمعت دفعة كمن مس ولمس وبال معًا فقد اختلفوا والمختار أن كل واحدة علة مستقلة وقيل كل واحد جزء والعلة المجموع، وقيل العلة واحدة لا بعينها والاحتمالات لا تخرج عن هذه لنا لو لم تكن كل واحدة علة مستقلة لكانت كل واحدة جزءًا وكانت العلة واحدة وكلاهما باطل، أما الملازمة فلأنه إذا سلب العلية عن كل واحد مع ثبوتها، فإما أن تثبت للمجموع فيكون كل جزأ منها أو لبعضها فيكون هى العلة، وإما بطلان الأمرين فالأول وهو الجزئية لثبوت استقلال كل، والثانى وهو كون العلة واحدة فلأنه مع تساويها تحكم محض، ولنا أيضًا أنه لو امتنع كون كل علة لامتنع اجتماع الأدلة، على مدلول لما علمت أن العلل الشرعية أدلة، واللازم منتف بالاتفاق، القائل بأن كل واحدة جزء العلة، قال لو كانت علة مستقلة لزم اجتماع المثلين وقد مر تقريره وجوابه، وقال أيضًا يلزم التحكم لأنه إما أن يثبت بالجميع فيكون لكل واحد مدخل فى ثبوته أو لا بل ببعضها دون بعض والأول هو المدعى وقد فرض عدمه فتعين الثانى وهو تحكم محض.
الجواب: أنه يثبت بالجميع بمعنى ثبوته بكل واحد واحد بالاستقلال كما يثبت المدلول بالأدلة السمعية والعقلية وكل مستقل بإثباته حتى لو انتفى الآخر لم يضر عدمه والفرق بينه وبين ما ادعيتم ظاهر، القائل بأن العلة أحدها لا بعينها، قال لولا ذلك لزم التحكم أو الجزئية وكلاهما باطل، أما الملازمة فلما تقدَّم من امتناع اجتماع المثلين، فالعلة إما الكل أو واحد بعينه أو لا بعينه، وأما بطلان اللازم فالتحكم ظاهر والجزئية لما ثبت من الاستقلال، وقد سبق إليهما الإشارة فلم
يتكرر، والجواب: منع الملازمة بل يستقل كل واحدة كما ذكرنا من الأدلة.
قوله: (والاحتمالات لا تخرج عن هذه) لا خفاء فى احتمال آخر وهو أن يكون العلة واحدة بعينها إما على سبيل التحكم أو الترجيح فإن قيل فحينئذٍ لا تعدد والتقدير بخلافه قلنا التقدير التعدد بحسب الظاهر وبمعنى وجود أمور يصلح كل منها للعلية ولإثبات الحكم فى الجملة وإلا فلا تعدد أيضًا عند كون العلة هى المجموع أو واحدًا لا بعينه.
قوله: (أو كانت العلة واحدة) أى مبهمة أو معينة إذ التحكم يرفعهما فيتم الدليل ولهذا صرح بهذا التعميم فى دليل القائل بأن العلة واحدة لا بعينه ويحتمل أن يريد المبهمة لأنه لا قائل بالمعينة وأما لو خص لزوم التحكم بالمعينة على ما هو السابق إلى الفهم الموافق لما سيجئ فلا يفيد المطلوب.
قوله: (لثبوت استقلال كل) إن أراد الاستقلال فى الجملة أو بمعنى كونها بحيث يثبت الحكم بها وحدها عند الانفراد فغير مفيد وإن أراد الاستقلال عند الاجتماع بمعنى ثبوت الحكم بها بالفعل فنفس المتنازع.
قوله: (لما علمت) قد علمت الاعتراض أيضًا لجواز أن يمتنع بخصوصه كونه دليلًا باعثًا ولا يلزم من امتناع الأخص امتناع الأعم فلذا لم يعده.
قوله: (وقال أيضًا) لا خفاء فى احتياج كل من الوجهين إلى الآخر والأولى أن يجعلا وجهًا واحدًا، وهو أنه لو لم يكن كل واحد جزء العلة لكانت العلة كل واحدة منها فيلزم اجتماع المثلين أو واحدة فقط فيلزم التحكم لكن اللفظ لا يساعده.
قوله: (والفرق بينه) أى بين الثبوت بالجميع بالمعنى الذى ذكرنا وبين الثبوت بالمجموع بالمعنى الذى ادعيتم ظاهر لأن ما ذكرنا عائد إلى الكل الإفرادى وما ذكرتم إلى الكل المجموعى وأما الفرق بأنه لو انتفى الآخر فعدمه يضركم ولا يضرنا فليس بمستقيم إذ لا نزاع فى الاستقلال عند الانفراد، فإن قيل قد ثبت أن الاستقلال مجاز عند الاجتماع وأن المثبت هو المجموع وكل واحد جزء العلة قلنا لا مذهب للمانع فليس كل ما يدفع به كلام الخصم يكون مذهبًا للمعترض فإن قيل
العلل الشرعية أدلة سمعية فلا معنى لتمثيلها بها ولو سلم ففيها بل فى الأدلة العقلية أيضًا الخلاف قلنا أما التغاير فضرورى كيف وأن العلل أوصاف ثابتة فى الأصل كالإسكار فى الخمر والأدلة نص أو إجماع، وأما توارد الأدلة واستقلال كل بإفادة المطلوب فكلامهم مشحون به بل الخصم فى نفس مطلوبه هذا قد تمسك بدليلين نعم يرد عليه أنه إذا حصل العلم بالأول فماذا يحصل بالثانى وتحقيقه فى الكلام.
قوله: (وقد سبق إليهما) أى إلى الملازمة وبطلان اللازم الإشارة وكذا الجواب فلذا اقتصر فى المتن على قوله لو لم يكن كذلك لزم التحكم أو الجزئية والحاصل أنه لما امتنع استقلال كل بناء على امتناع اجتماع المثلين فالعلة إما المجموع فيبطل الاستقلال أو واحد بعينه فيلزم التحكم أو واحد لا بعينه وهو المطلوب وأنت خبير بما فيه من مخالفة ما سبق حيث أثبت احتمالًا آخر وخص التحكم بعلية واحد معين.
قوله: (فغير مفيد) أى لأن استقلال كل عند الانفراد لا ينافيه الجزئية عند الاجتماع إلا أن يقال حيث ثبت الاستقلال عند الانفراد فلابد منه عند الاجتماع وحينئذ ينافى الجزئية عند الاجتماع.
قوله: (لكن اللفظ لا يساعده) أى لقوله وأيضًا.
قوله: (وأما الفرق بأنه لو انتفى الآخر لم يضر) أى الفرق الذى أشار إليه الشارح بقوله حتى لو انتفى الآخر لم يضر فإن معناه الفرق بين دعوى الجزئية ودعوى كون كل علة بأنه على أن كل واحد علة لا يضر عدم الآخر لأنه إذا فرض أن الحكم ثابت بالواحد من العلل على الاستقلال فبانتفاء أحدها لا يبطل استقلال الباقى بخلاف ما إذا كان كل واحد منها جزءًا، فإن الاستقلال قائم بالمجموع وبانتفاء جزء ينتفى الاستقلال وحاصل رد الفرق أنه لا نزاع فى الاستقلال عند الانفراد.
قوله: (فإن قيل قد ثبت أن الاستقلال مجاز. . . إلخ) أى عند منع التناقض الواقع جوابًا عن لزومه إذا قيل بتعدد العلل وقوله قلنا لا مذهب للمانع أى الذى منع دليل القائلين بمنع تعدد العلل الذى ذكره المصنف هنا بقوله لو جاز. . . إلخ.
والمنع هو المذكور فى قول المصنف هناك وأجيب بأن معنى استقلالها. . . إلخ. المقتضى للجزئية عند الاجتماع.
قوله: (وتحقيقه فى الكلام) مما قيل فيه إن الدليل الثانى يعرف به جهة دلالة الأول فلا تحصيل للحاصل، وقوله: هو أن يعلل ولاية الأب على الصغير الذى عرض له الجنون بالجنون؛ أى ليتفرع عليه إثبات ولايته على البالغ المجنون قياسًا عليه، وقوله: فإن الولاية ثابتة قبل عروض الجنون؛ أى بالصغر.
قال: (والمختار جواز تعليل حكمين بعلة بمعنى الباعث وأما الأمارة فاتفاق، لنا لا بعد فى مناسبة وصف واحد لحكمين مختلفين قالوا: يلزم تحصيل الحاصل لأن أحدهما حصلها وأجيب بأنه إما أن يحصل أخرى أو لا تحصل إلا بهما).
أقول: ما تقدَّم تعليل الحكم بعلتين وهذا عكسه وهو تعليل الحكمين بعلة واحدة، إما بمعنى الأمارة فلا خلاف فى جوازه، وإما بمعنى الباعث فقد اختلف فيه والمختار جوازه، لنا لا بعد فى مناسبة وصف واحد لحكمين كالسرقة للقطع زجرًا لغيره وله من العود لمثله وللتغريم جبرًا لصاحب المال، وكالزنا المثبت للجلد والتغريب ليحصل بهما الزجر التام.
قالوا: محال إذ يلزم منه المحال، وهو تحصيل الحاصل لأن معنى مناسبته للحكم أن مصلحته حاصلة عند الحكم والحكم الواحد يحصل المصلحة المقصودة منه فإذا حصل الحكم الثانى حصله مرة أخرى وأنه تحصيل الحاصل.
والجواب: منع لزوم تحصيل الحاصل لجواز أن يحصل الحكم الآخر مصلحة أخرى كما فى مثال السارق وأن المصلحة المقصودة لا تحصل إلا بهما كما فى مثال الزانى.
قوله: (فلا خلاف فى جوازه) بل وقوعه كغروب الشمس لجواز الإفطار ووجوب المغرب.
قوله: (كالسرقة) فإنها وصف مناسب للقطع تحصيلًا لمصلحة الزجر وللتغريم تحصيلًا لمصلحة جبر نقص المال فالوصف السرقة والحكم القطع والتغريم والمصلحة الزجر والجبر ولا بعد فى اشتمال وصف واحد على مصالح جمة وبهذا يندفع الإشكال المتوهم على تجويز مصلحة أخرى بأنه حينئذٍ لا تكون العلة واحدة، وأما منع عدم البعد فلا يخفى سقوطه بعد البيان بالأمثلة.
قال: (ومنها أن لا تتأخر عن حكم الأصل لنا لو تأخرت لثبت الحكم بغير باعث وإن قدرت أمارة فتعريف المعرف).
أقول: ومن شروط علة حكم الأصل أن لا يكون ثبوتها متأخرًا عن ثبوت حكم الأصل كما يقال فيما أصابه عرق الكلب أصابه عرق حيوان نجس فيكون نجسًا كلعابه فيمنع كون عرق الكلب نجسًا فيقال لأنه مستقذر فإن استقذاره إنما يحصل بعد الحكم بنجاسته، وكان يعلل سلب الولاية عن الصغير بالجنون العارض للولى، لنا لو تأخرت العلة بمعنى الباعث عن الحكم لثبت الحكم بغير باعث وأنه محال، اللهم إلا أن لا يعنى بالعلة الباعث بل الأمارة وهو غير المبحث ومع ذلك يلزم تعريف المعرف فإن المفروض معرفة الحكم قبل ثبوت علته.
قوله: (فيما أصابه عرق الكلب) هو الفرع والأصل ما أصابه لعاب الكلب والحكم نجاسة المصاب والجامع إصابة نجس يتولد من حيوان نجس فالمعترض يمنع وجود الوصف فى الفرع ويقول لا نسلم أن العرق نجس فيجيب المستدل بأنه مستقذر كاللعاب فيكون نجسًا وفيه تعليل النجاسة بالاستقذار الذى ثبوته متأخر عنها وإلا وضح فى المقصود أن يقال فى العرق العرق مستقذر كاللعاب فيكون نجسًا مثله فإنا وإن تكلفنا فالإشكال قائم لأن فيما ذكرنا قياسين قياس ما أصابه العرق على ما أصابه اللعاب، وقياس العرق على اللعاب فإذا جعل العلة المتأخرة من الاستقذار المتأخر عن نجاسة اللعاب، فالقياس الأول لغو ومنع ثبوت العلة فى فرعه هدر هذا حال المثال الأول، وأما المثال الثانى فكلام الآمدى وجميع الشارحين هو أن يعلل ولاية الأب على الصغير الذى عرض له الجنون بالجنون فإن الولاية ثابتة قبل عروض الجنون، وهذا فى غاية الظهور وأما عبارة الشارح وهو أن يعلل سلب الولاية عن الصغير بالجنون العارض للولى فغاية ما أدى إليه نظر الناظرين فى هذا الكتاب أن من وضع الظاهر موضع المضمر والمعنى سلب الولاية عن الصغير بالجنون العارض له والفرع فى الأول إثبات الولاية على البالغ المجنون وفى الثانى سلبها عنه والأقرب أن يجعل سلب الولاية عن الولى الذى عرض له الجنون كالأب مثلًا فرعًا وعن الصغير المجنون أصلًا والجنون علة مع أن الحكم فى الأصل ثابت قبله لعلة الصغر والمعنى كان يعلل سلب الولاية عن الصغير المجنون
بالجنون الذى هو عارض فى الولى البالغ المقيس على الصغير المجنون.
قوله: (يلزم تعريف المعرف) يمكن أن يقال إنها بمنزلة الدليل الثانى بعد الأول وأما ما يقال إنها تكون لتعريف حكم الفرع فليس بشئ لأن التقدير أنها علة لحكم الأصل بمعنى الأمارة عليه.
قوله: (فغاية ما أدى إليه نظر الناظرين فى هذا الكتاب. . . إلخ) أى أنه على مقتضى ظاهره عكس المراد بأن ظاهره أن الولاية كانت ثابتة للولى على الصغير وإنما سلبها عنه عروض جنونه وليس فى هذا تأخر العلة عن حكم الأصل بل هى متقدمة عليه فيستقيم أن يتفرع عليه سلب ولايته عن البالغ المجنون بعلة جنونه نفسه قياسًا فلا بد حينئذ من أن يقال إن قوله للولى من وضع الظاهر موضع المضمر والأصل له أى للصغير.
قوله: (والفرع فى الأول) أى فى جعل المثال تعليل ولاية الأب على الصغير الذى عرض له الجنون وقوله وفى الثانى هو جعل المثال تعليل سلب الولاية عن الصغير بالجنون العارض له.
قوله: (والأقرب أن يجعل. . . إلخ) فالأصل المقيس عليه الصغير المجنون والمقيس الأب المجنون والحكم سلب الولاية فى كل والعلة الجنون الذى هو متأخر عن الحكم فى الفرع ووجه قربه بقاء المظهر على حاله وأنه ليس موضوعًا موضع المضمر على هذا الحل وفيه أنه على هذا يكون قول الشارح بالجنون العارض للولى عكس للمراد مع بعده عن الفهم وذلك أن المطلوب العروض فى الأصل ولم يذكر والذى ذكر هو العروض فى الفرع وهو غير مطلوب.
قوله: (وأما ما يقال. . . إلخ) قائله الأصفهانى.
قال: (ومنها أن لا يعود على الأصل بالإبطال).
أقول: ومن شروط علة حكم الأصل أن لا يعود على الأصل بالإبطال، أى لا يلزم منه بطلان حكم المعلل بها فإن كل علة استنبطت من حكم ولزم منه بطلان ذلك الحكم فهو باطل لأن الحكم أصله فإن التعليل فرع الثبوت وبطلان الأصل يستلزم بطلان الفرع فصحته مستلزمة لبطلانه فلو صح لصح وبطل فيجتمع النقيضان، مثاله: قال عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء"، ومن حكمه حرمة ذلك فى القليل من الطعام لعمومه، وعلل الحنفية بالكيل فخرج القليل الذى لا يكال فقد أبطل حكمه ولهم عن ذلك اعتذار وليس الغرض المثال بل التفهيم.
مثال آخر، قال:"فى أربعين شاة شاة" فعللوا بدفع حاجة الفقراء فجوزوا قيمتها فقد أفضى هذا التعليل إلى عدم وجوب الشاة بل ثبوت التخيير بينها وبين قيمتها.
قوله: (ولهم عن ذلك اعتذار) هو أنا لا نسلم أن الطعام يعم القليل والكثير بل يخص الكثير بقرينة قوله "إلا سواء بسواء" فإن التسوية المعتبرة شرعًا فى المطعومات فى التسوية فى الكيل وهى لا تتصور إلا فى الكثير فكأنه قال لا تبيعوا الطعام الذى من شأنه التفاوت والتساوى إلا بصفة التساوى كما يقال لا تقتل حيوانًا إلا بالسكين لا يتناول النهى قتل الحيوان الذى ليس من شأنه القتل بالسكين وتحقيقه أن المستثنى منه فى الاستثناء للفرع يجب أن يقدر من جنس المستثنى فيقدر فى ما ضربت إلا زيدًا أحدًا وفى ما كسوت إلا جبة لباسًا وفى ما سرت إلا ماشيًا فى حال من أحوال السير فالمعنى لا تبيعوا الطعام على حال من أحوال المقابلة والموازنة إلا حال التساوى ونحن نعتده أعم العموم أى على حال ما وكذا لهم اعتذار عما يلزم فى التعليل بدفع حاجة الفقراء وقد لخصناه فى شرح التنقيح.
قال: (وأن لا تكون المستنبطة بمعارض فى الأصل وقيل ولا فى الفرع وقيل مع ترجيح المعارض).
أقول: ومن شروط علة حكم الأصل إذا كانت مستنبطة أن لا تكون بمعارض فى الأصل بأن يبدى علة أخرى من غير ترجيح وإلا جاز التعليل بمجموعهما أو بالأخرى وقد مر الخلاف فيه فى تعليل الحكم الواحد بعلتين وقيل ولا بمعارض فى الفرع بأن يثبت فيه علة أخرى توجب خلاف الحكم بالقياس على أصل آخر فإن المعارض يبطل اعتبارها وهو غير مستقيم فإنه لا يبطل شهادتها وقيل أن لا تكون بمعارض فى الفرع مع ترجيح المعارض ولا بأس بالمساوى لأنه لا يبطل وإنما يحوج إلى الترجيح، وهو دليل الصحة بخلاف الراجح فإنه يبطل.
قوله: (فإنه لا يبطل شهادتها) بل يتوقف مقتضاها كالشهادة إذا عورضت بشهادة فإن إحداهما لا تبطل الأخرى حتى إذا ترجحت إحداهما لم يحتج إلى إعادة الدعوى والشهادة ومن ادعى أن المساوى أيضًا يبطل فعليه الدليل فإن قيل لما كان المختار عنده جواز تعدد العلل المستقلة كان ينبغى أن لا يشترط عدم معارض فى الأصل قلنا أراد أنه يشترط ذلك لتكون العلة علة بلا خلاف واحتمال وإنما قيد الحكم بالمستنبطة لأن فى المنصوصة لا تتنقل العلية إلى المجموع أو إلى الأخرى وفاقًا، فإن قيل إطلاق المعارض على ما فى الفرع مناسب من جهة أنه يثبت حكمًا مخالفًا لكن لا جهة لإطلاقه على ما فى الأصل كأسباب الحدث مثلًا قلنا كلام الآمدى والمنتهى صريح فى أن المراد بالمعارض فى الأصل وجود علة أخرى لا تحقق لها فى الفرع فهذا أخص تعدد العلل ولا خفاء فى أنه إذا كانت العلة هى المجموع أو الأخرى لم يثبت فى الفرع الحكم الذى كان يثبته الأولى فسماه معارضًا بخلاف صورة تعدد العلل فإن هذا ليس بلازم.
المصنف: (بمعارض فى الأصل) أى معارضة بوصف معارض فى الأصل للوصف الذى ادعاه المستدل علة حكم الأصل وبنى عليه قياس الفرع الموجود فيه ذلك الوصف عليه ويظهر من كلام الشارح أنه لا يشترط فى المعارض أن يكون منافيًا لحكم الأصل بل ربما أشعر كلامه بعدم المنافاة لحكم الأصل.
الشارح: (وإلا جاز) أى وإن لم تكن غير معارضة فى الأصل بأن كانت معارضة بوصف فى الأصل أبداه المعترض لم يصح كونها علة لجواز أن يكون العلة مجموع الوصفين العارض والمعارض به أو أن العلة هى الوصف الذى عارض به المعترض فلا يثبت استقلال الوصف الذى ذكره المعلل وهذا يقتضى اشتراط عدم العارضة مطلقًا حتى على القول بجواز تعدد العلل لأن محله إذا ثبت استقلال كل بالعلية وبهذا يظهر أن قول الشارح قد مر الخلاف فيه فى تعليل الحكم الواحد بعلتين لا موقع له هنا على هذا وكذا قول المحشى فإن قيل لما كان المختار عنده جواز التعدد. . . إلخ.
قوله: (لكن لا جهة لإطلاقه على ما فى الأصل. . . إلخ) أى لأنه من باب تعدد العلل.
قال: (وأن لا تخالف نصًا أو إجماعًا وأن لا تتضمن المستنبطة زيادة على النص، وقيل: إن نافت مقتضاه وأن يكون دليلها شرعيًا).
أقول: ومن شروط علة حكم الأصل أن لا تخالف نصًا أو إجماعًا كما يقال المالك لا يعتق فى الكفارة لسهولته عليه بل يصوم وهو يصلح مثالًا لهما.
ويشترط فى المستنبطة خاصة أن لا تتضمن زيادة على النص؛ أى حكمًا فى الأصل غير ما أثبته النص لأنها إنما تعلم مما ثبت فيه، مثاله:"لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" فتعلل الحرمة بأنه ربا فيما يوزن كالنقدين فيلزم التقابض مع أن النص لم يتعرض له وقيل إن كانت الزيادة منافية لحكم الأصل لأنه نسخ له فهو مما يكرر على أصله بالإبطال وإلا جاز.
قوله: (أن لا تخالف) يعنى يشترط فى العلة أن لا يكون ما تثبته فى الفرع حكمًا يخالف النص أو الإجماع كان يعلل حكم بالسهولة فيقاس عليه أن الملك لا تجوز له الكفارة بالإعتاق بل يتعين عليه الصوم فإن هذا حكم يخالف الكتاب والسنة والإجماع.
قوله: (وأن يكون دليلها) أى دليل العلة شرعيًا وإلا لما كان القياس شرعيًا حيث لم يثبت علته الشرع وهدا الشرط مما أهمله الشارح.
قوله: (لأنها) أى المستنبطة إنما تعلم من الحكم الذى أثبت فى الأصل فلو أثبت بها حكم فى الأصل كان دورًا بخلاف المنصوصة فإنها تعلم بالنص.
قوله: (فيلزم التقابض) يعنى أن تعليل حرمة بيع الطعام بالطعام متفاضلًا ثبوته ربويًا فيما يوزن كما فى الذهب والفضة توجب اشتراط التقابض فى المجلس فى بيع الطعام بالطعام احترازًا عن شبهة الفضل كما فى النقدين لما فى النقد من المزية على النسيئة واشتراط التقابض زيادة على النص وهو نسخ فلا يجوز بالقياس والاجتهاد بخلاف ما إذا كانت العلة منصوصة فإنها بالنص وبعضهم لم يجعل مجرد الزيادة نسخًا بل إذا كانت منافية لحكم الأصل فمنعها وجوز غير المنافية له.
قوله: (لما فى النقد) أى المنقود المعجل فى أحد العوضين من المزية على النقد أى فشبهة الفضل موجودة.
قال: (وأن لا يكون دليلها متنًا ولا لحكم الفرع بعمومه أو بخصوصه مثل: "لا تبيعوا الطعام بالطعام"، أو "من قاء أو رعف" لنا تطويل بلا فائدة ورجوع، قالوا: مناقشة جدلية).
أقول: ومن شروط العلة أن لا يكون الدليل الدال عليها متنًا ولا لحكم الفرع لا بعمومه ولا بخصوصه.
أما العموم فمثل أن يقيس الذرة على البر فى الربوية ويعلل بالطعم فيمنع، فيقول فقوله عليه السلام:"لا تبيعوا الطعام بالطعام" وترتيب الحكم على الوصف يفيد عليته له وهذا النص يتناول الذرة بعمومه.
وأما الخصوص فمثل أن يقيس الخارج بالقئ أو الرعاف فى نقضه الوضوء على الخارج من السبيلين ويعلل بأنه خارج نجس فيمنع، فيقول لقوله صلى الله عليه وسلم:"من قاء، أو رعف، أو أمذى فليتوضأ وضوءه للصلاة"، وهذا النص بخصوصه يتناول القئ والرعاف.
لنا: أنه يمكن إثبات الفرع بالنص كما يمكن إثبات الأصل به والعدول عنه إلى إثبات الأصل ثم العلة ثم بيان وجودها فى الفرع ثم بيان ثبوت الحكم بها تطويل بلا فائدة، وأيضًا فإنه رجوع من القياس إلى النص.
وقالوا: إنها مناقشة جدلية إذ الغرض الظن بأي طريق حصل فلا معنى لتعيين الطريق.
والجواب: أنه رجوع عن القياس، واعلم أنه ربما يكون النص مخصصًا والمستدل أو المعترض لا يراه حجة إلا فى أقل الجمع فلو أراد إدراج الفرع فيه يعتبر فيثبت به العلية فى الجملة، ثم يعمم به الحكم فى جميع موارد وجود العلة، وأيضًا فقد يكون دلالته على العلية أظهر من دلالته على العموم كما يقول: حرمت الربا فى الطعام للطعم، فإن العلية فى غاية الوضوح والعموم فى المفرد المعرف محل خلاف ظاهر.
قوله: (لا بعمومه ولا بخصوصه) الغرض من هذا التفصيل أنه ربما يتوهم جوازه فيما إذا كان التناول بعمومه بناء على احتمال تخصيصه منه.
قوله: (فيمنع) أى المعترض عليه الطعام فيقول القائس إنه علية رتب الحكم عليه
وهو دليل العلية فمثل هذا التعليل لا يجوز ولأجل تعدية الحكم إلى الفرع إذ النص يتناوله بعمومه بخلاف الحديث الثانى فإن فيه تصريحًا بالقئ والرعاف ووجه دلالته على علية الخارج النجس أنه رتب الحكم على الأمور المذكورة ولا مشترك بينها سوى الخارج النجس.
قوله: (وقالوا) مناقشة اعتراض على الدليل المذكور لا استدلال على نقيض المدعى والمصنف كأنه معترف بوروده وما ذكره الشارح ليس جوابًا عنه لأن حاصل ما ذكر أن الدليل الأخير أعنى الرجوع عن القياس سالم عن الاعتراض وهو كاف فى إثبات المطلوب.
قوله: (واعلم) اعتراض على الدليل المذكور بأنه لا يتم فيما إذا كان دليل العلية بعمومه متناولًا لحكم الفرع لظهور الفائدة بوجهين حاصلهما راجع إلى إثبات الحكم على من ينازع فى تناول النص.
الشارح: (تطويل بلا فائدة) رد بأن تعدد الطرق من الفوائد.
الشارح: (وأيضًا فإنه رجوع من القياس إلى النص) أى وذلك الرجوع إبطال للأول ورد بأنه لا رجوع لأن الإفادة للحكم بالقياس غير ملاحظ غيره وإن توقف إحدى مقدماته على النص وبالنص استقلال فهما طريقان.
الشارح: (واعلم أنه ربما. . . إلخ) هو بمعنى قول غيره وهذا كله إذا لم يكن تنازع فى دلالة دليل العلة على حكم الفرع أما لو تنوزع فى دلالته على حكم الفرع مثل أن يكون عامًا مخصوصًا والمعلل لا يرى عمومه فجوازه اتفاق لأنه يثبت به العلية ثم يعم بها.
الشارح: (فلو أراد إدراج الفرع فيه يعتبر) تحريف وحقه: يعترض وقوله: للدوران أى دوران الحكم وجودًا وعدمًا.
قال: (والمختار جواز كونها حكمًا شرعيًا إن كان باعثًا على حكم الأصل لتحصيل مصلحة لا لدفع مفسدة كالنجاسة فى علة بطلان البيع).
أقول: هل يجوز تعليل الحكم الشرعى بالحكم الشرعى، أما بمعنى الأمارة المجردة فظاهر وأما بمعنى الباعث فقيل يجوز للدوران وستعلم أنه لا يفيد ظن العلية، وقيل لا يجوز لأنه إن تقدَّم العلة لزم النقض وإن تأخر لم يجز لما مر وإن قارن فلا أولوية لأحدهما بالعلية فيلزم التحكم.
الجواب: منع التحكم للمناسبة وغيرها من المسالك، والمختار أنه إن كان باعثًا على حكم الأصل لتحصيل مصلحة يقتضيها حكم الأصل جاز كما يقال فى بطلان بيع الخمر علته النجاسة لمناسبتها المنع من الملابسة تكميلًا لمقصود البطلان وهو عدم الانتفاع والنجاسة حكم شرعى، وأما إن كان لدفع مفسدة يقتضيها حكم الأصل فلا يجوز لأن الحكم الشرعى لا يكون منشأ مفسدة مطلوبة الدفع وإلا لم يشرع ابتداء، وهذا إنما يصح لو لم يشتمل على مصلحة راجحة وعلى مفسدة تدفع بحكم آخر لتبقى المصلحة خالصة، مثاله: شرع حد الزنا لحفظ النسب بين رجم وجلد مع تغريب وكان حدًا ثقيلًا ولو لم يبالغ فى الشهادة عليه لأدى إلى كثرة وقوع الحد وفيه من المفسدة ما لا يخفى فشرع المبالغة فيه دفعًا لتلك المفسدة.
قوله: (فظاهر) للقطع بالامتناع فى جعل التنازع أحد الحكمين أمارة للآخر بأن يقول: إذا حرمت كذا فقد حرمت كذا.
قوله: (وإن تأخر) أى الحكم الذى هو العلة لم يجز لما مر من امتناع كون ثبوت العلة متأخرًا عن ثبوت حكم الأصل.
قوله: (وهذا إنما يصح) اعتراض على ما ذكر لبيان امتناع كون الحكم الشرعى علة لحكم شرعى بمعنى الباعث عليه لدفع مفسدة يشتمل هو عليها يعنى يجوز أن يشتمل الحكم الشرعى على مصلحة راجحة ومفسدة مرجوحة مطلوبة الدفع فيدفع بحكم آخر شرعى وذلك كحد الزنا فإنه حكم شرعى مشتمل على مصلحة راجحة من حفظ النسب وهو حد ثقيل لكونه دائرًا بين الرجم كما فى المحصن وبين جلد وتغريب كما فى غيره وفى كثرة وقوعه مفسدة ما من إتلاف النفوس وإيلامها فشرع المبالغة والاحتياط فى طريق ثبوته أعنى الشهادة دفعًا للمفسدة القليلة وهذا معنى
كون ذلك علة له باعثًا عليه ووجوب الحد المفضى إلى كثرة الإتلاف والإيلام حكم شرعى معلل، بوجوب الأربع فى الشهود دفعًا لمفسدة كثيرة لتبقى مصلحة حفظ النسب خالصة.
قوله: (للقطع بالامتناع فى جعل التنازع) تحريف وصوابه: للقطع بأنه لا امتناع فى جعل الشارع.
قال: (والمختار جواز تعدد الوصف ووقوعه كالقتل العمد العدوان، لنا أن الوجه الذى ثبت به الواحد ثبت به التعدد من نص أو مناسبة أو شبه أو سبر أو استنباط، قالوا: لو صح تركبها لكانت العلية صفة زائدة لأنا نعقل المجموع ونجهل كونها علة والمجهول غير المعلوم وتقرير الثانية أنها إن قامت بكل جزء فكل جزء علة وإن قامت بجزء فهو العلة وأجيب بجريانه فى المتعدد بأنه خبر أو استخبار، والتحقيق أن معنى العلة ما قضى الشارع بالحكم عنده للحكمة لا أنها صفة زائدة ولو سلم فليست وجودية لاستحالة قيام المعنى بالمعنى، قالوا: يلزم أن يكون عدم كل جزء علة لعدم صفة العلية لانتفائها بعدمه ويلزم نقضها بعدم ثان بعد أول لاستحالة تجدد عدم العدم، وأجيب بأن عدم الجزء عدم شرط العلية ولو سلم فهو كالبول بعد اللمس وعكسه، ووجهه أنها علامات فلا بعد فى اجتماعهما ضربة ومرتبة فيجب ذلك).
أقول: قد شرط قوم فى العلة أن تكون ذات وصف واحد كالإسكار فى حرمة الخمر، والمختار جواز تعدد الوصف، ووقوعه كالقتل العمد العدوان فى القصاص، لنا أنه لا يمتنع أن تكون الهيئة الاجتماعية من أوصاف متعددة مما يظن عليته بالدليل إما بدلالة صريحة بنص أو مناسبة، وإما باستنباط من شبه أو سبر كما يظن فى الواحد وما يثبت به علية الواحد يثبت به علية المتعدد من غير فرق، والفرق تحكم.
قالوا: أولًا: لو صح تركب العلة لكانت العلية صفة زائدة واللازم باطل، أما الملازمة فلأنا نعقل المجموع ونجهل كونها علة للذهول وللحاجة إلى النظر والمجهول غير المعلوم قطعًا، وأما انتفاء اللازم فلأن صفة الكل إن لم تقم بشئ من أجزائه فليست صفة، وإن قامت فإما بكل جزء فكل جزء علة والمفروض خلافه وإما بجزء واحد فهو العلة ولا مدخل لسائر الأجزاء، فإن قيل بل تقوم بالجميع من حيث هو جميع، قلنا: إن لم يكن له جهة وحدة فظاهر وإن كانت فالكلام فيها وتسلسل الجواب أنه منقوض بكون الكلام المخصوص خبرًا أو استخبارًا لجريانه فيه مع تعدد حروفه قطعًا.
والجواب على التحقيق: أنه لا معنى لكون الوصف علة إلا أن الشارع قد قضى بثبوت الحكم عندها رعاية لحكمة ما وليس ذلك صفة له بل للشارع متعلقه به فلا يلزم ما ذكرتموه ولو سلم فإنما يلزم ذلك لو لم تكن العلية اعتبارية إضافية
بل وجودية وليست وجودية وإلا لكانت معنى والوصف المعلل به معنى أيضًا فيلزم قيام المعنى بالمعنى وأنه محال، والحاصل أنه لو لم يصح بالمتعدد للزوم ذلك المحال، لم يصح فى الواحد لمحال آخر ملازم له.
قالوا: ثانيًا: لو كانت العلة أوصافًا متعددة لكان عدم كل جزء علة لانتفاء صفة العلية واللازم باطل، أما الملازمة فلأن تحققها موقوف على تحقق جميع الأوصاف فيلزم انتفاؤها لانتفاء كل وصف وهو معنى العلية، وأما بطلان اللازم فلأنه إذا حصل عدمها بعدم وصف ثم عدم وصف ثان، لزم تخلف معلوله وهو انتفاء العلية عنه، وذلك لأن تجدد عدم على ما قد عدم مرة لا يتصور فإن إعدام المعدوم كإيجاد الموجود تحصيل الحاصل.
والجواب: لا يلزم من انتفائها بعدم الوصف أن يكون عدم الوصف علة للانتفاء مقتضية له بالاستقلال بل يجوز أن يكون وجوده شرطًا للوجود فإن الشئ كما يعدم لعلة العدم فقد يعدم لعدم شرط الوجود، ولو سلم فهو كالبول بعد اللمس واللمس بعد البول، وكما لا يلزم ثم تخلف فكذا هنا، والوجه فى تقريره أن الانتفاءات ليست عللًا عقلية ليلزم ما ذكرتم إنما هى أمارات وضعية ولا بعد فى اجتماع عدة من الأمارات مرتبة تارة وضربة أخرى ولا بد فى تحقق المقابل من رفع جميع الانتفاءات، وهو يحقق جميع الأوصاف، فيجب تركب الأمارة فى الطرف الآخر من أوصاف متعددة.
قوله: (أن تكون ذات وصف) قد اشتهر فى ترجمة المسألة أن العلة تكون ذات وصف أو ذات أوصاف والمقصود أنها وصف أو أوصاف فلفظ ذات كالمقحمة وكان ينبغى أن يدرج هذا فى قوله: ولا يشترط القطع بالأصل إلخ إلا أنه لكثرة مباحثه أفرد بالذكر على حدة.
قوله: (إما بدلالة وإما باستنباط) هذا هو الصحيح المطابق لكلام الآمدى وكأنه تنبيه على فساد عبارة المتن حيث جعل الاستنباط أحد المسالك ولا جهة له إلا أن يحمل على تنقيح المناط ولفظ المنتهى يأباه حيث صرح بتنقيح المناط أيضًا ثم إنه جعل المناسبة ههنا مقابلًا للنص وفيما سيأتى داخلًا تحته.
قوله: (بل تقوم بالجميع) لما كانت الشبهة المذكورة مغلطة طردها الإمام الرازى فى نفى التركيب فى كثير من الأمور ومنشؤها عدم استيفاء الأقسام حيث ترك
المجموع من حيث هو مجموع كان المنع ظاهرًا وهو أنا لا نسلم قيام العلية بكل جزء أو بجزء واحد بل بمجموع الأجزاء من حيث هو المجموع وقد أشار الآمدى إلى دفعه بأنه حينئذٍ يقوم بكل جزء شئ من العلية فيتعدد ولا خفاء فى ضعفه وذكر فى بعض الشروح أنه لا بد للمجموع من وحدة بها يكون المجموع مجموعًا وينقل الكلام إلى تلك الوحدة ويلزم التسلسل هو الذى عول عليه المحقق وذكر أنه لم يكن للمجموع جهة وحدة فتمام ما ذكرنا ظاهر لعدم أمر آخر سوى الأوصاف المتعددة فالعلة القائمة بها إما قائمة بكل وصف أو ببعض الأوصاف وإن كانت جهة وحدة فقيامها إما بكل واحد أو بواحد أو بالمجموع فتحقق جهة وحدة أخرى ويتسلسل فإن دفع بأن جهات الوحدة اعتبارات عقلية ليس فيها تسلسل ولا اقتضاء محال موجودة أجيب بأن العلية أيضًا كذلك فصار حاصل التقرير أنها إما أن لا تقوم بشئ من الأجزاء أو تقوم بكل جزء أو بجزء دون جزء أو بالمجموع من حيث هو المجموع أو تقوم بكل جزء جزء منها والكل باطل والجواب النقض بكل صفة لمركب والحمل على الإطلاق بأنها تقوم بالمجموع الذى صار واحدًا باعتبار صورة أو هيئة ربما تكون اعتبارية لائية أو حقيقية تقوم بجزء فقط أو بكل جزء جزء منها وتمام تحقيق ذلك فى علم آخر وفيما نحن فيه بأن كون الوصف علة ليس صفة له بل للتنازع بمعنى أنه حكم بثبوت الحكم عنده فله تعلق ما بذلك الوصف فلا يلزم ما ذكرتم من المجالات الناشئة عن كون العلية صفة للأوصاف المتعددة ولا خفاء فى ضعف هذا فلذا قال: ولو سلم أى كونها صفة للأوصاف فإنما يلزم المحال المذكور ولو كانت من الصفات الحقيقية التى تقتضى محلًا موجودًا تقوم به وليست كذلك وإلا فبما اتفقتم على عليته أعنى الوصف الواحد قيام العرض بالعرض وهو محال فحصل من هذا المنع أو السند معارضة تقريرها لو لم يصلح التعليل بالمتعدد للزم المحال الذى هو كون العلية صفة زائدة وجودية لم يصح التعليل بالوصف الواحد لمحال لازم للمحال الأول وهو قيام العرض بالعرض والتالى باطل اتفاقًا فبطل عدم صحة التعليل بالمتعدد.
قوله: (فلأن تحققها) الضمير لصفة العلية وكذا ضمير انتفاؤها وعدمها.
قوله: (بل يجوز أن يكون وجوده شرطًا للوجود) فإن قيل الكلام فى تركب العلة من الأوصاف فكيف يكون وجود الجزء شرطًا للوجود قلنا: هو شرط لصفة العلية وجزء للعلة فلا محذور.
قوله: (إن الانتفاءات) جعل الشارحون ضمير أنها للعلل الشرعية على ما يعم انتفاء أجزاء العلة مثل اللمس والبول يعنى أنها أمارات لا بعد فى اجتماعها دفعة أو مترتبة فضلًا عن الاستحالة فيجب أى حتى يجب ما ذكرتم من التخلف المحال ولما لم يكن مرضيًا فى نظر المحقق جعل الضمير للانتفاءات يعنى أن انتفاءات الأوصاف أمارات وضعية لا يبعد اجتماعها دفعة أو مترتبة وإذا كان أحدهما أمارة فى انتفاء الحكم لزم فى تحقق الحكم ارتفاع جميع الانتفاءات وهو مقيس محقق جميع الأوصاف فيجب تركب الأمارة فى طرف ثبوت الحكم من أوصاف متعددة فيظهر الجواب عما ذكرتم وثبوت ما ادعينا ويظهر لك بالتأمل أن تحقق الانتفاءات وكونها أمارات إنما هو على تقدير تركب العلة من الأوصاف فحمل قوله: فيجب ذلك على ما ذكره المحقق يكون دورًا ثم إن الأليق بتقرير السؤال أن يجعل الانتفاءات أمارات انتفاء العلية والمقابل عبارة عن ثبوت العلية وكذا الطرف الآخر لكن لظهور أن المركب من الأوصاف أمارة للحكم لا للعلية إذ لا معنى لجعل العلة أمارة العلية فسرنا كلام الشارح على ما فسرنا.
المصنف: (وأجيب بجريانه فى المتعدد) جواب بالنقض الإجمالى، وقوله: لا أنها صفة زائدة أى ليست صفة للأوصاف التى هى العلة فضلًا عن أن تكون صفة زائدة.
المصنف: (وأجيب بأن عدم الجزء عدم شرط) فيه أن عدم الشرط يقتضى عدم المشروط فالإشكال باق.
قوله: (ووجهه) أى وجه كونه كالبول بعد اللمس وعكسه.
قوله: (مغلطة طردها الإمام الرازى) لفظ طردها صفة لمغلطة أما جواب لما فهو قوله: كان المنع ظاهرًا.
قوله: (أجيب بأن العلة أيضًا كذلك) أى فكانت لا تحتاج إلى اعتبار جهة وحدة المجموع والفرض اعتبارها.
قوله: (والحل على الإطلاق) أى الجواب بالحل على إطلاق الشبهة فى كل مركب.
قوله: (ربما تكون اعتبارية أو حقيقية) تحريف وأصله: ربما تكون اعتبارية إضافية أو حقيقية وقوله: وفيما يجب فيه أى الحل فيما نحن فيه وهو تركيب العلة.
قال: (ولا يشترط القطع بالأصل ولا انتفاء مخالفة مذهب صحابى ولا القطع بها فى الفرع على المختار فى الثلاثة ولا نفى المعارض فى الأصل والفرع).
أقول: هذه عدة أمور قد شرطت فى العلة والحق أنها لا تشترط:
فمنها: كون حكم الأصل قطعيًا، والمختار الاكتفاء بالظن لأنه غاية الاجتهاد فيما يقصد به العمل.
ومنها: انتفاء مخالفتها لمذهب صحابى والحق جوازها لجواز أن يكون مذهب الصحابى لعلة مستنبطة من أصل آخر.
ومنها: القطع بوجود العلة فى الفرع، والمختار أنه يكفى الظن لما مر ولعل من شرط القطع فى حكم الأصل ووجود العلة فى الفرع نظر إلى أن الظن يضعف بكثرة المقدمات فربما يضمحل، ومن شرط عدم مخالفة الصحابى فلأن الظاهر أخذه من النص والاحتمال لا يدفع الظهور وهو محل الاجتهاد.
قوله: (فمنها كون الأصل قطعيًا) لا خفاء فى أن هذا بشروط الأصل أليق وأما مثل القطع بوجود العلة فى الفرع فيليق بشروط الفرع.
قوله: (والاحتمال) يعنى احتمال كون مذهب الصحابى لعلة مستنبطة من أصل آخر لا يدفع ظهور أخذه من النص فلذا كان هذا البحث وهو اشتراط انتفاء مخالفة الصحابى محل نظر واجتهاد واعلم أن فى نسخ المتن زيادة لم يتعرض لها الشارح وهو قوله: ولا نفى المعارض فى الأصل والفرع وأجيب بأن ما تقدَّم هو أن من شروط العلة المستنبطة نفى المعارض فى الأصل فقط لأنه قال: وقيل ولا فى الفرع وههنا نفى اشتراط نفى المعارض فيهما جميعًا فى العلة مطلقًا، هذا ولكن صريح كلام الآمدى والمنتهى يقتضى أن يكون قوله: ولا نفى المعارض مجرورًا عطفًا على الضمير فى "بها" والمعنى لا يشترط القطع بنفى المعارض فى الأصل والفرع قال فى المنتهى: واشترط أن يكون فى الفرع مقطوعًا بها والصحيح يكفى الظن كما فى الأصل وفى كونها علة وفى نفى المعارض فى الأصل والفرع.
قوله: (لا خفاء فى أن هذا بشروط الأصل أليق) قيل: إن عده من شروط العلة لأن قطعية الحكم متفرعة على قطعية العلة وينافيه ما سيأتى من أن الحكم قد
يكون قطعيًا والعلة مظنونة.
قوله: (فلذا كان هذا البحث محل نظر واجتهاد) أى لوجود الاحتمال المذكور كان محل النظر والاجتهاد.
قوله: (واعلم أن فى نسخ المتن زيادة لم يتعرض لها الشارح) فى العبارة سقط وأصل العبارة: واعلم أن فى نسخ المتن زيادة مخالفة لما تقدم لم يتعرض لها الشارح وقوله: وأجيب أى عن المخالفة بين كلامى المصنف، وحاصل الجواب أن ما هنا نفى اشتراط نفى المعارض مطلقًا فى الأصل والفرع والعلة المنصوصة والمستنبطة أى إن إطلاق نفى المعارض ليس بشرط وهذا لا ينافى اشتراط نفى المعارض المخصوص وهو المعارض فى الأصل وقوله يقتضى أن يكون قوله: ولا نفى المعارض عطفًا على الضمير فى "بها" يعنى وعلى هذا فلا مخالفة أيضًا لأن هذا نفى اشتراط القطع بنفى المعارض وهو لا ينافى اشتراط الظن وهو ما تقدم وقوله: كما فى الأصل أى كما يكفى الظن بوجودها فى الأصل وقوله: وفى كونها علة أى ويكفى الظن فى كونها علة وكذا قوله: وفى نفى المعارض فى الأصل والفرع يعنى فلا يشترط القطع.
قال: (وإذا كانت وجود مانع أو انتفاء شرط لم يلزم وجود المقتضى لنا أنه إذا انتفى الحكم مع المقتضى كان مع عدمه أجدر، قالوا: إن لم يكن فانتفاء الحكم لانتفائه قلنا أدلة متعددة).
أقول: إذا علل حكم عدمى بوجود مانع أو انتفاء شرط كما يقال: عدم شرط صحة البيع وهو الرؤية أو وجد المانع وهو الجهل بالمبيع فلا يصح فهل يجب وجود المقتضى مثل بيع من أهله فى محله أو لا يجب؟ المختار أنه لا يجب، لنا أنه إذا تحقق مع المقتضى انتفى الحكم فإذا تحقق بدون المقتضى كان أجدر بأن ينتفى معه الحكم، قالوا: إذا لم يكن مقتضى فانتفاء الحكم إنما هو لعدم المقتضى لا لوجود المانع أو عدم الشرط الذى يدعيه المستدل فكان مبطلًا.
الجواب: لا يلزم من إسناده إلى عدم المقتضى أن لا يسند إلى وجود المانع أو عدم الشرط إذ غايته أنها أدلة متعددة وذلك جائز.
قوله: (إذا علل حكم عدمى) يعنى إذا كانت علة انتفاء الحكم وجود مانع عن الثبوت أو انتفاء شرط له لم يلزم وجود ما يقتضى ثبوت الحكم.
قوله: (كان أجدر) لخلوه عن المعارض.
قوله: (فكان) أى المستدل مبطلًا فى دعواه إسناد انتفاء الحكم إلى وجود مانع أو انتفاء شرط.
المصنف: (قلنا أدلة متعددة) أى كل مستقل فى الدلالة والإعلام بعدم المعلول قال مسلم الثبوت: وحينئذ أى حين إذ كان كل مستقلًا فى الدلالة ولا دخل للاستدلال بدليل لعدم قيام دليل آخر لا حاجة إلى تقدير المقتضى كما ظن فى التحرير. اهـ. وعبارة التحرير لا يشترط فى تعليل انتفاء حكم بوجود مانع أو انتفاء شرط وجود مقتضيه خلافًا للبعض لأن كلًا منها أى وجود المانع وانتفاء الشرط وعدم المقتضى علة عدمه فجاز إسناده إلى كل بمعنى لو كان له مقتض منعه وإلا فحقيقة المانعية إنما هى بالفعل وهو فرع المقتضى فإذا لم يوجد الحكم لعدم وجود المقتضى فيمتنع ماذا. اهـ.
قال: (مسألة: الشافعية حكم الأصل ثابت بالعلة المعنى أنها الباعثة على حكم الأصل والحنفية بالنص والمعنى أن النص عرف الحكم فلا خلاف فى المعنى).
أقول: اختلف الشافعية والحنفية فى حكم أصل القياس المنصوص عليه أنه ثابت بالنص أو بالعلة، فقالت الشافعية بالعلة والحنفية بالنص، وهو لفظى وبالحقيقة لا خلاف بينهما لأن الشافعية تعنى بما قالته أن العلية هى الباعثة والحنفية لا ينكرونه والحنفية تعنى بما قالته أن النص هو المعرف للحكم والشافعية لا ينكرونه.
قوله: (والشافعية لا ينكرونه) لظهور أن حكم الأصل قد يكون مقطوعًا به والعلة المستنبطة مظنونة ولأنها متعرفة منه ومتفرعة عليه تابعة له فى الوجود فيدور لأنه قد يكون تعبدًا لا علة له.
قال: (شروط الفرع منها: أن يساوى فى العلة علة الأصل فيما يقصد من عين أو جنس كالشدة فى النبيذ وكالجناية فى قصاص الأطراف على النفس وأن يساوى حكمه حكم الأصل فيما يقصد من عين أو جنس كالقصاص فى النفس فى الثقل على المحدد وكالولاية فى النكاح فى الصغيرة على المولى عليها فى المال، وأن لا يكون منصوصًا عليه ولا متقدمًا على حكم الأصل كقياس الوضوء على التيمم فى النية لما يلزم من حكم الفرع قبل ثبوت العلة لتأخر الأصل، نعم يكون إلزامًا، وقيل وأن يكون الفرع ثابتًا بالنص فى الجملة لا التفصيل، ورد بأنهم قاسوا: أنت علىّ حرام على الطلاق واليمين والظهار).
أقول: قد وقع الفراغ من شروط العلة، وهذه شروط الفرع:
فمنها: أن يكون الفرع مساويًا فى العلة لعلة الأصل فيما يقصد المساواة فيه من عين العلة أو جنس العلة، أما العين فكما قيس النبيذ على الخمر بجامع الشدة المطربة وهى بعينها موجودة فى النبيذ، وأما الجنس فكما قيس الأطراف على القتل فى القصاص بجامع الجناية المشتركة بينهما فإن جنس الجناية وهو جنس لإتلاف النفس والأطراف هو الذى قصد الاتحاد فيه فيكفى تحقق ذلك ولا يجب أن تكون الجناية فى القتل بعينه هو الجناية فى الأطراف ومساويًا لها فى الحقيقة، وذلك لأن المقصود تعدية حكم الأصل إلى الفرع للاشتراك فى العلة وأحد الأمرين يحققه، وأما إذا لم تكن علة الأصل فى الفرع لا بخصوصها ولا بعمومها فلا اشتراك.
ومنها: أن يساوى حكم الأصل حكم الفرع فيما يقصد المساواة فيه من عين الحكم أو جنس الحكم، أما العين فكما قيس القصاص فى النفس فى القتل بالمثقل عليه فى القتل بالمحدد فالحكم فى الفرع هو الحكم فى الأصل بعينه وهو القتل، وأما الجنس فكما قيس إثبات الولاية على الصغيرة فى نكاحها على إثبات الولاية عليها فى مالها فإن ولاية النكاح من جنس ولايه المال فإنهما سبب لنفاذ التصرف وليست عينها لاختلاف التصرفين، وأما إذا اختلف الحكم لم يصح، مثاله قال الشافعى: يوجب الظهار الحرمة فى حق الذمى كالمسلم، وقالت الحنفية: الحرمة فى المسلم متناهية بالكفارة والحرمة فى الذمى مؤبدة لأنه ليس من أهل الكفارة فيختلف الحكم فيهما.
ومنها: أن لا يكون الفرع منصوصًا عليه لا إثباتًا وإلا ضاع القياس ولا نفيًا وإلا
لم يجز القياس.
ومنها: أن لا يكون متقدمًا على حكم الأصل، مثاله: الوضوء شرط للصلاة، فتجب فيه النية كالتيمم وشرعية التيمم متأخرة عن شرعية الوضوء وذلك لأنه يلزم أن يثبت حكم الفرع قبل ثبوت العلة لتأخر الأصل وثبوته مقارنًا لعلته، والمتقدم على المقارن للشئ متقدم على ذلك الشئ، ثم لو ذكر مثل ذلك إلزامًا للخصم لصح وإما أن يكون معرفة ثبوت الحكم مأخوذة منه فلا.
ومنها: شرط أثبته أبو هاشم وهو أنه يلزم أن يكون الفرع ثابتًا بالنص فى الجملة دون التفصيل فيجرى القياس فى تفصيل المجمل، مثاله: إن قد ثبت الحد فى الخمر بلا تعيين عدد الجلدات فتعين بالقياس على القذف وهو مردود لأن القوم قاسوا: أنت علىّ حرام تارة على الطلاق فيحرم وتارة على الظهار فيوجب كفارته وتارة على اليمين فيكون إيلاء فيوجب حكمه ولم يوجد النص فى الفرع جملة بل كانت واقعة متجددة.
قوله: (فمنها أن يكون الفرع مساويًا فى العلة لعلة الأصل) عدل إلى هذه العبارة ليكون ظاهرًا فى كون هذا من شروط الفرع بمعنى أنه يشترط فى الفرع أن تكون علته مساوية لعلة الأصل وإلا فالمعنى أنه يشترط أن تكون العلة الموجودة فيه مشاركة لعلة الأصل كما هو صريح عبارة الآمدى ثم لمساواة فى العلة لا تنافى كون الحكم فى الفرع أقوى أو أدنى وكونه أقوى أو أدنى لا ينافى المماثلة لحكم الأصل لأن المراد بها عدم الاختلاف فى عين الحكم أو جنسه والمراد بالعينية المساواة فى تمام الحقيقة بحيث لا يكون اختلاف إلا بالعدد فقوله: فيما يقصد من عين أو جنس إشارة إلى أنه لا تجب المساواة فى تشخص أو قوة وضعف أو قطع وظن ونحو ذلك.
قوله: (وإلا ضاع القياس) قد يمنع ذلك بأن تعاضد الأدلة فائدة على أن النص الدال عليه ربما يكون مختلفًا فيه كالعام المخصوص وينبغى أن يعلم أن النص ههنا أعم من أن يكون هو النص فى حكم الأصل أو غيره فلا يكون هذا الاشتراط تكرارًا بعد اشتراط عدم تناول نص حكم الأصل لحكم الفرع.
قوله: (وإلا لم يجز) أى لا عبرة به ولا حكم لكونه فى معارضة النص.
قوله: (وشرعية التيمم متأخرة) لأنها كانت بعد الهجرة والوضوء قبلها.
قوله: (لأنه يلزم) يعنى أن ثبوت حكم الأصل كوجوب النية فى التيمم مقارن لعلته التى هى كونها شرطًا فى الصلاة فلو تقدَّم حكم الفرع كوجوب النية فى الوضوء على حكم الأصل لزم تقدمه على علته المقارنة لحكم الأصل فلا يصح أن تكون معرفة ثبوت حكم الفرع مأخوذة من حكم الأصل نعم يصح ذلك إلزامًا للخصم بأنه يقول بحكم الأصل لهذه العلة فيجب أن يقول بحكم الفرع لوجود العلة.
قوله: (لأن القوم قاسوا) فقال: أبو بكر وعمر رضى اللَّه عنهما باليمين وعلى رضى اللَّه عنه بالطلاق ثلاثًا، وابن مسعود رضى اللَّه عنه واحدًا وابن عباس بالظهار، ولو كان نص لنقل ولم يختلفوا هذا الاختلاف.
المصنف: (من عين) أى عين حقيقتها النوعية وقوله وكالجناية فى قصاص الأطراف على النفس فيه مسامحة أى وكالجناية فى إثبات القصاص بقياس الأطراف على النفس وكذا قوله كالقصاص فى النفس فى المثقل معناه فى قياس المثقل وقوله وكالولاية فى النكاح. . . إلخ. معناه فى قياس النكاح على المال فى إثبات الولاية على الصغيرة فيه فالحكم فى الأصل ثبوت الولاية فى المال وفى الفرع ثبوتها فى النكاح فقد اتفقا فى جنس الحكم وهو الولاية المطلقة.