الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الصلاة
فَرْضِ الصَّلَاةِ وَذِكْرِ اخْتِلَافِ النَّاقِلِينَ فِي حَدِيثِ أَنَسِ - رضى الله عنه - وَاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِمْ
446 -
أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ أَقْبَلَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَلآنَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَشَقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْنِ فَغَسَلَ الْقَلْبَ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ مَعَ جِبْرِيلَ عليه السلام فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَأَتَيْتُ عَلَى آدَمَ عليه السلام فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ قَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنِ ابْنٍ وَنَبِيٍّ، ثُمَّ أَتَيْنَا السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ عَلَى يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمَا فَقَالَا: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ، ثُمَّ أَتَيْنَا السَّمَاءَ الثَّالِثَةَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ عَلَى يُوسُفَ عليه السلام فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ قَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ، ثُمَّ أَتَيْنَا السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ عَلَى إِدْرِيسَ عليه السلام فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ، ثُمَّ أَتَيْنَا السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ عَلَى هَارُونَ عليه السلام فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ قَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ، ثُمَّ أَتَيْنَا السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَمِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَيْتُ عَلَى مُوسَى عليه السلام فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ، فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ بَكَى، قِيلَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ هَذَا الْغُلَامُ الَّذِي بَعَثْتَهُ بَعْدِي يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ أَكْثَرُ وَأَفْضَلُ مِمَّا
يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي، ثُمَّ أَتَيْنَا السَّمَاءَ السَّابِعَةَ فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنِ ابْنٍ وَنَبِيٍّ، ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فَسَأَلْتُ جِبْرِيل فَقَالَ: هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا فِيهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نَبِقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرٍ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا فِي أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ خَمْسُونَ صَلَاةً، فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: فُرِضَتْ عَلَيَّ خَمْسُونَ صَلَاةً، قَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ بِالنَّاسِ مِنْكَ إِنِّي عَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، وَإِنَّ أُمَّتَكَ لَنْ يُطِيقُوا ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَسَأَلْتُهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنِّي فَجَعَلَهَا أَرْبَعِينَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى مُوسَى عليه السلام فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: جَعَلَهَا أَرْبَعِينَ، فَقَالَ لِي مِثْلَ مَقَالَتِهِ الأُولَى، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي عز وجل فَجَعَلَهَا ثَلَاثِينَ، فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى عليه السلام فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ لِي مِثْلَ مَقَالَتِهِ الأُولَى، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَجَعَلَهَا عِشْرِينَ ثُمَّ عَشْرَةً ثُمَّ خَمْسَةً، فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى عليه السلام فَقَالَ لِي مِثْلَ مَقَالَتِهِ الأُولَى، فَقُلْتُ: إِنِّي أَسْتَحِي مِنْ رَبِّي عز وجل أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَنُودِيَ أَنْ قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي وَأَجْزِي بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا".
• [رواته: 6]
1 -
يعقوب بن إبراهيم بن كثير الدورقي مولى عبد القيس: تقدم 22.
2 -
يحيى بن سعيد بن فروخ القطان الأحول: تقدم 4.
3 -
هشام بن أبي عبد الله واسمه سنبر الدستوائي: تقدم 25.
4 -
قتادة بن دعامة السدوسي: تقدم 34.
5 -
أنس بن مالك رضي الله عنه: تقدم 6.
6 -
مالك بن صعصعة الأنصاري المازني، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث المعراج بطوله وعنه أنس بن مالك، قال ابن حجر: نسبه ابن سعد فقال: مالك بن صعصعة بن وهب بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن
عدي بن النجار. قال ابن حجر في فتح الباري: (ما له في البخاري ولا من غيره سوى هذا الحديث، ولا يعرف راوٍ عنه إلا أنس بن مالك) اهـ، والله أعلم.
• التخريج
أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وابن خزيمة، وحديث الإسراء ثابت بروايات متعددة وطرق مختلفة مطولة ومختصرة، فهي بمجموعها يحصل بها التواتر المعنوي. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد نقله لأحاديث الإسراء عن جماعة من الصحابة في الصحيحين والنسائي ومسند أحمد والبيهقي في الدلائل والطبراني وابن جرير، بطرق متعددة منهم أنس بن مالك بدون واسطة وبواسطة مالك بن صعصعة وأبي بن كعب وأبي ذر وجابر وابن عباس وأبي هريرة وشداد بن أوس وابن مسعود وحذيفة وبريدة بن الخطيب وأبي سعيد الخدري وعمر بن الخطاب وعائشة وأم هانئ، وذكر طرقًا كثيرة مطولة ومختصرة ثم قال -رحمه الله تعالى-: فإذا حصل الوقوف على هذه الأحاديث كلها صحيحها وحسنها وضعيفها؛ يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرة واحدة وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه، فإن الخطأ جائز على غير الأنبياء عليهم السلام. اهـ. ثم قال: قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه (التنوير في مولد السراج المنير) -وقد ذكر حديث الإسراء من طريق أنس وتكلم عليه فأجاد وأفاد- ثم قال: (وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وأبي ذر ومالك بن صعصعة وأبي هريرة وأبي سعيد وشداد بن أوس وابن عباس وأبي بن كعب وعبد الرحمن بن قطى وأبي حية وأبي ليلى الأنصاريين وعبد الله بن عمرو وجابر وحذيفة وبريدة وأبي أيوب وأبي أمامة وسمرة بن جندب وأبي الحمراء وصهيب الرومي وأم هانئ وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم الجميع. منهم من ساقه بطوله ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد، وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة؛ فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون وأعرض عنه الزنادقة الملحدون، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) اهـ.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: "فرض الصلاة" الفرض في اللغة: القطع والواجب لأنه مقطوع بلزومه وتعيين الحق وتحديده، ومنه قوله تعالى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أي: عيّنها لك، وقوله {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} أي: تعيّنوا لهن الصداق لأنه يجب ما تعيّن منه وحدد، وفريضة الزكاة: الواجب في المال أو هو النصاب وكل منهما يسمى فريضة، قال الشاعر:
كانت فريضة ما تقول كما
…
كان الزناء فريضة الرجم
أي: الموجب له. وفرضه يفرضه فرضًا وفرَّضه للتكثير: أوجبه وعيّنه، وفرائض الله: حدود شرعه ومعالم دينه الذي أوجب على عباده العمل به، والفرائض: الحقوق الواجبة في الميراث لأنها لازمة متعينة لأهلها، وفرضة النهر: المشرب منه، وجمعه فرض وفرائض، والمشرعة أيضًا وفراض فيهما.
قال لبيد:
تجري خزائنه على من نابه
…
جري الفرات على فراض الجدول
وفرضة البحر: محط السفن، وقوله تعالى:{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} بالتخفيف والتشديد: أوجبنا العمل بما فيها أو بيّنا فيها الفرائض الواجبة. والفرض والواجب عند الجمهور مترادفان بمعنى، وعند أبي حنيفة رحمه الله الفرض آكد من الواجب. قال ابن عرفة: التوقيت في الواجب يعني التحديد والتعيين، وفرض الصلاة يجوز أن يكون إلزام العباد بها وبيان حكم ذلك لهم، فتكون أل في الصلاة للجنس، وهذا بناء على أنها لم تكن فرضت قبل ذلك، ويحتمل أن يكون المراد به بيان مقدار المفروض منها على التحديد، وهو الأظهر لأن الأدلة ثبتت بمشروعية الصلاة وفعلها قبل ليلة الإسراء، وإنما الذي خص ليلة الإسراء تحديد الصلوات الخمس في الأوقات المخصوصة، وأما قبل ذلك فلم يتعين ما كان عليه الأمر كما سيأتي في الباب الثاني إن شاء الله في شرح حديث عائشة رضي الله عنها، وهذا هو ظاهر القرآن في الأمر بها في أول البعثة، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم لها في أول البعثة، فيكون معنى فرض الصلاة: بيان المفروض منها المحتم فعله على العباد، فـ (أل) في الصلاة على هذا تكون للعهد الذهني أي: قدر الصلاة التي فرضت عليكم. وفرض: مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف،
والأصل فيه الجر بالإضافة لأن تقدير الكلام: هذا بيان فرض الصلاة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فأعرب بإعرابه على القاعدة المشار إليها بقول ابن مالك رحمه الله:
وما يلي المضاف يأتي خلفا
…
عنه في الإعراب إذا ما حذفا
وقوله: (واختلاف) معطوف على فرض، والمراد بهذا الإختلاف كونهم نقلوه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، وعنه بواسطة جماعة من الصحابة منهم مالك بن صعصعة وأبي ذر وأبي بن كعب، وذلك محمول على أن أنسًا رضي الله عنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعه من هؤلاء الصحابة عنه عليه الصلاة والسلام، واختلاف الألفاظ سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وليس فيه تناقض ولكنه محمول على تفاوت الرواة في الضبط والحفظ، ولا يدل على اضطراب كما تقدم. وجواز النسيان على كل أحد ما عدا الأنبياء، وتقدمت الإشارة إلى ذلك في تخريج الحديث، ولفظ الصلاة تقدم الكلام عليه أول هذا الكتاب المبارك في شرح الآية، وأن الأصل فيها عند الأكثرين: الدعاء، وأغنى عن إعادته هنا، وقد ذكر النووي أن كون الصلاة بمعنى الدعاء قول جماهير العلماء من أهل العربية والفقهاء وغيرهم، ثم ذكر القول بأنها من التصلية وهو كون الشيء ثانيًا لما سبقه، لأن الصلاة هي الركن الثاني بعد الشهادتين، تشبيهًا بالمصلى من الخيل وهو الثاني في الحلبة عند السباق والله أعلم.
قوله عليه السلام: (بينا أنا نائم): أصل كلمة (بينا)(بين) التي هي ظرف في الأصل، فأشبعت الفتحة فتولد منها الألف، ويزاد بعد النون ميم فتصير بينما، والمعنى فيها واحد فهي -فعلى- وليست الألف فيها وصلًا، قال القاضي عياض رحمه الله:(بينا أنا في أمري) أي بينما، وكأنه من البين الذي هو الوصل، أي بينما أنا متصل بفعلي. قلت: وذلك لأن البين في الأصل كلمة تستعمل لشيئين متضادين: أحدهما البعد والقطع والثاني الوصل والقرب، فمن استعماله في الوصل قول الشاعر:
لقد فرّق الواشون بيني وبينها
…
فقرّت بذاك الوصل عيني وعينها
فالبين هنا بمعنى الوصل، وقول قيس بن ذرع:
لعمرك لولا البين لانقطع الهوى
…
ولولا الهوى ما حنّ للبين آلف
أي: للوصل، فهو في هذين البيتين بمعنى القرب، واستعماله في البعد والإفتراق هو الأكثر، ومنه قول الآخر:
لما دنا البين بين الحي واقتسموا
…
حبل النوى في أيديهم قطع
جادت بأدمعها ليلى وأعجلني
…
وشك الفراق فما أبكى وما أدع
وقول جرير:
نعب الغراب فقلت بينٌ عاجل
…
ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب
ومنه قول كثير:
فأما آل عزة غدوة فبانوا
…
وأما واسط فمقيم
وقد جمع بين المعنيين القائل:
وكنا على بين فجمَّع شملنا
…
فأعقبه البين الذي شتت الشملا
فيا عجبا ضران واللفظ واحد
…
فلله لفظ ما أمر وما أحلى
قلت: استعمله جرير في الناحية في قوله:
غدت هوج الرياح مبشرات
…
إلى بين نزلت به السحابا
فالبين: الناحية والمكان، وبينا وبينما ظرفان بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل أو مبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما أن لا يقترن بإذ ولا بإذا، كما في قول الشاعر:
فبينا الفتى في ظل نعماء غضة
…
تباكره أفياؤها وتراوح
إلى أن رمته الحادثات بنكبة
…
تضيق بها منه الرحاب الفسائح
وقول الشاعر:
بينا تعنقه الكماة وروغه
…
يوما أتيح له جرئ سلفح
ومجيء إذ وإذا في جوابهما كثير، قالت حرقة بنت النعمان:
بينا نسوس الناس والأمر أمرنا
…
إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
ومن زعم أن إذ لا تأتي إلا مع جواب بينما، يردّه قول حميد بن الأرقط - وقيل: هو لجند الطهوي:
بينا الفتى يخبط في غيساته
…
أنوك في نوكاء من نوكاته
إذ انتحى الدهر إلى عفراته
…
فاجتاحها بشفرتي مبراته
ويروى:
بينا الفتى يخبط في غيساته
…
تقلب الحية في قلاته
إذ أصعد الدهر إلى عفراته
…
فاجتاحها بشفرتي مبراته
والغيسان: شرح الشباب، والعفرات: شعر وسط الرأس. وقال الراغب: (بين) لفظ موضع للخلالة بين الشيئين ووسطهما. فقوله عليه السلام (بينا أنا عند البيت) أضاف (بين) إلى الجملة الإسمية قدر محذوفها، أي بين أوقات كذا، وتضاف إلى المفرد بشرط عطف غيره عليه بالواو خاصة دون غيرها، وهنا أضيفت إلى الجملة الإسمية وهي قوله (أنا عند البيت)، فالتقدير على هذا: بين أوقات أنا عند البيت، وعلى قول عياض رحمه الله التقدير: بينا أنا متصل بكوني عند البيت: وقوله: (بين النائم واليقظان) أي: بين حالة النائم واليقظان، والظرف هنا متعلق بمحذوف حال، وهذه صفة نومه صلى الله عليه وسلم فإنه تنام عينه ولا ينام قلبه، وتقدم الكلام على النوم واليقظة في شرح حديث أبي هريرة أول حديث من كتاب السنن (إذا استيقظ أحدكم. . . الحديث). وفي رواية للبخاري: بينما في الحجر، وفي رواية له من حديث أبي ذر: في الحطيم، وربما قال: في الحجر، وهو شك من قتادة الراوي عن أنس، وبينت ذلك رواية أحمد عن عفان عن همام بلفظ:"بينا أنا نائم في الحطيم -وربما قال قتادة-: في الحجر"، ورجح ابن حجر رحمه الله أن المراد بالحطيم هنا: الحجر، وذلك أن الحطيم مختلف فيه بين أن يكون الحجر أو ما بين الركن والمطاف أو بين زمزم والحجر، أو بين الباب وزمزم، فترجيح كونه الحجر هاهنا من أجل أنه يجمع بين هذه الروايات لأن القصة واحدة على الصحيح، ومخرج الحديث هنا واحد أيضًا لأنه حديث أنس، والفرض بيان المحل الذي حصل فيه ما ذكر، فلا يتجه تخريجه على التعدد مادام المخرج واحدًا، ورواية الزهري عن أنس: فرج سقف بيتي وأنا بمكة.
وروى الواقدي بإسناده أنه أسري به من شعب أبي طالب، وأخرج الطبراني من حديث عبد الأعلي بن أبي مساور عن عكرمة عن أم هانئ قالت: بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به في بيتي، ففقدته من الليل فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش، فقال: إن جبريل أتاني وأخرجني .. وذكر الحديث.
وكذا روى ابن إسحاق قال: حدثني محمَّد بن السائب الكلبي عن أبي صالح باذان عن أم هانئ بنت أبي طالب في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة، فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا، ثم ذكرت الحديث، وقد روى الحافظ البيهقي من طرق عن جماعة من التابعين عن علي وابن مسعود وابن عباس أنه كان في بيت أم هانئ راقدًا وقد صلى العشاء الآخرة فذكر الحديث، وعند البيهقي من رواية أبي هارون العبدي -قال ابن كثير: وهو ضعيف- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له أصحابه: يا رسول الله أخبرنا عن ليلة أسري بك فيها، قال: قال الله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. . .} الآية. قال: فأخبرهم، قال: فبينا أنا نائم عشاءً في المسجد الحرام إذ أتاني آت فأيقظني، وذكر الحديث بطوله، وفي رواية لأنس عند البزار في مسنده:(بينا أنا نائم إذ جاء جبريل عليه السلام فوكز بين كتفي فقمت) فذكر الحديث، وفي مرسل الحسن عند ابن إسحاق أن جبريل أخرجه إلى المسجد فأركبه البراق. قلت: وهذا يرشد إلى طريق الجمع بين الروايات، والأولى في الجمع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيت أم هانئ وهو بشعب أبي طالب أي: أبيها، فجاءه الملك فأخرجه إلى المسجد وهو بين النائم واليقظان، ثم أيقظه من المسجد وشقّ صدره وحمله على البراق، فيكون البيت لأم هانئ وأضافه إلى نفسه لأنه كان نائمًا فيه، أما قول ابن حجر رحمه الله أنه كان يسكنه؛ ففيه بُعْدٌ، وتقدم قولها:(نائم عندي تلك الليلة) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يسكن بيته، وكونه أسري به من الشعب يكون المراد به ابتداء مجيء الملائكة للإسراء به من هذا البيت وهو في الشعب، وأما نفس الإسراء -أعني الشروع في السفر وركوب البراق- فإن ذلك من المسجد كما هو ظاهر الآية، قال تعالى:{مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وحقيقة المسجد هو المكان المعروف دون سائر مكة، وإطلاقه في بعض الأحيان على الحرم كله أو على مكة من تسمية الشيء باسم جزئه، وهو نوع من المجاز لا يصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة ووجود دليل يدل عليه كما هو معلوم، وأما قوله عليه السلام:(بينا أنا نائم). وقوله: (بين النائم واليقظان) فلا تعارض بينهما، لأن نومه عليه السلام كان على ذلك الحال تنام عينه ولا ينام قلبه
كما ثبت في الصحيح، وفي رواية: إن العين نائمة والقلب يقظان، غير أنه جاء التصريح في بعض الروايات كما تقدم -بكون الملك أيقظه قبل أن يركب البراق، ولا يعارض ذلك ما قدمنا من حال نومه، وسيأتي تمام الكلام على ذلك في فوائد الحديث إن شاء الله تعالى. وقوله:(إذ أقبل أحد الثلاثة) إذ هنا تكون للمفاجأة، فإنها إذا وقعت بعد بينا أو بينما تكون للمفاجاة، كقول الشاعر- وهو بعض بني عذرة:
استقدر الله خيرًا وارضين به
…
فبينما العسر إذا دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبطا
…
إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه
…
وذو قرابته في الحي مسرور
وهي في هذه الحالة عندهم محتملة لأن تكون ظرف زمان، أو ظرف مكان، أو حرف مفاجأة أو حرف توكيد، أو حرفًا زائدًا، خمس احتمالات. ولإذ غير هذا المعنى ثلاثة معان أخر: أن تكون اسمًا للزمان الماضي، والجمهور على أنها حينئذٍ لا تكون إلا ظرفًا أو مضافًا إليه نحو (إذ أخرجه الذين كفروا)، وقيل: إنها تكون مفعولًا به نحو قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا} وجزم ابن هشام بأنها في أول القصص مفعولًا به، وغلط من أعربها ظرفًا في تلك الحالة بتقدير (اذكر)، لأن هذا الذكر المأمور به لا يختص بحالة أو وقت دون غيره، وذلك نحو قوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} وقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} وما أشبه ذلك، الثاني: أن تكون اسمًا للزمان المستقبل نحو {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)} وأنكره الجمهور وحملوها في مثل ذلك على أنها من باب تنزيل المخبر بوقوعه في المستقبل، منزلة الواقع بالفعل لتحقق الوقوع نحو قوله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} . والثالث: التعليل، نحو قوله تعالى:{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)} {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} ومنه قول الفرزدق:
فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم
…
إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر
فهذا معظم ما يتعلق بها، وتقدم في شرح هذا الحديث أن جواب بينا وبينما يقترن بإذا وبإذ، وأن من زعم أن إذ لا تقترن إلا بجواب بينما لم يصب في ذلك. وقوله:(أقبل أحد الثلاثة بين الرجلين). أقبل: من الإقبال ضد
الإدبار وهو عبارة عن التقدم إلى الشيء، وتقدم الكلام على لفظ (أحد) في أول الكتاب في شرح الآية، وفي الحديث الأول، والمعنى أن أحد النفر الثلاثة وهم الملائكة الذين أتوه في صورة البشر، وأل في الثلاثة للعهد الحضوري ولم يتقدم ذكر لهم في هذه الرواية، ولعله صلى الله عليه وسلم كان قد ذكرهم للصحابة قبل التحديث بالقصة أو أثناءها واختصر ذلك بعض الرواة، وعلى فرض أنه ذكرهم وأل تكون للعهد الذكري، وعن مسلم (أحد الثلاثة بين الرجلين) وفيه: فسمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة. . . إلخ. وفيه: من رواية أبي ذر: فرج سقف بيتي وأنا بمكة، وكذا من رواية أبي ذر عند البخاري: فنزل جبريل، فيحتمل أنه المراد بقوله بين الرجلين جواب الملك لأحد الملائكة، لما ورد عند أحمد: فجعل يقول لصاحبه الأوسط بين الثلاثة، وفي رواية له أيضًا: فسمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة، وفي رواية مسلم المشار إليها من طريق سعيد عن قتادة:"إذ سمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين"، فهي توضح المراد بهذه العبارة وأن أل في الرجلين للعهد الحضوري، والرجلان هما حمزة وجعفر كما ذكره ابن حجر وغيره، وفي رواية أبي ذر عنده وعند البخاري وغيرهما:"فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل"، فبيّنت هذه الرواية أن الذي أقبل إليه من الملائكة هو جبريل، كما جاء في بعض الروايات التصريح بأن معه: ميكائيل، وأنه الذي ناوله الطست، ولم يرد تعيين الثالث من الملائكة فيما وقفت عليه. قلت: وسياق هذه الرواية صريح في أن المراد هنا بأحد الثلاثة واحد من الملائكة، وأما قوله: بين الرجلين؛ فينبغي أن يقدر قبله محذوف، كما قدمنا في الروايات الصحيحة التي ذكرناها أن الملك هو القائل: أحد الثلاثة بين الرجلين، وأن جواب لمن قال له: أيهم هو؟ كما في الرواية الأخرى، فيكون أحد الثلاثة المذكور في قوله: أقبل أحد الثلاثة؛ غير المقدر، وهو جواب الملك بقوله: أحد الثلاثة بين الرجلين والله أعلم. وتعيين جعفر هنا إن صح يدل على أن الإسراء كان في أول البعثة؛ وهو خلاف ما عليه الجمهور لأن جعفرًا خرج إلى الحبشة في الهجرة الأولى، وأكثرهم على أنها سنة خمس بعد البعثة، ولم يرجع إلى سنة سبع عند فتح خيبر ولا خلاف أنها كانت سنة سبع من الهجرة والله أعلم، ولم
أر من نبه على ذلك، وتقدم الكلام على (بين) أول شرح الحديث. وقوله:(فأُتِيتُ) بالبناء للمجهول أي: أتاني الملك، وقد تقدم أن الذي جاء بالطست أنه ميكائيل، وقوله:(من ذهب)(من) هنا بيانية، والطست بكسر الطاء وتفتح، ويقال: طسٌّ؛ بالإدغام، وتقدم الكلام عليه في شرح حديث عائشة في الطهارة 33، وقوله:(ملآن) صفة لطست، وفي رواية:"ملأى" وفي أخرى: "مملوء"، أي ذلك الطست المذكور مملوء بالإيمان والحكمة، ونصب حكمة وإيمانًا على التمييز، وذكر بعضهم أن نصبهما على المفعولية وليس عندي بجيد، وظاهر كلام السيوطي في حاشيته (زهر الربى) أن الرواية (ملأى) لأنه شرحها على ذلك، وتبعه الشيخ السندي في حاشيته أيضًا على أنها بألف التأنيث المقصورة، وهذه الروايات الثلاث التي قدمنا ذكرها لا تأثير لاختلافها من جهة المعنى. والطست تذكّر على معنى الإناء وتؤنث، والحكمة والإيمان من المعاني التي لا تتجسم فلهذا قال بعضهم: إن في هذا الطست شيء تحصل به الحكمة والإيمان. قلت: والواجب أن نعتقد أنه مملوء حكمة وإيمانًا كما أخبر صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يلزمنا أن نتعقل وجه ذلك، وستأتي زيادة الكلام عليه في فوائد الحديث آخر شرحه عند الكلام على الفائدة الخامسة منه. قوله:(فشقّ من النحر) الضمير يعود إلى جبريل وهو المذكور في قوله: (أقبل. . .) إلخ كما تقدم، و (من) هنا لابتداء الشق وهو الفتح، والنحر هو منتهى أعلى الصدر عند الإنسان عند منحدر الطعام، و (إلى) تقدم الكلام عليها في شرح الآية، وهي هنا لبيان الغاية، وقوله:(مراق) المراق آخر البطن مما يلي العانة، وهي بفتح الميم وتشديد القاف، لأن جلد الإنسان يكون فيها رقيقًا أكثر من غيره، قيل: جمع لا واحد له من لفظه، وقيل: واحده مرق، وقوله:(فغسل القلب)، أي غسل الملك قلب النبي صلى الله عليه وسلم، والفاء في هذه الجمل كلها عاطفة، وأل في قوله:(القلب) إما للعهد الحضوري أو هي عوض عن الإضافة لأن الأصل: قلبي، وقوله:(بماء زمزم)، الباء للمصاحبة، وزمزم: البئر المعروفة عند الكعبة وهي سقاية إسماعيل، قيل: سميت زمزم لأن هاجر لما نبع الماء جعلت تقول: يا ماء زم زم، ولعل غسله بها لفضلها على غيرها من المياه. وقوله:(ثم ملئ حكمة وإيمانًا) تقدم الكلام على ثم، وهي هنا لترتيب الفعل، وقوله: (ملئ
حكمة وإيمانًا) أي ملأه الملك من الحكمة والإيمان، وتقدم الكلام عليهما قريبًا وسيأتي في الفوائد، كما تقدم الكلام على ثم في السواك (ح 4). وقوله:(أتيت بدابة) أي أتاني الملك كما هو مصرح به في غير هذه الرواية، (بدابة) الدابة أصلها ما دبّ على وجه الأرض أي تحرك، غير أن العرف في الإستعمال خصّصها بذات الأربع فصارت عرفًا عليها، وقد صرحت الروايات الأخر في الصحيحين وغيرهما أنها تسمى (البراق)، وأن الأنبياء كانت تركبها قبله عليه الصلاة والسلام. وقوله:(دون البغل) دون ظرف مكان في الأصل ويكون وصفًا فيكون نقيض فوق، وهو تقصير عن الغاية فتقول في التقريب: هذا دون هذا أي أقرب منه، وهذا دون هذا في التحقير أي أقل منه قدرًا وعددًا، وحقه في التحقير ونحوه إذا كان وصفًا أن يرفع ويدخل عليه تغيير الإعراب، ولكنه لما كان الأكثر فيه الظرفية نصب في الغالب، إلا إذا دخل عليه حرف الجر كما قال سيبويه في قوله تعالى:{وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي: قوم دون ذلك، وهي منصوبة وموضعها رفع، ويكون بمعنى أمام وبمعنى وراء، فمن الأول: قول الشاعر يصف خمرًا:
تريك القذى من دونها وهي دونه
…
إذا ذاقها من ذاقها يتمطق
حمل على أن المراد أن القذى من ورائها وهي دونه، فوصفه بقوله (من دونها) وفيه عندي نظر. ومن الثاني: قولهم: أمير على ما دون جيحون؛ بمعنى ما وراءه. وتكون بمعنى فوق، كأن تجيب من وصف شخصًا بالشرف فتقول: هو دون ذلك أي فوق ذلك، وبضده أن يكون أقل منه منزلة أو قدرًا؛ وهو المراد في الحديث هذا لأنه قابله بقوله:(وفوق الحمار)؛ ومن هذا المعنى قوله: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة" ويكون بمعنى غير كقوله: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ} أي غير الله، ومثله:{وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} أي غير ذلك، وله نظائر في القرآن ومنه قوله تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} أي: ما سوى ذلك. ومن استعماله في الحقارة قول الشاعر:
إذا ما علا المرء نال العلاء
…
ويقنع بالدون من كان دونا
أي حقيرًا، والمعنى في الحديث أن هذه الدابة التي هي البراق حجمها متوسط بين حجم البغل وحجم الحمار، أي: أصغر من حجم البغل وفوق
حجم الحمار، وهذه صفة للدابة، يقال: هذا الشيء دون هذا؛ إذا كان أقل منه، وفوق إذا كان أكثر منه. وقوله:(ثم انطلقت مع جبريل) أي: خرجت أسير معه، والإنطلاق: الذهاب وعدم وجود ما يمنع من السير عند إرادته، وقوله:(أسير) جملة في محل نصب على الحال، والتقدير: انطلقت حال كوني سائرًا مع جبريل، ويجوز أن يكون (انطلقت) هنا ضمن معنى: شرعت في السير، ومع ظرف يقتضي المصاحبة للشيء أي مصاحبًا له ومرافقًا، و (جبريل) علم، قيل: إن أصل الوضع فيه عجمي تلقته العرب فاستعملته استعمال أوضاعها، أو اتفقت فيه اللغة العربية مع غيرها في الوضع ولهذا لم تضع له اسمًا. وصحح القرطبي وغيره فيه وفي نظائره من الألفاظ المسمى بها التي جاءت في القرآن؛ أنها عربية نزل بها جبريل بلسان عربي، ولا يضر على ذلك اتفاق غير العربية فيها معها، وفيه عشر لغات: الأولى: جبريل بياء وبدون همز، وهي لغة أهل الحجاز، قال كعب بن مالك رضي الله عنه:
وببئر بدر إذ يرد جموعهم
…
جبريل تحت لوائنا ومحمد
الثانية: جَبْريل بفتح الجيم، وبها قرأ ابن كثير والحسن، الثالثة: جبرءيل بياء بعد الهمزة وبدون ألف، وقرأ بها بعض أهل الكوفة وأنشد في شرح القاموس لكعب بن مالك رضي الله عنه:
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة
…
مدى الدهر إلا جبرءيل أمامها
وهي لغة قيس وتميم، والرابعة: جبرئل من غير ياء بعد الهمزة، وقرأ بها أبو بكر عن عاصم. الخامسة مثلها إلا أن اللام مشددة وبها قرأ يحيى بن معمر، السادسة: جبرائل بألف بعد الراء وبدون ياء بعد الهمزة قراءة عكرمة، السابعة مثلها إلا أَن فيها ياء بعد الهمزة. الثامنة: جبراييل بياءين من غير همزة، قرأ بها الأعمش ويحيى بن يعمر أيضًا. التاسعة جبرءين بفتح الجيم وبعد الهمزة ياء وبدل اللام نون. العاشرة: جبرين بكسر الجيم من غير همز والياء بعد الراء ساكنة وآخره نون، قيل: إنها لغة بني أسد ولم يُقرأ بها. وقوله: (فأتينا السماء الدنيا) والضمير في أتينا للنبي صلى الله عليه وسلم وجبريل، ففيه استعمال ضمير الجماعة للإثنين كما في قوله تعالى:{وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} . والسماء الدنيا أي القربى من السموات التي هي سقف للعالم السفلي، والدنيا
هنا تأنيث الأدنى أي التي تلي الناس، ولم يذكر هنا مرورهم ببيت المقدس، وهو ثابت في الروايات الأخر كما سنبينه إن شاء الله. وقوله:(فقيل: من هذا) فيه حذف كما في الروايات الأخر وهو قوله: (فاستفتح جبريل) والقائل هو الملك أو الملائكة الموكلون بأبواب السماء، و (من هذا؟ ) أي: من المستفتح؟ وقوله: (قال: جبريل) أي: مجيبًا للسائل: جبريل، التقدير: المستفتح جبريل أو هذا جبريل، فحذف المبتدأ للعلم به على حد قول ابن مالك:
وحذف ما يعلم جائز كما
…
تقول زيد بعد من عندكما
وقوله: (وقيل: من معك) دليل على أنهم قد عرفوا أنه معه أحد، ولعلهم كانوا أُخبروا بأنه سيأتيهم معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشهد له ما في بعض الروايات من قول الملك: أُمرت أن لا أفتح لأحد قبلك. وقوله: (محمَّد) أي معي محمَّد، وقوله:(وقد أرسل إليه) الأصل: أوَ قد أرسل إليه؟ فحذفت همزة الإستفهام، والحديث حجة على من أنكر جواز حذفها، ومثله قوله تعالى:{هَذَا رَبِّي} أي أهذا ربي؟ وقوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} أي: أوَ تلك؟ ومن شواهده قول ابن أبي ربيعة:
فوالله ما أدري وإن كنت داريا
…
بسبع رمين الجمر أم بثمان
أي: أبسبع؟ وقول الآخر:
رفوني ثم قالوا يا خويلد لا ترع
…
فقلت وأنكرت الوجوه هُم هُم
أي: أهمْ همُ؟ والإستفهام يحتمل أن يكون عن أصل رسالته، وأن يكون المراء الإرسال إليه للعروج إلى السماء، فعلى الأول: يكون دليلًا على أن بوابي السماء لم يكونوا علموا ببعثته، وعلى الثاني: يكونون عالمين بأصل البعثة وكأنهم منتظرون للإرسال إليه للصعود إلى السماء. وقد تعقب الشهاب في شرح الشفاء تجويز ابن حجر وغيره لعدم علم الملائكة بالرسالة إليه بمعنى البعثة. والظاهر أن كلامه أولى بالتعقب في ذلك، لعدم وجود التصريح بكون البوابين على السماء علموا بعثته، فغاية ما في الأمر تجويز علمهم بذلك. وقوله:(مرحبًا به) أي جاء مكانًا رحبًا أي واسعًا، به أي بوجوده فيه. وقوله:(نعم المجيء جاء) نِعْمَ: فعل مبني للمدح، والمجيء اسمها، وقوله:(جاء) أي الذي جاء. قال ابن مالك في شواهده: من هذا الكلام شاهد على
الإستغناء بالصلة عن الموصول أو الصفة عن الموصوف في باب نعم، لأنها تحتاج إلى فاعل هو المجيء، وإلى مخصوص بمعناها وهو مبتدأ مخبر عنه بنعم وفاعلها، وهو في هذا الكلام وشبهه موصول أو موصوف بجاء، والتقدير: ولنعم المجيء الذي جاء، أو: لنعم المجيء مجيء جاء، وكونه موصولًا أجوز لأنه مخبر عنه، وكون المخبر عنه معرفة أولى من كونه نكرة. وقوله:(فأتيت على آدم) أي: فمررت عليه في السماء الدنيا، كما في الرواية الأخرى: فإذا فيها آدم. وقوله: (فسلمت عليه) تقدم أن الفاء عاطفة، (قال) أي آدم، (مرحبًا بك) ولم يذكر أنه ردَّ السلام، ولعل ذلك من الإختصار في الحديث فلقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم ردَّ عليه السلام، كما في صحيح البخاري من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فدل ذلك على أن حذفها هاهنا اختصار في الرواية. وقوله:(مرحبا) هذه كلمة تستعمل للقادم على المكان، وتفسيرها عندهم: جئت مكانًا رحبًا أي واسعًا بك أو أصاب رحبًا وسعة، وكنى بذلك عن الإنشراح وسعة الصدر بالقادم. وقوله:(من ابن) يحتمل أنها بيانية ويحتمل أنها زائدة والأول أظهر، قوله:(ثم أتينا السماء الثانية) وفيه (فمثل ذلك) أي: قيل لنا مثل ذلك القول السابق، وهو مصرح به في أكثر الروايات، فذكر يحيى وعيسى في السماء الثانية ويوسف في الثالثة، وفي رواية ثابت عند مسلم: فإذا هو قد أعطي شطر الحسن، وعند الطبراني وابن عائذ من رواية أبي هريرة:(فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله، قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب)، ومثلها من حديث أبي سعيد عند البيهقي، وهو محمول على أنه أحسن الناس ما عدا النبي صلى الله عليه وسلم، بدليل ما روى الترمذي من حديث أنس: ما بعث الله نبيًا إلا حسن الوجه حسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجهًا وأحسنهم صوتًا. ثم ذكر إدريس في الرابعة وذكر أنه قال له: مرحبًا بك من أخ ونبي، فاستدل بذلك من قال: إن إدريس ليس أبًا لنوح كما ذكره بعض المؤرخين، لأنه لو كان أبًا لنوح لكان أبًا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولقال له ما قال آدم: مرحبًا بك من ابن، ولذا قال بعضهم: إن إدريس هذا ليس بالذي قيل فيه إنه أب لنوح، بل هو إلياس النبي، روي ذلك عن ابن مسعود كما ذكره الشهاب الخفاجي، وهو يحتاج إلى دليل مع بُعْدِه، وعلّل ذلك
بعضهم بأن إدريس قاله تواضعًا، والأنبياء كلهم إخوانه في الدين، وفي الحديث:"الأنبياء أولاد علّات"، والعلات: الضرائر، فمعناه ما وضحه الحديث: بأن الدين واحد، كالأب الواحد والشرائع مختلفة كالأمهات المختلفات، ومن قال: إنه أب لنوح قال: اسمه آخنوخ بالعبرية، وهو سبط شيث وجدّ أبي نوح، قالوا: هو أول من نظر في النجوم وخطّ، وفي رواية شاذة أنه قال له: بالابن، ولم أقف عليها وإنما ذكرها الشهاب من شرح الشفا والعيني في شرح البخاري، ثم ذكر أن في السماء الخامسة هارون وفي السادسة موسى وفي السابعة إبراهيم. وقوله:(في موسى فلما جاوزته بكى) وذلك للسبب الذي ذكره موسى وهو أنه أسف لعدم كثرة من يدخل الجنة من أمته، فبكى أسفًا عليهم لا أنه حسد أخاه على فضل الله عليه وعلى أمته، لأن الحسد في حق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ممنوع، وهو من الأمراض السيئة في القلوب، وأكبر شاهد على حبه للخير لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأمته؛ أمره له بمراجعة ربه حتى خفّف عنهم الصلاة. وما جاء في الرواية الأخرى من قوله: يا رب ما ظننت أن ترفع علي أحدًا؛ نوع من الغبطة إن صحت الرواية به، وكذا قوله (هذا الغلام) إنما هو على سبيل التوجع السابق، ووصفه له بكونه غلامًا يحتمل أنه قال ذلك لكبر سن موسى عليه، وهو على ما قاله بعضهم: إن العرب تصف المستجمع القوى من الرجال بالغلام لأن العادة جرت أن الشباب محل القوة والنشاط. قال أبو جهل لعنه الله:
ما تنقم الحرب العوان مني
…
بازل عامين حديث سنيّ
ومما يقوي الوجه الأول قوله: (الذي بعثه بعدي) أي بزمن طويل، فكأنه شاب بالنسبة لزمن موسى، وقال العيني:(لم يرد به استصغار شأنه، فإن الغلام قد يطلق ويراد به القوي الطري الشباب، والمراد: استقصار مدته مع عظيم منة الله عليه وكثرة فضائله)، وقال الخطابي: الغلام ليس علامة على الإزدراء والإستصغار لشأنه، إنما هو على تعظيم منة الله، عليه مما أناله من النعمة وأتحفه به من الكرامة، من غير طول عمر أفناه في طاعة الله، وقد تسمي العرب الرجل المستجمع السن: غلامًا، مادام فيه بقية من القوة، وذلك في لغتهم مشهور. فذكر أنه وجد موسى في السماء السادسة وإبراهيم في السابعة،
وهذا الذي عليه أكثر الروايات إلا رواية شريك وأبي ذر. أما شريك فقد ذكر مسلم وغيره أنه قدّم فيها وأخّر، وطعن غير واحد فيها لأن شريكًا خالف فيها من نحو اثنتي عشرة مسألة، وهو عند المحدثين لا يقبل انفراده لأنه تغير حفظه بعدما ولي القضاء، وأما رواية أبي ذر فقد صرح بأنه لم يضبط أماكنهم. وأما قول بعضهم كالعيني وغيره أن يجمع بين الروايتين بأن موسى كان في السادسة ثم ارتفع إلى السابعة؛ فغير مرضي لعدم وجود ما يدل على أن أحدًا منهم صحبه في الصعود، ورواية مالك بن صعصعة هذه تشهد لكون الذي في السابعة إبراهيم، لأنه ذكر رؤيته البيت المعمور عند وصوله إليه، وفي بعض الروايات أن إبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور والله أعلم. وهي رواية ثابت البناني في أول صحيح مسلم عند أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . رفعه أنس بدون واسطة، قال ابن حجر رحمه الله:(ومجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره من المشهورين عشرة أشياء بل تزيد على ذلك: (1) أمكنة الأنبياء في السموات، وقد صرح بأنه لم يضبطها ووافقه الزهري في بعض ما ذكر (2) كون المعراج قبل البعثة (3) كونه منامًا (4) مخالفته في محل سدرة المنتهى وأنها فوق السماء السابعة بما لا يعلمه إلا الله، والمشهور أنها في السابعة أو السادسة كما تقدم (5) مخالفته في النهرين وهما النيل والفرات وأن عنصرهما في السماء الدنيا، والمشهور في غير روايته أنهما في السماء السابعة وأنهما من تحت سدرة المنتهى (6) شقُّ الصدر عند الإسراء، وقد وافقته رواية غيره كما بينت ذلك في شرح رواية قتادة عن أنس بن مالك بن صعصعة (7) ذكر نهر الكوثر في السماء الدنيا، والمشهور في الحديث أنه في الجنة (8) نسبة الدنو والتدلي إلى الله عز وجل، والمشهور في الحديث أنه جبريل (9) تصريحه أن امتناعه من الرجوع إلى سؤال ربه التخفيف كان عند الخامسة، ومقتضى رواية ثابت عن أنس أنه بعد التاسعة (10) قوله: فعلا به الجبار فقال وهو مكانه (11) رجوعه بعد الخمس، والمشهور في الأحاديث أن موسى عليه الصلاة والسلام أمره بالرجوع بعد أن انتهى التخفيف إلى الخمس (12) زيادة ذكر النور في الطست) اهـ. وقوله:(ثم أتينا السماء السابعة فمثل ذلك) تقدم الكلام على هذه الألفاظ. وقوله: (فأتيت على إبراهيم عليه السلام فسلمت عليه فقال: مرحبًا بك من
ابن وبني) تقدم الكلام أيضًا على مفردات ألفاظها، وفيها التصريح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ابن للخليل وهذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين. وقوله:(ثم رفع لي البيت) أي أبصرته من بعد، يقال: رفع السراب الشخص يرفعه رفعًا: زهاه، وهو مجاز ورفعت الشيء: قربته مني، ورفع لي أيضًا: قرب مني. قال ذو الرمة:
فقلت ارفعها إليك وأحيها
…
بروحك واقتته لها قيتة قدرا
أي: قربها منك، فالمعنى أنه أظهر له البيت وأبرز حتى رآه كأنه قريب منه. وقد يكون هذا الرفع بإزالة الحواجز بينه وبين البيت المعمور، كما جاء في حديث الإسراء أن قريشًا لما سألته عن بيت المقدس رفع له حتى صار يراه عند دار عقيل .. الحديث، وهذا من أنواع خرق العادة له صلى الله عليه وسلم. وقوله:(المعمور) أي الذي يكثر عامروه، وقد اتفقت روايات الأكثرين فيه أنه بيت يقال له: الضراح، وهو في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه آخر الدهر حتى تقوم الساعة، وقد روى ذلك ابن جرير رحمه الله من عدة طرق كعادته الحسنة، وأخرجه ابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس مرفوعًا، وأخرجه عبد الرزاق وجماعة عن علي رضي الله عنه أن ابن الكوّاء سأله عنه فقال: ذلك الضراح بيت فوق سبع سماوات تحت العرش يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، وفي رواية عنه وكذا عن ابن عباس: أنه حيال الكعبة بحيث لو سقط سقط عليها. اهـ.
وذكر قتادة وابن زيد أن في كل سماء بحيال الكعبة بيتًا حرمته كحرمتها، وعمارته بكثرة الواردين عليه من الملائكة عليهم السلام، وقال الحسن: هو الكعبة يعمرها الله كل سنة بستمائة ألف من الناس، فإن نقصوا أتم العدد من الملائكة. قلت: وهذا عندي في غاية السقوط لمصادمته للأحاديث الصحيحة في تعيين البيت المعمور، ولعله لا يصح عن الحسن إلا إذا قيل: مراده أن صفة المعمور ينطبق على الكعبة؛ لأنه من المجاز المشهور: بيت معمور بمعنى مسكون تكثر الناس عنده في محل هو فيه مأهول بالناس مسكون، وعمارة الكعبة بالمجاورين عندها والقادمين عليها، فإن أريد هذا المعنى فهو صحيح، أما إرادة الكعبة في الأحاديث الصحيحة في الإسراء التي تنص على البيت
المعمور فهو بعيد والله أعلم. وقوله: (فسألت جبريل) أي عن البيت الذي رفع له (فقال) أي جبريل (هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك فإذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخر ما عليهم) أي آخر الدهر (ثم رفعت لي سدرة المنتهى) أي جليت لي حتى رأيتها كما تقدم مثله في البيت المعمور. والسدرة واحدة السدر، وهو اسم جنس شجر معروف، والمنتهى سميت به لأنه ينتهي إليها علم الملائكة، لم يجاوزها أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتهي إليها ما يرفع من الأرض وما ينزل من فوقها. ومن رواية هدبة بن خالد عن همام بن يحيى عن قتادة عند البخاري في المناقب باب المعراج؛ تقديم ذكر السدرة على البيت المعمور، فقد يكون ذلك من عدم ضبط الرواة. قوله:(فإذا نبقها مثل قلال هجر) الفاء هنا يشبه أن تكون الفصيحة والتقدير: فرأيتها فإذا، ويحتمل أنها التي تقترن بإذا الفجائية كأنه فاجأته رؤية نبقها لعظم شأنه. وقوله:(نبقها) النبق ثمر السدر وهو معروف، وقوله:(مثل قلال هجر) أي في العظم وكبر الحجم، والقلال جمع قلة. قال في التاج: والقلة الحب العظيم أو الجرة العظيمة أو الجرة عامة أو الجرة الكبيرة من الفخار وقيل: هو الكوز الصغير، قال: وهذا هو المعروف الآن بمصر ونواحيها فهو ضد؛ يعني أنه يقال للكبير وللصغير فهو من الأضداد. قال: والجمع قلل وقلال كصرد وجبال، قال جميل بن معمر:
فظللنا بنعمه واتكأنا
…
وشربنا الحلال من قلله
وقال حسان رضي الله عنه:
وأقفر من حضاره ورد أهله
…
وقد كان يسقى في قلال وحنتم
وفي الحديث: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث". قال أبو عبيد: بعض هذه الحباب العظام وهي معروفة بالحجاز وقد تكون بالشام، قال: وفي صفة سدرة المنتهى ونبقها كقلال هجر، وهجر: قرية قرب المدينة وليست هجر البحرين، وكانت تعمل بها القلال. وروى شمر عن ابن جريج: أخبرني من رأى قلال هجر تسع القلة منها الفرق. قال عبد الرزاق: الفرق أربعة أصوع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: هذا خلاف ما عليه الأمر، فإن عامة من ذكروا الفرق قالوا: إنه ثلاثة أصوع، وقد تقدم ذلك في الطهارة ويأتي في فدية الحج
إن شاء الله. قال صاحب التاج تتمة كلامه: وروى عيسى بن يونس: القلة نحو أربعين دلوًا أكثر ما قيل في القلتين قلتين، وقال الأزهري: وقلال هجر والأحساء ونواحيها؛ تأخذ القلة منها مزادة كبيرة من الماء وتملأ الراوية قلتين، وكانوا يسمونها الخروس. قال: وأراها سميت قلالًا لأنها تُقلُّ أي ترفع إذا ملئت وتحمل. اهـ. منه، قال ابن حجر: قال ابن التين: القلة مائتا رطل وخمسون رطلًا بالبغدادي، والأصح عند الشافعي خمسمائة رطل، وقال الخطابي: القلال الجرار وهي معروفة عند المخاطبين معلومة القدر. قال ابن فارس: القلة ما أقله الإنسان من جرّة أجُبّ وليس في ذلك عند أهل اللغة حد محدود، وهذا أقرب إلى الصواب، أما قول الخطابي رحمه الله أنها معروفة عند المخاطبين معلومة، فلا يتجه إلا على ما ذكره ابن فارس من أن المعنى معلوم، وأما كونها معروفة فاشية بقدر معين فالظاهر خلافه، وذلك بالنسبة لتحديدها في الماء. أما على قول الهروي أنها ما يقل فهو ظاهر في اللغة، ويبقى التشبيه بقلال هجر فهو يدل على أن هناك نوع يعرفه بعض الناس الذين رأوه، والخلاف في المسألة طويل الذيل. قال الهروي: القلة ما يأخذ مزادة من الماء، سميت بذلك لأنها تقل أي ترفع، والقول بأن هجر قرية بنواحي المدينة محتمل، مع أنه يبعد كونها لا تعرف بعينها، ولم أر من نص على محلها بالتعيين من كثرة الكلام على حديث ابن عمر في القلتين واختلاف الناس فيه، وإلى اليوم لا تعرف عنه الناس ولا في كتب البلدان وتواريخ المدينة لم يذكر أحد منهم محلها، إلا ما يقولون من الخلاف في حديث القلتين: هل هي هجر الأحساء أو غيرها؟ وقد تقدم ذلك وأنهم لم يذكروا ما بينها، فلهذا يترجح أحد الوجهين الآتيين عن الماوردي من أنها كانت تجلب من هجر إلى المدينة، أو أنها عملت بالمدينة على مثال قلال هجر، كما نقله ياقوت عنه مع حكايته القول بأنها قرية حول المدينة، حكاه بصيغة التمريض. قال ياقوت:(وهجر: قصة بلاد البحرين، والهجر: بلد من اليمن وبينه وبين عثّر يوم وليلة من جهة اليمن. قال ابن الحائك: الهجر: قرية صمد وجازان وهجر: اسم للمستقر) اهـ. وقوله: (وإذا ورقها مثل آذان الفيلة) جمع أذن وهي الجارحة التي بها السمع، والفيلة بكسر الفاء وفتح الياء جمع فيل، وفي رواية للبخاري
في بدء الخلق: مثل آذان الفيول وهو جمع فيل أيضًا، وقوله:(وإذا في أصلها أربعة أنهار) أي في أصل سدرة المنتهى، وهو محل منبت طرفها الأسفل لأنها منه تنبت وتنمو وتتفرع، ولمسلم:"يخرج من أصلها". قال ابن حجر: يحتمل أن تكون سدرة المنتهى مغروسة في الجنة، والأنهار تخرج من تحتها فيصحّ أنها من الجنة، والأنهار جمع نهر بسكون الراء ونهر بفتحها، وأصله الشق ومنه: ما أنهر الدم. . . الحديث، والمراد به هنا الماء الجاري، لأن العادة أنه يشق الأرض فيقال لمحله الذي شقه: نهر، ثم أطلق على الماء الجاري فيه، وهو مجاز مرسل علاقته المحلية؛ سمي الماء باسم محله أو العكس. قال في القاموس وشرحه: النهر -ويحرك- مجرى الماء، قال في التاج: هذا قول الأكثرين، وقيل: هو الماء نفسه. وفي المصباح: أنه حقيقة في الماء مجاز في الأخدود، الجمع أنهار ونهر -بضم النون وسكون- ونهور وأنهر. قال الشاعر:
شقتين مادامت بكرمان نخلة
…
حوامل تجري بينهن نهور
ويطلق النهر محركًا على السعة والضياء، وبه فسّر قوله تعالى:{فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} ، والصواب في الآية خلاف ذلك، وأن المراد بقوله: نهر؛ اسم جنس بمنزلة الجمع كقوله: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أي الأدبار، و {يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} أي أطفالًا، وهو كثير من كلام العرب: قال الزجاج: إن الواحد قد يدل على الجمع فيجتزأ به عنه، وقوله:(نهران ظاهران ونهران باطنان) الظاهر الباين الواضح ضد الباطن، والباطن هو الخفي غير أنه يكون نسبيًا فهو في كل شيء بحسبه. وقوله:(فسألت جبريل) أي عن الأنهار (فقال) أي مجيبًا لسؤاله، والفاء في هذه الألفاظ كلها عاطفة، وقوله:(أما الباطنان) تقدم الكلام على (أما) في الطهارة وفي حديث ابن عباس في المقبورين المعذبين، وقوله:(ففي الجنة) الفاء واقعة في جواب (أما) أي فهما نهران في الجنة. قال ابن حجر: (وفي حديث أبي سعيد: فإذا فيها عين تجري يقال لها: السلسبيل، فينشق منهما نهران أحدهما الكوثر والآخر يقال له: نهر الرحمة. قال: فيمكن أن يفسر بهما النهران الباطنان المذكوران في حديث الباب. قال: وكذا روي عن مقاتل قال: الباطنان السلسبيل والكوثر. قال: وأما الحديث الذي أخرجه مسلم
بلفظ: سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة؛ فلا يغاير هذا لأن المراد أن في الأرض أربعة أنهار أصلها من الجنة، ولم يثبت لسيحون وجيحون أنهما من سدرة المنتهى، أي وكونهما من الجنة لا يستلزم ذلك كما لا يخفى، فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك، وأما الباطنان المذكوران في الحديث فلا يصح تفسيرهما بسيحون وجيحون، لعدم ورود ما يدل على ذلك، ولا مجال للرأي فيه) والله أعلم. قال النووي رحمه الله: (في هذا الحديث أن أصل النيل والفرات من الجنة، وأنهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض ثم يسيران فيها ثم يخرجان منها. قال: وهذا لا يمنعه النقل وقد شهد به ظاهر هذا الخبر فليعتمد، قال: وأما قول القاضي عياض: إن الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض، لأنه قال: إن النيل والفرات يخرجان من أصلها وهما بالمشاهدة يخرجان من الأرض، فيلزم منه أن يكون أصل السدرة في الأرض؛ وهو ضعيف وأن المراد بكونهما يخرجان من أصلها غير خروجهما بالنبع من الأرض. قال: والحاصل أن أصلهما في الجنة، ويخرجان أولًا من أصلها غير خروجها بالنبع من الأرض. قال: والحاصل أن أصلهما في الجنة ويخرجان أولًا من أصلها ثم يسيران إلى أن يستقرا في الأرض ثم ينبعان. اهـ. والنيل على ما قالوا مبدأ نبعه من جبال القمر -بضم القاف وسكون الميم وقيل: بفتح الميم- تشبيهًا لها بالقمر في بياضه، قيل: من اثنتي عشرة عينًا هنالك، ويجري ثلاثة أشهر في القفار وثلاثة أشهر في العمران، حتى يصل إلى مصر فيفترق فرقتين عند قرية يقال لها: شطنون، فيمر الغربي منه على رشيد ويصب في البحر الملح، وأما الشرقي فيفترق أيضًا فرقتين عند جوجر، فتمر الغربية منهما على دمياط من غربيها وينصب في البحر الملح، والشرقية منهما تمر على أشمون طناح، فتنصب هناك في بحيرة شرقي دمياط يقال لها: بحيرة تفيس وبحيرة دمياط. وأما الفرات فأصله من أطراف أرمينية قريب من قاليقلا، ثم يمر على بلاد الروم ثم يمر بأرض مالطية، ثم على شميشاط وقلعة الروم والبيرة وجسر منبج وباليس وجعبر والرقة والرحبة وقرقيسياء وعانات والحديث وهيت والأنبار، ثم يمر بالطنوف ثم بالحلة ثم بالكوفة وينتهي إلى البطائح وينصب في البحر
الشرقي. قالوا: ومقدار جريانه على وجه الأرض أربعمائة فرسخ، ذكر أكثر ذلك العيني في شرحه على البخاري رحمة الله علينا وعليهما. وقوله:(ثم فرضت) تقدم الكلام على معنى الفرض، والمراد: فرض عليه وعلى أمته، ولم يذكر الأمة لأنهم تبع له في التشريع. وقوله:(خمسون) بالرفع نائب فاعل فرض، إذ الأصل: فرض الله عليَّ خمسين، والجار والمجرور في محل نصب، إما لأنه حال، أو لأنه بمثابة المفعول الثاني على تقدير أن فرض الشيء بمثابة جعله فرضًا وألزمه إياه، والمراد أنه أمر أن يصلي هو وأمته في اليوم والليلة خمسين صلاة، وقوله:(فأتيت على موسى) الفاء يحتمل أنها فصيحة أي: فرجعت فأتيت على موسى، ويحتمل أنها عاطفة، ومعنى أتيت على موسى: مررت به في رجوعي، وقوله:(فقال لي) أي موسى: (ما صنعت؟ ) الفاء عاطفة و (ما) استفهامية في محل نصب بصنعت، أي: صنعت أي شيء؟ مع احتمال أنها مبتدأ وجملة (صنعت) خبره والمفعول محذوف، وهو وجه ضعيف. وفي رواية: بم أمرت؟ وهي تبين المراد من قول موسى: صنعت، كأنه قال: ما الذي أتيت به من عند ربك؟ وقوله: (قلت) أي: في جواب موسى (فرضت علي) بالبناء للمجهول أي: فرض ربي عليّ، لأن الفاعل معلوم وهو في مثل هذا يكون حذفه اختصارًا، (خمسون) نائب الفاعل على ما تقدم، و (صلاة) تمييز للعدد. وقوله:(قال) أي موسى مخاطبًا للنبي -صلّى الله وسلّم عليهما- على سبيل النصيحة والإشفاق، (إني أعلم بالناس) أي بحال الناس وعدم تحمل أكثرهم لمشاق التكاليف، كما قال تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} أي: ثقيل متباطئ عن الطاعة، (وإني عالجت بني إسرائيل) أي حاولت إصلاحهم وقيامهم بأوامر الله تعالى، وعالج الشيء يعالجه: إذا سعى في تحصيله أو في إصلاحه، فالمعالجة: محاولة فعل الشيء كالمزاولة والمجاهدة والممارسة، أي: مارستهم ولقيت منهم شدة في الدعوة إلى الطاعة. وبنو إسرائيل هم أولاد يعقوب، وهم قوم موسى وأمته الذين أرسل إليهم. وقوله:(أشدّ المعالجة)(أشد) منصوب على المصدرية من غير اللفظ، وبعضهم يسميه: ما ناب عن المصدر، وقد يجوز فيه أن يكون صفة لمصدر محذوف أي: معالجة أشد المعالجة، ولكن الحذف خلاف الأصل، و (أشد) في الأصل أفعل
تفضيل، وقوله:"إن أمتك" أي جماعتك وقومك الذين أرسلت إليهم، وأصلها لفظ مشترك بين معاني، فإنها تكون بمعنى الجماعة والجيل من الناس، وهو الأكثر فيها، وتكون بمعنى الملة والدين كما في قوله:{وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} أي: ملة، {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: ملتكم ودينكم، ومنه قوله:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
…
وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
والأمة: الرجل المقتدى به الجامع للفضائل كما في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} ، وقوله عليه السلام في زيد بن عمر:"أمة وحده". والِأُمّة بالكسر والضم: الهيئة والعصارة والنعمة، ومنه قول الشاعر:
ولا الملك النعمان يوم لقيته
…
بأمته يمضي القطوط ويأفق
والأمة: القامة الحسنة، قال الشاعر:
إن معاوية الأكرمين
…
بيض الوجوه حسان الأمم
والأمة: النعمة، قال الأعشى:
ولقد جررت إلى الفتى ذا فاقة
…
وأصاب غزوك أمة فأزالها
والأمة: البرهة من الزمن، قال تعالى:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: بعد مدة، ولها معانٍ غير هذا. وقوله:(لن يطيقوا ذلك) أي: لن يقدروا عليه، والإشارة إلى أداء هذا العدد من الصلاة كل يوم وليلة، أي: لن يقدروا على القيام بأداء خمسين صلاة، من الإطاقة وهي: القدرة على الشيء، من قوله: طاقه طوقًا وأطاقه إطاقة وأطاق عليه، والاسم: الطاقة، قال الأزهري: أطاقه يطوقه طوقًا، وأطاقه يطيقه إطاقة وطاقة، كما يقال: طاع يطوع طوعًا وأطاع يطيع إطاعة وطاعة، والطاعة والطاقة اسمان يوضعان موضع المصدر. وقوله:(فارجع إلى ربك) الفاء سببية وإن كانت تحتمل الإستئناف، أي: المحل الذي ناجيت فيه ربك أو فرض عليك فيه ذلك، وقوله:(فاسأله أن يخفف عنك) أي: سله التخفيف عليك فيما فرضه عليك وعلى أمتك، وهذا دليل على أن موسى قد علم أن الفرض عليه فرض على أمته، وقوله:(فرجعت فسألته) الفاء الأولى سببية أو عاطفة والثانية عاطفة، وقوله:(أن يخفف عني) أي: سألته التخفيف، فالمصدر في محل نصب مفعول به، وقوله:(أربعين) مفعول ثان لـ (جعلها)، أي: نقص منها عشرًا أي حطها عني من الخمسين فبقي العدد
أربعين، ثم ذكر مراجعته لموسى حتى وضع منها عشرًا بعد عشر حتى صارت عشرًا، ثم وضع منها خمسًا فبقيت خمس، ورواية عشرة هنا بتذكير العدد وهو مؤنث، ولهذا جاء في رواية البخاري: عشرًا؛ وهي أظهر غير أن رواية التاء قد تخرج على معنى الفرض أي عشرة فروض، أو على الوقت: عشرة أوقات، ويكون قوله (فجعلها) أي: الصلاة عشرة فروض. وقوله: (إني أستحيي من ربي عز وجل) يقال: أستحيي على الأصل بياءين وأستحي بياء واحدة تخفيفًا، وقد تقدم الكلام عليه في حديث أم سليم في الغسل، وتقدم أيضًا الكلام على قوله عز وجل في أول الكتاب المبارك. والرب لفظ يطلق على المالك والمدبّر والقائم بالأمر والملك، قال الشاعر وهو لبيد رضي الله عنه:
واهلكن يومًا رب كندة وابنه
…
ورب معد بن خربت وعرعره
وأعوض بالدومي من فوق حصنه
…
وأنزلن بالأسباب رب المشقره
من قولهم: ربه يربه إذا أصلحه، قال علقمة:
وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي
…
وقبلك ربتني فضعت ربوب
وقوله عليه الصلاة والسلام في اللقطة: "فإن جاء ربها"، وهذه المعاني لا يستعمل في شيء منها إلا مضافًا، وأما إن جرد عن الإضافة فلا ينصرف إلا للمتصف بهذه الأوصاف كلها على الحقيقة، وهو الله سبحانه وتعالى. وقوله:(من أن أرجع إليه) المصدر بدل من قوله: (من ربي) أي: استحييت من الرجوع إليه، وقوله:(فنودي) أي ناداه ربه أو الملك بأمر ربه له، وفي الرواية الأخرى "فنُودِيتُ" وهي بمعنى الأولى، وكل من اللفظين بالبناء للمفعول، وقوله:(أن أمضيت فريضتي) أي بأن أمضيت أي أثبت وقررت فريضتي التي افترضتها عليك وعلى أمتك، وأمضى الشيء يمضيه: إذا أنفذه، وقوله:(وخففت عن عبادي) أي: بما نقص عنهم من الخمسين التي فرضت عليهم. وقد اختلف العلماء هل هذا الذي حصل في هذه القضية نسخ أم لا؟ قال الإِمام عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أبي الحسن الحنفي السهيلي الماليقي رحمه الله المولود سنة 508 بمالقة المتوفى سنة 581: (أما فرض الصلاة خمسين ثم حط منها عشرًا عشرًا، وروي أنها حطت خمسًا خمسًا، وقد يمكن الجمع بين الروايتين بدخول الخمس من العشر، فقد تكلم في هذا النقص من
الفريضة أهو نسخ أم لا؟ على قولين؛ فقال قوم: هو من باب نسخ العبادة قبل العمل بها، وأنكر أبو جعفر النحاس هذا القول من جهتين إحداهما: البناء على أصله ومذهبه في أن العبادة لا يجوز نسخها قبل العمل بها، لأن ذلك عدَّه من البدَاء والبدَاء محال على الله سبحانه. الثاني: أن العبادة إن جاز نسخها قبل العمل بها عند من يرى ذلك، فليس يجوز عند أحد نسخها قبل هبوطها إلى الأرض ووصولها إلى المخاطبين. قال: وإنما ادعى النسخ في هذه الصلوات الموضوعة عن محمَّد صلى الله عليه وسلم وأمته: القاشاني، ليصحّح بذلك في أن البيان لا يتأخر. ثم قال أبو جعفر: إنما هي شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ومراجعة راجعها ربه ليخفف عن أمته، ولا يسمى مثل هذا نسخًا، ثم قال السهيلي رحمه الله: أما مذهبه في أن العبادة لا تنسخ قبل العمل بها وأن ذلك بداء فليس بصحيح، لأن حقيقة البداء أن يبدو للآمر رأي يتبين له الصواب فيه بعد أن لم يكن تبينه، وهذا محال في حق من يعلم الأشياء بعلم قديم، وليس النسخ من هذا في شيء، إنما النسخ تبديل حكم بحكم، والكل في سابق علمه ومقتضى حكمه، كنسخ المرض بالصحة والصحة بالمرض ونحو ذلك. وأيضًا فإن العبد المأمور يجب عليه عند توجه الأمر إليه ثلاث عبادات: الفعل الذي أمر به والعزم على الإمتثال واعتقاد الوجوب، وعلم الله ذلك منه فصحَّ امتحانه له واختباره إياه، وأوقع الجزاء على حسب ما علم من نيّته، وإنما الذي لا يجوز: نسخ الأمر قبل نزوله وقبل علم المخاطب به، والذي ذكره النحاس من نسخ العبادة بعد العمل بها؛ ليس هو حقيقة النسخ، لأن العبادة المأمور بها قد مضت، وإنما جاء الخطاب بالنهي عن مثلها لا عنها) اهـ. قلت: معنى هذا أن المفعول من العبادة الذي ثبت عمل العبد له قبل النسخ؛ لا يبطل ثوابه بالنسخ كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} وإنما أمر العبد بترك ما كان يعمل وذلك لا يبطل عمله السابق. ثم قال السهيلي رحمه الله: (وقولنا في الخمس والأربعين صلاة الموضوعة عن محمَّد صلى الله عليه وسلم وأمته أحد وجهين: إما أن يكون نسخ ما وجب على النبي صلى الله عليه وسلم من أدائها، ورفع عنه استمرار العزم واعتقاد الوجوب، وهذا قد قدمنا أنه نسخ على الحقيقة، ونسخ عنه ما وجب عليه من التبليغ فقد كان في كل مرة عازمًا على تبليغ ما أمر به، وقول أبي جعفر؛ إنما كان شافعًا
ومراجعًا، لا ينفي النسخ، فإن النسخ قد يكون عن سبب معلوم) قلت: ويشهد قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية. قال رحمه الله: (فشفاعته عليه السلام كانت سببًا للنسخ لا مبطلة لحقيقته، ولكن المنسوخ ما ذكرنا من حكم التبليغ الواجب عليه قبل النسخ وحكم الصلوات الخمسين فيه خاصة، وأما أمته فلم ينسخ عنهم حكم إذ لا يتصور نسخ الحكم قبل بلوغه إلى المأمور كما قدمنا) اهـ. قلت: خلاصة هذا أن النسخ في هذه القصّةِ خاص به صلى الله عليه وسلم، وأما في حق الأمة فلا يسمَّى نسخًا. قال رحمه الله: وهذا كله أحد الوجهين في الحديث. الوجه الثاني: أن يكون هذا خبرًا لا تعبدًا، وإذا كان خبرًا لم يدخله النسخ، ومعنى الخبر أنه عليه السلام أخبره ربه أن على أمته خمسين صلاة، ومعناه أنها خمسون في اللوح المحفوظ، وكذلك قال في الحديث: هي خمس وهي خمسون والحسنة بعشر أمثالها، فتأوله رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنها خمسون بالفعل، فلم يزل يراجع ربه حتى بين له أنها خمسون في الثواب لا في العمل) اهـ. قلت: وهذا الوجه عندي بعيد جدًا، وإني لأستغرب صدوره من هذا الإِمام الجليل رحمه الله تعالى. قال ابن حجر رحمه الله في شرح حديث أبي ذر أول كتاب الصلاة عند قوله "فوضع شطرها":(في رواية مالك بن صعصعة: فوضع عني عشرًا، ومثله لشريك، وفي رواية ثابت. فحطّ عني خمسًا. قال ابن المنير: ذكر الشطر أعمّ من كونه وقع في دفعة واحدة. قال: قلت: وكذا العشر، فكأنه وضع العشر دفعتين والشطر خمس دفعات، أو المراد بالشطر في حديث الباب: البعض، وقد حققت رواية ثابت أن التخفيف كان خمسًا خمسًا، وهي زيادة معتمدة يتعين حمل باقي الروايات عليها. قال: وأما قول الكرماني: الشطر هو النصف، ففي المراجعة الأولى وضع خمسًا وعشرين وفي الثانية ثلاثة عشر -يعني نصف الخمس والعشرين بجبر الكسر- وفي الثالثة سبعًا؛ كذا قال وليس في حديث الباب في المراجعة الثالثة ذكر وضع شيء، إلا أن يقال: حذف ذلك اختصارًا فيتجه، لكن باقي الروايات يأبى هذا الحمل، فالمعتمد ما تقدم) اهـ. ثم قال: (واستدل به على جواز النسخ في الإنشاءات ولو كانت مؤكدة، خلافًا لقوم فيما أكد، وعلى جواز النسخ قبل الفعل، قال ابن بطال وغيره: ألا ترى أنه عز وجل نسخ الخمسين بالخمس قبل أن تصلى، ثم تفضل
عليهم بأن أكمل لهم الثواب. وتعقّبه ابن المنير فقال: هذا ذكره طوائف من الأصوليين والشراح، وهو مشكل على من أثبت النسخ قبل الفعل كالأشاعرة أو منعه كالمعتزلة، لكونهم اتفقوا جميعًا على أن النسخ لا يتصور قبل البلاغ، وحديث الإسراء وقع فيه النسخ قبل البلاغ لكل أحد فممنوع، وإن أراد قبل البلاغ للأمة فمسلّم. لكن قد يقال: ليس هو بالنسبة إليهم نسخًا، لكن هو نسخ بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كلف بذلك قطعًا، ثم نسخ بعد أن بلغه وقبل أن يفعل، فالمسألة حقيقة التصوير في حقه صلى الله عليه وسلم) والله تعالى أعلم.
وقد تعرض بعض الشراح هنا لبيان أشياء من حكمة في هذا الحديث، ولاسيما العيني وابن أبي جمرة، وذلك شيء لا يعجبني التعرض له ما لم يكن بيان من الله ومن رسوله، وكذلك تعليل استحيائه صلى الله عليه وسلم من ربه وتعليل تخصيص المذكورين من الأنبياء، وكل ذلك عندي أن الإشتغال بالكلام فيه لا أصل له وليس فيه كبير فائدة، وكل ما كان من هذا النوع فإني أرى الإمساك عنه أولى، خشية القول بما لا علم به والله الموفق للصواب. وقوله:(وأجزي بالحسنة عشر أمثالها) أجزي بمعنى أثيب وأعطي وتقدم الكلام على الحسنة والسيئة.
وقوله: (عشر أمثالها) هذا على أقل ثوابها، وقد أخبر أنه يزيد من يشاء، ويضاعف لمن يشاء فيوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله، وقال:{فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} .
• الأحكام والفوائد
هذا الحديث تضمن معجزة عظيمة للرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا نوه الله عز وجل بهذه القصة فقال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. . . .} الآية، وفيه كثير من الفوائد سنشير إلى ما تيسر منها بعون الله، وهو الموفق للصواب: أولًا: قوله: (بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان) تقدم أن هذه حالة نومه صلى الله عليه وسلم، إن أريد أن عينه نائمة وقلبه يقظان، وكذلك إن أريد المعنى الثاني: وهو أنه سِنة ولم يتمكن منه النوم، فعلى الوجهين: فيه دليل على جواز النوم في المسجد، وإذا كان ذلك للإستعانة على العبادة كان نومه عبادة، كما قال بعض الصحابة رضي الله عنهم: أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله.
الثاني: قال ابن أبي جمرة: فيه دليل على تحري النبي صلى الله عليه وسلم للصدق في المقال، وأنه لا يترك الحقيقة ويرجع إلى المجاز إلا فيما لابد منه، ووجه ذلك: أن من كان بهذه الحالة لو قال: إنه يقظان؛ لصح ذلك مجازًا، لأن نوم الجوارح مع يقظة القلب أقرب إلى اليقظة، فصحّ إطلاق اليقظة عليه لكنه بين الأمر الواقع على حقيقته.
الثالث: قوله: (بين الرجلين) إن حُمل على أنه نائم بين اثنين؛ يؤخذ منه تواضعه صلى الله عليه وسلم في نومه بين رجلين، وحسن خلقه، وذلك أمر مشهور عنه عليه الصلاة والسلام حتى قال:"إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد".
وقوله للذي ارتعد منه: "إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة".
الرابع: فيه على هذا الوجه جواز نوم الجماعة في مكان واحد، بشرط أن يكون على كل منهم ما يستره عن صاحبه.
الخامس: ذكر بعضهم أن قوله: (أتيت بطست من ذهب) وهو إناء يتخذه الناس لغسل أيديهم وحوائجهم، وهو مبسوط القاع معطوف الأطراف إلى ظاهره؛ قال: فيه دليل على فضيلة هذا الإناء لتخصيصه صلى الله عليه وسلم به من بين الآنية.
وأما كونه ذهبًا، فلا يعترض به، لأن القصة كانت قبل تحريمه على الأمة، وأيضًا المستعمل له الملائكة الكرام فليسوا كالنبي صلى الله عليه وسلم أو بني آدم في ذلك.
السادس: احتج بعض العلماء بقوله: (مملوء حكمة وإيمانًا) على أن الحكمة والإيمان جواهر محسوسات لا معاني، لأن المعاني ليس لها أجسام حتى تملأ الإناء، ولأن الإناء لا يمتلئ إلا بالأجسام والجواهر.
وهذا نص من الشارع بخلاف ما ذهب إليه المتكلمون من أن الإيمان والحكمة أعراض. قال ابن أبي جمرة: (والجمع بين الحديث وما ذهبوا إليه هو أن حقيقة أعيان المخلوقات التي ليس للحواس إليها إدراك ولا من النبوة بها إخبار؛ أن الإخبار عن حقيقتها غير حقيقة وإنما هو غلبة ظن، لأن للعقل بالإجماع من أهل العقل المؤيدين بالتوفيق؛ حدًا يقف عنده ولا يتسلط فيما عدا ذلك ولا يقدر أن يصل إليه. فهذا وما أشبهه منها، لأنهم تكلموا على ما ظهر لهم من الأعراض الصادرة عن هذه الجواهر التي ذكرها الشارع عليه السلام في
الحديث، ولم يكن للعقل قدرة أن يصل إلى هذه الحقيقة التي أخبر بها عليه السلام، فيكون الجمع بينهما أن يقال: ما قاله المتكلمون حق؛ لأنه الصادر عن الجوهر وهو الذي يدرك بالعقل، والحقيقة هي ما ذكره عليه السلام في الحديث. ولهذا نظائر كثيرة بين المتكلمين وآثار النبوة، ويقع الجمع بينهما على الأسلوب الذي قررناه وما أشبهه، ونشير لشيء من ذلك كتبينة لما عداه، فمثل ذلك الموت حيث أخبر عليه السلام في الحديث: أنه يؤتى به يوم القيامة كبشًا أملح، فيذبح بين الجنة والنار بعدما يعرض على أهل تينك الدارين فيعرفونه، ومثل ذلك أيضًا الأذكار والتلاوة، لأن ما ظهر منها معاني وتوجد يوم القيامة جواهر محسوسات، لأنها توزن في الميزان ولا يوزن في الميزان إلا الجواهر) اهـ. وهو بديع في بابه. وملخص كلامه رحمه الله قصور العقل البشري عن إدراك كثير من حقائق الأمور الواردة في السنة، ومثلها الوارد في القرآن، غير أن الواجب على العبد الإيمان بها وإن لم يتعقل معناها، وهذا من أصول الإيمان بالغيب؛ لأنه يعم ما يتصوره الإنسان وما لا يتصوره، والله الموفق للصواب وهو الهادي وإليه المآب.
السابع: يؤخذ منه أن الحكمة أجل شيء بعد الإيمان وإن اختلفوا في تعريفها، لأن أصلها: وضع الشيء في محلِّه، وهو موافق لقولهم: الحكمة: إصابة الصواب، وتقدم أنها من: حكم بمعنى منع، وقيل: هي الفقه في الدين. والمقصود أنهم استدلوا باقترانها هنا بالإيمان على أنها أجلّ شيء بعد الإيمان، وقد اختلفوا: هل الحكمة والإيمان متلازمان أو كل منهما مستقلّ بنفسه عن الآخر؟ وهو الظاهر.
الثامن: استدلوا بالحديث على أن الملائكة تعرف أعيان بني آدم، لأنهم عرفوه صلى الله عليه وسلم من بين من هو معهم.
التاسع: في قوله: (فشق من النحر إلى مراق البطن) فيه دليل ظاهر على كمال قدرة الله تعالى، وأن خرقه للعادة لا يتوقف على شيء سبحانه، لأنه من المعلوم أن شق البطن أمر صعب وينشأ عنه جرح عظيم وألم كثير، ولم يحصل شيء من ذلك له صلى الله عليه وسلم. قلت: وربما كان في ذلك زيادة تمرين له على خرق العادة في الأمور الكثيرة التي عرضت له هذه الليلة، فيكون قد رأى من خرق الله للعادة ما لا يستبعد معه أي خارق كان والعلم عند الله، وكذلك يقال
في صعوده إلى السماء وغيره من كل ما في الحديث من الخوارق دليل على كمال قدرة الله سبحانه.
العاشر: فيه دليل على فضل زمزم والإغتسال منه، وقد ورد الحديث بفضلها وبأنها طعام طُعْمٍ وشفاء سُقْمٍ.
الحادي عشر: فيه حجة على من قال: "إن الإغتسال منها مكروه لقوله فيها: "طعام طُعْمٍ وشفاء سُقْم"، لأن المراد أن الله يجعل فيها للمسلمين بركة الطعام، كما حصل لأبي ذر فإنه جلس عليها أربعين من بين يوم وليلة، وهو سبب الحديث ولم يزل السلف يغتسلون منها ويتوضؤون.
الثاني عشر: لم يذكر في هذه الرواية المعراج ولا أنه مر ببيت المقدس ولا صلاته بالأنبياء، وكل ذلك ثابت في الروايات الأخر.
الثالث عشر: قوله: (أتينا السماء الدنيا. . . إلخ) فيه دليل على أن السماء جرم من الأجرام، وهي مرئية بالأبصار مشاهدة للناس نراها بأبصارنا، وأن لها عامرًا وساكنًا من الملائكة ولها أبواب، وأنه لا يصعد إليها أحد إلا بإذن من الملائكة الموكلون بها. وفي الحديث:"أطّتِ السماء وحُق لها أن تَئِطَ، ما فيها من موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد لله فيه"، وهذا يدل على بطلان قول من قال من ضلّال الفلاسفة وأذنا بهم ممن ينتسب للإسلام من ضلّال هذه الأمة: إنها ليست بجرم، وهذا لولا انتشاره في السذج ورواجه عليهم لكان أوضح فسادًا مما يذكره الإنسان. وقالوا: إن الذي نراه إنما هي طبقات من الأكسيجين، فكذّبوا نصوص الكتاب والسنة وخرقوا الإجماع وكابروا في المحسوس، وبالرغم من هذا كله فقد ضل بهم جِبِلٌّ كثير. أما بالنسبة للفلاسفة فلا يستكبر منهم، لأن علمهم مبني على إنكار الصانع، والله نفى عنهم ما يدعونه من علم السموات وما تحت الأرض، وسمّاهم مضلين فقال تعالى:{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)} وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)} وقال: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} وقال: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)}
الآية، وقال:{لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} إلى غير ذلك. والأحاديث أيضًا في ذلك كثيرة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن بيننا وبينها مسيرة خمسمائة عام في الحديث الذي أخرجه الإِمام أبو عيسى محمَّد بن سورة الترمذي من طريق الحسن البصري عن أبي هريرة، وأخرجه الإِمام أحمد وابن حبان وغيرهم، ومن رواية موقوفة أخرى، قال الترمذي رحمه الله: حدثنا عبد بن حميد وغير واحد، ثم ساق السند إلى أبي هريرة قال:"بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب، فقال نبي الله: هل تدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا العنان، هذه روايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يشكرون ولا يدعون. ثم قال: هل تدرون ما فوقكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها الرقيع سقف مرفوع وموج مكفوف. ثم قال: هل تدرون كم بينكم وبينها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: بينكم وبينها خمسمائة سنة، ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ حتى عدد سبع سماوات بين كل سماء وسماء كما بين السماء والأرض، ثم ذكر الأرضين السبع كذلك".
الرابع عشر: فيه: دليل على تحتم الإستئذان، وكون القادم على محل لا يدخله إلا بإذن، وإن كان القادم أجل قدرًا ممن في المحل.
الخامس عشر: فيه: دليل ظاهر على أن للسماء أبوابًا، كما دل عليه قوله تعالى {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} كما تقدم.
السادس عشر: فيه: آداب الإستئذان التي دل عليها الحديث الصحيح، وهو أن المستأذن إذا سئل يقول: فلان بن فلان، باسمه المعروف إلا أن يكون بكنيته معروفًا، وهذا ثابت في الصحيح، وكذلك يعرّف بمن معه حتى يعرف بعينه.
السابع عشر: فيه: الترحيب بالقادم وإظهار البشر والسرور له، وأدلة ذلك كثيرة، وفرح الملائكة دليل على كرمه على الله تعالى.
الثامن عشر: فيه: جواز الثناء على أهل الفضل إذا أمنت المفسدة في ذلك، وله شواهد في السنة إذا لم يخش عليهم من العجب ونحوه.
التاسع عشر: استدل بعضهم بقوله: "انطلقت أنا وجبريل" على أنه كان مستقلًا بنفسه في الصعود، لكن الروايات الأخروات على أنهما كانا على
البراق في سيرهما وفي المعراج، وهو كالسلم في صعودهما. وأما ركوبه على البراق فهو في هذه الرواية وغيرها.
العشرون: قول الملائكة لجبريل: ومن معك؟ يحتمل أن ذلك السؤال من عادتهم، ويحتمل أنهم إنما سألوه لأنهم كانوا يترقبون النبي صلى الله عليه وسلم بإعلام الله لهم به.
الحادي والعشرون: قال بعضهم: في قول جبريل: محمَّد؛ دليل على أن الاسم أشرف من الكنية، قلت: ويدل عليه أن أسماء الأنبياء في القرآن كلها ليس فيها كنية، وإنما وردت الكنية فيه لعدو الله أبي لهب.
الثاني والعشرون: قولهم: وقد أرسل إليه؟ دليل على أنهم -أعني أهل السموات والعالم العلوي- علموا به وبفضله عند الله وعرفوا اسمه، وأنه سيرسل وتوقعوا ذلك، ولا يخفى ما في ذلك من شرفه وعلو قدره عند الله تعالى. وأما قولهم: وقد أرسل إليه؟ فقد تقدم الخلاف فيه: هل هو استفهام عن البعثة من الأصل أو هو سؤال عن الإرسال إليه للعروج إلى السماء؟ وربما كان قولهم: ولنعم المجيء جاء؛ يدل على الثاني.
الثالث والعشرون: قوله: (أتيت على آدم فسلمت عليه) فيه دليل على أن المارَّ يسلم على الجالس؛ كما سيأتي إن شاء الله. وتقدم أن آدم رد عليه السلام ولم يقل مرحبًا إلا بعد ردّ السلام، كما هو مصرح به في بعض الروايات، وإن كان ظاهر هذه الرواية خلافه كما تقدم، وإن حذفه من هذه الرواية لعله اختصار من بعض الرواة.
الرابع والعشرون: قول آدم: مرحبًا بك من ابن ونبي؛ تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم وسرور به، فإن الأب يفرح بصلاح الولد حتى قالوا: إن الإنسان لا يحب أن يتفوق عليه أحد إلا أن يكون ولده.
الخامس والعشرون: في بكاء موسى دليل على جواز الغبطة لاسيما في الخير والقرب من الله تعالى، وقد تقدم التنبيه على ذلك كما هو ثابت في الحديث.
السادس والعشرون: فيه: جواز التأليف على فوت الخير، وهو لا ينافي التوكل ولا التسليم لأمر الله تعالى لأنه مقصد شرعي وغبطة في الخير.
السابع والعشرون: فيه: فضيلة عظيمة لهذه الأمة كما هو ثابت لها في القرآن {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} الآية، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الآية، وذلك لإختصاصهم بهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما قال الشاعر:
بشرى لنا معشر الإِسلام إن لنا
…
من العناية ركنًا غير منهدم
لما دعا الله داعينا لطاعته
…
بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم
الثامن والعشرون: تقدم أن في قول إدريس له: من نبي وأخ، دليل على أنه ليس من ذريته، وهو يرد القول بأن إدريس جدّ نوح وتقدم ذلك، بخلاف إبراهيم فإنه أبوه بالإتفاق.
التاسع والعشرون: هل رأى هؤلاء الأنبياء بأجسادهم وأرواحهم؟ أو رأى الأرواح دون الأجساد؟ والذي أختاره ويترجح عندي في هذا وما شاكله: التوقف لعدم دليل تطمئن إليه النفس، وإطلاق الرؤية -أي رؤيته لهم- كما في الحديث، وأما ما زاد على ذلك فلا برهان عليه، فالتوقف فيه أسلم وعلمه إلى الله مردود فهو به أعلم، كما هو الواجب فيما لا بيان فيه من الله ولا من رسوله، فإن الله تعالى قال:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، وقد قال ابن حجر رحمه الله:(هل أسري بأجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة أو أن أرواحهم مستقرة في الأماكن التي لقيهم فيها وأرواحهم مشكلة بشكل أجسادهم؟ كما جزم به أبو الوفاء بن عقيل قال: واختار الأول بعض شيوخنا، واحتجَّ بما ثبت في مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت موسى ليلة أسري بي قائمًا يصلي في قبره. وتعقبه ابن حجر رحمه الله) اهـ.
الثلاثون: سؤاله لجبريل عن البيت المعمور وما رآه فيه؛ دليل على أن كثرة الفضائل ورفعة الدرجات من السؤال للإستفادة، وقد قال الله تعالى له:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} .
الحادي والثلاثون: في كون البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفًا من الملائكة ثم لا يعودون إليه؛ دليل ظاهر على كمال قدره وكثرة جنوده كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} .
الثاني والثلاثون: في هذه الرواية وما وافقها من الروايات؛ دليل على أن البيت المعمور في السماء السابعة، وقد تقدم ذلك في شرح الحديث.
الثالث والثلاثون: في ذكر سدرة المنتهى دليل فضيلة السدر، وهو شجر مثمر ولورقه فوائد، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجعله في ماء غسل الميت في إحدى غسلاته، وهو دباغ ومصلح للشعر ولذا ورد في الحديث النهي عن قطعه.
الرابع والثلاثون: في هذا الحديث بيان لفضيلة النيل والفرات وأنهما مباركان، لما فيهما من مصالح العباد فإنه يعيش خلائق لا تحصى كثرة.
الخامس والثلاثون: وفيه أيضًا: بيان فضل الصلوات وعظم شأنها عند الله، حيث كان فرضها مقترنًا بهذه المعجزة العظيمة وفي هذا المكان العظيم على هذا الوجه، وليس ذلك لشيء من الفرائض سواها.
السادس والثلاثون: في سياق هذه القصة دليل على أن الإسراء كان بالجسد لا بالروح، وأن قوله السابق:(بين النائم واليقظان) إخبار عن حاله أول الأمر، ووجه ذلك أن رؤيا الأنبياء وإن كانت وحيًا لكن الغالب على التشريع أن يكون في حال اليقظة، وإن حصل شيء في النوم إنما يكون توطئة لحال اليقظة، وأيضًا لو كانت مجرد رؤيا لما كان فيها ما يدعو إلى التعجب والإستعظام وإنكار الحصول، وقد قال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} ، وقد أنكرتها قريش على ما تقدم بيانه.
السابع والثلاثون: في سؤال موسى له صلى الله عليه وسلم دليل على اهتمام أهل الدين والصلاح بأمور المسلمين، وسعيهم في حصول الخير لهم والتيسير في العبادة عليهم، وأولى الناس بذلك الأنبياء والأولياء وكل عبد مخلص لله، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور:"الدين النصيحة". فسؤاله دليل على حبه للخير لهم والإهتمام بما يتجدد لهم من كرم الرب سبحانه وتعالى.
الثامن والثلاثون: فيه: دليل على أن التجربة من أعظم ما يفيد الحقائق ومعرفة أحوال الناس وطباعهم، وكذا في كل أمور الدنيا فالشيء الحاصل بها قد لا يحصل بمجرد العلم العاري عنها، فلهذا قال بعض العلماء: إن الحديث دل على الحكم بما أجرى الله به العادة من الأمور وارتباط المسبّبات بأسبابها، وأن طبيعة البشر التثاقل عن الطاعات، قال تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)}
التاسع والثلاثون: وفيها: دليل ظاهر كما تقدم على أن بكاء موسى إنما كان غبطة لهم، ولهذا اهتم بأمرهم والتيسير عليهم لأن هذا كما تقدم شأن أهل الخير وصفاء النفوس، وأولى الناس بذلك صفوتهم وخيرة الله منهم، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، وكان صلى الله عليه وسلم يقول:"يسّروا ولا تعسروا، بشّروا ولا تنفروا".
الأربعون: فيه: بيان فضل الله وكرمه العظيم على هذه الأمة، حيث خفف عنهم في العدد وأبقى عليهم ما تفضل به من الثواب والمدد، فالحمد والمنة على الأبد.
الحادي والأربعون: يستفاد منه عظم فضل الله وكرمه، وأنه يجب الإلحاح في السؤال، ولا يمنعه ما أعطى من إجابة السؤال عند الإلحاح والزيادة للملحين في الدعاء؛ لأن دعاءه قربة فقد طلبه من عباده وحثهم عليه، وقال صلى الله عليه وسلم:"يستجاب لأحدكم ما لم يعجل" وفي الحديث: "من لم يسأل الله يغضب عليه"، وفي البيت السائر:
الله يغضب إن تركت سؤاله
…
وبني آدم حين يُسأل يغضب. اهـ
الثاني والأربعون: فيه أن من آثر حق الله على حق الغير عوّضه الله، وعوّض صاحب الحق أيضًا الذي ترك حقه خيرًا مما آثر به، ووجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك مراجعة ربه عز وجل في المرة الأخيرة استشعارًا للحياء من الله: فعوّضه الله إبقاء أجر الخمسين على الخمس له ولأمته، وجعل لهم الحسنة بعشر أمثالها.
الثالث والأربعون: قال بعض العلماء: فيه دليل على أن قدر الله على قسمين: قسم قدّره وقدر أن لا ينفذه لسبب من الأسباب، وقسم قدّره وقدر تنفيذه، وقد اجتمعا في هذه القضية حيث قدّر فرض الخمسين، ولما سبق علمه ألا تنفَّذَ جعل موسى سببًا وواسطة في ذلك، والقسم الثاني: هو الخمس قدّر فرضها وتنفيذها.
الرابع والأربعون: فيه: أن العبد إذا فوّض أمره إلى الله واستسلم لأمر الله وتضرّع إليه؛ فرّج الله عنه وأعانه على الخير ويسّره له، كما دل عليه قوله:{فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ. . . .} الآية. وبيّن في موضع
آخر أن التضرع يكون سببًا لرفع العذاب والمحنة بقوله: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} ، وذلك أنهم على ما روي خرجوا إلى الصحراء متضرعين باكين. وقال في حق يونس:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} . إلى غير ذلك مما يدل على أن الرجوع إلى الله سبب في كشف الضر والبلاء.
الخامس والأربعون: فيه دليل على أن الله تعالى إذا أراد سعادة العبد جعل اختياره في مرضات الله، وهذا هو معنى التوفيق نسأل الله تعالى أن يوفقنا ويجعل اختيارنا فيما يرضيه عنا، ووجه ذلك ما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم آثر مرضات الله، فعوّض عما تركه لذلك الخير العظيم كما تقدم.
السادس والأربعون: في قصة موسى هذه دليل على بذل النصيحة ولو لم تطلب من الإنسان، وأن من أشير عليه بأمر فيه رشد ينبغي أن يقبل النصيحة، ولكن إذا تبين له ما هو أصوب منها قدّمه، وبنبغي حينئذٍ أن يعتذر للناصح كما فعل صلى الله عليه وسلم مع موسى.
السابع والأربعون: فيه دليل على قصر فرض الصلوات على الخمس، وأن الوتر وغيره ليس شيء من ذلك فرض. وسيأتي أن مشهور مذهب أبي حنيفة وجوبه.
الثامن والأربعون: ظاهر هذا السياق يدفع قول من قال: إن في كل سماء بيت معمور، فإنه لم يذكره إلا في السماء السابعة، وفي تعريفه بالألف واللام ما يدل على انفراده بذلك، ولا يمنع ذلك من ثبوت بيت العزة في السماء الدنيا لوروده في الخبر.
447 -
أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ حَزْمٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَرَضَ اللَّهُ عز وجل عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى أَمُرَّ بِمُوسَى عليه السلام فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ لِي مُوسَى: فَرَاجِعْ رَبَّكَ عز وجل فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُ
رَبِّي عز وجل فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُ رَبِّي عز وجل فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَقُلْتُ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي عز وجل".
• [رجاله: 6]
1 -
يونس بن عبد الأعلى: تقدم 242.
2 -
عبد الله بن وهب: تقدم 9.
3 -
يونس بن يزيد الأيلي: تقدم 9.
4 -
محمَّد بن مسلم بن شهاب: تقدم 1.
5 -
أنس بن مالك رضي الله عنه: تقدم 6.
6 -
أبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم: تقدم 209.
• التخريج
هذا السياق طرف من حديث الإسراء من رواية أنس عن أبي ذر في الصحيحين، وأخرجه أبو إسحاق يعقوب بن إسحاق الإسفراييني من رواية يونس وأبي عبيد الله بن وهب عن أنس، وفي مسند الإِمام أحمد من رواية أنس بن مالك عن أُبيّ، وذكر الحافظ ابن كثير أنه ليس في الستة يعني من رواية أبيِّ بن كعب. قال ابن حجر في شرح الحديث عند قوله: قال ابن شهاب: فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام. قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ففرض على أمتي خمسين صلاة .. الحديث: (قال ابن حزم أي أبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، وأما أبوه محمَّد بن حزم فلم يسمع الزهري منه لتقدم موته، لكن رواية أبي بكر عن أبي حبّة منقطعة لأنه استشهد بأحد قبل مولد أبي بكر بدهر طويل، وقبل مولد أبيه محمَّد أيضًا. وقال عند قول المصنف في سياق الحديث: قال ابن حزم: أي عن شيخه، وأنس بن مالك أي عن أبي ذر. قال: كذا جزم به أصحاب الأطراف، ويحتمل أن يكون مرسلًا من جهة ابن حزم، ومن رواية أنس بلا واسطة) اهـ.
وذكر ابن كثير في تفسيره في سياق رواية الإِمام أحمد لحديث الإسراء من رواية أنس بن مالك عن أبي ذر، فذكر سياق الحديث وفيه مثل ما في هذه الرواية عند البخاري ثم قال:(هكذا رواية عبد الله بن أحمد في مسند أبيه، وليس في شيء من الكتب الستة يعني رواية أَبِيِّ هذه، ثم قال: وقد تقدم في الصحيحين من طريق الزهري عن أنس عن أبي ذر مثل هذا السياق سواء) اهـ.
448 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُتِيتُ بِدَابَّةٍ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، خَطْوُهَا عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهَا، فَرَكِبْتُ وَمَعِي جِبْرِيلُ عليه السلام فَسِرْتُ، فَقَالَ: انْزِلْ فَصَلِّ، فَفَعَلْتُ، فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِطَيْبَةَ وَإِلَيْهَا الْمُهَاجَرُ، ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ فَصَلِّ، فنزلت فَصَلَّيْتُ فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِطُورِ سَيْنَاءَ حَيْثُ كَلَّمَ اللَّهُ عز وجل مُوسَى عليه السلام، ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ فَصَلِّ، فَنَزَلْتُ فَصَلَّيْتُ فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِبَيْتِ لَحْمٍ حَيْثُ وُلِدَ عِيسَى عليه السلام، ثُمَّ دَخَلْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَجُمِعَ لِيَ الأَنْبِيَاءُ عليهم السلام فَقَدَّمَنِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَمَمْتُهُمْ، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَإِذَا فِيهَا آدَمُ عليه السلام، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَإِذَا فِيهَا ابْنَا الْخَالَةِ عِيسَى وَيَحْيَى عليهما السلام، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَإِذَا فِيهَا يُوسُفُ عليه السلام، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَإِذَا فِيهَا هَارُونُ عليه السلام، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَإِذَا فِيهَا إِدْرِيسُ عليه السلام، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَإِذَا فِيهَا مُوسَى عليه السلام، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَإِذَا فِيهَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام، ثُمَّ صُعِدَ بِي فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ فَأَتَيْنَا سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَغَشِيَتْنِي ضَبَابَةٌ فَخَرَرْتُ سَاجِدًا فَقِيلَ لِي: إِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فَرَضْتُ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ خَمْسِينَ صَلَاةً فَقُمْ بِهَا أَنْتَ وَأُمَّتُكَ، فَرَجَعْتُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَلَمْ يَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ. ثُمَّ أَتَيْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: كَمْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ بِهَا أَنْتَ وَلَا أُمَّتُكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَخَفَّفَ عَنِّي عَشْرًا، ثُمَّ أَتَيْتُ مُوسَى فَأَمَرَنِي بِالرُّجُوعِ فَرَجَعْتُ فَخَفَّفَ عَنِّي عَشْرًا، ثُمَّ رُدَّتْ إِلَى خَمْسِ
صَلَوَاتٍ، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّهُ فَرَضَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ صَلَاتَيْنِ فَمَا قَامُوا بِهِمَا، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي عز وجل فَسَأَلْتُهُ التَّخْفِيفَ، فَقَالَ: إِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فَرَضْتُ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ خَمْسِينَ صَلَاةً، فَخَمْسٌ بِخَمْسِينَ فَقُمْ بِهَا أَنْتَ وَأُمَّتُكَ، فَعَرَفْتُ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ تبارك وتعالى صِرَّى، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى عليه السلام فَقَالَ: ارْجِعْ، فَعَرَفْتُ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ صِرَّى -أَيْ حَتْمٌ- فَلَمْ أَرْجِعْ".
• [رواته: 5]
1 -
عمرو بن هشام أبو أمية: تقدم 222.
2 -
مخلد هو ابن يزيد القرشي لأنه هو الذي يروي عن سعيد بن عبد العزيز ويروي عنه عمرو بن هشام وقد تقدم 222، وفي تفسير ابن كثير رحمه الله في روايته لهذا الحديث في مطبعة المنار سنة 1345 هـ: مخلد عن أبي الحسين، وفي سائر الطبعات غيرها: وهو ابن الحسين، وفي بعضها: أبي الحسين، والظاهر أن الكل خطأ فإن مخلد بن الحسين وإن كان من رجال النسائي وفي طبقة مخلد بن يزيد؛ إلا أن كتب الرجال لم يذكروا له رواية عن سعيد بن عبد العزيز، ولا أن هشامًا يروي عنه ونصوا على الأمرين في ترجمة مخلد بن يزيد، إلا أن يكون الذي في ابن كثير. أبا الحسين، فإن مخلد بن يزيد قيل: إنه يكنى أبا الحسين والله أعلم.
3 -
سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيي التنوخي أبو محمَّد ويقال أبو عبد العزيز الدمشقي، قرأ القرآن على ابن عامر ويزيد بن أبي مالك -وهو يزيد بن عبد الرحمن- وسأل عطاء بن أبي رباح، روى عنه عبد العزيز بن صهيب والزهري وربيعة بن يزيد الدمشقي وإسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر ومكحول وأبي الزبير وموسى بن ميسرة بن جلبس وجماعة، وعنه الثوري وشعبة وهما من أقرانه وابن المبارك وحجاج بن محمَّد وشريح بن يزيد ووكيع وعمر بن عبد الواحد وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم. قال أحمد: ليس بالشام رجلًا أصح حديثًا من سعيد بن عبد العزيز، هو والأوزاعي عندي سواء، ووثقه ابن معين العجلي وأبو حاتم وقال أبو زرعة: قلت لرحيم: من بعد عبد الرحمن بن
يزيد بن جابر من أصحاب مكحول؟ قال: الأوزاعي وسعيد. قال: وقلت ليحيى بن معين وذكرت له الحجة: محمَّد بن إسحاق، قال: كان ثقة إنما الحجة عبيد الله بن عمر ومالك والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز. وقال عمرو بن علي: حديث الشاميين ضعيف إلا نفرًا، منهم الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، وقال أبو حاتم: كان أبو مسهر يقدم سعيد بن عبد العزيز على الأوزاعي، ولا أقدّم بالشام بعد الأوزاعي على سعيد أحدًا، وقال مروان بن محمَّد: كان علم سعيد في صدره، وقال النسائي: ثقة ثبت، وقال أبو مسهر: كان قد اختلط قبل موته، وقال أحمد: بلغني عن أبي مسهر أنه قال: ولد سنة 90 ومات سنة 167 وقيل: 168. قال الحاكم أبو عبد الله: هو لأهل الشام كمالك لأهل المدينة في المتقدم والفضل والفقه والأمانة، وقال أبو جعفر العامري: رأى أنسًا، فاضلًا دينًا ورعًا وكان مفتي أهل دمشق، قال ابن أبي حاتم في الثقات: كان من عباد أهل الشام وفقهائهم ومتقنيهم في الرواية، وعن أبي داود: تغير قبل موته، وكذا قال حمزة الكناني. قال البخاري في تاريخه: عن الوليد بن مسلم: أحدثكم عن الثقات: صفوان بن عمرو وابن جابر وسعيد بن عبد العزيز، وقال الدورى: اختلط قبل موته، وكان يعرض عليه فيقول: لا أجيزها لا أجيزها، والله أعلم.
4 -
يزيد بن أبي مالك هو يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك واسمه هانئ الهمداني الدمشقي القاضي، روى عن أبيه وأنس بن مالك وواثلة بن الأسقع وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وخالد بن معدان وغيرهم، وعنه ابنه خالد وسعيد بن عبد العزيز وعبد الله بن العلاء بن زبير والأوزاعي وسعيد بن أبي عروبة وسعيد بن بشير وغيرهم. قال أبو حاتم: من فقهاء أهل الشام وهو ثقة، وأثنى عليه أبو زرعة خيرًا، وقال المفضل الغلابي: الوليد ويزيد ابنا أبي مالك أخوان، ليس بحديثهما بأس، ووثقه الدارقطني والبرقاني وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يعقوب بن سفيان: كان قاضيًا، هو وابنه خالد في حديثهما لين، وبعثه عمر بن عبد العزيز إلى بني نمير يفقههم ويقرئهم القرآن. ولد سنة 60 وتوفي سنة 130، وقيل: إنه كان بلغ 72، وقيل: بقي إلى سنة 138، والله أعلم.
5 -
أنس بن مالك رضي الله عنه: تقدم 6.
• التخريج
هذه إحدى روايات حديث الإسراء، وقد قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: وفيها غرابة ونكارة جدًا، وهي في سنن النسائي المجتبى ولم أرها في الكبير، ثم ذكر هذه الرواية بعينها. قلت: ولم أجدها في شيء من كتب الحديث ولا من كتب التفسير ولا السيرة بهذه الألفاظ المذكورة هنا، من كونه أمره بالنزول ثلاث مرات في كلها يأمره بالصلاة، إحداهن: بالمدينة والثانية: بطور سيناء والثالثة: ببيت لحم، إلا ما ذكره ابن كثير في تفسيره من حديث شداد بن أوس فإنه قال: قال الإِمام أبو إسماعيل محمَّد بن إسماعيل الترمذي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن الضحاك الزبيدي: حدثنا عمرو بن الحارث عن عبد الله بن سالم الأشعري عن محمَّد بن الوليد بن عامر الزبيدي: حدثنا أبو الوليد بن عبد الرحمن بن جبير بن نفير: حدثنا شداد بن أوس قال: قلنا: يا رسول الله كيف أُسريَ بك؟ قال: صليت بأصحابي صلاة العتمة بمكة مُعتّمًا، فأتاني جبريل عليه السلام بدابة أبيض -أو قال: بيضاء- فوق الحمار ودون البغل فقال: اركب، فاستصعب عليّ فدارها بأذنها ثم حملني عليها، فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث انتهى طرفها، حتى بلغنا أرضًا ذات نخل فأنزلني فقال: صلِّ، فصليت ثم ركبت فقال: أتدري أين صليت، فقلت: الله أعلم فقال: صليت بيثرب صليت بطيبة، فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها عند منتهى طرفها، ثم بلغنا أرضًا فقال: انزل ثم قال: صلّ، فصليت ثم ركبنا فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم فقال: صليت بمدين عند شجرة موسى، ثم انطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها، ثم بلغنا أرضًا بدت لنا قصور فقال: انزل فنزلت، فقال: صل فصليت ثم ركبنا فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى المسيح بن مريم، ثم ذكر باقي الحديث. وقال: هكذا رواه البيهقي من طريقين عن أبي إسماعيل الترمذي به، ثم قال بعد إتمامه: هذا إسناد صحيح، إلى أن قال: وقد روى هذا الحديث عن شداد بن أوس بطوله؛ الإِمام أبو محمَّد عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه عن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي به. قال: ولا شك أن هذا الحديث أعني الحديث المروي عن شداد بن أوس
مشتمل على أشياء، منها ما هو في الصحيح كما ذكره البيهقي، ومنها ما هو منكر كالصلاة في بيت لحم وسؤال الصديق عن نعت بيت المقدس وغير ذلك، والله أعلم.
• اللغة والإعراب والمعنى
تقدم تفسير أكثر هذه الألفاظ الواردة في هذه الرواية في الرواية التي قبلها، وفيها مما لم يتقدم قوله:(خطوها) أي الدابة، والخطو بفتح الخاء المعجمة: المرة من الخطو، وبضمها: الفعل. قوله: (عند منتهى طرفها) أي آخر ما يصل إليه نظره يضع رجله فيه: والتأنيث للدابة والتذكير في قوله: (طرفه) للبراق، والطرف بسكون الراء: البصر، وهو كناية عن سرعة السير. قال ابن حجر رحمه الله وفي حديث ابن مسعود عند أبي يعلى والبزار:"إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه، وإذا هبط ارتفعت يداه"، وفي رواية لابن سعد عن الواقدي بأسانيده:"له جناحان" ولم أرها لغيره، وعند الثعلبي بسند ضعيف عن ابن عباس في صفة البراق:"لها خد كخد الإنسان، وعُرف كالفرس وقوائم كالإبل وأظلاف وذنب كالبقر، وكأن صدره ياقوتة حمراء". قيل: ويؤخذ من ترك تسمية سير البراق: طيرانًا، أن الله إذا أكرم عبدًا بتسهيل الطريق له حتى قطع المسافة الطويلة في الزمن اليسير، أن لا يخرج بذلك عن اسم السفر وتجري عليه أحكامه. وفي هذه الرواية أيضًا: فركبت ومعي جبريل عليه السلام، فهي تدل على أنهما كانا على البراق، وإن تكن صريحة في كون جبريل ركب معه، لاحتمال أنه سار بسيره على عادة الدليل، وبكل قال جماعة، ووقع في رواية حذيفة عند أحمد:"أُتيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق فلم يزايل ظهره هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس". قال ابن حجر: (فهذا لم يسنده حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أنه قال عن اجتهاد؛ ويحتمل أن يكون قوله: هو وجبريل، يتعلق بمرافقته في السير لا في الركوب. قال ابن دحية وغيره: معناه: وجبريل قائد أو سائق أو دليل، قال: إنما جزمنا بذلك لأن قصة المعراج كانت كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا مدخل فيها لغيره). قلت: وهذا منه رحمه الله غريب جدًا، فأي منافاة في كون جبريل ركب البراق معه صلى الله عليه وسلم لكون المعراج كرامة له ولذا قال ابن حجر رحمه الله بعد نقله كلام ابن دحية المذكور: (بأن في صحيح ابن حبان من
حديث ابن مسعود أن جبريل حمله على البراق رديفًا له وفي رواية الحارث في مسنده: أتى بالبراق فركب خلف جبريل فسار بهما، فهذا صريح في ركوبه معه) اهـ. قلت: وفي الطبراني من حديث ابن أبي ليلى عن أبيه: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالبراق فحمله بين يديه، وعند أبي يعلى والحاكم من حديث ابن مسعود رفعه: أتيت بالبراق فركب خلف جبريل، فهذه كلها تدل على المراد بقوله: فركبت ومعي جبريل أي: وركب معي جبريل. وقوله: (انزل فصل) فذكر ذلك ثلاث مرات: في المدينة وفي الطور وفي بيت لحم: ولم أقف عليها لغير المصنف في هذه الرواية -كما تقدمت الإشارة إليه- إلا في حديث شداد، وقد تقدم ذلك في التخريج.
449 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا عُرِجَ بِهِ مِنْ تَحْتِهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا أُهْبِطَ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا حَتَّى يُقْبَضَ مِنْهَا، قَالَ: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، قَالَ: فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَأُعْطِيَ ثَلَاثًا: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَيُغْفَرُ لِمَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِهِ لَا يُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ.
• [رواته: 7]
1 -
أحمد بن سليمان: تقدم 42.
2 -
يحيى بن آدم: تقدم 114.
3 -
مالك بن مغول تقدم 127.
4 -
الزبير بن علي الهمداني اليامي أبو عدي الكوفي قاضي الري، روى عن أنس بن مالك وأبي وائل ومصعب بن سعد وكلثوم بن المصطلق وإبراهيم النخعي وطلحة بن مصرف وغيرهم، وعنه إسماعيل بن أبي خالد وهو من أقرانه وأبو إسحاق السبيعي وهو أكبر منه ومالك بن مغول والثوري ومسعر وعمرو بن أبي قيس وعثمان بن زائدة وبشر بن الحسين أحد الضعفاء وغيرهم. قال أحمد وابن معين والنسائي: ثقة، وقال العجلي: ثقة ثبت من أصحاب إبراهيم، وكان
الزبير صاحب سنة، وقال أبو داود الطيالسي: لا نعرف للزبير بن عدي عن أنس إلا حديثًا واحدًا، وقال البخاري: حدثنا أحمد بن سليمان: حدثنا بشر بن الحسين، وفيه نظر أن الزبير بن عدي مات بالري سنة 131 هـ. قال: وصلى عليه نباتة بن حنظلة وكان من العبّاد، وقال الدارقطني: ثقة، وبشر متروك وروى عن الزبير بواطيل، وقال الفسوي: تابع ثقة والله أعلم.
5 -
طلحة بن مصرف: تقدم 306.
6 -
مرّة بن شراحيل الهمداني السكسكي أبو إسماعيل الكوفي المعروف بمرة الطيب ومرة الخير، لقّب بذلك لعبادته، روى عن أبي بكر وعمر وعلي وأبي ذر وحذيفة وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وزيد بن أرقم وعلقمة بن قيس وغيرهم، وعنه إسماعيل بن أبي خالد وإسماعيل السدي وحصين بن عبد الرحمن ووهب اليامي والصباح بن محمَّد وطلحة بن مصرّف والشعبي وعطاء بن السائب وعمرو بن مرَّة وفرقد السّبخي وموسى بن أبي عائشة وغيرهم. عن ابن معين: ثقة وقال سكن بن محمَّد العابد عن العنوي: سجد مرّة الهمداني حتى أكل التراب وجهه. قال ابن سعد وأبو حاتم: توفي زمن الحجاج بعد دير الجماجم، وقال ابن حبان في الثقات: سنة 76 وزاد: كان يصلي كل يوم ستمائة ركعة، وقال العجلي: تابعي ثقة كان يصلي في اليوم والليلة خمسمائة ركعة، وقيل: إن روايته عن أبي بكر وعمر مرسلة، وقيل: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره.
7 -
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: تقدم 39.
• التخريج
هذه رواية عبد الله بن مسعود لحديث الإسراء، وقد أخرجه البيهقي بإسناده عن عبد الله بن نمير عن مالك بن مغول كرواية المصنف، ورواه مسلم عن عبد الله بن نمير. قال البيهقي: وهذا الذي ذكره عبد الله طرف من حديث المعراج. قال الحافظ ابن كثير: وقد روي عن ابن مسعود بأبسط من هذا، وفيه غرابة وذلك فيما رواه الحسن بن عرفة في جزئه المشهور عن أبي عبيدة بن عبد الله، فساقه بطوله ثم قال: إسناده غريب ولم يخرجوه، وفيه من الغرائب: سؤال الأنبياء عنه عليه السلام ابتداء ثم سؤاله عنهم بعد إنصرافه، والمشهور في
الصحاح كما تقدم أن جبريل كان يعلمه بهم أولًا ليسلم عليهم سلام معرفة. وفيه: أنه اجتمع بالأنبياء عليهم السلام قبل دخوله المسجد الأقصى، والصحيح أنه إنما اجتمع بهم في السموات ثم نزل إلى بيت المقدس ثانيًا وهم معه، وصلى بهم فيه ثم ركب البراق وكرّ راجعًا إلى مكة. ثم ذكر رواية ابن مسعود من طريق أخرى عند الإِمام أحمد. قلت: وهذا الذي صححه وجزم به من كونهم نزلوا معه وصلى بهم في بيت المقدس؛ مخالف لما في أكثر الروايات من أنه صلى بهم عند قدومه إلى بيت المقدس، وحجته في ذلك أنه كان يسأل جبريل عنهم وهم في السموات، فلو كان صلى بهم في بيت المقدس لما احتاج إلى السؤال عنهم، وهذا لا يلزم لأنه قد يكون صلى بهم ولم يتعرف عليهم، والله أعلم.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: (وهي في السماء السادسة) وقد تقدم في رواية أنس أنها في السماء السابعة. قال القرطبي: ظاهر حديث أنس أنها في السابعة، لقوله بعد ذكر السماء السابعة:(ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى)، وفي حديث ابن مسعود أنها في السماء السادسة. وهذا تعارض لا شك فيه، وحديث أنس هو قول الأكثر، وهو الذي يقتضيه وصفها بأنها التي ينتهي إليها علم كل نبي مرسل وكل ملك مقرّب على ما قال كعب، وما خلفها غيب لا يعلمه إلَّا الله أو من أعلمه الله. قال ابن حجر: ولم يعرج على الجمع بل جزم بالتعارض. قلت: ولا يعارض قوله: إنها في السماء السادسة؛ ما دلت عليه بقية الأخبار أنه وصل إليها بعد أن دخل السماء السابعة، لأنه يحمل على أن أصلها في السماء السادسة وفروعها وأغصانها في السماء السابعة. قلت: ويعكر عليه ما تقدم من أنه رأى الأنهار تخرج من أصلها فإن ظاهر السياق أن أصلها في السماء السابعة والله أعلم.
وهذه الرواية التي ذكرها المصنف عن ابن مسعود؛ مثلها في صحيح مسلم، وفيها بيان سبب تسميتها سدرة المنتهى، ففي رواية مسلم: إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط فيقبض منها. وقال النووي: سميت سدرة المنتهى لأن علم الملائكة ينتهي إليها، ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواية المصنف: إليها ينتهي ما عرج به من تحتها،
وإليها ينتهي ما أهبط به من فوقها حتى يقبض منها، فهي توافق رواية مسلم المتقدمة. وقوله:(إذ يغشى السدرة ما يغشى) ففسّر المبهم فيما ورد في رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس: جراد من ذهب، فأوَّله البيضاوي على أنه خرج مخرج التمثيل، ولا مانع من الحقيقة بأن يكون أُوقع عليها جراد من ذهب حقيقة، وفي رواية عن ابن كثير تفسيره بالملائكة، وفي البيهقي من حديث أبي سعيد: على كل ورقة منها ملك، فأعطي ثلاثًا -أي أعطى الله النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث خصال: الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة، والخواتيم جمع خاتمة، والمراد: آخر السورة.
باب أَيْنَ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ
450 -
أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ عَبْدَ رَبِّهِ بْنَ سَعِيدٍ حَدَّثَهُ أَنَّ الْبُنَانِيَّ حَدَّثَهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ الصَّلَوَاتِ فُرِضَتْ بِمَكَّةَ، وَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبَا بِهِ إِلَى زَمْزَمَ، فَشَقَّا بَطْنَهُ وَأَخْرَجَا حَشْوَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَغَسَلَاهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ كَبَسَا جَوْفَهُ حِكْمَةً وَعِلْمًا.
• [رواته: 6]
1 -
سليمان بن داود بن حماد المهري: تقدم 79.
2 -
عبد الله بن وهب: تقدم 9.
3 -
عمرو بن الحارث بن يعقوب: تقدم 79.
4 -
عبد ربه بن سعيد بن قيس بن عمرو الأنصاري البخاري المدني، روى عن جده قيس وأبي أمامة بن سهيل بن حنيف وأبي بكر بن عبد الرحمن وابن المنكدر ومحمد بن يحيى بن حبان ومحزمة بن سليمان ومحمد بن إبراهيم التيمي وسعيد المقبري وثابت البناني وعمر بن ثابت الأنصاري وجماعة، وعنه عطاء وهو أكبر منه وأيوب السختياني وهو من أقرانه وعمرو بن الحارث ومالك والليث وشعبة والسفيانان والمبارك بن فضالة وحماد بن سلمة وابن لهيعة. قال يحيى بن سعيد: كان رقادًا حي الفؤاد، وعن أحمد: شيخ ثقة مدني، وعن
ابن معين: ثقة مأمون، وقال أبو حاتم: لا بأس به، قال ابنه: قلت: يحتج بحديثه، قال: هو حسن الحديث ثقة، ووثقه النسائي والعجلي وابن سعد وزاد: كثير الحديث دون أخيه يحيي، وقال أبو عوانة: هو أعزّ إخوته حديثًا. مات سنة 139 وقيل: 140 والله أعلم.
5 -
ثابت البناني: تقدم 53.
6 -
أنس بن مالك رضي الله عنه: تقدم 6.
• التخريج
هذه رواية مختصرة من حديث أنس السابق، وقوله:(حشوة) وفي رواية: (حشونة) الحشو والحشوة: ما في البطن والقلب من جملة ذلك، وقوله:(كبسا جوفه) أي ملآه وقوله: (حكمة وعلمًا) قد تقدم الكلام على هذا في الرواية الأولى، إلا أن هنا علمًا بدل إيمانًا. وقوله:(ملكين) وفي الروايات الأخرى: (ثلاثة) ولا منافاة فإنه جاءه ثلاثة، لكن الذي باشر الشق والغسل جبريل وميكائيل، كما أنه عند السير لم يرفعه إلا جبريل. وقوله:(إن الصلاة فرضت بمكة) هذا ما لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في فرضها قبل ليلة الإسراء، وظاهر الأحاديث السابقة أنها فرضت قبل الإسراء، للتصريح بكونه صلى العشاء الآخرة بمكة ليلة الإسراء ثم أسري به، لكن لم تثبت لنا كيفية فرضها إلا أن حمل حديث عائشة الآتي على فرضها قبل الإسراء، وأما كونها على هذه الهيئة بهذا العدد فالإتفاق على أن فرضها ليلة الإسراء، والله تعالى أعلم.
باب كَيْفَ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ
451 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَوَّلَ مَا فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ.
• [رواته: 5]
1 -
يعقوب بن إبراهيم الدورقي: تقدم 22.
2 -
سفيان بن عيينة: تقدم 1.
3 -
الزهري محمَّد بن مسلم: تقدم 1.
4 -
عروة بن الزبير: تقدم 44.
5 -
عائشة رضي الله عنها: تقدمت 5.
• التخريج
أخرجه البخاري ومسلم وابن خزيمة وأحمد، ورواه ابن حبان والبيهقي وأبو داود ومالك، وزاد ابن حبان في بعض رواياته وكذا أحمد والبيهقي بيان وقت الزيادة وأنه المدينة كما يأتي، وأخرجه الدارمي كرواية المصنف.
• اللغة والإعراب والمعنى
قولها: (أول ما فرضت الصلاة) أول مرفوع بالإبتداء، و (ما) مصدرية، والمصدر في محل جر بالإضافة، وتقدم الكلام على لفظ الفرض قريبًا، وفسره بعضهم بأن معناه هنا التقدير، وعلى ذلك يكون المعنى: أول مقدار ما فرض من الصلاة، وحمله على أن المراد به: أول ما فرضت الصلاة وفرضها الله على الأمة؛ أظهر، وأل في الصلاة للعهد الذهني أي المفروضة على العباد وقولها:(ركعتين) منصوب على الحال، وخبر المبتدأ محذوف والتقدير: فرضت ركعتين، وقال العيني: المراد بالصلاة: الرباعية؛ بدليل استثناء المغرب في رواية عائشة: فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن زِيدَ في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب لأنها وتر النهار. أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها، وفي صحيح البخاري عنها قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. وله أيضًا في كتاب الهجرة من طريق معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعًا. فهاتان الروايتان عن عائشة فيهما تعيين وقت الزيادة، وإذا ثبت أن الزيادة كانت بعد الهجرة تعين أن يكون الفرض ركعتين، إما أنه في الحالتين قبل الإسراء؛ على فرض أنه كانت هناك صلاة كما دلت عليه الأحاديث السابقة من التصريح بكونه صلى العشاء قبل الإسراء، وكذلك
فرضت ليلة الإسراء أيضًا، وإما أن يكون في الإسراء فقط، فهو على الوجهين يدل على أن فرضها ليلة الإسراء ركعتان. وسيأتي ما جمع به ابن حجر رحمه الله، ويأتي حديث ابن عباس الثابت في صحيح مسلم بخلاف ما في هذه الرواية، من كون جميع الصلوات فرضت ركعتين. وقولها:(ركعتين) هكذا في جميع نسخ السنن التي بأيدينا ليس فيها تكرار ركعتين، وهو كذلك في إحدى روايات الحديث عند البخاري ومسلم، وفيهما أيضًا رواية بتكرار ركعتين ركعتين، وهي رواية المصنف الآتية وهي تفيد تعميم الحكم لكل واحد من الصلوات بهذه الصفة. واختلف العلماء في وقت فرضها ركعتين، فمنهم من قال: كان هذا قبل الإسراء، فإن الصلاة كانت مشروعة قبله بدليل ما تقدم من أنه صلى العشاء الأخيرة بمكة قبل الإسراء، ويبقى النظر في وقت إتمامها، فمنهم من قال: أتمّت ليلة الإسراء، فلما نزلت رخصة القصر ردت الرباعية إلى الأصل الأول، فكأنها أُقرَّت على حالها بهذا الإعتبار. ومنهم من قال: المراد بهذا الفرض ركعتين ليلة الإسراء، والتمام بعد الهجرة كما هو صريح في حديث عائشة المتقدم. ومن الحجة للقول الأول وهو: أن تمامها ليلة الإسراء؛ حديث ابن عباس في صحيح مسلم: فرضت الصلاة في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين، وهو معارض لحديث عائشة السابق، اللهم إلا أن يحمل قوله على أن المراد بذلك، ما حصل بعد الإتمام المذكور في حديث عائشة المتقدم وحديث ابن عباس هذا. وقولها:(زيد في صلاة الحضر) بالبناء للمجهول، أي زاد الله في عدد ركعاتها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة متحتمة، وأقرت صلاة السفر أي على عددها ركعتين على ما كان فرضها السابق، إما أن يكون ذلك باعتبار أنها لما رخص فيها -قال النووي: لمن شاء- صارت بتلك الرخصة كأنها ردت إلى أصلها الأول، فعبّر عن ذلك بإقرارها على حالها، وبهذا جمع ابن حجر فإنه قال: إن فرضها ركعتين ليلة الإسراء وزيادتها بعد الهجرة على مقتضى حديث عائشة، فلما ردت بالرخصة إلى الركعتين صار ذلك كأنه إقرار لها على حالها. وإما أن يكون المراد أن الزيادة في الأصل لم تتناول حالة السفر وهذا تأويل من أوجب القصر ومنع إتمام الصلاة للمسافر، وظاهر الإطلاق يشمل الصبح والمغرب ولكن تقدم استثناؤها من حديث عائشة المتقدم، والله أعلم.
• الأحكام والفوائد
تمسك الحنفية بظاهر حديث عائشة هذا وقالوا: إن المسافر لا يجوز له إتمام الصلاة، وهو قول الثوري وحماد بن أبي سليمان وعمر بن عبد العزيز، وروي عن ابن عباس.
وذهب الجمهور إلى أن القصر للمسافر رخصة والإتمام جائز له، واستدلوا بظاهر الآية الكريمة:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ، ونفي الجناح لا يدل على الوجوب، والتعبير بـ (تقصروا) يدل على أن الأصل المقصور أطول، وبما سيأتي في حديث يعلى بن منبه عن عمر: صدقة تصدق الله بها عليكم .. إلخ، وبما ثبت عن عائشة من أنها كانت تتم الصلاة، وعن أنس أن الصحابة كانوا يسافرون فيقصر بعضهم ويتم البعض، ويصوم البعض ويفطر البعض ولا يعيب أحد منهم على أحد، وبإتفاق جمهور الفقهاء على أن المسافر إذا اقتدى بالمقيم أتم الصلاة. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله في الكلام على قصر الصلاة. ومنهم من قال: المسافر مخير بين الإتمام والقصر.
452 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَعْلَبَكِّيُّ قَالَ: أَنْبَأَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عَمْرٍو يَعْنِي الأَوْزَاعِيَّ أَنَّهُ سَأَلَ الزُّهْرِيَّ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَرَضَ اللَّهُ عز وجل الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ مَا فَرَضَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أُتِمَّتْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الأُولَى.
• [رواته: 6]
1 -
محمَّد بن هاشم بن سعيد القرشي أبو عبد الله البعلبكي، روى عن أمية والوليد بن مسلم وبقية ومحمد بن شعيب بن سابور وغيرهم، وعنه النسائي وابنه أحمد بن محمَّد وابن بنته أبو جعفر أحمد بن هاشم الحميري المعروف ببندار والحسن بن علي المعمري وأبو حاتم الرازي وابن بجير وإبراهيم بن متويه ومحمد بن عبد الله بن عبد السلام وآخرون. قال النسائي: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يغرب، مات ببعلبك سنة 254، وكان مولده في ربيع سنة 167، وقال مسلمة بن قاسم: صدوق مشهور.
2 -
الوليد بن مسلم القرشي مولى بني أمية وقيل: مولى بني العباس، الدمشقي عالم الشام، روى عن جرير بن عثمان وصفوان بن عمرو والأوزاعي وابن جريج وابن عجلان وابن أبي ذئب وسعيد بن عبد العزيز والثوري وعبد الله بن العلاء بن زبر وغيرهم. وعنه الليث بن سعد وهو من شيوخه، وبقية وهو من أقرانه والحميدي وسليمان بن عبد الرحمن وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وعلي بن المديني وأبو خيثمة وخلائق غيرهم. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، قال أحمد: أحد أروى عن الشاميين من إسماعيل بن عياش والوليد، وقال أيضًا: ما رأيت أعقل منه. قال إبراهيم بن المنذر: سألني علي بن المديني أن أخرج له حديث الوليد، فقلت له: سبحان الله أين سماعي من سماعك؟ فقال لي: إن الوليد دخل الشام وعنده علم كبير ولم أستمكن منه، فأخرجته له فتعجب من فوائده وجعل يقول: كان يكتب على الوجه، وأثنى ثم قال: إنه أغرب بأحاديث لم يشاركه فيها، وأثنى عليه مروان بن محمَّد وقال: كان عالمًا بحديث الأوزاعي، وقال أبو زرعة: قال لي أحمد: عندكم ثلاثة أصحاب أصحاب حديث: مروان بن محمَّد والوليد وأبو مسهر، وقال يعقوب بن سفيان: كنت أسمع أصحابنا يقولون: علم الناس عند إسماعيل بن عياش والوليد بن مسلم، فأما الوليد فمضى على سنته محمودًا عند أهل العلم متقنًا صحيح العلم، ووثقه العجلي ويعقوب بن شيبة، وأثنى عليه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حوصاء وصدقة ابن الفضل وغيرهم، ومع هذا كله فقد تكلموا في حديثه عن الأوزاعي وقالوا: إنه كان يدلسه عن الضعفاء. وقال فيه أبو مسهر: كان يأخذ حديث الأوزاعي عن أبي السّفر، وكان أبو السّفر كذابًا، وقال الدارقطني فيه نحو ذلك. ولد سنة 119 ومات منصرفًا من الحج سنة 194 وقيل: سنة 195، وقال الفسوي: سألت هشام بن عمار عن الوليد فأقبل يصف علمه وورعه وتواضعه، وقال أبو داود: روى عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل، أربعة منها عن نافع، وقال أحمد: اختلطت عليه أحاديث ما سمع وما لم يسمع، منها حديث عمرو بن العاص: لا تلبسوا علينا ديننا. وبالجملة فهو ثقة يدلس تدليس التسوية، والله أعلم.
3 -
أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي الإِمام: تقدم 56.
4 -
محمَّد بن شهاب الزهري: تقدم 1.
5 -
عروة بن الزبير: تقدم 44.
6 -
عائشة رضي الله عنها: تقدمت 5.
الحديث تقدم شرحه لأنه حديث عائشة السابق، وتقدم أن قولها:(وأقرَّت) محمول على معناه: ردت إلى فرضها الأول.
453 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ.
• [رواته: 5]
1 -
قتيبة بن سعيد: تقدم 1.
2 -
مالك بن أنس الإِمام: تقدم 7.
3 -
صالح بن كيسان: تقدم 314.
4 -
عروة: تقدم 44.
5 -
عائشة رضي الله عنها: تقدمت 5.
454 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَخْنَسِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِى السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِى الْخَوْفِ رَكْعَةً.
• [رواته: 7]
1 -
عمرو بن علي الفلاس: تقدم 4.
2 -
يحيى بن سعيد القطان: تقدم 4.
3 -
عبد الرحمن: تقدم 49.
4 -
أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري: تقدم 46.
5 -
بكير بن الأخنس السدوسي ويقال: الليثي الكوفي، روى عن أبيه وأنس وابن عباس وابن عمر ومجاهد وعطاء وغيرهم، وعنه الأعمش ومسروق وزيد بن أبي أنيسة وأيوب بن عائذ وأبو إسحاق السيباني وأبو عوانة وجماعة.
قال ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي: ثقة، قال ابن حجر: ذكره ابن حبان في ثقات التابعين ثم أعاده في أتباع التابعين من الثقات. قال: وقد قيل إنه سمع من أنس بن مالك، وقال ابن سعد: روى عن الصحابة وهو قليل الحديث. قال العجلي: كوفي ثقة، وقال البخاري في التاريخ: بكير بن الأخنس ويقال: ابن فيروز، روى عنه أبو عوانة، وأما ابن أبي حاتم ففرّق بينهما، وقال أبو حاتم: هو قديم، ما روى عنه شعبة ولا الثوري، فلا أدري كيف روى عنه أبو عوانة ولا أين لقيه؟ حكاه عن أبيه في العلل.
6 -
مجاهد بن جبر: تقدم 31.
7 -
ابن عباس رضي الله عنهما: تقدم 31.
• التخريج
أخرجه مسلم وأبو داود وابن خزيمة وأبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفرائيني في مسنده، وأخرجه ابن ماجه والإمام أحمد.
تقدم الكلام عليه وأنه معارض لحديث عائشة رضي الله عنها، ومما يؤيده الأثر الذي أخرجه عبد الرزاق عن الحسن البصري في صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم صبيحة الإسراء وفيه: صلاة الظهر والعصر والعشاء أربعًا في كل منهما والمغرب ثلاثًا. وقوله: (وفي الخوف ركعة) سيأتي الكلام على صلاة الخوف.
455 -
أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشُّعَيْثِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِدٍ أَنَّهُ قَالَ لاِبْنِ عُمَرَ: كَيْفَ تَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ)؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَانَا وَنَحْنُ ضُلَّالٌ فَعَلَّمَنَا، فَكَانَ فِيمَا عَلَّمَنَا أَنَّ اللَّهَ عز وجل أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ، قَالَ: الشُّعَيْثِيُّ: وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ.
• [رواته: 5]
1 -
يوسف بن سعيد: تقدم 198.
2 -
حجاج بن محمَّد: تقدم 32.
3 -
عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي المدني، روى عن أبيه وأمية بن عبد الله بن خالد، وعنه ابن عمه المهاجر بن عكرمة بن عبد الرحمن والزهري ومحمد بن عبد الله الشعيثي ومكمل بن أبي سهل. وثقه ابن عبد الرحيم، وذكره ابن عدي ونقل عن البخاري أنه قال: لا يصح حديثه، والله أعلم.
4 -
أميّةُ بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية الأموي المكي، روى عن ابن عمر، وعنه عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأبو إسحاق والزهري وعطية بن قيس والمهلب بن أبي صفرة. قال ابن سعد: كان قليل الحديث، وقال العجلي: ثقة، ولكن سمى أباه عبد الرحمن. مات في ولاية عبد الملك قيل: سنة 87، وقال ابن حبان في الثقات: سنة 86، وروى عنه أبو إسحاق فقلب اسمه وقال: أمية بن خالد بن عبد الله وأرسل حديثه، والأول هو المعتمد، وقال ابن الجارود: ليس له صحبة والله أعلم.
5 -
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: تقدم 12.
• التخريج
أخرجه أحمد ومالك وابن ماجه والبيهقي وابن حبان.
• اللغة والإعراب والمعنى
تقدم الكلام على قوله: (كيف) في حديث عبد الله بن زيد، وأنها اسم استفهام مبني على الفتح، وفي مثل هذا لا يصح فيها إلا النصب على الحال. (وتقصر الصلاة) أي نصليها في السفر ركعتين، والمراد بالصلاة: الرباعية كما تقدم، لأنه قد تقرر في الشرع أنها هي محل القصر، يقال: قصر الصلاة وقصّرها مشددًا وأقصرها: إذا نقص فيها من عدد الركعات، ومصدر قصر مخففًا قصرًا وقصّر مشددًا تقصيرًا وأقصر إقصارًا، والأكثر قصر بفتحتين مخففًا. وقد حكى ابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لا قصر في صلاة الصبح ولا في صلاة المغرب، وستأتي بقية الكلام على أحكام القصر إن شاء الله في
بابه. وقوله: (إنما قال الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} تقدم الكلام على لفظ (إنما) في حديث عمر في النية، وكذا قوله رحمه الله في شرح الآية أول الكتاب. وقوله:{لَيْسَ} لفظ الآية الكريمة: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} لأنها واقعة في جواب قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} ، ومعنى هذا السؤال أن أمية استشكل القصر مع الأمن، لأن ظاهر الآية يقتضي اشتراط الخوف، وسبقه إلى ذلك عمر رضي الله عنه ويعلى بن أمية. والجناح المنفي هنا هو الإثم، ويطلق على الميل إلى الإثم، وأصله من: جنح؛ إذا مال، والإثم: ميل عن طريق الصواب و (لا) نافية للجنس و (جناح) اسمها مبني على الفتح، والخبر محذوف تقديره موجود. (أن تقصروا) أي في أن تقصروا، فالمصدر المنسبك من أن وما دخلت عليه في محل جر، وسيأتي الكلام على الآية في الكلام على القصر إن شاء الله تعالى. وقول ابن عمر:(يا ابن أخي) هذا من باب الأدب في الخطاب، وهو ابن أخيه في الإِسلام، وجملة (ونحن ضلال) جملة في محل نصب على الحال، والمراد بقوله:(نحن) يعني سائر الأمة، ضلال جمع ضال وهو المخطئ للصواب، وأصله: الغيبوبة والهلاك ويطلق على النسيان والخطأ في الطريق وفي الدين، وهو ضد الهدى قال تعالى:{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} ، ومن إطلاقه على الغيبوبة قوله تعالى:{وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} غبنا فيها، ومنه قول النابغة:
فآب مضلوه بعين جليّة
…
وغودر ربا لجولان حزم ونائل. اهـ.
ومن إطلاقه على النسيان قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} أي تنسى ويطلق على الخطأ كما هو مقرر في كتب اللغة، وقوله:(فعلمنا) إلى آخره، أي علّمنا أمر ديننا الذي نهتدي به من الضلال، وهذا الجواب شبيه بجواب النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في هذا السؤال حيث قال:(صدقة تصدق الله بها عليكم). وفيه دليل على أن بيان أصل الحكم في التشريع أبلغ، وأن الإنسان إذا علم أن الأمر من الله ورسوله وجب عليه التسليم والرضى، وفيه: أن الخوف لا يشترط في جواز القصر في السفر، يأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله.
وقول الشعيثي معناه أن الزهري قد روى هذا الحديث عن عبد الله بن أبي بكر لرواية الشعيثي.
باب كَمْ فُرِضَتْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ
456 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكِ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْهَمُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ". قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: "لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ". قَالَ: "وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ"، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: "لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ"، وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ"، فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ".
• [رواته: 5]
1 -
قتيبة بن سعيد: تقدم 1.
2 -
مالك بن أنس الإِمام: تقدم 7.
3 -
نافع بن مالك بن عامر الأصبحي أبو سهيل التيمي المدني حليف بني تيم بن مرة، روى عن أبيه وابن عمر وسهل بن سعد وأنس وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمَّد وغيرهم، وعنه الزهري وهو من أقرانه وابن أخيه مالك بن أنس بن أبي عامر الإِمام ومحمد وإسماعيل ابنا جعفر بن أبي كثير ومحمد بن طلحة التيمي والدراوردي وآخرون. قال أحمد: من الثقات، ووثقه النسائي وأبو حاتم، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الواقدي: كان يؤخذ عنه القراءة بالمدينة، هلك في إمارة أبي العباس، وقال ابن خراش: كان صدوقًا، والله تعالى أعلم.
4 -
مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو أنس ويقال: أبو محمَّد جد الإِمام مالك بن أنس، روى عن عمر وعثمان وطلحة وعقيل بن أبي طالب وأبي هريرة وعائشة وربيعة بن محرر كاتب عمر وكعب الأحبار، وعنه أبناؤه أنس والربيع ونافع وسليمان بن يسار وسالم أبو النضر ومحمد بن إبراهيم التيمي. ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية وقال: فرض له عثمان، وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن
حبان في الثقات. قال ابنه الربيع: مات أبي حين اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان، يعني سنة 74، ووهم عبد الغني في الكمال تبعًا لابن سعد عن الواقدي فقال: إنه مات سنة 92 وهو ابن 70 سنة أو 72، قال ابن حجر رحمه الله: وتعقبه المنذري بأن سماعه من طلحة مصرح به في الصحيح، وطلحة قتل سنة 36، وعلى ما ذكره يكون مولده سنة 40، فكيف يمكن سماعه من طلحة؟ ولعل الوهم كان في سنة والصواب تسعين بتقديم التاء. اهـ. وهو مشكل أيضًا فقد صح سماعه من عمر فإنه قال: شهدت عمر عند الجمرة، وذكر قصة أوردها ابن سعد بسند جيد. والصواب ما ذكر في الأصل -يعني موته سنة 74، وكذا ذكره البخاري في الأوسط في فصل من مات بين 70 إلى 80، وقال ابن سعد: كان ثقة وله أحاديث صالحة. اهـ.
5 -
طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي أبو محمَّد المدني، أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد السابقين للإسلام، وأمه صفية بنت الحضرمي أخت العلاء بن الحضرمي من المهاجرات الأول، غاب عن بدر فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وآجره، وشهد أحدًا وما بعدها، وكان أبو بكر إذا ذكر أُحدٌ قال: ذاك يوم كله لطلحة بن عبيد الله، وذلك لأنه شلّت يده وهو يقي بها رسول الله من سهام العدو، وهو أحد الستة من أصحاب الشورى، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وعنه أولاده محمَّد وموسى وعمران وعيسى وعائشة بنت طلحة وابن أخيه عبد الرحمن بن عثمان وجابر بن عبد الله والسائب بن يزيد ومالك بن أوس بن الحدثان ومالك بن أبي عامر الأصبحي وأبو سلمة بن عبد الرحمن -وقيل: لم يسمع منه- وغيرهم. عن مسعود بن خراش قال: بينا أطوف بين الصفا والمروة إذ أناس كثيرون يتقون أناسًا فنظرت فإذا شاب موثوق يده إلى عنقه. فقلت: ما شأن هؤلاء -فقال: هذا طلحة بن عبيد الله قد صبأ أي أسلم، آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين الزبير، وقيل: آخى بينه وبين أبي أيوب، وهو قول الزهري. قال قبيصة بن جابر: صحبت طلحة بن عبيد الله فما رأيت رجلًا أعطى لجزيل مال من غير مسألة منه قتل يوم الجمل، والأكثرون على أن الذي قتله مروان بن الحكم، رماه بسهم فأصاب ركبته فمات منه رضي الله عنه. وعن
أبي حبيبة مولى طلحة قال: دخلت على علي مع عمران بن طلحة فرحب به وقرّبه وقال: أرجو أن أكون أنا وأباك ممن قال الله فيهم {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} . ولما رأى علي طلحة قتيلًا قال: يعزّ علي أن أراك مجدولًا تحت نجوم السماء. ومناقبه رضي الله عنه كثيرة، وقد روى ابن كثير رحمه الله عن سعيد بن المسيب أن رجلًا كان يقع في طلحة والزبير وعثمان وعلي رضي الله عنهم فجعل سعد ينهاه ويقول: لا تقع في إخواني، فأبى فقام فصلى ركعتين ثم قال: اللهم إن كان سخطًا لك ما يقول فأرني فيه اليوم آية واجعله للناس عبرة، فخرج الرجل فإذا بُخْتِيٌ يشق الناس، فأخذه بالبلاط فوضعه بين كركرته والبلاط فسحقه حتى قتله، قال سعيد بن المسيب: فأنا رأيت الناس يتبعون سعدًا ويقولون هنيئًا لك أبا إسحاق أجيبت دعوتك. وكانت وقعة الجمل لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة 36، قيل: كان عمره 60 سنة وقيل: 63، وذكر ابن حجر عن ابن سعد: أخبرني من سمع أبا جناب الكلبي يقول: حدثني شيخ من كلب قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول: لولا أن أمير المؤمنين مروان أخبرني أنه قتل طلحة بن عبيد الله؛ ما تركت أحدًا من ولد طلحة إلا قتلته بعثمان، وقال الحميدي في النوادر: عن سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن مروان قال: دخل موسى بن طلحة على الوليد فقال له الوليد: ما دخلت علي قط إلا هممت بقتلك لولا أن أبي أخبرني أن مروان قتل طلحة، وقال ابن عبد البر: لا تختلف العلماء الثقات في أن مروان قتل طلحة. اهـ. وقيل: أصابه سهم غرب، ومناقبه رضي الله عنه كثيرة.
• التخريج
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وابن خزيمة وابن الجارود، وعلى أن الرجل هنا: ضمام، لحديثه عند أحمد من طريق ابن عباس وكذا عند الطبراني، وأخرجه ابن ماجه وأخرجه مالك والبيهقي كرواية المصنف وابن حبان في صحيحه.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: (جاء رجل) قال الأكثرون: إنه ضمام بن ثعلبة، ولا يقدح في ذلك
اختلاف الألفاظ لأن ذلك ربما كان بسبب تفاوت الرواة في الضبط، والتصريح باسمه في بعض الروايات يكون بيانًا لغيرها مما لم يصرح فيه باسمه، وقوله:(من أهل نجد) أي من ساكني نجد في ذلك الحين من قبائل العرب، والمراد به: ما ارتفع من الأرض عن بلاد تهامة التي هي على ساحل البحر، وهو ما كان وراء جبالا السراة من ناحية الشرق، وأصله ما ارتفع من الأرض، وجمعه نجود، وذكره كثير في أشعار العرب. قال جرير:
تَحنّ قلوصي في الركاب وشاقها
…
وميض على ذات السلاسل لامع
فقلت لها حني رويدًا فإنني
…
إلى أهل نجد من تهامة نازع
وقوله: (ثائر الرأس) أي متفرق شعر رأسه منتشر غير مرجل ولا مضفور، وإسناد ذلك إلى الرأس على سبيل المبالغة، وهو مرفوع على أنه صفة لـ (رجل)، ويجوز نصبه على الحال لأن رجلًا وإن كان نكرة؛ فقد تخصص بالوصف في قوله:(من أهل نجد). وقوله: (يُسْمعُ دَويُّ صَوْتِه) يروى: نسمع دوي صوته، وهي رواية مسلم بالنون والبناء للفاعل، وكذا، قوله:(نفهم) ويروى بالبناء للمفعول وبالتحتانية: يسمع، وروي بالرفع نائب الفاعل وكذا: يفهم، و (ما) في محل رفع نائب فاعل: والدوي بفتح الدال وكسر الواو والياء المشددة آخر الحروف: الصوت المتتابع الذي لا يتبين للسامع مثل الجلبة، وحكى صاحب المطالع فيه ضم الدال، وفسره في النهاية بأنه صوت عال مثل صوت النحل، وإنما وصفه بهذا لأنه نادى من بعد فلم يتبين لهم كلامه. وقوله:(حتى دنا)(حتى) لغاية عدم فهمهم لكلامه، (ودنا) أي قرب من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة الذين حوله، والضمير يعود على الرجل، وقوله:(فإذا) للمفاجأة، هو يسأل عن الإِسلام أي عن أركانه، لأن الجواب دل على مراد السائل، والجواب إنما كان عن أركان الإِسلام، وتبيّنه الرواية الأخرى التي صرح فيها أن رسول الله أمرهم بتلك الأركان في قوله:(زعم رسولك إلخ). والإِسلام هو الإستسلام والإنقياد، وفي عرف الشرع: الإنقياد لأوامر الله بامتثالها ونواهيه باجتنابها وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المشهور أنه مبني على خمس صلوات، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم له الشهادتين وذلك محمول على أنه كان قد عرف الشهادتين، وعلى أن المراد بهذا السائل ضمام، فقد بيّنت الروايات الأخر أنه بدأ بالسؤال عن
أصل الرسالة كما في حديث أنس في الصحيحين وغيرهما. وقوله: (في اليوم والليلة) أي تصليهما في اليوم والليلة، وقوله:(هل عليّ غيرهن)(هل) حرف استفهام وتقدم الكلام عليه، وهو لا يعمل لأنه غير مختص، (وعليَّ) بمعنى يجب عليَّ غيرهن، وقوله:(إلا أن تطّوع) قال النووي: (المشهور فيه تطوَّع؛ بتشديد الطاء على إدغام إحدى التاءين في الطاء، وقال ابن الصلاح: هو محتمل للتشديد والتخفيف) اهـ. قلت: التشديد إدغام التاء في الطاء على ما تقدم، والتخفيف بحذف إحدى التاءين، فإن مثل هذا من الفعل المضارع المبدوء بالتاء إذا دخلت تاء المضارعة جاز فيه ثلاثة أوجه: الوجهان المذكوران والثالث إثبات التاءين على الأصل، ولحذف إحدى التاءين أشار ابن مالك رحمه الله بقوله:
وما بتاءين ابتدى قد يقتصر
…
فيه على تا كتبين العبر
والإستثناء يحتمل أن يكون متصلًا، واستدل به من جعله مثلًا على وجوب إتمام التطوع إذا شرع، فالمعنى: لا يجب عليك من الصلاة غيرهن إلا إذا تطوعت فتعين عليك إتمام ما دخلت فيه، ويؤيده قوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ، ومذهب جماعة من العلماء أنه لا يجب الإتمام ولكنه يستحب، وهو مذهب الشافعية. ويحتمل أن الإستثناء منقطع فيكون المعنى: لكن إن أردت أن تطوع أو يستحب لك أن تطوع، وتقدير: يستحب؛ فيه بُعْدٌ والوجه الأول أظهر. وتقدم أنه يدل على وجوب إتمام ما شرع فيه، وهو قول المالكية والحنفية، وتؤيده الآية المتقدمة والإتفاق على أن الشروع في النسك يوجب إتمامه. وقد استدل ابن حجر بحديث النسائي الآتي في الصيام: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينوي الصوم ثم ينظر، وهو غير مسلَّم لإحتمال أنه إنما يفعل ذلك من ضرورة، ومع ذلك لم يثبت أنه لم يكن يقضي ذلك اليوم. وفي مسند أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين، فأهديت لنا شاة فأكلنا منها، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه فقال: صوما يومًا مكانه، واستدل به من قال بوجوب إتمام صوم النفل إلا لعذر؛ لأن الأمر للوجوب ووجوب القضاء يدل على وجوب إتمام النفل الذي أمر بقضائه. وروى الدارقطني عن أم سلمة أنها صامت يومًا تطوعًا، فأفطرت فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تقضي يومًا مكانه. ومما
استدل به ابن حجر رحمه الله حديث البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم أمر جويرية أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت فيه، وأجاب عنه غيره بمثل ما تقدم من أن ذلك محمول على وجود عذر، أو لأجل نهيه عن صوم الجمعة من غير صيام قبله ولا بعده، ويأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله في الصيام. ثم ذكر صيام شهر رمضان وقال فيه ما قال في الصلاة، فهو يدل على أن صوم عاشوراء وغيره فيه شيء واجب. وقوله:(وذكر له الزكاة .. إلخ) فيه دليل على عدم وجوب حق مطلق في المال إلا الزكاة، أما وجوب النفقة فليس من هذا القبيل كما يأتي إن شاء الله.
وقوله: (فأدبر) الفاء عاطفة، وأدبر أي: رجع من حيث أتى، (وهو يقول) جملة حالية، والإشارة في قوله (على هذا) للفرائض التي ذكرها له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم:(أفلح إن صدق) الفلاح: الفوز بالمطلوب والنجاة من المكروه، وهو في الآخرة بدخول الجنة والنجاة من النار، وأصله من الفلح: وهو الشق، ومنه الأفلح لمشقوق الشفة، ويطلق على البقاء كما في قول الشاعر:
لو كان حي مدرك الفلاح
…
أدركه ملاعب الرماح
ويطلق على السحور كما في حديث أنس: حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح. ولم يذكر في كثير من الروايات الحج كما أن الصوم غير مذكور في بعضها، وذلك محمول في الحج على احتمال أنه لم يفرض، وفي الصيام على أن الإختلاف إنما من قبيل تفاوت الرواة في الحفظ والضبط كما تقدم، مع أنه في بعض الروايات: وذكر له شرائع الإِسلام، وهذا يعمّ ما ذكر وما لم يذكر منها، والله أعلم.
• الأحكام والفوائد
فيه: دليل، على استحباب الرحلة لطلب العلم وقد تجب، وفيه: دليل على أن الصلاة والزكاة والصوم كلها من أركان الإِسلام، وفيه دليل على حصر فرض الصلاة في الخمس، والصوم الواجب على شهر رمضان.
وفيه: دليل على عدم وجوب قيام الليل على الأمة، وهو متفق عليه وإنما الخلاف في حق النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه: دليل على عدم وجوب العيدين، وقد قال الإصطخري من الشافعية: إنها فرض كفاية. وفيه: عدم وجوب صوم عاشوراء كما تقدم.
وفيه: دليل على الحق الواجب في عين المال وهو الزكاة.
وفيه: دليل على أن من واظب على الفرائض ولم يضيع شيئًا منها، أنه يفلح بدخوله الجنة، ولا ينافي ذلك أن فعل النوافل أفضل له كما دلت عليه النصوص الأخر. وليس معنى قول هذا السائل: لا أزيد؛ أن الزيادة محظورة، بل المعنى أنه لم يلتزم شيئًا من النوافل، يدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: إلا أن تطوّع، وسيأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله. والفلاح إنما رتب له على التزامه لفعل الفرائض، لا على عدم الزيادة وترك السنن، وإن كان فاعله أساء، والمواظبة على تركها تستوجب رد الشهادة؛ للحث عليها في نصوص أخر، ولأن تركها دليل على الزهادة في الخير، وذلك لا ينافي دخوله الجنة.
وفيه: رد على المرجئة لأنه شرط في دخول الجنة أن يخلّ بشيء من الفرائض.
وفيه: رد لقول ابن قتيبة: إن الصدق والكذب إنما يوصف بهما الخبر في الماضي، وهنا قد جاء الصدق في المستقبل، ومثله قوله تعالى:{ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} .
وفيه: جواز صفة الإنسان للتعريف به لقوله: (ثائر الرأس).
457 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ افْتَرَضَ اللَّهُ عز وجل عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الصَّلَوَاتِ؟ قَالَ: "افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ صَلَوَاتٍ خَمْسًا"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ قَبْلَهُنَّ أَوْ بَعْدَهُنَّ شَيْئًا؟ قَالَ: "افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ صَلَوَاتٍ خَمْسًا"، فَحَلَفَ الرَّجُلُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ شَيْئًا وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْئًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ".
• [رواته: 5]
1 -
قتيبة بن سعيد: تقدم 1.
2 -
نوح بن قيس بن رباح الأزدي الحداني -ويقال: الطاحي، أبو روح البصري، روى عن أخيه خالد بن قيس وثمامة بن عبد الله بن أنس، وأيوب، وابن عون، وأبي هارون العبدي، وعمرو بن مالك النكري، وعطاء السلمي وغيرهم.
وعنه يزيد بن هارون وعفان، ومسلم بن إبراهيم، وموسى بن إسماعيل، ومسدد، وخليفة بن خياط وحميد بن مسعدة، وقتيبة، وجماعة غيرهم 53، وثقه أحمد وابن معين، وأبو داود، وقال: بلغني عن يحيي أنه ضعفه، وقال مرة: يتشيع، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن شاهين عن ابن معين: هو شيخ صالح الحديث، وقال العجلي: بصري ثقة، وقال ابن سعد: كان ينزل سويقة طاحية فنسب إليها. مات سنة 183 وقيل: 184 والله أعلم.
3 -
خالد بن قيس بن رباح الحداني الأزدي ويقال: الطاحي البصري، روى عن عطاء وعمرو بن دينار وقتادة وأبي سلمة ومطر الوراق، وعنه أخوه نوح بن قيس ونصر بن علي الجهضمي الكبير ومسلم بن إبراهيم. قال ابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال العجلي: ثقة، وقال ابن المديني: ليس به بأس. قال الأزدي: خالد بن قيس عن قتادة فيها مناكير، روى عنه أخوه نوح، ونوح صدوق، والله أعلم.
4 -
قتادة بن دعامة السدوسي: تقدم 34.
5 -
أنس بن مالك رضي الله عنه: تقدم 6.
• التخريج
هذه الرواية يظهر أنها مختصرة من حديث ضمام من رواية أنس، وهو في الصحيحين وغيرهما، وبهذا الإختصار في مسلم والترمذي وأحمد وغيرهم.
والكلام عليه تقدم في الذي قبله، وظاهر كلام السندي أنه مكتوب (خمس) بغير ألف، ووجهه على احتمال حذف الألف وهو كثير عند المحدثين، لكن سائر النسخ عندنا بالألف: خمسًا.
باب الْبَيْعَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ
458 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَبِيبُ الأَمِينُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّدَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَدَّمْنَا أَيْدِيَنَا فَبَايَعْنَاهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَايَعْنَاكَ فَعَلَامَ؟ قَالَ: عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً: أَنْ لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا.
• [رواته: 7]
1 -
عمرو بن منصور النسائي: تقدم 147.
2 -
أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر بن عبد الأعلى بن مسلم أبو مسهر الدمشقي، وكنية جدّه أبو قدامة، روى عن سعيد بن عبد العزيز وإسماعيل بن عبد الله بن سماعة وصدقة بن خالد ويحيى بن حمزة الحضرمي ومالك بن أنس ومحمد بن حرب الخولاني والهقل بن زياد وخالد بن يزيد بن صالح بن صبيح وابن عيينة وغيرهم، وعنه البخاري في كتاب الأدب أو بلغه عنه، وروى له هو والباقون بواسطة محمَّد بن يوسف السكندي، وإسحاق بن منصور الكوسج ومحمد بن إسحاق الصاغاني ومحمد بن محمود بن خالد وعمرو بن منصور النسائي وأحمد بن حنبل وابن معين ودحيم وغيرهم. قال أحمد كان عندكم ثلاثة أصحاب حديث؛ مروان، والوليد، وأبو مسهر، وقال أحمد رحمه الله: أبا مسهر ما كان أثبته، وقال فيه: كيّس عالم بالشاميين، وقال ابن معين؟ : ما رأيت منذ خرجت من بلادي أحدًا أشبه بالمشيخة من أبي مسهر، وقال فيه أيضًا: ثقة، وقال العجلي وأبو حاتم: ثقة، وثناء الأئمة عليه كثير. قال أبو داود: كان من ثقات الناس، لقد كان من الإِسلام بمكان، حُمِلَ على المحنة فأبى، وحُمِلَ على السيف فمدّ رأسه وجُرِّد السيف فأبى أن يجيب، فلما رأوا ذلك منه حمل إلى السجن فمات.
وقال أبو سعيد: كان رَاوِيةً لسعيد بن عبد العزيز وغيره، وكان أشخص من دمشق إلى المأمون في المحنة فسئل عن القرآن؟ فقال: كلام الله، فدعي له بالسيف ليضرب عنقه فلما رأى ذلك قال مخلوق، فَحُمل إلى بغداد فحبس بها فلم يلبث إلا يسيرًا حتى مات سنة 218. وذكر أن المأمون قال له: لو قلتها قبل أن أدعو بالسيف لأكرمتك ولكنك تخرج الآن فتقول: قلتها فرقًا من السيف. قال ابن حبان: كان إمام أهل الشام في الحفظ والإتقان، ممن عني بأنساب أهل بلده وأنبائهم، وإليه كان يرجع أهل الشام في الجرح والعدالة لشيوخهم، قال دحيم: ولد سنة 140، وكذا قال غير واحد في تاريخ مولده ووفاته، وثناء الأئمة عليه كثير، فهو ممن اتفقوا على جلالته رحمنا الله وإياه.
3 -
سعيد بن عبد العزيز: تقدم 448.
4 -
ربيعة بن يزيد: تقدم 148.
5 -
أبو إدريس الخولاني عائذ الله: تقدم 88.
6 -
أبو مسلم الخولاني اليماني الزاهد الشامي، اسمه عبد الله بن ثوب -بضم الثاء وفتح الواو وقيل: بإشباع الضمة- وقيل: ابن أثوب وقيل: ثواب، ويقال: ابن عبد الله ويقال: ابن عوف ويقال: ابن مشكم، ويقال: اسمه يعقوب بن عوف: رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتوفي قبل أن يصل المدينة فلقي أبا بكر. روى عن عمر ومعاذ وأبي عبيدة بن الجراح وعبادة بن الصامت وأبي ذر وعوف بن مالك الأشجعي ومعاوية بن أبي سفيان، وعنه أبو إدريس الخولاني وشرحبيل بن مسلم الخولاني وجبير بن نفير وعمير بن هانئ ويونس بن ميسرة وعطية بن قيس وعطاء بن أبي رباح ومكحول وغيرهم. ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام وقال: كان ثقة، توفي في زمن يزيد بن معاوية، وثقه ابن معين وقال العجلي: شامي ثقة تابعي من كبار التابعين، له في الكتب حديث واحد عن عون بن مالك، وروى عنه الترمذي آخر عن معاذ. قال ابن حجر: ذكره ابن حبان في الثقات وقال: أسلم في زمن معاوية، وكان من عبّاد أهل الشام وزهادهم ولأبيه صحبة، مات قبل بسر بن أرطاة، كذا قال ابن حبان وهو وهم بلا شك، فالمعروف أن أبا مسلم أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صح سماعه من أبي عبيدة ومات أبو عبيدة قبل أن يستخلف معاوية بل قبل
أن يتأمَّر قال ابن عبد البر في الإستيعاب: أدرك الجاهلية وأسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو معدود في كبار التابعين وكان ناسكًا عابدًا له كرامات، وروى ابن سعد في الطبقات عن شرحبيل بن مسلم: أن الأسود بن قيس ذا الحمار تنبأ باليمن، فبعث إلى أبي مسلم فلما جاء قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع، قال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، قال: فردّد ذلك مرارًا، فأمر بنار عظيمة فأجّجت ثم ألقي فيها فلم يضره، فأمره بالرحيل فقدم المدينة وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر، فذكر قصة الحديث وقول عمر لأبي بكر: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمَّد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فُعل بإبراهيم. اهـ. وفي الخلاصة عن العلابي: توفي سنة 62 هـ.
7 -
عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه: تقدم 62.
• التخريج
أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد وابن ماجه.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: (ألا تبايعون) تقدم الكلام على لفظ (ألا) وأنها كلمة استفتاح وتنبيه، وتكون للعرض كما هنا. والمبايعة هنا المراد بها: أخذ العهد على الإنسان بالشيء، تشبيهًا بصفقة البيع. قوله:(فقدمنا أيدينا) أي: مددناها، والفاء تحتمل العطف وتحتمل السببية أيدينا جمع يد، وقد تقدم الكلام عليها أول الكتاب في شرح الآية. قوله:(فبايعناه) أي: أجبناه لما طلبه بمد أيدينا إليه وسؤاله علام نبايعك، ويحتمل أن قوله:(قد بايعناك) أي بيعة سابقة كما في بعض الروايات، وكذا قرب عهد ببيعة. و (ما) استفهامية دخل عليها حرف الجر وهو (على)، فحذفت منها الألف على حد قول ابن مالك رحمه الله:
وما في الإستفهام إن جرت حذف
…
ألفها وأولها الها إن تضف
ولذا تكتب على هذا بالألف، لأن الكلمتين صارت كالكلمة الواحدة، والمعنى: على أي شيء نبايعك. قوله: (على أن تعبدوا) أي تبايعونني على أن تعبدوا الله أي: تدوموا على عبادته وحده، وهذا معنى قول العبد لا إله إلا الله، فإن اعتقاده لذلك يحتم عليه عدم الشرك بالله، لأنه المنفرد بالرغبة والرهبة دون
من سواه. وقوله: {وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} أي لا في السِّر ولا في العلانية، لأن ذلك مناف للشهادة له بالوحدانية. و (شيئًا) نكرة في سياق نفي تعمَّ الشرك الأكبر المخرج عن الملة، وما دونه من الأعمال التي هي من نوع الشرك كالرياء، وإن لم تكن مخرجة عن الملة، فالواجب تنزيه الله عز وجل عن ملاحظة العبد لغيره سبحانه في اعتقاده وفي أفعاله. وقوله:(والصلوات الخمس) أي: وعلى أداء الصلوات الخمس وقوله: (وأسرَّ كلمة خفية) أي تكلم بها في حال الإسرار دون الجهر بما قبلها، والسر ضد الجهر، وقوله:(لا تسألوا الناس شيئًا) تفسير للكلمة الخفية التي أسرها أي قال: لا تسألوا الناس شيئًا، وفي بعض الروايات: قال عوف: لقد رأيت بعض أولئك النفر؛ يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدًا يناوله إياه، وهذا من المبالغة في الوفاء بهذه البيعة الكريمة.
• الأحكام والفوائد
فيه: دليل على جواز معاهدة الوالي لبعض رعيته على القيام بأمور الشريعة، وإن كان هو قائمًا بها؛ لزيادة توكيد الحث على الطاعة، وفيه: البيعة على ذلك ونحوه، وفيه: عرض الوالي أو العالم على أصحابه مثل ذلك لأنه من باب التواصي بالحق، وفيه: تحذير الناس ولو كانوا مسلمين من الوقوع في الشرك أو الركون لغير الله تعالى، والحث على الصلوات والتنبيه على فضلها وعظم شأنها، وتنفير الناس من السؤال والأحاديث في ذلك كثيرة.
باب الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ
459 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُدْعَى الْمُخْدَجِيَّ سَمِعَ رَجُلًا بِالشَّامِ يُكْنَى أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُ: الْوِتْرُ وَاجِبٌ، قَالَ: الْمُخْدَجِيُّ: فَرُحْتُ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَاعْتَرَضْتُ لَهُ وَهُوَ رَائِحٌ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ، فَقَالَ عُبَادَةُ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ، مَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ: إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ".
1 -
قتيبة بن سعد: تقدم 1.
2 -
الإِمام مالك بن قيس: تقدم 2.
3 -
يحيى بن سعيد بن قيس: تقدم 23.
4 -
محمَّد بن يحيى بن حبان: تقدم 23.
5 -
عبد الله بن محيريز بن جنادة بن وهب بن لوذان بن سعد بن جمح بن عمرو بن هصيص الجمحي أبو محيريز المكي، من رهط أبي محذورة وكان يتيمًا في حجره، نزل الشام وسكن بيت المقدس، روى عن أبي محذورة وأبي سعيد الخدري ومعاوية وأبي صرمة الأنصاري وعبادة بن الصامت وعبد الله بن السعدي وأم الدرداء وغيرهم، وعنه عبد الملك بن أبي محذورة وعبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة ومحمد بن يحيى بن حبان ومكحول الشامي وبشر بن عبد الله الحضرمي وخالد بن دريك وأبو بكر بن حفص بن عمر بن سعد وغيرهم. قدّمه أبو زرعة على خالد بن معدان، وكان الأوزاعي لا يذكر خمسة من السلف إلا ذكر فيهم ابن محيريز، ورفع من ذكره وفضله. قال دحيم: رأيته أجلّ أهل الشام عند أبي زرعة بعد أبي إدريس وطبقته، وقال رجاء بن حيوة: إن كان أهل المدينة ليرون ابن عمر فيهم أمانًا، وإنا لنرى ابن محيريز فينا أمانًا، وقال الأوزاعي من كان مقتديًا فليقتد بمثل ابن محيريز. قال العجلي: شامي تابعي ثقة من خيار المسلمين، وقال ابن أبي خيثمة: لم يكن أحد بالشام يعيب الحجاج علانية إلا ابن محيريز، وفي الزهد لابن حنبل: وزاد: وأبو الأبيض العنسي، وقال له الوليد: لتنتهين عنه أو لأبعثن بك إليه، وذكره العقيلي في الصحابة وذكر حديثًا وهو إن صح محمول عندهم على غير هذا، وأما هذا فتابعي بإتفاق أهل النقل، وأنكر ابن عبد البر على العقيلي. قال ابن خراش: كان من خيار الناس وثقات المسلمين، وقال النسائي: ثقة مات سنة 99، وقيل: في خلافة الوليد، وهو قول ضعيف والله تعالى أعلم.
6 -
المخدجي الكناني، روى عن عبادة بن الصامت حديث الوتر، وعنه ابن محيريز: اسمه، رفيع وقيل: ابنه رفيع.
7 -
أبو محمَّد الأنصاري راوي حديث عبادة في الوتر، قيل: اسمه سبيع بن زيد من بني النجار، قال الخطابي: وقيل: قيس بن عبادة بن عبيد بن الحارث
الخولاني حليف بني حارثة، وقيل غير ذلك، سكن دمشق وقيل: داريا، ويقال: إنه ممن شهد بدرًا ومات بالمغرب، ويقال: كان عمًا ليحيى بن سعيد الأنصاري. قال ابن حجر: ذكره يونس عن ابن إسحاق في البدريين وسمّاه: مسعود بن أوس بن صرم بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، يقال: شهد فتح مصر، قال ابن سعد: توفي في خلافة عمر، وزعم ابن الكلبي أنه شهد صفين مع علي. روى محمَّد بن نصر في كتاب الوتر من طريق أبي محيريز عن أبي رافع: تذاكرنا الوتر فقال رجل من الأنصار يكنى أبا محمَّد من الصحابة.
8 -
عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن قيس بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج الخزرجي الأنصاري، أبو الوليد المدني أحد النقباء ليلة العقبة، شهد بدرًا وما بعدها، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعنه أبناؤه الوليد وداود وعبيد الله وحفيداه يحيى وعبادة، ومن أقرانه أبو أيوب الأنصاري وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله ورفاعة بن رافع وشرحبيل بن حسنة وسلمة بن المحبق وعبد الله بن محيريز وخلق كثير. قال ابن سعد: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي مرثد، وقال محمَّد بن كعب القرظي: هو أحد من جمعوا القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري في تاريخه الصغير. قال: وأرسله عمر إلى أهل فلسطين ليعلم أهلها القرآن، فأقام بها إلى أن مات بالرملة سنة 34 وهو ابن 72، وقيل: إنه بقي حتى توفي في خلافة معاوية، وقيل: توفي ببيت المقدس. قال ابن حبان: هو أول من تولى القضاء بفلسطين، قال سعيد بن عفير: كان طوله عشرة أشبار، والله تعالى أعلم.
• التخريج
أخرجه مالك وأحمد وأبو داود والدارمي وابن ماجه. قال ابن حجر: رواه مالك في الموطأ وأصحاب السنن وابن حبان وابن السكن من طريق ابن محيريز، وذكر المناوي أن العراقي صحّحه، وصحّحه السيوطي من طريق أبي رافع فذكر قول أبي محمَّد إلخ، وفي مسند الطيالسي شاهد له عن عبادة بن الصامت، وذكر ابن حجر أنه في كتاب قيام الليل لأبي نصر. وقوله "كذب أبو محمَّد" يعني به أخطأ، وهي لغة الحجازيين يقولون لمن أخطأ: كذب، ومما يدل على ذلك أن أبا محمَّد كان مفتيًا لا راويًا.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: (خمس صلوات) مرفوع بالإبتداء، وجملة (كتبهن) في محل رفع خبر و (كتبهن) أي افترضهن وقد تقدم ذلك، ولم ينص على كل واحدة منهن لأنهن معلومات عند الناس، وفي بعض الروايات: افترضهن، وهي بمعنى كتبهن، ويصح أن تكون جملة (كتبهن) صفة للصلوات، والخبر جملة الشرط وجوابه على قول من جوّز الإخبار بها. وقوله:(فمن جاء) الفاء استئنافية و (من) شرطية و (جاء) فعل الشرط يحتمل أن معناه: فعلهن، يقال: جاء بكذا إذا قاله أو فعله، ويحتمل أن المراد: جاء بهن يوم القيامة في صحيفة عمله كاملات من غير نقصان ولا تضييع لوقتهن، كما في الرواية: أحسن وضوءهن وصلّاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن. وقوله: (لم يضيّع منهن شيئًا) جملة حالية، وقوله:(استخفافًا) أي تهاونًا، أما إذا كان حصل شيء من ذلك على سبيل النسيان أو الإضطرار؛ فإنه لا يعدّ تهاونًا ولا استخفافًا. قوله:(كان له عند الله عهد) أي: وعد لازم منه سبحانه أن يدخله الجنة يوم القيامة، وهذا وأمثاله مما ورد في السنة محتمل لمعنيين: دخول الجنة من غير سابقة تطهير، وهذا هو المراد هنا إن شاء الله لأن الغالب على من وفّق للمحافظة على الصلاة أن يكون محسنًا في العمل، لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. والمعنى الثاني: أن يكون مآله الجنة ولو أُخذ ببعض الذنوب، وهذا ينطبق على الأحاديث الدالة على أن من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، أما هنا فالظاهر المعنى الأول. وفي الحديث دليل على فضل المحافظة على الصلوات، والأحاديث في معناه كثيرة مشهورة، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة كذلك كقوله:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} وقوله: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} إلى غير ذلك. وقوله: (فليس له عند الله عهد) أي: بدخول الجنة، بل هو تحت مشيئته إن كان من أهل التوحيد، ومن أهل النار إن لم يكن ممن مات على التوحيد، فإن شاء أدخله الجنة بفضله وكرمه وإن شاء أخذه بذنبه فعذبه، على ما تقدم من أنه إن كان من أهل التوحيد لا يخلد في النار، وإلا فهو مخلد فيها.
• الأحكام والفوائد
الحديث دليل على أن الفرض في الصلاة مقصور على الخمس، وأنه
ليس في الصلاة شيء واجب غيرهن كما تقدم في قوله: "هل علي غيرهن؟ قال: لا إلا أن تطوع" فهو حجة للجمهور في عدم وجوب الوتر، وسيأتي الكلام على ذلك وبيان حجة القائلين بالوجوب وهم الحنفية. وفيه: الحث على المحافظة على الصلاة كما تقدم، وفيه: تكذيب من قال في الدين ما يخالف النص ما لم يكن معه دليل، وفيه: حجة للجمهور القائلين بأن تارك الصلاة كسلًا من غير جحد لا يحكم بكفره، وسيأتي الكلام على ذلك، وفيه: حجة لأهل السنة والجماعة على أن مرتكب الكبيرة إذا مات على التوحيد يكون تحت مشيئة الله تعالى.
باب فَضْلِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ
460 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنِ ابْنِ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ " قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ:"فَكَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا".
• [رواته: 6]
1 -
قتيبة بن سعيد: تقدم 1.
2 -
الليث بن سعد الفهمي المصري: تقدم 35.
3 -
يزيد بن عبد الله بن الهاد: تقدم 90.
4 -
محمَّد بن إبراهيم التيمي: تقدم 75.
5 -
أبو سلمة بن عبد الرحمن: تقدم 1.
6 -
أبو هريرة رضي الله عنه: تقدم 1.
• التخريج
أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن حبان في صحيحه من وجهين: أحدهما كطريق المصنف، والثاني من رواية الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، وأخرجه أبو عوانة كرواية المصنف، ولأحمد بالإسنادين كرواية ابن حبان.
• اللغة والإعراب والمعنى
تقدم الكلام على قوله: (أرأيتم) مستوفى في آخر الطهارة، وهي كلمة تستعملها العرب للإستفهام، فإن كان عن حال المخاطب نحو: أرأيتك نفسك على أي حال؟ ضم التاء للمخاطب وكسر للمؤنثة وثنيت وجمعت وبترك الهمز أكثر، والكاف حينئذٍ مفعول به: وإن أردت الإستفهام عن غير المخاطب لزم التاء الفتح والإفراد، وفرّق بين المفرد وغيره بأداة الخطاب، وترك جائز فيها بل هو الأكثر في كلام العرب، فهي تجري عندهم مجرى: أخبرني إما عن نفسه وإما عن غيره، والهمزة للإستفهام التقريري وهو حمل المخاطب على الإعتراف: والتاء للخطاب وتقدم أنها في هذه الحالة تلزم الفتح والمعنى: أخبروني، وفي رواية بالكاف والميم ولا محل لهما من الإعراب، والميم للدلالة على الجمع. وقوله:(لو أن) الأصل في الإستعمال أن يلي (لو) فعل ويكون له جواب، قال الطيبي: وضع الإستفهام موضعه تقريرًا أو تأكيدًا والتقدير: لو ثبت أن نهرًا صفته كذا لما بقي من الدرن إلخ، وهو يأتي في العربية لوجوه خمسة أو ستة أحدها: أن يكون للدلالة على مجرد الشرط وهو ربط السبب بالمسبّب، وتقييد الإمتناع إما للجزءين: الشرط والجزاء، وإما للشرط، والجزاء إن ساوى الشرط امتنع وإلا فلا، ولإفادتها صح مجيء الإستدراك بعدها في قول الشاعر:
لو كان حمد يخلد الناس لم تمت
…
ولكن حمد الناس ليس بمخلد
والأول المشهور عند النحويين ورجح ابن هشام الثاني.
الوجه الثاني: أن تكون حرف شرط في المستقبل كما قال ابن مالك:
لو حرف شرط في مضي ويقل
…
إلاؤه مستقبلًا لكن قبل
فهي بمنزلة (إن) إلا أنها لا تجزم كقول أبي صخر الهذلي:
لو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا
…
ومن دون رمسينا من الأرض سبب
لظل صدى صوتي وإن كنت رمًّة
…
لصوت صدى ليلى يهش ويطرب
وسُمع الجزم بها، قيل: لغة وقيل: ضرورة شعر كما في قول الشاعر:
تامت فؤادك لو يحزنك ما صنعت
…
إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا
وقول الآخر:
ولو يشأ طار به ذو ميعة
…
لا حق إلا طال نهد ذو خصل
الوجه الثالث: أن تكون حرف مصدر بمنزلة (أن) إلا أنها لا تنصب، وأكثر ما تقع به ودّ ويودّ كقوله تعالى:{وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ} أي: غفلتكم، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} أي: كفركم. ومن وقوعها بدون ود قول قتيلة:
ما كان ضرك لو مننت وربما
…
منَّ الفتى وهو المغيظ المحنق
وقول الأعشى:
وربما فات قوم جل أمرهم
…
من التأني وكان الحزم لو عجلوا
وأكثر المعربين ينكرون المصدرية ويقولون: إنها في هذه الأمثلة شرطية وأن جواب الشرط ومفعول ودّ محذوفان. والرابع: التمني كقولك: لو تأتيني فتحدثني ومنه قوله تعالى: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)} نصب (نكون) لأنه جواب التّمني، وقيل: هي الشرطية ضمنت معنى التمني، ولهذا جمع لها بين جواب الشرط والتمني في قول مهلهل بن ربيعة:
فلو نبش المقابر عن كليب
…
فيخبر بالذنائب أي زيد
بيوم الشعثمين لقرَّ عينًا
…
وكيف لقاء من تحت القبور
الخامس: أن تكون للعرض، نحو قولك: لو تنزل عندنا فتصيب خيرًا، وزاد بعضهم أنها تكون للتقليل كقوله صلى الله عليه وسلم:(التمس ولو خاتمًا من حديد). وقوله: (لو أن) تقدم أن الأصل أن يلي (لو) الفعل، ولكنها تأتي بعدها (أن) كثيرًا كما قال ابن مالك رحمه الله:
وهي في الإختصاص بالفعل كأن
…
لكن لو أن بها تقترن
كما في الحديث، والفعل مقدر بعدها. وقوله:(نهرًا) بسكون الهاء وفتحها وهو الماء البخاري من واد ونحوه، والغالب أن لا يستعمل إلا في الذي يجري على الدوام، وقد تقدم الكلام عليه في حديث الإسراء قريبًا. وقوله:(باب أحدكم) صفة لنهر، وقوله:(يغتسل منه) أي فهو يغتسل أو: والحال أنه يغتسل منه من ذلك النهر، وقوله:(هل يبقى) هل للإستفهام، و (يبقى) أي: يترك (من درنه) بفتح الراء أي: وسخه، وفي رواية البخاري:(هل يبقى ذلك) أي: الإغتسال المذكور من دون المغتسل. وقوله: (فكذلك) أي: مثل تلك الهيئة التي إذا حصلت على هذا الوجه لا يبقى شيء من الدرن
بعدها، فكذلك هيئة صاحب المحافظة على الصلوات الخمس، فهو تشبيه هيئة بهيئة. والدرن هو الذنوب هنا لأنها بمثابة الوسخ الحسي، فالعرب تمثل الأخلاق بالمحسوسات، فإذا كان الشخص متصفًا بالأخلاق الحسنة قالوا فيه: نقي البدن أو الثياب، وبالعكس إذا كان دنيًا قالوا فيه: دنس الأخلاق، فكذلك حاله مع الذنوب كما قال الراجز:
اللهم إن عامر بن فهم
…
أو ذم حجا في ثياب دسم. اهـ.
وقد تقدم الكلام على هذا في الطهارة، فقوله:(فكذلك مثل الصلوات الخمس) أي يحصل لصاحبها من النظافة من الذنوب؛ ما يحصل لهذا المغتسل من نهر جار عند بابه كل يوم خمس مرات، من النظافة من الوسخ الظاهر على البدن، وظاهر هذا شمول الصغائر والكبائر. وقد تقدم في الطهارة أن مثل هذا مقيد بقوله في الحديث الآخر في الصلوات:(مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، وهذه الرواية ليس فيها أنهم ردوا عليه، وفي البخاري:(قالوا: لا يبقى من درنه شيء). والفاء في قوله: (فكذلك) بمعنى مثل أي: فمثل ذلك، وفائدة التمثيل التأكيد وجعل المعقول كالمحسوس. قال ابن العربي:(وجه التمثيل أن المرء كما يتدنس بالأقذار المحسوسة في بدنه وثيابه ويطهره الماء الكثير، فكذا الصلوات تطهر العبد من أقذار الذنوب حتى لا تبقي له ذنبًا إلا أسقطته) اهـ. قال ابن بطال: (يؤخذ من الحديث أن المراد الصغائر خاصة؛ لأنه شبه الخطايا بالدرن، والدرن صغير بالنسبة لما هو أكبر منه من الجروح والخراجات) اهـ. قال ابن حجر رحمه الله: (وهو مبني على أن المراد بالدرن الحب، والظاهر إن المراد به الوسخ لأنه هو الذي يناسب الإغتسال والتنظف، وقد جاء في حديث أبي سعيد الخدري التصريح بذلك، وهو ما أخرجه البزار والطبراني بإسناد لا بأس به من طريق عطاء بن يسار أنه سمع أبا سعيد الخدري يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أرأيت لو أن رجلًا كان له معتمل وبين منزله ومعتمله خمسة أنهار، فإذا انطلق إلى معتمله عمل ما شاء الله فأصابه وسخ أو عرق، فكلما مرّ بنهر اغتسل منه، الحديث). اهـ. قال القرطبي: (ظاهر الحديث أن الصلوات الخمس تستقل بتكفير جميع الذنوب، لكنه مقيد كما قدمنا بحديث أبي هريرة في مسلم: (الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما
اجتنبت الكبائر) وله نظائر بهذا القيد، ويدل عليه قوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} . وقد اشتكل كون الآية نصت على أن اجتناب الكبائر مكفر للصغائر، وحينئذٍ فما الذي تكفره الصلاة؟ والجواب عنه: أن معنى الآية في الحقيقة معنى الحديث، لأن أول اجتناب الكبائر فعل الصلوات وقد أخبر تعالى عنها أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، مع أن الأحاديث الواردة في تكفير الذنوب قد تقدم أنها تدل على حصول ذلك بالوضوء، وقالوا: إن من لم تكن له سيئات رُفعت درجاته بحسب ما كان يكفّر عنه من السيئات) والله أعلم.
• الأحكام والفوائد
الحديث فيه: التنبيه للأمة على فضائل الأعمال ليجتهدوا، لأن الإنسان يرغبه في العمل ويخفف عليه مؤونته إذا علم نتيجته، ومن هنا حصل الفرق بين المؤمن والمنافق، وفيه: ضرب المثل لتقريب الأمور لأذهان السامعين، وفيه: فضل المحافظة على الصلوات، ولا يتم ذلك إلا بالمحافظة على طهارتها وسائر شروطها وقد تقدم ذلك، ويؤخذ منه عدم وجوب شيء من الصلوات غير الخمس.
461 -
أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ قَالَ: أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ".
• [رواته: 5]
1 -
الحسين بن حريث: تقدم 52.
2 -
الفضل بن موسى السيناني: تقدم 100.
3 -
الحسين بن واقد أبو عبد الله المروزي قاضي مرو ومولى عبد الله بن كريز، روى عن عبد الله بن بريدة وثابت البناني وثمامة بن عبد الله بن أنس وأبي إسحاق السبيعي وأبي الزبير وعمرو بن دينار وأيوب السختياني وأيوب خوط وغيرهم، وعنه الأعمش وهو أكبر منه والفضل بن موسى السيناني وابناه علي والعلاء ابنا الحسين وعلي بن الحسين بن شقيق وأبو ثميلة وزيد بن
الحباب وعبد الله بن المبارك وغيرهم. قيل لابن المبارك من الجماعة محمَّد بن ثابت والحسين بن واقد وأبو حمزة السكري قال أحمد بن شبويه: ليس فيهم شيء من الإرجاء، وقال ابن المبارك أيضًا: من لنا مثل الحسين، وعن أحمد: ليس به بأس، وقال ابن حبان: كان على قضاء مرو وكان من خيار الناس، وربما أخطأ في الرواية، وقال ابنه: مات أبي سنة 159 وقيل: 157، وعن أحمد: ما أنكر حديث حسين بن واقد عن أبي المنيب أنكر أحمد حديثه وقال: في حديثه زيادة ما أدري أي شيء ونفض يده، وعن أبي داود: ليس به بأس، وقال ابن سعد: كان حسن الحديث، وقال الساجي: فيه نظر وهو صدوق يهم، والله أعلم.
4 -
عبد الله بن بريدة: تقدم 391.
5 -
بريدة بن الحصيب: تقدم 133.
• التخريج
أخرجه الإِمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح، والحاكم وابن حبان في صحيحه.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: (إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة) يحتمل أن المراد بالعهد ما تقدم في قول عبادة: كان له عهد عند الله، ويحتمل أن المراد بالعهد هنا: الفرق بيننا وبينهم، والمراد الكفار بدليل قوله: فقد كفر، كما في الحديث الآخر:"بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة"، الحديث. (فمن تركها فقد كفر) الفاء واقعة في جواب الشرط، وقوله:(فقد) يحتمل أن المراد الخروج من الدين وحينئذٍ يكون الترك المراد الجحد أو استحلال ذلك، وهو موجب بإتفاق إلا أن يكون حديث عهد بالكفر ولم يعرف الإِسلام معرفة صحيحة، ويحتمل أن المراد الترك تكاسلًا وبه قال جماعة من العلماء، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى، ويحتمل أن المراد الترك في التكاسل، والكفر المراد به أنه عمل عمل الكفار، أو إطلاق الكفر الذي لا يخرج من الملة، كقوله للنساء:"إنهن يكفرن" ثم فسّر الكفر بكفران النعمة وكفران العشرة. وقد اختلف العلماء
في حكم تارك الصلاة تكاسلًا مع الإقرار بوجوبها، واختلفوا في عقوبته، فذهب الجمهور ومنهم مالك والشافعي ورواية عن أحمد إلى أنه لا يخرج من الملة بذلك، ولكنه إن لم يصلّ قتل بالسيف حدًا كقتل الزاني المحصن وقتل القود. واستدلوا بأدلة: منها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وبحديث عبادة بن الصامت السابق:(ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه)، ويشهد له أحاديث الشفاعة في خروج من مات على الشهادة من النار. واستدلوا على وجوب قتله بقوله تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} ، فشرط في تخلية سبيلهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وحديث ابن عمر:(أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم) الحديث وهو متفق عليه، وحملوا الأحاديث المصرحة باسم الكفر على أن المراد: إما ترك المستحل وهو محل اتفاق لما قدمنا، أو أن المراد الكفر الذي لا يخرج من الملة، أو أنه فعل الفعل أو استحق عقوبة الكافر التي هي القتل. وذهب الإِمام أحمد في الرواية الأخرى وحكي وجهًا لأصحاب الشافعي ويروى عن علي وبه قال ابن المبارك وإسحاق بن راهويه؛ إلى أنه كافر وقتله لكفره، ومال الشوكاني إلى القول بكفره حسب ظاهر الحديث، ولكن كلامه يدل على أنه كفر المعاصي الموجب للفسق دون الخروج من الملة، فإنه قال:(والحق أنه كافر يقتل، فإن الأحاديث قد صحت في أن الشارع سمى تارك الصلاة بذلك الاسم، وجعل الحائل بين الرجل وبين إطلاق هذا الاسم عليه هو الصلاة، فتركها مقتضٍ لجواز الإطلاق، ولا يلزمنا شيء من المعارضات التي ذكرها الأولون، لأنا نقول: لا يمنع أن يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة واستحقاق الشفاعة، ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التي سماها الشارع كفرًا) اهـ. المراد منه. وذهب أبو حنيفة والمزني صاحب الشافعي وجماعة من أهل الكوفة؛ إلى أنه لا يكفر ولا يقتل بل يحبس ويعزر حتى يصلي، واحتجوا لعدم القول بكفره بحديث:"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" الحديث، وهو مفهوم والمنطوق يقدم عليه.
باب الْمُحَاسَبَةِ عَلَى الصَّلَاةِ
462 -
أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ الْخَزَّازُ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ حُرَيْثِ بْنِ قَبِيصَةَ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ قَالَ: قُلْتُ اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي جَلِيسًا صَالِحًا فَجَلَسْتُ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ: فَقُلْتُ: إِنِّي دَعَوْتُ اللَّهَ عز وجل أَنْ يُيَسِّرَ لِي جَلِيسًا صَالِحًا، فَحَدِّثْنِي بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ بِصَلَاتِهِ، فَإِنْ صَلَحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ". قَالَ هَمَّامٌ: لَا أَدْرِي هَذَا مِنْ كَلَامِ قَتَادَةَ أَوْ مِنَ الرِّوَايَةِ: فَإِنِ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَيُكَمَّلُ بِهِ مَا نَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ. خَالَفَهُ أَبُو الْعَوَّامِ.
• [رواته: 7]
1 -
أبو داود بن سيف الحراني: تقدم 136.
2 -
هارون بن إسماعيل الخزاز أبو الحسن البصري، روى عن علي بن المبارك وهمام بن يحيى وقرة بن خالد والصعق بن حزن وعبد الله بن شميط بن عجلان، وعنه أبو موسى محمَّد بن المثنى والفلاس وحجاج بن الشاعر وإسحاق بن منصور الكوسج وعبيد الله بن منير وأبو داود الحراني وعبد بن حميد وغيرهم. قال أبو حاتم: محله الصدق، كان عنده كتاب من علي بن المبارك وكان متاجرًا، وقال أبو داود: لا بأس به، سمعت الحسن بن علي يقول: الخزاز شيخ ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة 206.
3 -
همام بن يحيى بن دينار الأزدي المحملي مولاهم أبو عبد الله ويقال: أبو بكر البصري، روى عن عطاء بن أبي رباح وإسحاق بن طلحة وزيد بن أسلم وأبي حمزة الضبعي وقتادة ومحمد بن حجامة ونافع مولى ابن عمرو ثابت البناني وزيادة بن سعد وزياد الأعلم وحسين المعلم وابن جريج وغيرهم، وعنه الثوري وهو من أقرانه وابن المبارك وابن علية ووكيع وابن مهدي وأبو سعيد مولى بني هاشم ويزيد بن هارون وأبو داود وأبو الوليد
الطيالسي وحجاج بن منهال وآخرون يكثر عددهم. كان يحيى بن سعيد يعترض على همام في كثير من حديثه فلما قدم معاذ نظرنا في كتبه فوجدناه يوافق همامًا في كثير مما كان يحيى ينكره، فكفّ يحيى بعد عنه، قال يزيد بن هارون كان همام قويًا في الحديث، وعن أحمد، كان ثبتًا في كل المشايخ، وعنه: كان عبد الرحمن يرضاه، وعنه: سمعت ابن مهدي يقول: همام عندي في الصدق مثل ابن أبي عروبة، وعن أحمد أيضًا: ثقة وهو أثبت من أبان العطار في يحيى بن أبي كثير، وعن ابن معين: كان يحيى بن سعيد يروى عن أبان ولا يروي عن همام، وهمام عندنا أفضل من أبان، وقال ابن معين أيضًا: ثقة صالح وهو أحب إلي في قتادة من حماد بن سلمة، وقال أيضًا: همام في قتادة أحب إلي من ابن أبي عوانة، وقال فيه وفي أبان: ما أقربهما كلاهما ثقتان قال عمرو بن علي الأثبات من أصحاب قتادة: ابن أبي عروبة وهشام وشعبة وهمام قال ابن المبارك همام ثبت في قتادة، وقال يزيد بن زريع: همام حفظه رديء وكتابه صالح، وقال ابن سعد: كان ثقة ربما غلط في الحديث، قال أبو حاتم: ثقة صدوق في حفظه شيء، وهو أحب إلي من حماد بن سلمة وأبان العطار في قتادة. قال أحمد بن حنبل: شهد يحيى بن سعيد في حداثته شهادة فلم يُعدِّله همام فنقم عليه، وهمام أشهر وأصدق من أن ينكر له حديث، وأحاديثه مستقيمة عن قتادة، وهو متقدم في يحيى بن أبي كثير، مات سنة 163 وقيل:164. قال ابن مهدي: ظلم يحيى بن سعيد همام بن يحيى، لم يكن له به علم ولم يجالسه. قال عفان: كان همام لا يكاد يرجع إلى كتابه ولا ينظر فيه، وكان يخالف فلا يرجع إلى كتابه، ثم رجع بعد فنظر في كتبه فقال: يا عفان كنا نخطئ كثيرًا فنستغفر الله تعالى. اهـ. وهذا يقتضي أن حديث همام بآخره أصح مما سمع منه قديمًا، وقد نص على ذلك أحمد، ووثقه العجلي والحاكم وزاد: حافظ، وقال الساجي: صدوق سيء الحفظ، ما حدث من كتابه فهو صالح وما حدث من حفظه فليس بشيء، وقال البردجيني: صدوق يكتب حديثه ولا يحتج به. اهـ.
4 -
قتادة بن دعامة: تقدم 34.
5 -
الحسن البصري: تقدم 36.
6 -
حريث بن قبيصة وهو قبيصة بن حريث الأنصاري البصري، روى عنه سلمة بن المحبّق وعنه الحسن البصري. قال البخاري: في حديثه نظر، وقال الترمذي في حديث حريث بن قبيصة عن أبي هريرة: رواه بعض أصحاب الحسن عنه عن قبيصة بن حريث، والمشهور هو قبيصة بن حريث. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: مات في الطاعون الجارف سنة 67، وجهله ابن القطان، وقال النسائي: لا يصح حديثه، وذكر أبو العرب التميمي أن أبا الحسن العجلي قال: قبيصة بن حريث تابعي ثقة، وأفرط ابن حزم فقال: ضعيف مطروح والله أعلم.
7 -
أبو هريرة: تقدم 1.
• التخريج
أخرجه الترمذي وأبو داود لكن رواه من طريق أنس بن حكيم الضبّي، ومرة عن رجل من بني سليط، وذكر له رواية أخرى من حديث تميم الداري ساق إسنادها. أما رواية أنس بن حكيم فقد أُعلَّت بالإضطراب والجهالة، كما في ترجمة أنس في التهذيب، ورواه ابن ماجه كرواية أبي داود عن أنس بن حكيم الضبَّي، ورواه أيضًا من حديث تميم الداري: حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي: حدثنا سليمان بن حرب: حدثنا حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن زرارة بن أوفى عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث، وهذا إسناد صحيح، وكذا رواه أبو داود من طريق موسى بن إسماعيل: حدثنا حماد، كرواية ابن ماجه السابقة عن تميم، فالحديث عن تميم صحيح. أما رواية المصنف لحديث أبي هريرة وكذا رواية غيره له فكلها معلولة إما بالجهالة أو الإضطراب، ولكن قد يقال: إن بعضها يقوي؛ بعضًا فتصل إلى درجة الحسن لغيره، وعلى ذلك يحمل قول الترمذي فيه: حسن غريب من هذا الوجه، ويشهد له ما أخرجه السيوطي في الجامع الصغير وعزاه للطبراني في الأوسط والضياء في المختارة وحسن سنده:"أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة" الحديث. قال الهيثمي: فيه القاسم بن عثمان، قال: له أحاديث لا يتابع عليها، وقال ابن حبان: هو ثقة ربما أخطأ.
• الإعراب واللغة والمعنى
قوله: (قلت: اللهم يسر لي جليسًا صالحًا) تقدم الكلام على لفظ (اللهم) وأن الأصل فيها: يا الله، حذف حرف النداء وعوّض منه الميم. وقوله:(جليسًا) أي مجالسًا وهو من يجلس كثيرًا مع الإنسان ويحادثه، (صالحًا) أي من أهل الصلاح لأن النبي صلى الله عليه وسلم رغّب في الجليس الصالح، وهو الذي يذكرك بالله ويدلك على الخير، إذا أردت خيرًا أعانك عليه، وقد ضرب له النبي صلى الله عليه وسلم المثل المشهور ببايع الطيب الذي تجد منه الريح إن لم تشتر منه أو يحذيك. وقوله:(فجلست إلى أبي هريرة) أي معه وفي بعض الروايات: (فدخلت المسجد فجلست. . .) إلخ، فهي تدل على أنه جلس معه في المسجد، وقوله:(بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي ليس بينك وبينه واسطة فيه (لعل الله أن ينفعني به) أي بالعمل بمقتضاه، وقوله:(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) جملة (يقول) في محل نصب على الحال، وقوله:(إن أول ما يحاسب) مقول القول ولهذا كسرت الهمزة من إن، و (ما) اسم موصول في محل جر بالإضافة، وصلتها جملة: يحاسب به العبد، وقوله:(العبد) أي الشامل للذكر والأنثى ولكن المراد به المؤمن دون غيره، وقوله:(يحاسب به) أي عليه، والمراد النظر فيه: هل هو على الوجه الأكمل أو غيره؟ ويحتمل أن هذا من جملة العرض لأن مناقشة الحساب لا تكون لأكثر المسلمين، كما في حديث عائشة:"من نوقش الحساب عذب قالت: قلت: ألم يقل الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} قال: إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب عذب". وأما الكافر فقد قال الله في حقه: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} وقوله: (بصلاته) الباء يحتمل أنها زائدة لأن الرواية الأخرى بحذفها، وإن كان الأصل عدم زيادتها في خبر (إن)، ويحتمل أن الأصل: يحاسب بصلاته، فحذف الفعل لدلالة السياق عليه أي: على صلاته المعروضة، بدليل آخر الحديث فإن فيه ذكر التطوع بعد ذلك، فدل على أن الأول الفرض. وهذا لا يعارض الحديث الآتي للمصنف:(إن أول ما يقضى فيه بين العباد في الدماء) لأن ذلك بالنسبة إلى حقوق الآدميين، وهذا بالنسبة لحق الله فيما بينه وبين عبده فأوله الصلاة. وقوله:(فإن صلحت) أي وجدت صالحة أي تامة على الوجه المطلوب شرعًا، بأن أتم سننها وآدابها
وخشوعها وأذكارها وأدعيتها، بعد الشروط التي تشترط لها وأركانها. والصلاح ضد الفساد والمعنى: وجدت في صحيفته على الوجه المطلوب شرعًا كاملة، كما تقدم في حديث عبادة:(من جاء بهن ولم يضيع شيئًا منهن. . .) الحديث. وقوله: (فقد أفلح) الفاء واقعة في جواب الشرط، وأفلح أي نال الفلاح وهو: الظفر بالمطلوب والنجاة من المكروه، ويطلق على البقاء كما قال لبيد:
نحل بلادًا كلها حلّ قبلنا
…
ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير
وقول الشاعر:
لو كان حيًا مدرك الفلاح
…
أدركه ملاعب الرماح
ويطلق على السحور كما في حديث: "حتى خشيت أن يفوتنا الفلاح" يعني السحور. وأصل اللفظ من الشق، ومنه سمي الفلَّاح لأنه يشق الأرض، والأفلح: مشقوق الشفة السفلى كما يقال لمشقوق العليا: أعلم. والفلاح هنا فيه معنى البقاء، وفيه معنى النجاة من المكروه والظفر بالمطلوب، والمرامي العالية لا تنال غالبًا إلا بالتعب كما قال الشاعر:
تريد إدراك المعالي رخيصة
…
ولابد دون الشهد من إبر النحل
ودخول الجنة مستلزم البقاء فيها. وقوله: (أنجح) النجاح هو الحصول على المراد، فهو بمعنى الفلاح فيكون ذكره من باب التوكيد. وقوله:(وإن فسدت) الفساد ضد الصلاح ولهذا قابله به وتفسيره هنا: نقصانها وعدم تمامها كما تقدم، وقوله:(قال همام: لا أدري) شك منه في رفع هذا الأخير من الحديث، وسيأتي التصريح برفعه في الرواية التالية، وقوله:(أو من الرواية) أي من الحديث المرفوع. وقوله: (فإن نقص من فريضته شيء) بإسناد الفعل إلى شيء، بمعنى أنها لم تكن كاملة وهو بأمرين: النقص المخل بالصحة وعدم الفعل فيكون نقصًا في أصل الفرض، أو النقص في المتممات من السنن والمستحبات، والأول أظهر للإطلاق، فإن لفظ شيء هنا نكرة في سياق الشرط، والأصل فيها العموم ولم يصحبها ما يدل على التخصيص. وقوله:(ما نقص من الفريضة) كذلك ظاهر العموم، وقوله:(قال) أي الله عز وجل للملائكة: (انظروا هل لعبدي من تطوع) أي في صحيفة عمله، وليس ذلك خافيًا على الله ولكن لإظهار ما للعبد من تقصير أو تشمير في طاعته، وقوله:(لعبدي) بياء
الإضافة، فيه نوع من الإيناس والإطماع في سعة الرحمة، وقوله:(من تطوع) التطوع ما زاد على الفرض، وهو في الصلاة ما عدا الصلوات الخمس كما تقدم في قوله:(إلا أن تطوع)، وقوله:(فيكمل به) أي بالتطوع إن كان له (ما نقص من الفريضة) أي من فرضه، فهو على الإحتمالين السابقين في المراد بالنقص في الفريضة. قال ابن العربي:(الأظهر عندي: أي يكمل ما نقص من هيئة الصلاة وأعدادها بنفل التطوع، لقوله صلى الله عليه وسلم أي في غير هذه الرواية: "ثم الزكاة كذلك الصلاة وسائر الأعمال" وليس في الزكاة إلا فرض وفضل فكما يكمل فرض الزكاة بنفلها كذلك وفضل الله أوسع ووعده أنفذ وعزمه أعمّ وأتمّ) اهـ. وفي مرقاة الصعود عن القرافي في شرح الترمذي أنه قال: (هذا الذي ورد من إكمال ما ينقص العبد من الفريضة بما له من التطوع، يحتمل أن يراد به ما انتقص من السنن والهيئات المشروعة المرغب فيها من الخشوع والأذكار والأدعية، وأنه يحصل ثواب ذلك في الفريضة وإن لم يفعله في الفريضة وإنما فعله في التطوع، ويحتمل أن يراد ما ترك من الفرائض رأسًا فلم يصلّه فيعوّض عنه من التطوع، والله تعالى يقبل من التطوعات الصحيحة عوضًا عن الصلاة المفروضة، والله سبحانه يفعل ما يشاء فله الفضل والمنة، بل له أن يسامح ولم يصلّ شيئًا لا فريضة ولا نفلًا) اهـ. وقوله: (ثم يكون سائر أعماله) أي يحاسب على سائر أعماله على نحو ما حوسب عليه في الصلاة: يكمل الفرض من النفل، فالمراد بقوله:(نحو ذلك) أي مثل ذلك الحساب المذكور في الصلاة، مع ما يجري فيه من تكميل الفرض الناقص من النفل إن وجد. وقوله:(خالفه أبو العوام) أي خالف همامًا أبو العوام، فرواه على الوجه الآتي في الرواية الثانية.
• الأحكام والفوائد
الحديث فيه دليل على وقوع الحساب على الأعمال يوم القيامة -نسأل الله اللطف بنا- كما قال تعالى: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، وأن أول الحساب يكون على الصلاة بالنسبة لما بين العبد وبين الله، والظاهر أن المراد به العرض، ويحتمل أن المراد به النوعين: الحساب اليسير والمناقشة. وفيه: دليل على أن الصلاة أعظم أركان الإِسلام بعد الشهادتين، وعلى أن المحافظة عليها من أعظم وسائل السعادة، فهي أهم أمور الدين، والأحاديث في معنى
ذلك كثيرة، وكذلك دل عليه القرآن في عدة آيات كقوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ .. } . وفيه: التحذير من تضييعها، وفيه: الحث على الإكثار من التطوع وبيان فضله، لأنه يكون وسيلة إتمام الفرائض، وأن ذلك لا يختص تطوع الصلاة، وفيه: بيان كرم الله على عباده المؤمنين ورحمته بهم.
463 -
أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ يَعْنِي ابْنَ زِيَادِ بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَنْهُ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَوَّامِ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ بن زياد عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَلَاتُهُ؛ فَإِنْ وُجِدَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ تَامَّةً، وَإِنْ كَانَ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْءٌ قَالَ: انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ، يُكَمِّلُ لَهُ مَا ضَيَّعَ مِنْ فَرِيضَةٍ مِنْ تَطَوُّعِهِ؟ ثُمَّ سَائِرُ الأَعْمَالِ تَجْرِي عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ.
• [رواته: 7]
1 -
سليمان بن سيف الحراني: تقدم 136.
2 -
شعيب بن بيان بن زياد بن ميمون الصفار البصري القسملي، روى عن عمران القطان أبي العوام وشعبة وأبي ظلال وسلام بن مسكين، وروى عنه أبو داود الحراني وإبراهيم بن المستمر العروقي وأحمد بن علي العمي ومحمد بن يزيد الأسفاطي ومهلب بن العلاء ومحمد بن يوسف الكرمي، وقال: كتب عنه علي بن المديني، وروى له النسائي حديثًا واحدًا في الصلاة، وقال الجوزجاني: له مناكير، وقال العقيلي: حدث عن الثقات بالمناكير، وكان يغلب على حديثه الوهم. ذكره ابن حبان في الثقات ولم ينسبه بل قال: شعيب بن بيان يروي عن يزيد المزي عن الحسن وعنه عبد الله بن الحارث، فما أدري هو ذا أم غيره؟ ذكره ابن حجر. اهـ. والله أعلم.
3 -
أبو العوام عمران بن داود العمي أبو العوام القطان البصري، روى عن قتادة ومحمد بن سيرين وأبي حمزة الضبعي وأبي إسحاق الشيباني وإبان بن أبي عياش وحميد الطويل وسليمان التيمي ويحيى بن أبي كثير ومعمر بن راشد ومحمد بن جحادة وغيرهم، وعنه ابن مهدي وأبو داود الطيالسي ومسلم بن قتيبة وسهل بن تمام وشعيب بن بيان ومحمد بن بلال وعبد الله بن رجاء
الغداني والضحاك بن مخلد وآخرون. قال عمرو بن علي: كان ابن مهدي يحدث عنه، وكان يحيى لا يحدث عنه، وذكره يحيى يومًا فأحسن الثناء عليه، وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث، وعن ابن معين: ليس بالقوي، ومرة قال: ليس بشيء، لم يرو عنه يحيى بن سعيد، وقال أبو داود: هو من أصحاب الحسن وما سمعت إلا خيرًا، ومرة قال: ضعيف أفتى في أيام إبراهيم بن حسن فتوى شديدة فيها سفك الدماء، وقدّم أبو داود هلال الراسبي عليه تقديمًا شديدًا، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه وذكره ابن حبان في الثقات، وعن ابن زريع: كان حروريًا يرى السيف على أهل القبلة، ورد عليه ابن حجر بأنه: إنما أفتى إبراهيم بفتوى تورّع بها، وذلك أن إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن حسن كانا خرجا على المنصور، لأن المنصور قد بايع محمَّد بن عبد الله بالخلافة في آخر دولة بني أمية، فلما ذهبت دولتهم وولي المنصور طلب محمدًا ففرّ منه، فألحّ عليه فحمله ذلك على الخروج عليه، فخرج هو بالمدينة وأخوه إبراهيم بالبصرة حتى قتلا. قال ابن حجر: فالظاهر أن أبا العوام أفتاه بما يوافق رأيهما، فلهذا نقم عليه المحدثون. قلت: وهذا بعيد من النسبة إلى الحرورية، بل لعلّه تأوّل في ذلك. وقال الساجي: صدوق ووثقه عفان، وقال العقيلي من طريق ابن معين: كان يرى رأي الخوارج ولم يكن داعية، وقال الترمذي قال البخاري: صدوق يهم. قال ابن شاهين: كان من أخصّ الناس بقتادة، وقال الدارقطني: كان كثير المخالفة والوهم، وقال العجلي: بصري ثقة، وقال الحاكم: صدوق، وأورد له العقيلي عن قتادة عن سعيد بن الحسن عن أبي هريرة حديث:"ليس شيء أكرم على الله من الدعاء". قال: لا يتابع عليه بهذا اللفظ ولا يعرف إلا به. اهـ.
4 -
قتادة بن دعامة: تقدم 36.
5 -
الحسن بن زياد البصري: الظاهر أن كلمة: بن زياد؛ مقحمة لأنه لا يعرف شيخ لقتادة ولا في طبقته بهذا الاسم، بل الظاهر أنه الحسن البصري عن أبي رافع.
6 -
أبو رافع اسمه نفيع بن نافع الصانع: تقدم 19.
7 -
أبو هريرة: تقدم 1.
بعض ما يتعلق بالحديث.
هذه رواية للحديث السابق، وقد تقدم شرحه وتخريجه. قوله:(فإن وجدت تامة) أي إن وجدها في صحيفته تامة كتبت له تامة، وذلك معنى قوله السابق:(ففد أفلح)، و (تامة) المفعول الثاني لـ"وجد"، والأول الضمير المستكن المرفوع على أنه نائب فاعل. وقوله:(يكمل له ما ضيع من فرضه) دليل لما تقدم من أنه يعم جميع النقص الحاصل في الفرض، وقوله:(ثم سائر أعماله) أي: تجري على ذلك الحال كما تقدم.
464 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ قَالَ: أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ الأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ صَلَاتُهُ، فَإِنْ كَانَ أَكْمَلَهَا وَإِلَّا قَالَ اللَّهُ عز وجل: انْظُرُوا لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ، فَإِنْ وُجِدَ لَهُ تَطَوُّعٌ قَالَ: أَكْمِلُوا بِهِ الْفَرِيضَةَ.
• [رواته: 6]
1 -
إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: تقدم 2.
2 -
النضر بن شميل: تقدم 45.
3 -
حماد بن سلمة: تقدم 288.
4 -
الأزرق بن قيس الحارثي: بصري، روى عن ابن عمر وأنس وأبي برزة الأسلمي وعسعس بن سلامة ويحيى بن يعمر وشريك بن شهاب وغيرهم، وعنه سليمان التيمي والحمادان وشعبة والمنهال بن خليفة وغيرهم. قال ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال الدارقطني: ثقة، مأمون وذكره ابن حبان في الثقات وقال: مات في ولاية خالد على العراق، والله أعلم.
5 -
يحيى بن يعمر البصري أبو سليمان ويقال: أبو سعيد ويقال: أبو عدي القيسي الجدلي قاضي مرو، روى عن عثمان وعلي وعمار وأبي ذر وأبي هريرة وأبي موسى الأشعري وأبي سعيد وعائشة وسليمان بن صرد وابن عباس وابن عمر وجابر وجماعة، وعنه يحيى بن عقيل وسليمان التيمي وعبد الله بن
بريدة وقتادة وعكرمة وعطاء الخراساني والركين بن الربيع والأزرق بن قيس وإسحاق بن سويد وغيرهم. قال أبو زرعة والنسائي وأبو حاتم: ثقة، ونفى أبو داود سماعه من عائشة، وعن هارون بن موسى: أول من نقط المصاحف يحيى بن يعمر، وعن عبد الملك بن عمير: فصحاء العرب ثلاثة: موسى بن طلحة ويحيى بن يعمر وقبيصة بن جابر، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان من فصحاء أهل زمانه وأكثرهم علمًا باللغة مع الورع الشديد، وكان على قضاء مرو ولاه قتيبة بن مسلم عليها، وقال الدارقطني: لم يلق عمارًا إلا أنه صحيح الحديث عمن لقيه، وقال أبو داود: بينه وبينه رجل، وقال ابن سعد: كان نحويًا صاحب علم بالعربية والقرآن، كان يقضي باليمين وكان ثقة. قال الحاكم: فقيه أديب نحوي مروزي تابعي، وأكثر روايته عن التابعين وأخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي، نفاه الحجاج إلى مرو فقبله قتيبة بن مسلم، وقد قضى في أكبر مدن خراسان وكان إذا انتقل من بلد استُخلف على القضاء بها. قال علي بن الأثير في الكامل: مات سنة 129 وفيه نظر، وقال غيره: مات في حدود العشرين، وقال أبو الفرج: مات سنة 89، وقيل: إن قتيبة عزله لما بلغه أنه يشرب المنصف، والله أعلم.
6 -
أبو هريرة: تقدم 1.
تقدم شرح حديث أبي هريرة هذا وما يتعلق به في الرواية الأولى.
باب ثَوَابِ مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ
465 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي صَفْوَانَ الثَّقَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُوهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمَا سَمِعَا مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ ذَرْهَا "كَأَنَّهُ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ".
• [رواته: 6]
1 -
محمَّد بن عثمان بن أبي صفوان بن مروان بن عثمان بن أبي العاص
الثقفي أبو عبد الله وقيل: أبو صفوان البصري وقيل في نسبه غير ذلك، روى عن أبيه عثمان بن أبي صفوان ويحيى بن سعيد القطان وابن مهدي وأمية بن خالد الأزدي وبهز بن أسد العميِّ ومعاذ بن هشام ويحيى بن كثير العنبري وسلمة بن سعيد بن عطية ووهب بن جرير وغيرهم، وعنه أبو داود والنسائي وأبو حاتم وأبو زرعة وأبو بكر بن أبي عاصم وأبو بكر بن علي الرازي وسهل بن موسى شيروان وأبو بكر بن أبي داود وغيرهم. قال أبو حاتم: ثقة، وقال النسائي: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: مات سنة 250 أو قبلها بقليل أو بعدها بقليل، وقيل: سنة 252 والله أعلم.
2 -
بهز بن أسد العمِّي: تقدم 28.
3 -
شعبة بن الحجاج: تقدم 26.
4 -
محمَّد بن عثمان بن موهب التيمي مولى آل طلحة، روى عن موسى بن طلحة عن أبي أيوب أن رجلًا قال: يا رسول الله أخبرني .. الحديث، رواه شعبة عنه وعن أبيه جميعًا عن موسى بن طلحة. قال البخاري: أخشى أن يكون محمَّد غير محفوظ وإنما هو عمرو بن عثمان، وهكذا رواه القطان وابن نمير وغير واحد عن عمرو بن عثمان عن موسى، وذكره أبو يحيى بن أبي ميسرة أن محمدًا هذا أخ لعمرو والله أعلم.
5 -
عثمان بن عبد الله بن موهب التيمي أبو عبد الله ويقال: أبو عمرو المدني الأعرج مولى آل طلحة وقد ينسب إلى جده، روى عن ابن عمر وأبي هريرة وأم سلمة وجابر بن سمرة وجعفر بن أبي ثور وعبد الله بن أبي قتادة وموسى بن طلحة والشعبي وحمدان بن أبان، وعنه ابنه عمرو وشعبة وشيبان وقيس بن الربيع وإسرائيل والثوري وسلّام بن أبي مطيع وشريك بن عبد الله وأبو عوانة وغيرهم. قال ابن معين: ثقة، وكذا قال النسائي وأبو داود ويعقوب بن شيبة والعجلي، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: مات سنة 160 والله أعلم.
6 -
موسى بن طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي أبو عيسى ويقال: أبو محمَّد المدني، نزل الكوفة وأمه خولة بنت القعقاع بن سعيد بن زرارة، روى عن أبيه وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام وأبي ذر
وأبي أيوب وحكيم بن حزام وعثمان بن أبي العاص وأبي هريرة وأبي اليسر السلمي ومعاوية وعبد الله بن عمرو وعائشة رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم، وعنه ابنه عمران وحفيده سليمان بن عيسى بن موسى وابنا أخيه إسحاق وطلحة ابنا يحيى بن طلحة وابن أخيه الآخر موسى بن إسحاق بن طلحة وابن ابن أخيه موسى بن عبد الله بن إسحاق بن طلحة وعثمان بن موهب وابنه عمرو وأبو مالك سعد بن طارق وحكيم بن جبير والحكم بن عتيبة. قال الواقدي: رأيت من قبلنا وأهل بيته يكنونه أبا عيسى، وكان ثقة كثير الحديث، وقال الزبير بن بكار: كان من وجوه آل طلحة، وعن أحمد: ليس به بأس، وقال العجلي: كان خيارًا، وقال مرة: كوفي ثقة رجل صالح، وقال أبو حاتم: يقال إنه أفضل آل طلحة بعد محمَّد كان يسمَّى في زمانه المهدي. قال ابن خراش: كان من أجلاء المسلمين، ويقال: إنه شهد الجمل مع أبيه وأطلقه علي بعد أن أسر، ويقال: إنه فرَّ من الكوفة إلى البصرة لما ظهر المختار بن أبي عبيد، وتقدم عن عبد الملك بن عمير أنه قال: فصحاء الناس ثلاثة: يحيى بن يعمر وموسى بن طلحة وقبيصة بن جابر، وروي أنه صحب عثمان ثنتي عشرة سنة، وقيل: إنه ولد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه هو الذي سماه. مات سنة 103 وقيل: 104 وقيل: 106 والله أعلم.
7 -
أبو أيوب: تقدم.
• التخريج
أخرجه البخاري ومسلم وأحمد.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: (أن رجلًا قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة) لم يصرح أحد باسم هذا السائل، إلا أن قتيبة ذكر أنه أبو أيوب، ورُدّ بأن الرواية الأخرى فيها: أن أعرابيًا، وأبو أيوب لا يوصف بذلك، ويجوز تكرار القصة فيكون أبو أيوب سأل وسأل غيره. وقد روى البغوي والطبراني في الكبير وابن السكن وأبو مسلم الكج من طريق محمَّد بن جحادة وغيره عن المغيرة بن عبد الله اليشكري أن أباه حدثه قال: انطلقت إلى الكوفة فدخلت المسجد، فإذا
رجل من قيس يقال له: ابن المنتفق وهو يقول: وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر القصة إلى قوله:(فأخذت بخطام ناقته فما غيّر علي فقلت: شيئين أسألك عنهما: ما ينجيني من النار وما يدخلني الجنة؟ ) وذكر الحديث. هكذا نقله ابن حجر لاحتمال أن تكون واحدة، والسائل المبهم هناك هو ابن المنتفق وهذا جائز، وجائز أيضًا تكرار القصة كما تقدم مرة أو مرتين. فعلى فرض اتحاد القصة فيكون المبهم فيها كلها هو ابن المنتفق، وعلى فرض التعدد يجوز أن يكون أبو أيوب سأل وابن المنتفق هو الأعرابي في حديث أبي هريرة، كما يجوز أن يكون أعرابيًا آخر سأل مثل سؤالهما والله أعلم: وقوله: (يدخلني الجنة) الجملة صفة لـ (عمل)، وفيها إسناد إدخال الجنة للعمل وقد ثبت الحديث بأنه ليس يدخل أحد عمله الجنة، ولا تعارض لأن الإسناد إلى السبب في مثل هذا جائز، والعمل الصالح سبب رضاء الله الموصل إلى دخول الجنة، قال تعالى:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} فالمعنى: بعمل إذا عملته يرضي الله عني فيدخلني الجنة. (فقال صلى الله عليه وسلم: تعبد الله ولا تشرك به شيئًا) أي توحّده، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} فالمعنى: تفرّد الله بالعبادة دون من سواه لأن العرب كانوا يعبدون الأوثان ويدعونها شركاء لله، فلهذا كان أول ما ينبغي أن يرشدوا إليه بطلان عملهم الذي أشركوا فيه مع الله غيره، وقوله:(شيئًا) نكرة في سياق النفي فهي تعم، فلا يلاحظ العبد في الطاعة غير جانب الله وإلا كان مشركًا فيها، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم الرياء الشرك الخفي والشرك الأصغر. وقوله:(تعبد الله) إما أن يكون الفعل هنا بمعنى المصدر كأنه قال: عبادة الله، أو يكون المضارع هنا بمعنى الأمر، (ولا تشرك) يحتمل التوكيد ويحتمل التفسير لقوله:(تعبد الله). وقوله: (وتقيم الصلاة) أي تداوم على فعلها كاملة مع مراعاة شروطها وآدابها. وإقامة الشيء: فعله على الوجه الأكمل، وقد جاء في الحديث: فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة. وقوله: (وتؤتي الزكاة) أي تخرجها في وقت وجوبها على الوجه المطلوب شرعًا، كما سيأتي بيانه إن شاء الله. وقوله:(وتصل الرحم) صلة الرحم: الإحسان إلى من بينك وبينه قرابة، وتتفاوت بتفاوت أحوال القرابة، فأعظمها وأهمها بر الوالدين أحياء وأمواتًا، ثم ما دون ذلك على
حسب حال القريب، فمنهم من يكون يحتاج إلى الصلة في المواساة بالمال، ومنهم من يحتاج إليها بالبدن ونحوه، وكل ذلك داخل في صلة الرحم. وقوله:(ذرها) فعل أمر، والغالب كما تقدم أن هذه المادة لا يستعمل منها إلا الأمر والمضارع، فإذا أريد غيرهما استعمل الترك. وقوله:(كأنه. . .) إلخ قد جاء مصرحًا به في رواية أبي هريرة: أنه كان آخذًا بخطام ناقته صلى الله عليه وسلم؛ وهي المراد بالراحلة، وهذه الجملة من كلام بعض الرواة غير أبي أيوب.
• الأحكام والفوائد
الحديث فيه: السؤال عن أمور الدين بصفة عامة، وفيه: إطلاق دخول الجنة بالأعمال على أنها سبب له لا أنها تفعل، بل لا تستقل به إلا بفضل من الله. وفيه: الإهتمام بأمر الإخلاص لأنه أساس العبادة، قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ، وفيه: دليل على أن أهم شيء بعد ذلك الصلاة ثم الزكاة، كما جاء في أحاديث كثيرة بل وفي آيات من كتاب الله. وفيه: دليل على تحتم صلة الرحم، وتقدم أنها تشمل سائر البر لسائر القرابات، وأهمها بر الوالدين ولو كانا كافرين كما قال تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ. . .} الآية، ولكن لا يجوز موالاتهم وهم كفار، ووجوب صلة الرحم يحتم على الإنسان معرفة قراباته، كما جاء مرفوعًا:"تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم". وفي الإقتصار في التعليم على هذا القدر مع كثرة وظائف الدين؛ ما يدل على أهمية المذكور، وأما الصيام والحج فلعل السائل كان حاله منبئًا عن كونه قد عرف ذلك مع دخوله في عبادة الله. وأما التنصيص على صلة الرحم فمن المحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قد عرف من حال السائل أنه مقصر في ذلك، وهو كثيرًا ما يجيب على حسب حاله والله أعلم.
باب عَدَدِ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الْحَضَرِ
466 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ سَمِعَا أَنَسًا قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ.
• [رواته: 5]
1 -
قتيبة بن سعيد: تقدم 1.
2 -
سفيان بن عيينة: تقدم 2.
3 -
محمَّد بن المنكدر: تقدم 138.
4 -
إبراهيم بن ميسرة الطائفي نزيل مكة، روى عن أنس ووهب بن عبد الله بن قارب وله صحبة وطاووس وسعيد بن جبير وعمرو بن الشريد وغيرهم، وعنه أيوب وشعبة والسفيانان ومحمد بن مسلم الطائفي وابن جريج وغيرهم. قال البخاري عن علي: له نحو ستين حديثًا أو أكثر. قال الحميدي عن سفيان: كان من أوثق الناس وأصدقهم، وقال أحمد ويحيى والعجلي والنسائي: ثقة. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال أبو حاتم: صالح، وذكر ابن حبان في الثقات: مات قريبًا من سنة 132.
5 -
أنس بن مالك: تقدم 6.
• التخريج
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأحمد.
والحديث يأتي شرحه في قصر الصلاة في السفر إن شاء الله، والمراد منه هنا التصريح بأن الظهر في الحضر أربعًا، وتقدم حديث عائشة في ذلك.
باب صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي السَّفَرِ
467 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهَاجِرَةِ -وقَالَ: ابْنُ الْمُثَنَّى إِلَى الْبَطْحَاءِ- فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ.
• [رواته: 6]
1 -
محمد بن المثنى: تقدم 80.
2 -
محمَّد بن بشار: تقدم 27.
3 -
محمَّد بن جعفر: تقدم 22.
4 -
شعبة بن الحجاج: تقدم 26.
5 -
الحكم بن عتيبة: تقدم 104.
6 -
أبو جحيفة وهب بن عبد الله السُّوائي: تقدم 137.
الحديث تقدم في الطهارة وسيأتي بأخصر من هذه الرواية، وتأتي زيادة الكلام عليه في الأذان إن شاء الله، ويأتي حكم القصر بمكة في بابه إن شاء الله تعالى.
باب فَضْلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ
468 -
أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ وَابْنُ أَبِي خَالِدٍ وَالْبَخْتَرِيُّ بْنُ أَبِي الْبَخْتَرِيُّ كُلُّهُمْ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَنْ يَلِجَ النَّارَ مَنْ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا".
• [رواته: 7]
1 -
محمود بن غيلان: تقدم 37.
2 -
وكيع بن الجراح: تقدم 25.
3 -
مسعر بن كدام: تقدم 8.
4 -
إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي مولاهم، روى عن أبيه وأبي جحيفة وعبد الله بن أبي أوفى وعمرو بن حريث وأبي كاهل -وهؤلاء صحابة، وعن زيد بن وهب ومحمد بن سعد وأبي بكر بن عمارة بن رويبة وقيس بن أبي حازم وأكثر عنه، وشبيل بن عوف وابنه الحارث بن شبيل وطارق بن شهاب والشعبي وغيرهم من كبار التابعين، وعن جماعة من أقرانه وعن إخوانه أشعث وخالد والنعمان وسعيد وغيرهم، وعنه شعبة والسفيانان وزائدة وابن المبارك وهشيم ويحيى القطان ويزيد بن هارون وعبيد الله بن موسى وهو آخر من حدّث عنه مطلقًا. قال الثوري حفاظ الناس ثلاثة: إسماعيل بن أبي خالد وعبد الملك بن أبي سليمان ويحيى بن سعيد الأنصاري، وقال في إسماعيل: هو أعلم الناس بالشعبي وأثبتهم فيه، وقال مروان بن معاوية: كان إسماعيل
يسمى الميزان، وقال علي: قلت ليحيى بن سعيد: ما حملت عن إسماعيل بن الشعبي صحاح؟ قال: نعم، وقال البخاري عن علي: له نحو ثلاثمائة حديث، وقال أحمد: أصح الناس حديثًا عن الشعبي ابن أبي خالد، ووثقه ابن معين وابن مهدي والنسائي والعجلي، وقال: وكان ضمانًا، وقال ابن عمار الموصلي: حجة، وقال يعقوب بن أبي شيبة: كان ثقة ثبتًا، وقال أبو حاتم: لا أقدم عليه أحدًا من أصحاب الشعبي وهو ثقة. قال البخاري وأبو نعيم: مات سنة 146، قال الخطيب: حدث عنه الحكم بن عيينة ويحيى بن هاشم وبين وفاتيهما نحو مائة وعشر سنين، ونفى ابن المديني سماعه من أنس وإبراهيم التيمي وروايته عن أبي وائل، قال: ورأى أنسًا، ونفى ابن معين سماعه من أبي ظبيان: وقال يعقوب بن سفيان: كان أميًا حافظًا ثقة، وقال هشيم: كان إسماعيل فاحش اللحن يقول: حدثني فلان عن أبوه، قال العجلي: كان ثقة ثبتًا في الحديث، وربما أرسل عن الشعبي وكان صاحب سنة، وكان لا يروي إلا عن ثقة، وقال يحيى بن سعيد: مرسلات أبي خالد ليست بشيء. قال أبو نعيم في الحلية في ترجمة داود الطائي: أدرك إسماعيل اثني عشر ألفًا من الصحابة، منهم من سمع منه ومنهم من رآه رؤية، والله تعالى أعلم.
5 -
البختري بن أبي البختري المختار بن رويح العبدي، روى عن أبي بكر وأبي بردة ابني أبي موسى الأشعري وأبي بكر بن عمارة وغيرهم، وعنه شعبة وقال: كان كخير الرجال، وعيسى بن يونس ووكيع وقال: كان ثقة، وابن ابن أخيه محمَّد بن بشر بن الفرافضة بن المختار العبدي وغيرهم. قال ابن المديني: ثقة، وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه، وقال ابن عدي: ليس له كثير رواية ولا أعلم له حديثًا منكرًا، مات سنة 148. قال المزي: فرّق في الأصل بين البختري بن أبي البختري وبين البختري بن المختار، وهما واحد والحديث الذي أخرجاه لهما واحد، وهو من رواية وكيع عنه عن أبي بكر بن عمارة بن رويبة. قال ابن حجر رحمه الله: سبقة إلى التفرقة بينهما البخاري وابن حبان في الثقات، فذكر ابن أبي البختري في التابعين، ثم قال في أتباع التابعين: البختري بن المختار كان يخطئ، وأرّخ وفاته كما قال عمرو بن علي أي: سنة 148. والله أعلم.
6 -
أبو بكر بن عمارة بن رؤيبة -بالهمز مصغرًا ويروى بالواو مصغرًا من غير همز- الثقفي البصري، روى عن أبيه وعنه إسماعيل بن أبي خالد وعبد الملك بن عمير وأبو إسحاق ومسعر. وثقه ابن حبان، وقال ابن حجر في التقريب: مقبول من الثالثة، وسقطت ترجمته من التهذيب في مطبوعة حيدرآباد.
7 -
أبو عمارة بن رؤيبة الثقفي أبو زهير الكوفي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن علي وعنه ابنه أبو بكر وأبو إسحاق السبيعي وعبد الملك بن عمير وحصين بن عبد الرحمن، وذكر ابن حجر أن الراوي عن علي غيره لأنه روى عنه أنه خيَّره بين أبيه وأمه، فهذا يدل على صغره وأنه ليس أيضًا بالصحابي الذي يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: ولكن لا يلزم نفي آخر روى عن علي وهو صحابي والله أعلم.
• التخريج
أخرجه مسلم وأبو داود وابن خزيمة والبيهقي.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: (لن يلج) لن حرف نفي بمعنى الحصول في المستقبل على التأبيد، وقيل: إنها لا تدل على التأبيد إلا بالقرينة، وكذلك إفادتها للتوكيد بالقرينة، وهي حرف وضع على ما هو عليه. وزعم بعض النحويين أن أصلها وأصل (لم): لا؛ قلبت الألف ميمًا في (لم) ونونًا في (لن) وزعم بعضهم أن أصلها: لا أن؛ فنقلت حركة الهمزة وحذفت وحذف الألف قبلها، وقد زيّن كلًا من القولين ابن هشام رحمه الله. وعملها النصب في الفعل المضارع، وسمع الجزم في قول كثير بن عبد الرحمن المعروف بكثير عزة:
أيادي سبايا عز ما كنت بعدكم
…
فلن يحل للعين بعدك منظر
وقول الآخر:
لن يخب الآن من رجائك من
…
حرّك من دون بابك الحلقه
الشاهد من الأول قوله: يحل، بفتح اللام وحذف حرف العلة لأنه من: حلى يحلى: إذا راق للعبد واستحسنه، وأما من الطعم فيقال فيه: حلا يحلو كغزا يغزو. أما من الثاني فالشاهد في قوله: "لن يخب" لأن أصله: يخيب؛
فسكن الباء للجزم، فحذفت الياء التي هي العين لإلتقاء الساكنين، ولولا تسكين الباء لم تحذف. ومن بعض الروايات: لا يلج، بدل: لن يلج. وقوله: (يلج) أي يدخل، وهي من الأفعال التي أعلمت بحذف لامها لأنها من: فعل يفعل؛ بكسر العين، وهذا الوزن إذا جاء فاؤه واوًا حذف في المضارع المبدوء بالياء، وألحقوا به الأمر والمرة وعد يعد وولج يلج، والأصل: يوعد ويولج، فوقعت الواو ساكنة بين الكسرة والياء فحذفت، على هذه القاعدة المشار إليها بقول ابن مالك:
فا أمر ومضارع من كوعد احذف
…
وفي كعدة ذاك الطرد
(النار) هنا يصلح فيه أن تعرب مفعولًا به على رأي من يرى أن قولك: دخلت الدار؛ أن الدار منصوب على المفعولية، والصحيح عندهم في مثل هذا أن الفعل غير متعد، والمنصوب منصوب على الظرفية، واللازم ينصب الظرف. وقوله:(من) موصول في محل رفع فاعل (يدخل) والتعبير بـ (من) أعم من غيره فإنها من صيغ العموم (صلى) أي الصلاة المفروضة، حذف المفعول للعلم به، وقوله:(قبل طلوع الشمس) أي صلاة الصبح، ولا ينافي ذلك أن التغليس بها وفعلها في أول الوقت أفضل لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على فعله، إلا أن من صلاها قبل طلوع الشمس متأخرًا لا يأثم، وأجر المقدم أعظم كما هو الشأن في سائر الصلوات. وقوله:(قبل غروبها) يعني العصر، وقد ورد النهي عن تأخيرها إلى الغروب وأنه فعل المنافقين، وقوله:(لن يلج النار) أي بصفة الخلود إن مات على ذلك، بدليل النصوص التي دلت على أن الأعمال بالخواتيم. وظاهر الحديث أن هذا الوعد لمن صلى من هذين الوقتين ولو مرة، وليس ذلك مرادًا بالإجماع وإنما المراد المواظبة على ذلك، فهو كقوله تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} . وهاتان الصلاتان تقعان في أوقات يصعب على كثير من الناس المحافظة عليهما إلا بتوفيق من الله، بل المحافظة على الصلوات كلها كذلك قال تعالى:{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} . ويحتمل أن المراد عدم دخوله النار مطلقًا، وهو ظاهر الإطلاق في الحديث لأنهما مشهودتان بأن يجتمع فيهما ملائكة بالليل وملائكة النهار، كما في حديث أبي هريرة المشهور وحديث الصحيحين: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس
بينه وبينه ترجمان، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا"، والمراد هنا أنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا.
• بعض فوائد الحديث
وفي الحديث دليل على فضل هاتين الصلاتين والحث على فعلهما، وأنه لا يوفق للمحافظة عليهما إلا من أراد الله به الخير. وفيه: حث على العبادة ببيان فضلها وعظم أجرها عند الله، وهذا من وظيفة الرسل ويدل.
باب الْمُحَافَظَةِ عَلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ
469 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا فَقَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الآيَةَ فَآذِنِّي: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ، فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا فَأَمْلَتْ عَلَيَّ:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} -وَصَلَاةِ الْعَصْرِ- {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، ثُمَّ قَالَتْ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
• [رواته: 6]
1 -
قتيبة بن سعيد: تقدم 1.
2 -
مالك بن أنس: تقدم 7.
3 -
زيد بن أسلم: تقدم 80.
4 -
القعقاع بن حكيم الكناني: تقدم 40.
5 -
أبو يونس مولى عائشة، روى عن عائشة وعنه زيد بن أسلم وأبو طوالة والقعقاع بن حكيم ومحمد بن أبي عتيق، وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية، وذكره ابن حبان في الثقات. له في صحيح مسلم وفي السنن حديثان عن عائشة، وروى له البخاري في الأدب حديثًا آخر، وذكره مسلم في الطبقة الأولى من المدنيين والله أعلم.
6 -
عائشة رضي الله عنها: تقدمت 5.
• التخريج
أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي ومالك والشافعي وأحمد.
• اللغة والإعراب والمعنى
قولها: (إذا بلغت هذه الآية) أي كتبت ما قبلها حتى وصلت إلى محلها، وقولها:(فآذنّي) أي أعلمني، لأن هذا اللفظ بتصاريفه بمعنى الإعلام، والفاء واقعة في جواب الشرط. وقوله:(فأملت علي) يروى: وأمللت وهما لغتان: أمليت وأمللت، يقال: أمللت الكتاب أملله إملالًا: ألقيته عليه؛ لغة أهل الحجاز، وعليها قوله تعالى:{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} ، وأمليته أمليه إملاءً: لغة تميم، وعليه قوله تعالى:{فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} . وقوله: {حَافِظُوا} هذا متن الآية الكريمة من سورة البقرة، وعطف الصلاة الوسطى على الصلوات من باب عطف الخاص على العام، كقوله تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} إلخ وكقوله: {لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} ، وعكسه عطف العام على الخاص وذلك في قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)} ، والغرض من التخصيص بعد التعميم عندهم الإهتمام بالشيء أكثر. و (الوسطى) تأنيث الوسط، وقد اختلفوا في تعيينها فقيل: إنها الصبح لأنها وسط بين ليليتين ونهاريتين سرّيتين وجهريتين، وقيل: الظهر لأنها وسط النهار وهي بين نهاريتين وبين سرّية وجهرية، وقيل: المغرب لأنها بين سريتين وجهريتين، وقيل: العشاء لأنها بين صلاتين جهريتين، وقيل: العصر لأنها بين ليليتين ونهاريتين، أقواها من حيث الدليل بالنص صلاة العصر لورود الحديث صريحًا في ذلك، ويليه القول بأنها الصبح. وقصة عائشة هذه تدل على أنها غير العصر، لأنها عطفتها عليها فاقتضى ذلك أنها غيرها، ومثلها قصة حفصة فإنها قرأتها بواو العطف، ومثله عن أم سلمة. وقد ذهب إلى أنها العصر: علي وابن مسعود وأبو أيوب. وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة من الصحابة، ومن غيرهم: عبيدة السلماني والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة والضحاك والكلبي ومقاتل وأبو حنيفة وأحمد وأبو داود وابن المنذر، وقال الترمذي: هو قول أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم، ومن الدليل لهم الحديث الآتي:"شغلونا عن الصلاة الوسطى" فإنه في
رواية مسلم التصريح بأنها العصر وكذا عند غيره، وهو عند أحمد والترمذي من حديث سمرة: صلاة الوسطى صلاة العصر، وعند ابن جرير من حديث أبي هريرة: الصلاة الوسطى صلاة العصر، ومن طريق سلمة بن كهيل: سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى؟ فقال: اختلفنا فيها ونحن بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفينا أبو هاشم بن عتبة فقال: أنا أعلم لكم. فقام فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إلينا فقال: أخبرنا أنها العصر، ومن حديث أبي مالك الأشعري:"الصلاة الوسطى صلاة العصر". وروى الترمذي وابن حبان من حديث ابن مسعود مثله، وروى ابن جرير من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال: كان في مصحف عائشة: حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى وهي صلاة العصر، وذهب عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن عباس وابن عمر وجابر من الصحابة، ومن غيرهم: عطاء وعكرمة ومجاهد والربيع بن أنس ومالك والشافعي إلى أنها الصبح، لأنها تأتي في وقت مشقة في الصيف بفتور الأعضاء وطيب النوم، وفي الشتاء في وقت شدة البرد، وبما ورد من الحث عليها بما رواه ابن جرير من طريق عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي قال: صليت خلف ابن عباس الصبح فقنت فيها ورفع يديه ثم قال: "هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين"، يعني أنها المرادة في الآية، ولعل هذا أقوى ما استدل به القائلون أنها الصبح، غير أنه لا يقاوم الأحاديث المتقدمة، وتقدم أنه ما من صلاة إلا وقد قيل إنها الوسطى. والقول بأنها الظهر منقول عن زيد بن ثابت وأسامة بن زيد وأبي سعيد وعائشة وعبد الله بن شداد ورواية عن أبي حنيفة، مستدلين بحديث زيد بن ثابت عند المصنف وأبي داود:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاة أشد على الصحابة منها، فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} ". قلت: ليس فيه التصريح بكونها الظهر فلا يعارض ما تقدم، وروي عن أسامة مثل ذلك، وسيأتي للمصنف وهو عند أحمد. وقال قبيصة بن ذؤيب: هي المغرب، ونقله ابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس، وذهبت الأمية إلى أنها العشاء، واختاره الواحدي، وذهب إمام الحرمين من الشافعية إلى أنها الصلوات كلها، وبه قال الربيع بن خيثم وسعيد بن جبير وشريح، واحتجوا بما روي عن زيد بن ثابت
أنه سئل عنها؟ فقال للسائل: حافظ على الصلوات تصبها، وعلى هذا تكون مخبوءة في الصلوات كساعة الإجابة في يوم الجمعة، وكذا ليلة القدر في رمضان واسم الله الأعظم في سائر أسمائه. وعند جماعة من السلف أنها الصلوات المفروضات، وأن الآية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} تناولت الفرض والنفل ثم خص الفرض بمزيد تأكيد، وهو قول ابن عمر ومعاذ بن جبل، وبه قال ابن عبد البر. وقال ابن حبيب: إنها الجمعة ورجحه أبو شامة، وقيل: هي صلاة الجماعة، ونقلوا عن الدمياطي أنه ألّف جزءًا مستقلًا فيها سماه: كشف الغطا عن الصلاة الوسطى؛ فأبلغها تسعة وعشرين قولًا. وأقوى ما يتمسك به من قال: إنها غير العصر؛ حديث الباب، ومثله عند مسلم وأحمد والبيهقي من حديث البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر؛ فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله فنزلت:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} . فقال رجل: هي إذن العصر فقال: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله، وحديث عمرو بن رافع عند مالك والبيهقي قال: كنت أكتب مصحفًا لحفصة فذكر مثل حديث أبي يونس، وهو عند ابن جرير من وجه آخر، وروى ابن المنذر من طريق عبيد الله بن رافع عن أم سلمة مثل ذلك.
470 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ عَنْ أَبِي حَسَّانَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَلِيٍّ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ".
• [رواته: 7]
1 -
محمَّد بن عبد الأعلى: تقدم 5.
2 -
خالد بن الحارث الهجيمي: تقدم 47.
3 -
شعبة بن الحجاج: تقدم 26.
4 -
قتادة بن دعامة: تقدم 34.
5 -
أبو حسان الأعرج ويقال: الأجرد أيضًا، بصري اسمه مسلم بن عبد الله، روى عن علي وابن عباس وأبي هريرة وعائشة وابن عمرو وناجية بن
كعب والأشتر والأسود بن يزيد وغيرهم، وعنه قتادة وعاصم الأحول. قال أبو حاتم: زعموا أن ابن سيرين كان يروي عنه، قال أحمد: مستقيم الحديث أو مقارب الحديث، ووثقه ابن معين وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال يعقوب بن شيبة: قلت لابن المديني: من روى عن أبي حسان غير قتادة، قال: لا أعلم، وذكره ابن حبان في الثقات. قال العجلي: ويقال: إنه كان يرى رأي الخوارج، وقال ابن عبد البر: هو عندهم ثقة في حديثه، بعد أن ذكر أن الأجرد الذي يمشي على ظهر قدميه، وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله تعالى. وقال البخاري وابن حبان: قتل يوم الحرورية سنة 130.
6 -
عبيدة بن عمرو السلماني المرادي ويقال: ابن قيس -وهو بفتح العين- أبو عمرو الكوفي، أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ولم يلقه، قاله هشام بن محمَّد وغيره عنه. روى عن علي وابن مسعود وابن الزبير، وعنه عبد الله بن سلمة المرادي وإبراهيم النخعي وأبو إسحاق السبيعي ومحمد بن سيرين وأبو حسان الأعرج وأبو البختري الطائي وعامر الشعبي وغيرهم. قال الشعبي: كان شريح أعلمهم بالقضاء، وكان عبيدة يوازيه. قال العجلي: كوفي ثقة تابعي جاهلي أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ولم يره، وكان من أصحاب علي وعبد الله، وكان ابن سيرين من أروى الناس عنه. وقال ابن نمير: كان شريح إذا أشكل عليه الأمر كتب إلى عبيدة، قال ابن سيرين: ما رأيت رجلًا أشدّ توقيًا منه، وكان ما روى عن إبراهيم عن عبيدة -سوى رأيه- فإنه عن عبد الله إلا حديثًا واحدًا، وقال البخاري في تاريخه: أوصى عبيدة أن يصلي عليه الأسود، خشي أن يصلي عليه المختار فبادر فصلى عليه، ذكراه عن بشار عن ابن مهدي عن شعبة عن ابن حصين، وهذا إسناد صحيح، ورواه ابن سعد أيضًا عن أبي داود عن شعبة. ومقتضى القول بأنه مات بعد السبعين سنة 72 أو 73 أو أربع وسبعين، كلها أقوال في موته، والأثر الصحيح عن البخاري يدل على أنه مات في ولاية المختار بن أبي عبيد على الكوفة، والمختار قتل بلا خلاف سنة 67 سبع وستين. وعدَّه ابن المديني من فقهاء أصحاب ابن مسعود، وقال ابن معين: ثقة لا يسأل عن مثله، وقال عمرو بن علي الفلاس وعلي بن المديني: أصح الأسانيد محمَّد بن سيرين عن عبيدة عن علي، وقال العجلي:
كل شيء روى محمَّد عن عبيدة -سوى رأيه- فهو عن علي، وكل شيء روى عن إبراهيم، فذكر ما تقدم. والله تعالى أعلم.
7 -
علي بن أبي طالب رضي الله عنه: تقدم 9.
• التخريج
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه والدارمي والطيالسي وابن الجارود وأحمد، وأشار له الترمذي.
• اللغة والإعراب والمعنى
هذه الرواية مختصرة وهو عند غير المصنف فيه الدعاء على المشركين، وقوله:(شغلونا) أي بالمناوشة في القتال، وذلك في غزوة الخندق وهي في شوال سنة خمس من الهجرة، ففي بعض الأيام اشتغل المسلمون بقتال القوم حتى فاتهم وقت العصر، وكان ذلك قبل نزول صلاة الخوف. ولفظ مسلم:(شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا) وعند أبي داود: (حبسونا) وفي بعض الروايات التصريح بأنها العصر، وبذلك تظهر مناسبة الحديث للترجمة، ويظهر الإستدلال به على أن الوسطى هي العصر. وتقدم الخلاف فيها في الحديث السابق، وأن الراجح من حيث النقل أنها العصر والله أعلم.
• الأحكام والفوائد
الحديث احتج به من قال بجواز تأخير الصلاة لعذر القتال، وهو ظاهر صنيع البخاري، والأكثرون على أن هذا منسوخ بصلاة الخوف.
باب مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ
471 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْمَلِيحِ قَالَ: كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي يَوْمٍ ذِى غَيْمٍ فَقَالَ: بَكِّرُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ".
• [رواته: 7]
1 -
عبد الله بن سعيد اليشكري: تقدم 15.
2 -
يحيى بن سعيد القطان: تقدم 4.
3 -
هشام الدستوائي: تقدم 25.
4 -
يحيى بن أبي كثير: تقدم 24.
5 -
أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي: تقدم 380.
6 -
أبو المليح بن أسامة بن عمير بن عامر الهذلي وقيل: زيد بن أسامة: تقدم 139.
7 -
بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: تقدم 133.
• التخريج
أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه وأحمد وابن خزيمة.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: (كنا مع بريدة) هو ابن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدمت ترجمته. وقوله:(في يوم ذي غيم)(ذي غيم) صفة ليوم، والغيم: السحاب، وقيل: أن لا ترى الشمس من الدجين، وجمعه: غيوم وغيام بكسر الغين. قال أبو حبَّة النميري:
يحول بها المذلق مذرياه
…
خروج النجم من صلع الغيام
وفي رواية البخاري: "في غزوة في يوم ذي غيم"، ومحل قوله:(في يوم ذي غيم) النصب على الحال. وقوله: (بالصلاة) أي عجّلوا، والتبكير بالشيء: تعجيله في أول وقته، ومنه: باكورة الثمر أي أوله، وقوله:(بالصلاة) دل آخر الحديث على أنها العصر. وقوله: (فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم) الفاء تومئ للعلة، وقوله:(من ترك صلاة العصر) تخصيص في الحديث بالوعيد يدل على أنها هي الصلاة المعنية في الحديث، وبذلك تظهر مناسبة الحديث للترجمة. والترك هنا ظاهر الحديث أنه مطلق، فيكون فيه حجة للخوارج في التكفير بالذنب، وحجة لأحمد والظاهرية في تكفير تارك الصلاة من غير جحد، وقد تقدم الكلام على ذلك عند حديث: من تركها فقد كفر، والفاء داخلة لتضمن الموصول معنى
الشرط. وقوله: (حبط) بكسر الباء: بطل؛ يقال: حبط يحبط من باب علم، وأحبطه غيره، والحبط: انتفاخ بطن الدابة إذا أصابت مرعى طيبًا واسترسلت في الأكل، ومنه حديث مسلم في الزكاة:(إن مما ينبت الربيع مما يقتل حبطًا، أو يلم إلا آكلة الخضر) الحديث، وإذا انتفخ بطن الدابة على هذا الوجه ربما ماتت بسببه، فشبّه فساد العمل وعدم حصول الإنسان على الثواب بذلك. وزاد معمر في روايته: متعمدًا، وكذا عند أحمد من حديث أبي الدرداء، وقد علل ذلك بأن العصر في يوم الغيم قد يحمل الإنسان حب المحافظة عليها على أن يصليها قبل وقتها، وقد يحمله الإحتياط على العكس، فلهذا صرح بريدة بالأمر بالتبكير لكن بشرط دخول الوقت ولو بالتقدير.
• الأحكام والفوائد
احتج به -على ما قال العيني- الحنفية على استحباب تعجيل العصر في يوم الغيم، وتقدم أن الخوارج يحتجون به على مذهبهم في التكفير بالمعاصي، فهو عندهم كقوله تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} . ورد عليهم ابن عبد البر بأن مفهوم الآية: أن من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله، فتعارض مفهوم الآية مع منطوق الحديث، وإذا كان كذلك يتعين تأويل الحديث لأن الجمع إذا كان ممكنًا كان أولى من الترجيح. وقد اختلفوا في وجه تأويل الحديث الذي يحصل به الجمع على أقوال، أقربها عندي للصواب اثنان هما: أن المراد بالترك: الترك المصحوب بالجحد أو الإستهزاء الذي ينزل منزلته، وهذا لا إشكال فيه إلا أنه قد يقال: إن سبب الحديث لا يساعد عليه، وقد يجاب عن ذلك بأنه ذكره الصحابي للحديث على وجه المبالغة في مخالفة الجاحد أو المستهزئ. الثاني: ما اختاره ابن بزيزة أنه خرج مخرج الزجر والتغليظ وظاهره غير مراد، كقوله:(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث. ومنها: أن هذا من مجاز التشبيه أي هو شبيه بمن حبط عمله، ومنها: أن المراد بإحباط العمل عمل خاص: وهو ما شغله عن الصلاة، وقيل غير ذلك مما فيه تكلف. والحديث في الجملة وعيد شديد على التفريط في صلاة العصر؛ لأنها كما تقدم قيل: إنها الوسطى، وهي مع التي تجتمع فيها الملائكة: ملائكة الليل وملائكة النهار، والغالب تأتي الإنسان في ختام عمل النهار، فهو يحب الإستمرار فيه والله أعلم.
باب عَدَدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي الْحَضَرِ
472 -
أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَنْبَأَنَا مَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنَّا نَحْزُرُ قِيَامَ النبي صلى الله عليه وسلم فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الظُّهْرِ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً قَدْرَ سُورَةِ السَّجْدَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ وَفِى الأُخْرَيَيْنِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ الأُخْرَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ.
• [رواته: 6]
1 -
يعقوب بن إبراهيم: تقدم 109.
2 -
هيثم بن بشير السلمي: تقدم 109.
3 -
منصور بن زاذان الواسطي أبو المغيرة الثقفي مولاهم، روى عن أنس -ويقال: مرسل- وأبي العالية رفيع وعطاء بن أبي رباح والحسن ومحمد بن سيرين وميمون بن أبي شبيب ومعاوية بن قرة وحميد بن هلال وقتادة ومحمد بن الوليد بن مسلم العنبري وعمرو بن دينار وعبد الرحمن بن القاسم والحكم بن عتيبة وغيرهم، وعنه ابن أخيه مسلم بن سعيد الواسطي وحبيب بن الشهيد وجرير بن حازم وخلف بن خليفة وهشيم وأبو حمزة السكري وأبو عوانة وغيرهم. قال أحمد: شيخ ثقة، وقال ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ثقة، وقال العجلي: رجل صالح كان ثقة ثبتًا، وقال هشيم: لو قيل لمنصور بن زاذان: ملك الموت بالباب، ما كان عنده زيادة في العمل. مات سنة 128، وقيل: 129، وقيل: 131، والله تعالى أعلم.
4 -
الوليد بن مسلم التميمي العنبري أبو بشر البصري، روى عن جندب البصري وحمدان بن أبان وأبي المتوكل الناجي وأبي الصديق الناجي وابن التلب وأبي سفيان طلحة بن نافع وغيرهم، وعنه سعيد بن أبي عروبة ويونس بن عبيد وأبو بشر وخالد الحذاء ومنصور بن زاذان وسلمة بن علقمة ومحمد بن عبد الله بن أبي يعقوب. قال ابن معين وأبو حاتم: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات والله أعلم.
5 -
أبو الصديق الناجي بكر بن عمرو وقيل: ابن قيس، روى عنه عمر وأبي سعيد الخدري وعائشة، وعنه قتادة وعاصم الأحول والعلاء بن بشير المزني والوليد بن مسلم العنبري ومطرف بن الشخير وهو من أقرانه وغيرهم. وثقه النسائي وأبو زرعة وابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات. توفي سنة 108 والله أعلم.
6 -
أبو سعيد بن مالك الخدري رضي الله عنه: تقدم 262.
• التخريج
أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد وابن خزيمة والدارمي والطحاوي.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: (كنا) يعني الصحابة، وقوله:(نحزر) الحزر: الخرص والتقدير، أي: كنا نقدر قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمراد بقيامه للقراءة في الصلاة. وقوله:(في الظهر) أي في صلاة الظهر وفي صلاة العصر. قوله: (فحزرنا قيامه) أي قدرنا قيامه للقراءة، وقوله:(قدر ثلاثين) أي قدرنا بقدر ثلاثين أي قراءة ثلاثين آية، ومثّل لذلك بقوله:(قدر سورة السجدة). وهذا يحتمل أن المراد به في كل ركعة من الركعتين، وهو صريح في الرواية التالية أن هذا المقدار مقسوم بين الركعتين، لأن المعروف أن الأولى تكون أطول من الثانية كما في حديث أبي قتادة. وقوله:(في الأخريين على النصف من ذلك) إذا اعتبرنا أن المراد مجموع الركعتين؛ فيكون ذلك دليلًا على أن الأخريين يقتصر فيهما على الفاتحة؛ لأنها سبع آيات؛ مجموع الركعتين أربع عشرة آية، وذلك قدر النصف من الثلاثين. وهذا يرد قول من قال من الشافعية: إنه دليل للقول الجديد المروي عن الشافعي باستحباب السورة مع الفاتحة في الركعتين الآخريين وهو معارض بالتنصيص عليه في حديث أبيِّ عند مسلم وأبي داود وغيرهما، مع أن هذا الإستدلال ينبني على أن المراد خمس عشرة آية في كل ركعة، وهذا خلاف الظاهر لأنّ قوله:(في الركعتين على النصف من ذلك) محمول على مجموعهما كما قدمنا، وإنما الذي يمكن أن يستدل به تشبيه الأوليين من العصر بالأخيرتين من الظهر، ولكن لا يدل على ذلك لا في العصر ولا في ثالثة المغرب، فلا يكون فيه حجة للقول بذلك والله أعلم. والجمهور من العلماء
-وهو القول المعروف عنه في القديم- على أنه يقتصر على قراءة الفاتحة في الركعتين الأخيرتين، وقد ورد عن ابن عمر أنه كان ربما قرأ في الأخيرتين، فهو دليل الجواز فقط والله أعلم.
473 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ عَنِ الْوَلِيدِ أَبِي بِشْرٍ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ فِي الظُّهْرِ فَيَقْرَأُ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، ثُمَّ يَقُومُ فِي الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ قَدْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً.
• [رواته: 7]
1 -
سويد بن نصر: تقدم 55.
2 -
عبد الله بن المبارك: تقدم 36.
3 -
أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري: تقدم 46.
4 -
منصور بن زاذان: تقدم 472.
5 -
الوليد أبو بشر هو الوليد بن مسلم العنبري: تقدم 472.
6 -
أبو المتوكل الناجي علي بن داود: تقدم 262.
7 -
أبو سعيد الخدري: تقدم 262.
• التخريج
أخرجه مسلم وأبو داود والطحاوي وأحمد وابن خزيمة والدارمي، وهو رواية من الحديث الذي قبله.
باب صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي السَّفَرِ
474 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ.
• [رواته: 5]
1 -
قتيبة بن سعيد: تقدم 1.
2 -
حماد بن زيد: تقدم 3.
3 -
أيوب بن تميمة السختياني: تقدم 48.
4 -
أبو قلابة عبد الله بن زيد: تقدم 380.
5 -
أنس بن مالك: تقدم 6.
475 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ قَالَ: أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَنَّ عِرَاكَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ". قَالَ عِرَاكٌ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ"، خَالَفَهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ.
• [رواته: 6]
1 -
سويد بن نصر المروزي: تقدم 55.
2 -
عبد الله بن المبارك: تقدم 36.
3 -
حيوة بن شريح بن صفوان بن مالك التجيبي أبو زرعة المصري الفقيه الزاهد، روى عن أبي هانئ حميد بن هانئ وشرحبيل بن شريك المعافري وبكر بن عمرو المعافري وسالم بن غيلان وأبي يونس مولى أبي هريرة وربيعة بن يزيد الدمشقي وأبي الأسود يتيم عروة وغيرهم، وعنه الليث بن سعد وابن لهيعة ونافع بن يزيد وابن وهب وابن المبارك وأبو عبد الرحمن المقري وأبو عاصم وهانئ بن المتوكل وهو آخر من حدث عنه وغيرهم. قال أحمد: ثقة ثقة، وقال ابن معين: ثقة، وقال أبو يونس: كانت له عبادة وفضل، وسئل عنه أبو حاتم مع جماعة من أهل الحديث فقال: حيوة أعلى القوم، وهو ثقة أحب إلي من المفضل بن فضالة، وقال ابن وهب: ما رأيت أحدًا أشد استخفافًا بعلمه من حيوة، وكان يعرف بالإجابة، وقال ابن المبارك: ما وصف لي أحد فرأيته إلا كانت رؤيته دون صفته، إلا حيوة فإنه كان أكبر من صفته، وقال يعقوب بن سفيان حدثنا المقرئ: حدثنا حيوة بن شريح، وهو كندي شريف عدل رضي ثقة. توفي 158 وأرخه الكلاباذي 159، ووثقه العجلي وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان مستجاب الدعوة، يقال: إن الحصاة كانت تتحول في يديه
تمرة بدعائه. قال ابن سعد: مات في آخر خلافة أبي جعفر وكان ثقة، والله أعلم.
4 -
جعفر بن ربيعة بن شرحبيل: تقدم 173.
5 -
عراك بن مالك: تقدم 207.
6 -
نوفل بن معاوية بن عروة -وقيل: ابن عمرو- بن صخر بن يعمر بن نعامة بن عدي بن الديلي بن بكر بن عبد مناة بن كنانة أبو معاوية الديلي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه ابن أخيه عبد الرحمن بن مطيع بن الأسود وعراك بن مالك وعوف بن الحارث وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث. قال ابن سعد: قال محمَّد بن عمر -يعني الواقدي: كان نوفل قد شهد بدرًا والخندق مع المشركين وكان له ذكر ونكاية، ثم أسلم وشهد الفتح وحنينًا والطائف، ونزل المدينة في بني الديل وحج مع أبي بكر سنة 9 ومع النبي- صلى الله عليه وسلم سنة عشر، ومات بالمدينة في خلافة معاوية. قيل: إنه عمّر في الجاهلية ستين سنة وفي الإِسلام مثلها، وقيل: مات في خلافة يزيد بن معاوية والله أعلم.
• التخريج
أصل الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والدارمي وأحمد من حديث ابن عمر، وكذلك ابن ماجه، وأخرجه أحمد أيضًا وعبد الرزاق وابن حبان من حديث ابن عمر، وكذلك ابن ماجه، وأخرجه أحمد أيضًا وعبد الرزاق وابن حبان من حديث نوفل كرواية المصنف هذه.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: (من فاتته) وفي رواية ابن عمر: (الذي تفوته) وهما بمعنى، فإن (من) هنا اسم موصول بمعنى. الذي، وقوله:(فاتته) يحتمل أن المراد فواتها بخروج وقتها، وهو الظاهر لأنه الذي يترتب عليه الإثم، وبه فسَّر الفوات هنا جماعة من العلماء منهم الأصيلي وسحنون. وتحتمل أنه بفوات وقتها المختار، وهو مروي عن ابن وهب وغيره، وقد ورد مفسرًا في رواية الأوزاعي، قال: وفواتها أن تدخل الشمس صفرة. قال الداودي: هذا في العامد، وهو الظاهر لأنّ الوعيد إنما يستحقه العامد، وعن ابن عمر: أنه في الناسي لأنه وإن لم
يكن آثمًا فإنه يفوته الأجر العظيم، وقال المهلب: المراد فواتها في الجماعة، وعلل ذلك بأن الفوات في العمد يأثم صاحبه في كل صلاة، فلا خصوصية للعصر، وهذا بعد تسليم اختصاص العصر بهذا الوعيد، وقد اختلفوا في ذلك فعن ابن [عبد البر](*) أن ذلك لعله جواب لسائل ولهذا ألحق بها غيرها، وتعقبه النووي لعدم تعقل العلة التي هي شرط الإلحاق، ومع ذلك فإن العصر قد اختصت بكونها هي الصلاة الوسطى عند الأكثرين حسبما تقدم، وأنها تجتمع فيها ملائكة الليل وملائكة النهار، والله يخص ما شاء بما شاء. وقوله:(كأنما وتر أهله وماله) رواية الأكثرين بنصب اللام في الموضعين على أن في (وُتر) ضمير يرجع إلى الموصول هو المفعول الأول، ولكنه رفع نيابة عن الفاعل، وهذا بناء على أن (وتر) هنا متعد لمفعولين لأنه مضمن معنى نقص، وإن كان الأصل أن الذي يتعدى إلى مفعولين أفعال القلوب، ولكن قد ينصب الفعل مفعولين إذا كان أحدهما غير صريح وهذا منه، قال تعالى:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي ينقصكم شيئًا منها. وقيل هنا: سلب أهله، والرفع في اللفظين على أن المراد إيقاع الفعل على الأصل، كأنه قال: أُخِذَ أهلُه، و (مالُه) معطوفًا عليه، وأصل الوتر أن يقتل للإنسان قتيل ثم لا يأخذ بثأره، فكأنها مشتقة من الوتر الذي هو ضد الشفع، لأنه قد يبقى منفردًا فهو موتور. وشبّه النبي صلى الله عليه وسلم الذي تفوته صلاة العصر على أي وجه من الوجوه التي قدمناها؛ بمن يسلب أهله وماله في آن واحد، فيجتمع عليه همّ فوتهم وهمّ الدرك بثأرهم. فالذي تفوته الصلاة أو يفوتها إذا عاين ثوابها عند الله لأهلها يوم القيامة؛ اجتمع عليه مصيبة الإثم الذي يتحمله إن تعمد ذلك ولم يتب منه، ومصيبة فوت الثواب العظيم الذي يحصل لغيره. وظاهر صنيع الترمذي أنه في الساهي، وهو غير ظاهر كما قدمنا، فإنه بوّب للحديث بقوله:(باب ما جاء في السهو عن وقت العصر)، ولفظ الحديث لا يساعد على هذا التخصيص، لأن قوله في حديث ابن عمر: الذي تفوته، وفي حديث نوفل. من فاتته؛ كل من اللفظين يقتضي العموم، فلا يتجه حمله على الساهي إلا إذا حمل السهو على التهاون المفضي بصاحبه إلى الترك ونحوه. وقوله:(خالفه يزيد) إلخ سيأتي بيانه في الحديث الذي بعده.
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: بياض بالمطبوع
• بعض فوائده
يستفاد من الحديث الحث على المحافظة على صلاة العصر، وضرب المثل للناس لتقريب الأمور إلى الأفهام، فإن أمور الآخرة لا تشابه أمور الدنيا إلا على سبيل التقريب. وفيه: دليل على أن من فرّط في شيء من الطاعة سيندم عليه يوم القيامة. وفيه: جواز قول الإنسان: فاتتني الصلاة وفاتتك، خلافًا لمن كره ذلك والله أعلم.
476 -
أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ زُغْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مِنَ الصَّلَاةِ صَلَاةٌ مَنْ فَاتَتْهُ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ". قَالَ ابْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ". خَالَفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ.
• [رواته: 5]
1 -
عيسى بن حماد زغبة: تقدم 294.
2 -
الليث بن سعد الفهمي: تقدم 35.
3 -
يزيد بن أبي حبيب: تقدم 207.
4 -
عراك بن مالك: تقدم 207.
5 -
نوفل بن معاوية الديلي: تقدم 475.
هذه الرواية التي أشار المصنف إلى المخالفة، فإن جعفر بن ربيعة في روايته عن عراك بن مالك حدثه أن نوفل بن معاوية حدثه، ورواية يزيد هذه عن عراك أنه بلغه أن نوفل بن معاوية، فظاهر هذه الرواية: أن عراكًا لم يسمع من نوفل بن معاوية، وأما الأولى ففيها: أنه حدثه، ومثل هذا يحمل على أن الحديث عن عراك بالوجهين والله أعلم. وأيضًا فإن في السياق مخالفة حيث إن الرواية الأولى فيها تعيين صلاة العصر من نوفل، وهذه فيها أن الذي عيّنها إنما هو ابن عمر والله أعلم.
477 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: صَلَاةٌ مَنْ فَاتَتْهُ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ".
• [رواته: 7]
1 -
عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أبو الفضل البغدادي نزيل سامراء، روى عن أبيه وعمه يعقوب وأخيه إبراهيم بن سعد ويونس بن محمَّد وأبو الجواب وروح بن عبادة ويزيد بن هارون وغيرهم، وعنه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن أبي عاصم وأحمد بن يحيي بن زهير وابن خزيمة وعبد ابن الأهواز والباغندي وابن أبي الدنيا ومحمد بن مخلد الدوري وجماعة غيرهم. قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه وهو صدوق، وقال النسائي: لا بأس به، وقال الخطيب: كان ثقة، وقال الحافظ أبو نعيم: ولي قضاء أصبهان مرتين وعزل عن قريب، مات سنة 260 في ذي الحجة وقيل: إنه ولد سنة 185، وذكر أبو إسحاق الحبال: أن مسلمًا روى عنه ووثقه الدارقطني وفي الزهرة: روى عنه البخاري ستة أحاديث، والله أعلم.
2 -
يعقوب بن إبراهيم: تقدم 109.
3 -
إبراهيم بن سعد: تقدم 314.
4 -
محمَّد بن إسحاق بن يسار بن خيار -ويقال: كومان- المدني أبو بكر -ويقال: أبو عبد الله- المطلبي مولاهم نزيل العراق، رأى أنس بن مالك وابن المسيّب وأبا سلمة بن عبد الرحمن، روى عن أبيه وعميه عبد الرحمن وموسى والأعرج وعبيد الله بن عبد الله بن عمر ومعبد بن كعب بن مالك ومحمد بن إبراهيم التيمي والقاسم بن محمَّد والزهري وابن المنكدر وسالم أبي النضر وسعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وخلائق يطول ذكرهم، وعنه يحيي بن سعيد الأنصاري ويزيد بن أبي حبيب وهما من شيوخه وجرير بن حازم وابن عون وإبراهيم بن سعد الزهري والحمادان والسفيانان وشعبة وزهير بن معاوية وابن إدريس وهيثم وأبو عوانة وأمم يكثر عددهم. قال ابن
معين: كان ثقة حسن الحديث، قال ابن المديني: مدار علم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ستة؛ فذكرهم، فصار علم الستة عند اثني عشر، فذكر ابن إسحاق فيهم. قال ابن عيينة: رأيت الزهري قال لابن إسحاق: أين كنت؟ قال: هل يصل إليك أحد؟ فدعا حاجبه وقال: لا تحجبه إذا جاء. وقال فيه ابن شهاب وقد سئل عن المغازي فقال: هذا أعلم الناس بها. قال عاصم بن عمرو بن قتادة: لا يزال في الناس علم ما بقي ابن إسحاق. قال أبو معاوية: كان ابن إسحاق من أحفظ الناس، ونقل علي بن المديني عن ابن عيينة قال: جالست ابن إسحاق منذ بضع وسبعين سنة وما يتهمه أحد من أهل المدينة وما يقول فيه شيئًا، كان هشام بن عروة ينكر عليه أنه حدث عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير امرأة هشام، فكان يحلف أنه ما دخل عليها، قال عبد الله بن أحمد: ولِمَ ينكر هشام لعلّه استأذن عليها فأذنت له ولم يعلم. وقال مالك: دجّال من الدّجاجلة، وهذا محمول على أن مالكًا كان بينه وبين ابن إسحاق منافرة، فكان يسيء القول فيه. قال البخاري: رأيت علي بن المديني يحتج بحديثه. وثناء الأئمة عليه لاسيما البخاري وشيخه ابن المديني كثير، قال أبو زرعة الدمشقي: وابن إسحاق رجل قد أجمع الكبراء من أهل العلم على الأخذ عنه، وقد اختبره أهل الحديث فرأوا صدقًا وخيرًا، مع مدح ابن شهاب له. قال: وقد ذاكرت دحيمًا قول مالك فيه فرأى أن ذلك ليس للحديث، إنما هو لأنه اتهمه بالقدر، وقال الدراوردي: جُلد في القدر، قال ابن نمير: كان يرمى بالقدر وكان أبعد الناس منه، وقال فيه: إذا حدث عمن سمع منه من المعروفين فهو حسن الحديث صدوق، وإنما أتي من أنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة. وقال يعقوب: سألت ابن المديني: كيف حديث ابن إسحاق عندك؟ فقال: صحيح. قلت: فكلام مالك فيه؟ قال: مالك لم يجالسه ولم يعرفه، قلت له: وهشام بن عروة تكلم فيه، قال علي: الذي قال هشام ليس بحجة، دخل على امرأته وهو غلام فسمع منها. قلت: إمرأة هشام هذه ابنة عمه وهي أكبر منه سنًا، فمن الجائز أن يكون سماع ابن إسحاق منها قبل أن يتزوجها هشام، قال علي بن المديني: إن حديث ابن إسحاق ليتبين فيه الصدق، يروي مرة: حدثني أبو الزناد، ومرة: ذكر أبو الزناد، وهو من أروى
الناس عن سالم أبي النضر وروى عن رجل عنه، ومن أروى الناس عن عمرو بن شعيب. وقال أحمد عنه: كان يدلس، وسئل: هل يقبل حديثه إذا انفرد؟ فقال: لا، وقال فيه في رواية حنبل عنه: ليس بحجة. قال ابن معين: محمَّد بن إسحاق ثقة وليس بحجة، وقال فيه: صدوق، وقيل لابن معين: حجة؟ قال: كان ثقة، الحجة مالك وعبيد الله بن عمر، وقيل: إنه قال فيه: ليس بذاك، ومرة قال: ضعيف، ومرة قال: ليس بالقوي. وروى ابن عيينة عن شعبة: محمَّد بن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث، قيل له: لم؟ قال: لحفظه، قال ابن سعد: كان ثقة ومن الناس من يتكلم فيه، وبالجملة أكثر الناس على الثناء عليه وهو يخطئ كغيره. قال ابن سعد: لو لم يكن له من الفضل إلا أنه صرف الملوك عن الإشتغال بكتب لا يحصل منها شيء، إلى الإشتغال بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه ومبدأ الخلق، لكانت هذه فضيلة ما سبق إليها، وقد صنّفها بعده قوم فلم يبلغوا مبلغه ما بعد الخمسين والمائة إما بواحد أو اثنين أو ثلاث، روى له مسلم في المتابعات والبخاري في التعليق، قال ابن المديني: ثقة لم يضعه عندي إلا روايته عن أهل الكتاب. وكذّبه سليمان التيمي ويحيى القطان ووهيب بن خالد، فأما وهيب والقطان فقلّدا فيه مالكًا وهشام بن عروة، وأما سليمان التيمي فلم يتبين لي لأي شيء تكلم فيه، والظاهر أنه لأمر غير الحديث لأن سليمان ليس من أهل الجرح والتعديل، قال ابن حبان في الثقات: تكلم فيه رجلان هشام ومالك، فأما قول هشام فليس مما يجرح به الإنسان، وذلك أن التابعين سمعوا من عائشة من غير أن ينظروا إليها، وكذلك ابن إسحاق كان سمع من فاطمة والستر بينهما. وأما مالك فإن ذلك كان منه مرة واحدة ثم عادله إلى ما يحب، ولم يكن يقدح فيه من أجل الحديث، إنما كان ينكر تتبعه غزوات النبي صلى الله عليه وسلم من أولاد اليهود الذين أسلموا وحفظوا قصة خيبر وغيرها، وكان مالك لا يرى الرواية إلا عن متقن. ولما سئل ابن المبارك قال: إن وجدناه صدوقًا، ثلاث مرات. قال ابن حبان: ولم يكن أحد في المدينة يقارب ابن إسحاق في عمله ولا يوازيه في جمعه. قال ابن البرقي: لم أر أهل الحديث يختلفون في ثقته وحسن حديثه، وفي حديثه عن نافع بعض الشيء، وذكر الذهبي أنه أخذ عن امرأة هشام وهي أكبر من
هشام بثلاث عشرة سنة، وأخذ عنها ابن إسحاق وقد جاوزت الخمسين. قال: وقد روى غير ابن إسحاق من الغرباء والله أعلم.
5 -
يزيد بن أبي حبيب: تقدم 207.
6 -
عراك بن مالك: تقدم 207.
7 -
نوفل بن معاوية الديلي: تقدم 475.
هذه الرواية بيّن فيها مخالفة محمَّد بن إسحاق الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب، وأنه في رواية ابن إسحاق صرَّح بالسماع فيها -سماع عراك من نوفل لهذا الحديث والله أعلم.
باب صَلَاةِ الْمَغْرِبِ
478 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: رَأَيْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ بِجَمْعٍ أَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى يَعْنِي الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ صَنَعَ بِهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ.
• [رواته: 6]
1 -
محمَّد بن عبد الأَعلى الصغاني القيسي: تقدم 5.
2 -
خالد بن الحارث الهجيمي: تقدم 47.
3 -
شعبة بن الحجاج: تقدم 26.
4 -
سلمة بن كهيل: تقدم 312.
5 -
سعيد بن جبير: تقدم 434.
6 -
عبد الله بن عمر: تقدم 52.
• التخريج
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد والطحاوي.
الحديث فيه الجمع بجمع وهي المزدلفة، وذلك في الحج وهو محل اتفاق وسيأتي، وفيه: أن العشاء تقصر والمغرب لا قصر فيها، وسيأتي ذلك إن
شاء الله، وفيه: أن الجمع بإقامة لكل واحدة من الصلاتين، وأنه لا نفل بينهما وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
باب فَضْلِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ
479 -
أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعِشَاءِ حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ رضي الله عنه: نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ غَيْرُكُمْ". وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ يُصَلِّي غَيْرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
• [رواته: 6]
1 -
نصر بن علي بن نصر بن علي بن صهبان الأزدي الجهضمي الصغير أبو عمرو البصري، وهو حفيد نصر بن علي الجهضمي، روى عن أبيه ويزيد بن زريع وعبد الأعلى بن عبد الأعلى وعيسى بن يونس اليمامي ووهب بن جرير بن حازم ووكيع ومعن بن عيسى ومسلم بن إبراهيم وخلق كثير، وعنه الجماعة، وروى النسائي أيضًا عن زكريا السجزي وأحمد بن علي المروزي عنه، وأبو زرعة وأبو حاتم والذهلي وبقي بن مخلد وعبد الله بن أحمد وعبد بن الأهوازي وإسماعيل القاضي وابن أبي الدنيا وابن خزيمة وجماعة غيرهم. قال أحمد: ما به بأس، ووثقه أبو حاتم وكذا النسائي وابن خراش، وقال محمَّد على النيسابوري: حجة. قال أبو بكر بن داود: كان المستعين بعث إلى نصر بن علي ليوليه القضاء، فقال لأمير البصرة: أرجع فأستخير الله. فرجع إلى بيته وصلى ركعتين ثم قال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك، فنام فنبّهوه فإذا هو ميت، قيل: مات في ربيع الآخر سنة 250 وقيل: 251. قال مسلمة بن القاسم: هو ثقة عند جميعهم، وقال الخشني: ما كتبت بالبصرة عن أحد أعقل من نصر بن علي، رحمنا الله وإياه.
2 -
عبد الأعلى بن عبد الأعلى بن محمَّد -وقيل: بن شراحيل القرشي- البصري السامي من بني سامة بن لؤي، أبو محمَّد ويلقب أبا همام وكان يغضب منه، روى عن حميد الطويل ويحيى بن أبي إسحاق الحضرمي وعبيد الله بن عمر وسعيد الجريري وسعيد بن أبي عروبة وخالد الحذاء وداود بن
أبي هند وابن إسحاق ومحمد بن عمرو بن علقمة ومعمر وهشام بن حسان وهشام الدستوائي وغيرهم، وعنه إسحاق بن راهويه وأبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن المديني وعبيد الله بن القواريري وبندار وأبو موسى ونصر بن علي الجهضمي الصغير ويونس بن حماد المعنى وعبد الرحمن عمر رسته وغيرهم. قال ابن معين وأبو زرعة ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال النسائي: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان متقنا في الحديث قدريًا غير داعية إليه: قال عمرو بن علي: مات سنة 198 في شعبان، وكذا قال ابن حبان في الثقات: قال أحمد: كان يرى القدر، وقال ابن سعد: لم يكن بالقوي، وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا عبيد الله بن عمر: حدثنا عبد الأعلى قال: فرغت من حاجتي من سعيد بن أبي عروبة قبل الطاعون -يعني أنه سمع منه قبل الإختلاط، وقال العجلي: بصري ثقة، ووثقه ابن نمير وابن واضح وغيرهما والله أعلم.
3 -
معمر بن راشد: تقدم 10.
4 -
الزهري: تقدم 1.
5 -
عروة بن الزبير: تقدم 44.
6 -
عائشة رضي الله عنها: تقدمت 5.
• التخريج
أخرجه مسلم وأحمد والبخاري والطبراني وابن خزيمة من طريق ابن عمر وابن عباس، وأخرجه الدارمي عن عائشة وابن عباس، وأبو داود في الطهارة عن أحمد بن حنبل، وسيأتي للمصنف عن ابن عباس وابن عمر وأنس وغيرهم، ونحوه للأكثرين عند أبي موسى غير أنه في بعض روايات ابن عباس زيادة: عصر شعر الرأس؛ كما يأتي للمصنف 528.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: (أعتم) أي دخل في العتمة وهي ثلث الليل الأول، بعد غيبوبة الشفق أو وقت صلاة العشاء الأخيرة، سمّيت بذلك لتأخر وقتها: وأعتم إعتامًا: تأخر وأبطأ، والاسم: العتمة -محركًا، واحتبس عن فعل الشيء،
وعتم قراه: أبطأ، كعتّم تعتيمًا، ومنه قول الشاعر:
فلما رأينا أنه عاتم القرى
…
بخيل ذكرنا ليلة الهضم كردما
وعتم الليل وأعتم: ذهب منه قطع، والمراد هنا: أنه تأخر عن فعلها في الوقت الذي كان يفعلها فيه عادة، وقوله:(بالعشاء) أي: تأخر بفعل الصلاة، والعشاء اسم لها كما قال إن اسمها في كتاب: العشاء، وهو اسم الظرف الذي تفعل فيه كسائر أوقات الصلاة. وقوله:(حتى) حرف يدل على الغاية هنا، (وناداه) أي نادى عمر النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا له: نام النساء والصبيان، وفي الروايات الأخرى:(الصلاة يا رسول الله) بنصب الصلاة على الإغراء، على تقدير فعل محذوف. والمراد بالنساء: يحتمل أنهن اللاتي في المسجد ينتظرن الصلاة وهو المتبادر للذهن، ويحتمل أن يكون المراد مَن في البيوت؛ لأنهن ينتظرن رجوع الرجال من الصلاة بالعشاء، فيشق عليهن تأخيرهم عنهن وربما رقدن. وقوله:(فخرج) الفاء تحتمل العطف والسببية، وخروجه كان من بيته لأنه ملاصق للمسجد، وفي رواية:(ورأسه يقطر). وقوله: (إنه ليس أحد) أي من جميع من ينتظر هذه الصلاة غيركم، لأن الإِسلام إذ ذاك إنما هو بالمدينة كما قالت عائشة رضي الله عنها، ولم يكن يومئذٍ أحد يصلي غير أهل المدينة، أي: بصفة عامة وفي جماعة، فقد كان بعض المستضعفين إذ ذاك بمكة وكان بعض المهاجرين عند النجاشي بالحبشة. ويحتمل أن القائل لم يكن أحد غير عائشة من الرواة كالزهري أو عروة، ولهذا جاء في رواية البخاري بلفظ قال: الصادق بأن القائل الراوي عائشة أو غيرها.
• الأحكام والفوائد
الحديث فيه دليل على جواز تأخير العشاء، بل هو مستحب عند الجمهور لما في بعض الروايات: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي أو على الناس. وفيه دليل على أن عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصليها في أول وقتها خشية المشقة على الناس، ولهذا جاء في رواية البخاري: كانوا يصلونها فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل، وفيه: تنبيه الإِمام في مسائل العبادات وغيرها من مصالح المسلمين، وفيه: كرم خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: دليل على أن النوم الخفيف لا ينقض الوضوء، وقد تقدم ذلك في الطهارة، ومن نفى النقض بالنوم مطلقًا لم يقيده بالخفيف، وفيه: دليل على أن المراد بالنساء والصبيان: من
كانوا في المسجد، ففيه دخول النساء المساجد بصبيانهم وفيه: الشفقة على الضعفاء ومراعاة أحوالهم حتى في أمر الصلاة.
باب صَلَاةِ الْعِشَاءِ فِي السَّفَرِ
480 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ قَالَ: صَلَّى بِنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِجَمْعٍ الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا بِإِقَامَةٍ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَعَلَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ.
• [رواته: 6]
1 -
عمرو بن يزيد الجرمي: تقدم 130.
2 -
بهز بن أسد العمي: تقدم 28.
3 -
شعبة بن الحجاج: تقدم 26.
4 -
الحكم بن عتيبة: تقدم 104.
5 -
سعيد بن جبير تقدم 434.
6 -
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: تقدم 12.
الحديث تقدم قريبًا رقم 478.
481 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ بن أسد قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ صَلَّى بِجَمْعٍ فَأَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ فِي هَذَا الْمَكَانِ.
رواته هم المذكورون في الذي قبله إلا سلمة بن كهيل: تقدم 312.
باب فَضْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ
482 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي
صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ".
• [رواته: 5]
1 -
قتيبة بن سعيد: تقدم 1.
2 -
الإِمام مالك بن أنس: تقدم 7.
3 -
أبو الزناد عبد الله بن ذكوان: تقدم 7.
4 -
الأعرج عبد الرحمن بن هرمز: تقدم 7.
5 -
أبو هريرة رضي الله عنه: تقدم 1.
• التخريج
أخرجه البخاري ومسلم وابن خزيمة من طريقين عن أبي هريرة بلفظ: يجتمع، وبلفظ: إن لله ملائكة يتعاقبون.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: (يتعاقبون فيكم ملائكة) مرفوع على أنه فاعل (يتعاقبون) على لغة بني عقيل وقيل: وبني الحارث، وهذا أحد الأوجه في هذا التركيب. الوجه الثاني: أن يكون الاسم المرفوع مبتدأ مؤخرًا والفعل رافع للضمير، وجملة الفعل والفاعل في محل رفع خبر المبتدأ. الوجه الثالث أن يكون الألف والواو والنون؛ ضمائر مرفوعة على الفاعلية والاسم الظاهر بدلًا منها، وهو ضعيف. وجمهور النحويين يرون أن الواجب في مثل هذا تجريد الفعل من الضمائر، كما قال ابن مالك رحمه الله:
وجرد الفعل إذا ما أسندا
…
لاثنين أو جمع كفاز الشهدا
وقد يقال سعدا وسعدوا
…
والفعل للظاهر بعد مسند
وعلى هذه اللغة في الحديث قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ، فإنها بإثبات الواو في المصاحف العثمانية، وقول الشاعر وهو عبد الله بن قيس المعروف بابن قيس الرقيات، في قصيدته التي يرثي بها مصعب بن الزبير:
تولى قتال المارقين بنفسه
…
وقد أسلماه مبغض وحميم
والتعاقب: تفاعل من عقبه؛ إذا أتى بعده، وقيل: إن هذه الطريق مختصرة وأصل الحديث: الملائكة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، كما في البخاري من طريق شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن أبي هريرة بلفظ:(إن الملائكة يتعاقبون فيكم) كما في بدء الخلق، وسيأتي مثلها للمصنف من طريق موسى بن عقبة عن أبي الزناد. فلهذا قال بعض العلماء: الظاهر أن أبا الزناد كان يرويه مرة هكذا ومرة على الوجه، ويؤيد ذلك كون غير الأعرج من أصحاب أبي هريرة قد رواه تامًا، كما في مسلم وأحمد من رواية همام عن أبي هريرة، لكن بحذف (إنّ) من أوله التي في رواية موسى بن عقبة، وهو عند البزار وابن خزيمة والسراج من رواية أبي صالح عن أبي هريرة كرواية موسى بن عقبة، وأخرجه أبو نعيم في الحلية من رواية أبي يونس عن أبي هريرة بإسناد صحيح. والتعاقب: إتيان جماعة عقب أخرى، كما قال تعالى:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ} ، فالحفظة للأعمال يتعاقبون كتعاقب الحفظة للإنسان من الشرور. وعن الأكثرين أن المراد هنا الحفظة للأعمال، فيحتمل أن السؤال لأجل أنهم موكلون بأعمالهم. وروى القاضي عياض أنه توبيخ لمن قال:(أتجعل فيها من يفسد فيها). وهذا عندي فيه نوع من عدم اللياقة، بل الظاهر أن المراد به التنويه بشأن المحافظين على الصلاة، وحمل للملائكة على الشهادة لهم بذلك. قال القرطبي رحمه الله:(وهذا من خفي لطف الله وجميل ستره؛ حيث لم يطلعهم إلا على هذه الحالة من أحوالهم، ولم يطلعهم على حال شهواتهم وما يشبهها) اهـ. وهذا حسن لكن الجزم به لا يتعين، لأنهم إذا كانوا هم الحفظة فهم يطلعون على الكل، ولكن يقال: إنه لم يسألهم إلا عن كيف تركوهم، فمن لطفه جعل اجتماعهم في هاتين الصلاتين. وقوله:(يتعاقبون) لا ينافي الإجتماع، فإنهم يجتمعون وقت الصلاة ثم يصعد الأولون ويبقى الآخرون. وقوله:(ثم يعرج) دليل على أن هذا العروج بعد الإجتماع المذكور، والعروج: الصعود، يقال: عرج يعرج عروجًا من باب نصر ينصر، وعرج في الشيء وعليه يعرج بالكسر ويُضَمُّ: ارتقى عروجًا فيه أيضًا، وعرج الشيء فهو عريج: إذا ارتفع وعلا. قال أبو ذؤيب الهذلي:
كما نور المصباح للعجم أمرهم
…
بعيد رقاد النائمين عريج
وعرج يعرج: إذا أصابه شيء في رجله وليس فإذا كان خلقة فهو أعرج، كفرح ومصدره: عرجًا محركًا، والمعراج: السلّم وآلة الصعود، وعرَّج بالمكان: أقام به، والتعريج على الشيء: الإقامة والحبس عليه. وقوله: (الذين باتوا فيكم) ضمير الخطاب في الموضعين للمصلين، وجوّز بعض العلماء أن يكون لمطلق المؤمنين، والإكتفاء في العروج بالذين باتوا لا ينافي اشتراك الآخرين في ذلك، فذكر الذين باتوا اكتفاء بذكرهم؛ لأنّ المقام يدل على أن الآخرين مثلهم، على حد قوله تعالى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي: والبرد، ويحتمل أن الصعود والسؤال خاص بالذين باتوا في الفجر، وقد فسّر الجمهور قوله تعالى:{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} بهذا الشهود والإجتماع، ولهذا جوَّز بعض العلماء أن يكون الصعود خاصًا بالفجر، والنزول والإجتماع يحصل في الصلاتين، والذين ينزلون في النهار يستمرون معهم من وقت الفجر فلا يصعدون فيه. وقد جاء التصريح باجتماعهم في صلاة الفجر، حتى حاول بعض الشراح أن يجعل ذكر الإجتماع في صلاة وهمًا، وهو عندي وهم منه بعيد عن الصواب، لثبوت الروايات الصحيحة بذلك، ويستدل بما جاء في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة: يجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر، قال: أبو هريرة اقرءوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قال: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار. قال ابن عبد البر: (ليس في هذا دفع للرواية التي ذكر فيها العصر، يعني "أن ذكر العصر الوارد في الروايات الأخر؛ لا ينفيه الإقتصار على الصبح في بعضها"، وقوله: "فيسألهم" تقدم أن في هذا السؤال استدعاء لشهادة الملائكة للمصلين، وفي ذلك التنويه العظيم بشأنهم في الملأ الأعلى، فيشهدون لهم بأنهم في طاعة ربهم بدءًا وختامًا. وقوله: (وهم يصلون) في الموضعين: جملة حالية.
• الأحكام والفوائد
يستفاد من الحديث فضل الصلاة على سائر الأعمال، وفضل المحافظة عليها وخاصة هاتين الصلاتين، والأحاديث في هذا كثيرة. وفيه: فضل المصلين وعناية الرب بهم وإظهار شأنهم في الملأ الأعلى، وفيه: تشريف هذه
الأمة على غيرها من الأمم، كما شرف نبيها على سائر الأنبياء. وفيه: دليل على كلام الله للملائكة، واستدل به بعض الحنفية على فضل تأخير صلاة العصر؛ لأنّ العروج يقع بعدها، وليس في الحديث ما يدل على ذلك، والأدلة الأخرى الصريحة تردُّه والله أعلم.
483 -
أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَفْضُلُ صَلَاةُ الْجَمْعِ عَلَى صَلَاةِ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا، وَيَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} ".
• [رواته: 5]
1 -
كثير بن عبيد نمير المذحجي: تقدم 196.
2 -
محمَّد بن حرب الخولاني كاتب الزبيدي: تقدم 171.
3 -
الزهري: تقدم 1.
4 -
سعيد بن المسيب: تقدم 9.
5 -
أبو هريرة رضي الله عنه: تقدم 1.
• التخريج
أخرجه البخاري ومسلم وأحمد، وأصل حديث أبي هريرة في تفضيل الجماعة بدون ذكر اجتماع الملائكة؛ في أبي داود والترمذي وابن ماجه.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: (تفضل صلاة الجمع) أي: تزيد الصلاة في الجماعة إذا صلاها أحدكم فيها تفضل صلاته على صلاة أحدكم وحده. فالجمع -ضد الفرد- المراد بها: الجماعة، وهي في الصلاة تحصل بالاثنين فصاعدًا، والضمير في قوله:(أحدكم) للمكلفين من المؤمنين لأنهم هم أهل الصلاة في الحالتين، وفي رواية: الجميع، بدل: الجمع. وقوله: (بخمسة وعشرين جزءًا) والجزء صادق بالقليل والكثير، وبينَّت رواية: تضعف؛ أن المراد بالجزء الضعف الذي
هو المثل، وكذلك رواية: الدرجة؛ فإنها المنزلة والمراد بها أيضًا الضعف. يوضح ذلك رواية ابن السراج: تعدل خمسًا وعشرين صلاة من صلاة الفذ، فبيّنت هذه الرواية أن الجزء المذكور في هذه الأحاديث والدرجة المراد بذلك تضعيف الصلاة على أصلها الذي هو عشر حسنات. وأصرح منه في ذلك حديث ابن مسعود أخرجه أحمد بسند قوي: صلاة الجميع تفضل على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين صلاة كلها مثل صلاته. أما رواية ابن عمر عند البخاري وغيره: "صلاة الرجل في جماعة تفضل على صلاة الرجل وحده بسبع وعشرين درجة" قال الترمذي: كذا روى نافع عن ابن عمر، قال: وعامة من روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم إنما قالوا: خمسًا وعشرين، إلا ابن عمر. وفي حديث ابن مسعود وهو عند أحمد بسند جيد: صلاة الجميع تفضل على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين صلاة كلها مثل صلاته. قلت: وهذا يوضح ما قدمنا، ويبقى الإشكال في حديث ابن عمر وهو حديث صحيح، وتفرّد نافع عن ابن عمر أو ابن عمر به لا يقدح في صحته، لكن اختلفوا في وجه الجمع: فمنهم من قال: إنه لا تعارض لأنّ ذكر الأقل لا ينافي ثبوت الأكثر، لعدم اعتبار الأكثرين لمفهوم العدد، كما تقدم في خصائصه صلى الله عليه وسلم أول هذا الشرح المبارك، فمن الجائز أن يكون أُعْلِم صلى الله عليه وسلم أولًا بالخمس والعشرين، ثم أعلم بعد ذلك بزيادة فضلًا من الله. وقيل: إن الدرجة أقل من الجزء، بحيث تساوي سبعًا وعشرين درجة خمسة وعشرين جزءًا، وهو بعيد لما تقدم من أن المراد باللفظين الضّعف المصرح به، وفي بعض الروايات ذكر الدرجة بدل الجزء، والعدد خمس وعشرون وفي رواية أبيٍّ: بأربع وعشرين أو خمس وعشرين درجة، وهي عند ابن حبان، ولابن أبي شيبة بضعًا وعشرين درجة. وقيل: الجماعة التي لا يمشي إليها أقل من الجماعة التي يمشي إليها، وقيل غير ذلك. والأشبه عندي والله أعلم. إما أن يكون التفاوت بحسب بعُد المنزل، لما ثبت أن أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى، أو للإنتظار للصلاة، أو بحسب التفاوت في الخشوع وحضور القلب، والكل محتمل والعلم عند الله تعالى. والحاصل أن هذا الحديث بجميع طرقه دل على ثبوت هذا الوعد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن اختلف فيه: فقد رواه جماعة من الصحابة:
أبو هريرة وأبو سعيد في البخاري وغيره، وابن مسعود عند أحمد وابن خزيمة بسند قوي، وأبي بن كعب عند ابن ماجه والحاكم، وعن عائشة وأنس عند السراج، ومن طرق ضعيفة -كما قال ابن حجر- عن معاذ وصهيب وعبد الله بن زيد وزيد بن ثابت عند الطبراني، وكلها بلفظ: خمس وعشرين، إلا رواية ابن عمر: سبع وعشرين، وهي في الصحيحين وغيرهما، ورواية لأبي هريرة عند أحمد وفي سندها شريك القاضي وفي حفظه بعض الشيء، فيها: سبع وعشرين، ورواية أبيّ: أربع أو خمس وعشرين، وهذا يرد إلى الخمس التي اتفقت عليها الروايات من غير شك، ورواية أبي عوانة: بضع وعشرين، صالحة للرد على كل من الروايتين، فمن رجح رواية الخمس والعشرين لأنها العدد المتفق عليه له لدخولها في السبع والعشرين ولكثرة رواتها، ومن رجّح السبع لأنها زيادة صحيحة من عدل حافظ يجب قبولها. وأما الاختلاف الثاني فهو في تمييز العدد، لأنه روي بلفظ (الجزء) وبلفظ (الدرجة)، وتقدم أن في رواية أحمد وابن خزيمة عن ابن مسعود ما يوضح المراد، وهو التصريح بمضاعفتها بالصلاة كما قدمنا بخمس وعشرين صلاة، فتردُّ رواية الجزء والدرجة إلى هذه المصرّحة بلفظ الصلاة. وتقدم الخلاف في وجه التفاوت، وقد ذكر فيه ابن حجر: أقوالًا أحد عشر، ورجّح كون المضاعفة في الجهرية دون السرية، واحتج له بأن المصلي في الجماعة يتابع في أشياء ذكرها هو، ورتب هذا التضعيف أنه في الجهرية يزيد الإنصات والتأمين. وليس عندي بجيد، إذ لو كان هذا لهذه الأسباب؛ لكان حمله على السبب المصرح في رواية أبي هريرة في قوله: وذلك أن أحدكم إذا توضأ، الحديث. غير أن الظاهر أن حصر هذه المضاعفة في علة يحتاج إلى نص، وإلا وجب التوقف وإطلاق الأمر كما أطلقه الشارع، لأن كثيرًا من الأمور التي ذكرها قد لا تحصل للمصلي في الجماعة، وقد يفوته بعض الصلاة، ومقتضى الإطلاق في الأحاديث حصول ذلك لكل من صلى في الجماعة والله أعلم، إلا أن الجماعة في المسجد الجامع أفضل منها في غيره.
وأما بقية الحديث وهي اجتماع الملائكة فتقدم في الذي قبله.
484 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَلِجُ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غروبها".
• [رواته: 6]
1 -
عمرو بن علي الفلاس: تقدم 4.
2 -
يعقوب بن إبراهيم الدورقي: تقدم 22.
3 -
يحيي بن سعيد القطان: تقدم 4.
4 -
إسماعيل بن أبي خالد: تقدم 468.
5 -
أبو بكر بن عمارة بن رويبة: تقدم 468.
6 -
أبوه عمارة بن رويبة: تقدم 468.
قد تقدم هذا الحديث وما يتعلق به رقم 468. وقوله في هذه الرواية: (وقبل أن تغرب) هو بمعنى قوله في الرواية الأولى: (قبل غروبها)، لأنّ المصدر المنسبك من (أن) في قوله: أن تغرب؛ مضاف إلى الظرف فهو كقوله: قبل غروبها.
باب فَرْضِ الْقِبْلَةِ
485 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا -شَكَّ سُفْيَانُ- وَصُرِفَ إِلَى الْقِبْلَةِ.
• [رواته: 5]
1 -
محمَّد بن بشار بندار: تقدم 7.
2 -
يحيى بن سعيد القطان: تقدم 4.
3 -
سفيان بن سعيد الثوري: تقدم 37.
4 -
أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي: تقدم 42.
5 -
البراء بن عازب رضي الله عنهما: تقدم 105.
• التخريج
أخرجه البخاري في مواضع منه، وكذلك مسلم والترمذي وابن ماجه
وأحمد وابن خزيمة وابن الجارود، ولأبي عوانة بلفظ:(ستة عشر)، وكذا لمسلم والمصنف كما سيأتي إن شاء الله. وعند أحمد بسند صحيح عن ابن عباس وللطبراني والبزار:(سبعة عشر)، وفي ابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش:(ثمانية عشر شهرًا)، وهو سيء وذكر ابن حجر أنه اضطرب فيه: فعند ابن جرير من طريقه: سبعة عشر، وفي رواية: ستة عشر.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: (صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم) الضمير في (صلينا) يعود للبراء وقومه، وهم الأنصار ومن كان بالمدينة من المسلمين، وقوله:(مع النبي صلى الله عليه وسلم) يعني بعدما قدم المدينة، كما هو مصرح به في بعض الروايات. وقوله:(نحو بيت المقدس) أي مستقبلين جهة بيت المقدس، والإضافة فيه من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، كقولهم: مسجد الجامع وصلاة الأولى. وقيل: على تقدير محذوف، أي: بيت المكان المقدس، وجاء على الصفة بلفظ: البيت المقدس. وقوله: (ستة عشر شهرًا) ظرف لقوله: (صلينا) أي مدة ستة عشر أو سبعة عشر، وهذه اللفظة جاءت على الشك في حديث أبي إسحاق في جميع رواياته، إلا في رواية مسلم التي تقدمت الإشارة إليها من طريق أبي الأحوص، ورواية أبي عوانة من طريق عمار بن رُزيق -مصغرًا بتقديم الراء المهملة- ورواية المصنف الآتية من طريق زكرياء بن أبي زائدة وشريك، ولأبي عوانة أيضًا من طريق عمار بن رجاء. فهؤلاء الثلاثة كلهم رووه:(ستة عشر شهرًا) من غير شك عن أبي إسحاق، وكذا رواية أحمد بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما:(ستة عشر)، ورواه الدارقطني عن أبي إسحاق من طريق ابن عباس:(ستة عشر شهرًا)، ولذا رجح النووي هذه الرواية للجزم بها للطبراني عن ابن عباس:(سبعة عشر) وكذا له وللبزار من حديث عمرو بن عوف. قال ابن حجر رحمه الله: (والجمع بين الروايات سهل بأن يكون من جزم بستة عشر لفّق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا وألغى الزائد، ومن جزم بسبعة عشر عدّهما معًا، ومن شك تردد في ذلك. وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس، وقال
ابن حبان: سبعة أشهر وثلاثة أيام، وهو مبني على أن القدوم كان في نصف شعبان. قال: وهو الذي ذكره النووي في الروضة وأقره، مع كونه رجح في شرحه لمسلم رواية: ستة عشر شهرًا؛ لكونها مجزومًا بها عند مسلم، ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان إلا إن ألغى شهري القدوم والتحويل. قال: وقد جزم موسى بن عقبة بأن التحويل كان في جمادى الآخرة). اهـ. وقد ذكر روايات شاذة في ذلك، منها: رواية (ثلاثة عشر شهرًا) ورواية (تسعة أشهر) ورواية (شهرين) ورواية (سنتين) إلا أنها قد توجه بحملها على الصواب، والكلّ شاذ وأسانيده ضعيفة. وروى مالك عن سعيد بن المسيب أن تحويلها كان قبل غزوة بدر بشهرين. وقوله:(شك سفيان) أي الراوي للحديث عن أبي إسحاق السبيعي وهو سفيان بن سعيد الثوري. ورواية الحديث هنا عند المصنف بالعنعنة من أبي إسحاق وهو يدلس، ولكن ثبتت روايته في صحيح البخاري من طريق سفيان، وصرح فيها بالسماع من البراء بلفظ:(سمعت البراء)، وهي في التفسير منه. وقوله:(وصرت إلى القبلة) أي الكعبة، وذلك بنزول القرآن عليه في قوله تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية. (فصرفه الله) أي أمره أن ينصرف عند الصلاة عن جهة بيت المقدس إلى جهة الكعبة.
• الأحكام والفوائد
الحديث فيه دليل وجوب استقبال القبلة في الصلاة، إلا في حال الضرورة بالعجز عن ذلك: إما في صلاة المسايفة أو التحيّر لعدم وجود دليل عليها، وسيأتي الرخصة في النافلة للمسافر الراكب على الدابة. وفيه: ثبوت النسخ في الأحكام، قال القرطبي رحمه الله تعالى:(وأجمعت عليه الأمة إلا من شذوذ) وقال أيضًا: (أنكرت طوائف من المنتمين إلى الإِسلام من المتأخرين جوازه، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة) اهـ، وفيه أيضًا: نسخ السنة بالكتاب؛ لأنّ القبلة الأولى كانت بالسنة على الصحيح لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا .. } الآية، وكذلك يرد قول من قال: إنه استقبل بيت المقدس باجتهاد منه. وقد روي عن ابن عباس أن نسخ القبلة أول نسخ وقع في القرآن، وقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي وهو بمكة للقبلتين فيجعل الكعبة
بينه وبين الشام، فلما هاجر تعذر عليه الجمع بينهما فأمر باستقبال بيت المقدس، فكان يكثر النظر إلى السماء رجاء نزول الملك بالأمر بتحويله إلى الكعبة، فنزلت عليه الآيات. ويأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله.
486 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فَصَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ إِنَّهُ وُجِّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَمَرَّ رَجُلٌ قَدْ كَانَ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْمٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ وُجِّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَانْحَرَفُوا إِلَى الْكَعْبَةِ.
• [رواته: 5]
1 -
محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي أبو عبد الله -ويقال: أبو بكر- المعروف أبوه بابن عُليَّة، نزل دمشق وولي القضاء بها، وروى عن عبد الرحمن بن مهدي وأبي عامر العقدي وعثمان بن عمر بن فارس وإسحاق بن يوسف الأزرق وحجاج بن محمَّد ويعلى بن عبيد ويزيد بن هارون وغيرهم، وعنه النسائي وأبو زرعة الدمشقي وإبراهيم بن دحيم ومثويه ومحمد بن عبد الله بن سلام وأبو بشر الدولابي وعبد الله بن أحمد بن أبي الحواري ومكحول وآخرون. قال النسائي: حافظ ثقة، وقال الدارقطني: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يغرب، وقال محمَّد بن الفيض: لم يزل قاضيًا بدمشق حتى توفي سنة 264. قال مسلمة: حدثنا عنه العدوي وكان ثقة، وقال المستملي: مستقيم الحديث، والله أعلم.
2 -
إسحاق بن يوسف الأزرق بن مرداس المخزومي الواسطي، روى عن ابن عون والأعمش وشريك والثوري ومسعر وعمر بن ذر وغيرهم، وعنه أحمد بن حنبل وأبو خيثمة وأبو بكر بن أبي شيبة ودحيم وقتيبة وعمرو الناقد ويحيى بن معين وجماعة آخرهم سعدان بن نصر البزاز. قيل لأحمد: إسحاق الأزرق ثقة؟ قال: أي والله، وقال ابن معين والعجلي: ثقة، وقال أبو حاتم: صحيح الحديث صدوق لا بأس به، وقال يعقوب بن شيبة: كان أعلمهم بحديث شريك، وقال الخطيب: كان من الثقات المأمونين، وقال وهب بن
بقية: ولد سنة 117، وقال ابن سعد وغيره: مات سنة 195، زاد ابن سعد: وكان ثقة ربما غلط، وذكر ابن حبان في الثقات أنه روى عن إسماعيل بن أبي خالد، وقال البزار: كان ثقة والله أعلم.
3 -
زكريا بن أبي زائدة: تقدم 115.
4 -
أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي: تقدم 42.
5 -
البراء بن عازب رضي الله عنهما: تقدم 105.
• التخريج
هذه رواية للحديث السابق إلا أن فيها زيادة خبر نقل تحويل القبلة، كما يأتي إن شاء الله.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة) أي مهاجرًا، والمدينة وإن كانت تطلق على كل مدينة لكنها صارت عَلمًا بالتغليب على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله:(فصلى نحو بيت المقدس) تقدم معناه، وتقدمت الإشارة إلى هذه الرواية وفيها الجزم بأن المدة التي صلى فيها نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا، وتقدم بسط الكلام على ذلك. وقوله:(ثم إنه وُجِّه إلى الكعبة) تقدم الكلام على (ثم) في الطهارة. وقوله: (وجِّه) بالبناء للمجهول، أي: وجّهه الله بأمره له بذلك. وقوله: (الكعبة) هي المراد بالقبلة في الرواية الأولى، والكعبة أصله عند العرب: البيت المربع، ولكنه صار علمًا على بيت الله الحرام، والمراد أنه نزلت عليه الآية المتقدمة {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} الآية. قوله:(فمرّ رجلٌ كان قد صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم) أي تلك الصلاة صلاها أول ما صلى إلى الكعبة، قيل: هو عبَّاد بن بشر الأشهلي، وقيل: عبَّاد بن نهيك. وفي البخاري في كتاب الإيمان: إن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر. وقوله: (كان قد صلى) جملة (كان) صفة، وجملة (قد صلى) خبر لـ (كان)، أي: صلى معه تلك الصلاة إلى بيت الله الحرام، وهذا على رواية البراء المصرح فيها عند البخاري بأنها صلاة العصر. أما القوم الذين مرّ عليهم فهم بنو سلمة في صلاة العصر، فصلوا منها ركعتين إلى القبلة الأولى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة، وقيل:
هم أهل قباء كما؛ هو صريح في حديث ابن عمر وقيل: إن ذلك تكرر؛ فمر هذا على أهل مسجد بني سلمة ومر آخر في صلاة الصبح على أهل قباء. ومما يدل على أن الذي في قصة البراء غير مسجد قباء ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق ثويلة بنت أسلم قالت: صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين -تعني ركعتين- ثم جاءنا من يخبرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أُمِرَ أن يتوجه إلى المسجد الحرام. قوله:(أشهد أن رسول الله قد وُجِّه) أي قد أمره الله بالتوجه في الصلاة إلى الكعبة بدل بيت المقدس، وقوله:(فانحرفوا) أي استداروا عن جهة الشام إلى جهة الكعبة.
• فوائد الحديث
اعلم أنه اختلف في هذه القصة المذكورة في هذا الحديث من ثلاثة وجوه الوجه الأول: أين نزلت هذه الآية؟ والثاني: أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة بعد التحويل سواءً كان في أثناء الصلاة أو قبل الدخول فيها، الثالث: من الذين وصل إليهم الخبر وهم في الصلاة فصلّوها للقبلتين؟ أما محل النزول فالصحيح أنه بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه حديث تويلة بنت أسلم عند ابن أبي حاتم ذكرت فيه أنهم وصلهم الخبر في مسجد بني سلمة -وهو مسجد القبلتين، وقد صلوا ركعتين فاستداروا وهم في الصلاة، وكذلك قول المخبر لبني حارثة وكذا لبني سلمة: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يصرح أنه في مسجده فالمتبادر أنه في مسجده، وكذا ما في صحيح مسلم من رواية أنس بن مالك أن رجلًا من بني سلمة مرَّ وَهُمْ ركوع في صلاة الفجر، فلو كانت الآية نزلت في بني سلمة لما كانوا توقفوا على إخبار أحد بذلك. وقال محمَّد بن سعد في الطبقات: يقال: إنه صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتحول إلى المسجد الحرام فاستدار إليه ودار معه المسلمون، ويقال: زار النبي صلى الله عليه وسلم أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة فصنعت له طعامًا، وحانت صلاة الظهر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ركعتين، ثم أُمر فاستدار إلى الكعبة واستقبل الميزاب، فسمّي مسجد القبلتين. قال ابن سعد: قال الواقدي: هذا أثبت عندنا، وهذا هو القول الثاني. وأخرج البزار من حديث أنس: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيت المقدس وهو يصلي الظهر بوجهه إلى الكعبة،
وللطبراني نحوه من وجه آخر عن أنس، وفي كل منهما ضعف، قاله ابن حجر. ونقل السمهودي عن ابن زبالة أن القبلة صرفت ونفر من بني سلمة يصلون الظهر في القبلتين، فأتاهم آت فأخبرهم وقد صلوا ركعتين، فاستداروا حتى جعلوا وجوههم إلى الكعبة، فبذلك سمي مسجد القبلتين. ونقل عن سعيد بن المسيب قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرًا، وصُرِفَت القبلة قبل بدر بشهرين. قال: والثابت عندنا أنها صرفت في الظهر في مسجد القبلتين. قلت: ولهذا رجح ابن حجر أنها صرفت في القبلتين والله أعلم.
وروى ابن زبالة عن عثمان بن عبد الرحمن حديثًا قال فيه: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر في مسجده قد صلى ركعتين؛ إذ نزل عليه جبريل فأشار إليه أن صل إلى البيت، وأسند يحيي عن ابن عباس فذكر الحديث مثل حديث ابن زبالة قال: فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي. . . الحديث. وأسند يحيى عن رافع بن خديج قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، وأمر أن يوجّه إلى المسجد الحرام فاستدار. قال رافع: فأتانا آت ونحن نصلي في بني عبد الأشهل فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُمِرَ أن يوجّه إلى الكعبة، فأدارنا إمامنا إلى الكعبة. والمراد بيحيى في الحديث: هو الحسيني جد أمراء المدينة، له كتاب في أخبار المدينة ولم أقف على حاله.
أما الاختلاف في الصلاة فالظاهر أنها إما الظهر أو العصر، وقد صرح في رواية البراء عند البخاري وغيره: أن أول صلاة صلاها بعد التحويل صلاة العصر، وحمله ابن حجر رحمه الله على أنها أول صلاة صلاها في مسجده، وأما أول ما استقبل القبلة ففي الركعتين الأخيرتين من الظهر بمسجد القبلتين. ولفظ الحديث لا يعطي ذلك وإنما حمله عليه قصد الجمع بين الروايات، غير أن رواية صلاته بمسجد القبلتين الظهر للقبلتين ليست بالقوية، وحديث البراء صريح بأن أول صلاة على العموم إلى الكعبة هي العصر، وروي عن مجاهد مثل ما قال ابن حجر: إن نزول الآية في مسجد القبلتين، وفي حديث أبي سعيد بن المعلى عند النسائي قال: كنا نغدوا إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلي فيه، فمررنا يومًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر فقلت: لقد حدث أمر، فجلست فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ} الآية، فقلت: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى، فتوارينا فصليناهما ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى للناس الظهر يومئذٍ. قال ابن كثير رحمه الله:(وكذا روى ابن مردويه عن ابن عمر أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صلاة العصر، ثم ذكر حديث تويلة من رواية ابن مردويه بإسناد وفيه: "فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء"، وفي آخره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أولئك رجال يؤمنون بالغيب") اهـ، فتحصّل من هذا أن المشهور نزول الآية في مسجد بني سلمة، ومن حيث النقل -وهو الذي يظهر لي- نزولها بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الصحيح أن أول صلاة صلاها إما مطلقًا أو في مسجده بعد التحويل: صلاة العصر، وعلى أن الآية نزلت في مسجد بني سلمة، فيكون صلى بعض صلاة الظهر إلى الشام وبعضها إلى مكة. أما الإختلاف في القوم الذين أُخْبروا فهو سهل، لأنّ حمل الرواية في ذلك عن البراء على أن المراد غير أهل قباء: إما بنو سلمة أو بنو حارثة كما في حديث تويلة أو بني عبد الأشهل والظاهر أن الكل حصل غير أن الخبر إلى بني حارثة، وبني عبد الأشهل وصل في صلاة العصر، وأما أهل القباء فلا خلاف أنه وصلهم في صلاة الصبح، لصحة الحديث في ذلك على وجه لا يعتبر خلافه، لضعفه ومعارضته للحديث الصحيح في حديث ابن عمر الآتي 490، فإنه صريح في ذلك.
ومن فوائد الحديث: ثبوت النسخ كما تقدم، ومبادرة الصحابة إلى الإمتثال، ووجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلًا ثقة، وصحة ما عمل بعد النسخ وقبل بلوغه، وينبني عليه صحة حكم القاضي بعد العزل وقبل وصول الخبر به وموت من ولّاه قبل العلم به، وهكذا الحال في الوكيل والوصي والأمير؛ كل هؤلاء دل الحديث على صحة تصرفاتهم قبل العلم بالعزل والموت الموجب لبطلان ولايتهم. واستدل به على جواز الحركة الكثيرة لإصلاح الصلاة، وتنوعت أجوبة أئمة الشافعية عنه بما لا يخلو من تكلف، مع أن القول بأن ثلاث حركات متتابعات تبطل الصلاة ليس له نص من الشارع ولا دليل صريح، بل الصواب أن كل ما كان لإصلاح الصلاة ونحوه لا يفسدها ما لم يكثر جدًا والله أعلم.
باب الْحَالِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا اسْتِقْبَالُ غَيْرِ الْقِبْلَةِ
487 -
أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ زُغْبَةُ وَأَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَتَوَجَّهُ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ.
• [رواته: 8]
1 -
عيسى بن حماد زغبة المصري: تقدم 294.
2 -
أحمد بن عمرو بن السرح: تقدم 39.
3 -
الحارث بن مسكين: تقدم 9.
4 -
عبد الله بن وهب: تقدم 9.
5 -
يونس بن يزيد الأيلي: تقدم 9.
6 -
محمَّد بن شهاب: تقدم 1.
7 -
سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عمر وقيل: أبو عبد الله المدني التابعي الفقيه أحد السادة الأعلام من التابعين فضلًا وعلمًا وعبادة روى عن أبيه وأبي هريرة وأبي رافع وأبي أيوب وعن زيد بن الخطاب. قلت: وهو منقطع لأنّ زيدًا قتل شهيدًا يوم اليمامة، وأم سالم من سبي الفرس من بنات يزدجرد كما سيأتي إن شاء الله. وقيل: روى عن أبي لبابة وغير هؤلاء، وعنه ابنه أبو بكر وأبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم والزهري وصالح بن كيسان وحنظلة بن أبي سفيان وعبيد الله بن عمر بن حفص وعاصم بن عبيد الله وعبد الله بن أبي بكر بن حزم وأبو قلابة الجرمي وحميد الطويل وعمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر وعمرو بن دينار المكي وعمرو بن دينار البصري ونافع مولى أبيه وموسى بن عقبة ومحمد بن واسع وآخرون. قال سعيد بن المسيب: كان عبد الله أشبه ولد عمر به، وكان سالم أشبه ولد عبد الله به، وقال مالك: لم يكن أحد في زمان سالم أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش منه. قال الأصمعي عن ابن أبي الزناد: كان أهل
المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد، حتى نشأ فيهم القراء السَّادة: علي بن الحسين بن علي والقاسم بن محمَّد وسالم بن عبد الله، ففاقوا أهل المدينة علمًا وتقى وعبادة وورعًا، فرغب الناس يومئذٍ في السراري، وقال ابن المبارك: كان فقهاء المدينة سبعة، فذكره فيهم. قال مالك: كان ابن عمر يخرج إلى السوق فيشتري، وكان سالم دهره يشتري في الأسواق وكان من أفضل أهل زمانه، وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه: أصح الأسانيد: الزهري عن سالم عن أبيه، وقال الدوري عن ابن معين: سالم والقاسم حديثهما قريب من السواء، وسعيد بن المسيب قريب منهما، وإبراهيم أعجب إلى مرسلاتًا منهم، وقال البخاري: لم يسمع من عائشة، وقال العجلي: تابعي ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث عاليًا من الرجال، وقال أبو نعيم وجماعة: مات سنة ست ومائة في ذي القعدة أو ذي الحجة، وقال خليفة: سنة 107، وقال الهيثم: سنة 108، وقال الأصمعي: 105، والأول أصح. قال ابن حبان: كان يشبه أباه في السمت والهدى، وقال البخاري في التاريخ الصغير: لا أدري هل سمع من أبي رافع؟ وقال غيره: لما قدم سبي فارس على عمر كان فيه بنات يزدجرد، فقوّمن فأخذهنّ عليّ فأعطى واحدة لابن عمر فولدت له سالمًا، وأعطى أختها لولده الحسين فولدت له عليًا، وأعطى أختهما لمحمد بن أبي بكر فولدت له القاسم. قلت كان ابن عمر يحبه كثيرًا وهو القائل:
يلومونني في سالمٍ وألومهم
…
وجلدة بين العين والأنف سالم
8 -
عبد الله بن عمر: تقدم 12.
• التخريج
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود، وأشار له الترمذي، وأخرجه ابن الجارود في المنتقى، وعند أحمد مختصرًا وعنده عن أبي سعيد نحوه.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: (يسبّح) أي: يصلي النافلة، والنافلة يطلق عليها هذا اللفظ، ومنه: سبحة الضحى، وأصل التسبيح: التنزيه، ومنه قول العبد: سبحان الله، وإطلاق
السبحة على الصلاة: إما لأنها تنزيه لله أو لأنّ المصلي يسبّح فيها، فيكون من باب تسمية الشيء باسم جزئه. وأما اختصاص هذا اللفظ بالنافلة دون الفرض فهو عرف شرعي، والسّبحة الدعاء وصلاة التطوع، يقال: فرغ فلان من سبحته أي: من صلاة النافلة، سميت الصلاة تسبيحا لأنّ التسبيح تعظيم الله وتنزيهه من كل سوء، قاله في التاج. وظاهر بيت جرير الإطلاق في الصلاة:
أنخنا فسبّحنا ونوّرت السرى
…
بأعراف ورد اللون بلق شواكله
فإن ظاهره صلاة الفرض. والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة عليها. (قِبَل) أي جهة (أي وجه تتوجه) إليه الراحلة، (ويوتر عليها) أي يصلي عليها صلاة الوتر، (غير أنه) بمعنى: إلا أنه أو لكنه، (لا يصلي عليها المكتوبة)، وقد تقدم الكلام على (غير) والمكتوبة هي المفروضة، كان لا يصلي الصلاة المفروضة على الراحلة، (والراحلة): هي الدابة التي يركبها الإنسان.
• الأحكام والفوائد
قال ابن حجر: وقد أخذ بمضمون هذه الأحاديث فقهاء الأمصار، إلا أن أحمد وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبل القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة، والحجة لذلك حديث الجارود وابن أبي سبرة عن أنس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يتطوع في السفر، استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث وجهت ركابه". أخرجه أبو داود وأحمد والدارقطني. واختلفوا في الصلاة على الدواب في السفر الذي لا تقصر فيه الصلاة، فذهب الجمهور إلى جواز ذلك في كل سفر، غير مالك فخصه بالسفر الذي تقصر فيه الصلاة، قال الطبري: لا أعلم أحدًا وافقه على ذلك. قال ابن حجر: ولم يتفق على ذلك عنه -يعني أنه مجرد قول مما روي عنه. وحجته أن هذه الأحاديث إنما وردت في أسفاره صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عنه أنه سافر سفرًا قصيرًا فصنع ذلك، وحجة الجمهور مطلق الأخبار في ذلك، وذهب أبو يوسف إلى جوازه في الحضر، ووافقه أبو سعيد الإصطخري من الشافعية، واستدل به أيضًا على أن جهة السفر تكون في هذه الحالة قبلة له، لا يجوز له أن ينحرف عنها لغيرها، كالحال في قبلة الصلاة، وأجاز بعضهم له، الإنحراف إلى جهة القبلة إذا كان السير لغيرها، واستدلوا به على أن الوتر غير واجب لأنه يفعله على الراحلة، وسيأتي الكلام على ذلك. واستنبط منه بعض
العلماء جواز التنفل للماشي وقال: لا يجوز ذلك. وفيه: دليل على عدم جواز المكتوبة على الدابة كما سيأتي إن شاء الله. واستدلوا به أيضًا على جواز التنفل في السفينة لراكبها. وفيه: دليل على الإهتمام بصلاة النافلة والإكثار منها وجوازها في السفر، والله أعلم.
488 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ أُنْزِلَتْ:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} .
• [رواته: 6]
1 -
عمرو بن علي الفلاس: تقدم 4.
2 -
محمَّد بن المثنى أبو موسى الزمن: تقدم 80.
3 -
يحيى بن سعيد القطان: تقدم 4.
4 -
عبد الملك بن أبي سليمان: تقدم 404.
5 -
سعيد بن جبير: تقدم 434.
6 -
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: تقدم 12.
• التخريج
أخرجه مسلم وأحمد وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه، وأصله حديث ابن عمر السابق، وهو في الصحيحين من روايته ورواية عامر بن أبي ربيعة بدون ذكر الآية.
• اللغة والإعراب والمعنى
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على دابته) تقدم أن (كان) تدل على اتصاف المخبر عنه بالخبر فيما مضى، وقد تفيد تكرار الفعل بل هو المتبادر منها إلا أن يدل الدليل على خلافه. وقوله:(يصلي) جملة في محل نصب خبر (كان)، وقوله:(على دابته) الجار والمجرور متعلق بـ (يصلي) وهو في محل نصب على الحال، والتقدير: وهو راكب على دابته. وتقدم أن الدابة: ما دبَّ على الأرض، وأن العرف في الإستعمال خصصها بذوات الأربع، وهو كقوله:
(على راحلته) كما في الرواية السابقة. وقوله: (وهو مقبل من مكة) جملة أيضًا حالية، وهو صريح في كونه يستدبر القبلة في هذه الحالة، وقد تقدم الكلام على ذلك وما يتعلق بالحديث فيه. وزاد هنا قوله:(مقبل) إلى المدينة، و (إلى) عدّي بها الإقبال لأنّ المراد بالإقبال هنا: السير، أي: وهو يسير ووجهه إلى المدينة. قوله: (وفيه) أي في ذلك النوع من الترخيص في الصلاة في السفر على الدابة -كما تقدم- أنزل هذه الآية {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ، وهذا أحد الأقوال في الآية، والقول الثاني: أن سرية من الصحابة تحيّروا في القبلة فكلهم صلى إلى ما أدّاه إليه اجتهاده، وفي رواية: أن كلًا منهم خط على الجهة التي أصبح عليها، فإذا هم قد صلوا لغير القبلة فنزلت الآية. وعلى هذين القولين؛ فالآية محكمة، وهو الذي عليه الأكثرون، وهذا الحديث يدل عليه. وذكر ابن جرير فيها قولًا ثالثًا بأنها منسوخة، كانت رخصة للنبي صلى الله عليه وسلم فنسخت بقوله:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} الآية. وقوله: {أينما} كلمة أينما اسم استفهام مضمّن معنى الشرط يستفهم به عن المكان، والفاء في {فَثَمَّ} واقعة في جواب الشرط، و (ثمَّ) بفتح الثاء بمعنى: هناك، {وَجْهُ اللهِ} أي: حيثما توجهتم فثمّ وجه الله. وقد ذكر ابن جرير فيها قولًا بأنها نزلت في الدعاء حينما سألوه بعد نزول {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ} ، قالوا إلى أي جهة؟ فنزلت:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} والله أعلم.
وقد تقدم ما يتعلق به من الأحكام في الذي قبله.
489 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ. قَالَ مَالِكٌ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.
• [رواته: 4]
1 -
قتيبة بن سعيد: تقدم 1.
2 -
مالك بن أنس: تقدم 7.
3 -
عبد الله بن دينار: تقدم 260.
4 -
عبد الله بن عمر: تقدم 12.
تقدم ما يتعلق بالحديث لأنّ هذه إحدى روايات حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
باب اسْتِبَانَةِ الْخَطَأ بَعْدَ الاِجْتِهَادِ
490 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ.
تقدم جميع رواته في الذي قبله، وتقدم شرح ما يتعلق به في حديث البراء 465.
وقوله: (فاستقبِلوها) بصيغة الأمر كما هنا، ويروى بصيغة الماضي، و (قباء) بضم القاف والمد فيها أكثر. قال ابن الزبعري في قصيدته اللامية في يوم أحد:
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا
…
جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكت بقباء بركها
…
واستحرّ القتل في عبد الأشهل
وذكر النووي أن المشهور الفصيح فيها المد والصرف والتذكير، وقال الخليل هو مقصور، وهي قرية بعوالي المدينة وتسمى العصبة، وقيل: العصبة منها، وفيها بئر أريس وبئر غرس وهما من الآبار السبعة، وبالعصبة كان نزول أكثر المهاجرين لما قدموا المدينة. وأول قباء مسجدها، وهي منازل بني عمرو بن عوف وبها كان مسجد الضرار، ويجاورها من جهة الشمال منازل بني سالم بن عوف، وفيها المسجد الذي بني في محل صلاة الجمعة التي كانت أول جمعة صلاها صلى الله عليه وسلم، والطريق بينها وبين المدينة كانت بين النخيل لكثرته، وقد تغير ذلك اليوم واتصل بها البناء من المدينة. وأطلق لفظ قباء على ما بينها وبين المدينة لأنهم كانوا يسمون تلك الجهة بباب قباء، لأنّ باب سور المدينة الذي يليها كان في تلك الجهة، فأطلقت العامة اسم قباء، على تلك الجهة. قيل: إن قباء اسم لبئر كانت هناك، وقيل: اسم أطم من آطامها، وذكر السمهودي أنه ذرع من عتبة مسجد المدينة إلى عتبة مسجد قباء، فكان ذلك 7000 ذراع بذراع اليد و 200 أو يزيد قليلًا.