الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1) عداوة الشيطان
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله وراقبوه واحذروا عداوة الشيطان وجاهدوه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)} (2).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} (3).
عباد الله: وهناك حقيقة نعترف بها جميعًا، ونحسُّ بأثرها كلما زلَّت بنا القدم عن صراط الله المستقيم، إنها حقيقة من حقائق القرآن، وهي بليةٌ من بلايا بني آدم، تنتقل من الأجداد إلى الآباء إلى الأحفاد، وستظل إلى يوم يبعثون، كذا قدر الله وأراد ليمتحن الناس -وهو بهم أعلم - فيتميّز حزب الله عن حزب الشيطان.
والمصيبة -يا عباد الله - أننا نعلم الداء، وربما صعب علينا الاستمرارُ على
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 9/ 10/ 1418 هـ.
(2)
سورة المائدة: الآية 35.
(3)
سورة التوبة: الآية 119.
تعاطي الدواء، تُرى أَيُنَا يُنكر عداوة الشيطان للإنسان، والله يقول مؤكِّدًا:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} (1).
فالعداوةُ حقٌ لا مرية فيها، تُقرِّرُها هذه الآية ومثيلاتها في القرآن، والهدف منها واضح لا غموض فيه:{إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} . وبداية العداوة قديمة تتصل بأبينا آدم عليه السلام حين أُمر الملائكة بالسجود له، فسجدوا إلا إبليس خانه أصله ساعة الابتلاء، فأبى أن يسجد لآدم متعللًا بأنه أشرف منه، فقارن بين الأصول ولم يلتفت إلى الأمر بالسجود فقال:{أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (2).
ومن عجب أن إبليس وهو يتكبر يعترف ويقرُّ بأن الله هو الخالق، بل يُقر بالبعث والجزاء - وهو القائل:{خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} : {أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (3).
ومن عجب أيضًا أن إبليس -لعنه الله - يطلب النظرة إلى يوم البعث، لا ليندم على خطيئته، ولا ليتوب إلى الله ويرجع ويكفِّر عن إثمه الجسيم، ولكن لينتقم من آدم وذريته جزاء ما لعنه اللهُ وطرده، يربط لعنَةَ الله له بآدم ولا يربطها بعصيانهِ لله (4).
أيها المسلمون: وإذا كانت هذه بداية العداوة الأولى للشيطان مع الإنسان بشكل عام، فله بدايةٌ مع كل مولودٍ بشكل خاص. روى مسلم في «صحيحه» عن
(1) سورة فاطر: الآية 6.
(2)
سورة الأعراف: الآية 12.
(3)
سورة الأعراف: الآية 14.
(4)
الظلال 4/ 2141.
أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صياحُ المولودِ حين يقعُ نزغةٌ من الشيطان» (1).
وروى البخاري ومسلم في «صحيحيهما» عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مولودٍ يولد إلا نخسَه الشيطانُ فيستهلُّ صارخًا من نخسةِ الشيطان، إلا ابنَ مريمَ وأُمَّه» ، ثم قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (2).
قال النووي -يرحمه الله -: قال القاضي عياض: إن جميع الأنبياء عليهم السلام يشاركون عيسى في هذه الخصوصية (3).
إخوة الإيمان: ولا بد من مراغمة الشيطان، والاستعداد للمعركة معه في كل ميدان، إذ من الناس من يبيت معهم الشيطان حيث باتوا ويقبل معهم حيثما قالوا .. يحلُّ معهم ويرتحل، يُحسِّن لهم القبيحَ، ويُكرِّه لهم الحسن، وكفى بما جاء في كتاب الله وصفًا دقيقًا:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} (4).
وَرَدَ عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} : أي: من قِبَل دنياهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: أمر آخرتهم، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} أي: من قبل حسناتهم، {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} أي: من قِبَل سيئاتهم. وقيل غير ذلك.
(1) الفضائل حديث 148.
(2)
سورة آل عمران: الآية 36.
(3)
شرح النووي لمسلم 15/ 121.
(4)
سورة الأعراف: الآية 16، 17.
واختار ابن جرير رحمه الله؛ أن المراد جميعُ طرقِ الخير والشر، فالخيرُ يصدهم عنه، والشرُّ يحبِّبُه لهم (1).
وقد ثبت في صحيح السنة أن الشيطان يبيت مع الإنسان، فأين يبيت يا ترى؟
في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ لمسلِم؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا استيقظ أحدُكم من منامِه فليستنثرْ ثلاث مراتٍ، فإنَّ الشيطانَ يبيتُ على خياشيمه» (2).
قال الحافظ ابن حجر: ظاهرُ الحديث أن هذا يقع لكل نائم، ويُحتمل أن يكون مخصوصًا بمن لم يحترز من الشيطان بشيء من الذِّكر، كحديث أبي هريرة وفيه:«فكانت له حِرْزًا من الشيطان» . وحديث آية الكرسي وفيه: «ولا يقربُكَ شيطانٌ» .
ويحتمل أن يكون المراد بنفي القرب هنا أنه لا يقرب من المكان الذي يوسوسُ فيه، وهو القلب، فيكون مبيتُه على الأنف ليتوصّل منه إلى القلب إذا استيقظ (3).
وقال القاضي عياض يرحمه الله: يحتمل أن يكون المبيتُ على حقيقته، فإن الأنف أحدُ منافذِ الجسم التي يُتوصل إلى القلب منها، ويُحتمل أن يكون على الاستعارة، فإن ما ينعقد من الغبارِ ورطوبةِ الخياشيم قذارةٌ توافق الشيطان (4).
كما ثبت أيضًا أن الذكر وتلاوة القرآن طاردٌ للشيطان. ويكفي أن تقف على قوله صلى الله عليه وسلم، وتعمل به إذا أردت السلامة من الشيطان، فقد ثبت في «صحيح مسلم» من حديث جابرٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا دخل الرجلُ بيتَهُ
(1) تفسير ابن كثير لآية الأعراف: 3/ 390، 391.
(2)
شرح النووي لمسلم 3/ 127.
(3)
الفتح 6/ 343.
(4)
شرح مسلم 3/ 127.
فذكَر اللهَ عند دخولِه وعند طعامِه قال الشيطانُ: لا مَبيتَ لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكرِ الله تعالى عند دخولِه قال الشيطان: أدركتمُ المبيتَ، وإذا لم يذكرِ اللهَ تعالى عند طعامِه قال: أدركتم المبيتَ والعَشاءَ» (1).
أيها المسلمون: وهناك فرق بين عداوة الشيطان للإنسان، وعداوة الإنسان للإنسان، أبانَ الله عنها في ثلاث آيات لا رابع لهن، فتأملوهن وتأملوا ما فيهن من توجيه وفرق، قال في الأولى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} (2)، وقال في الثانية:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ (98)} (3)، وقال في الثلاثة:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ، إلى قوله:{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (4).
قال الحافظ ابن كثير يرحمه الله: فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها، وهو أن الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي، والإحسان إليه ليرده عن طبعه الطيب الأصل إلى الموالاة والمصافاة، ويأمرُ بالاستعاذة من العدو الشيطاني لا محالة، إذ لا يقبل مصانعة ولا إحسانًا، ولا يبغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل.
فهل نتنبَّه لطبيعة العداوة مع الشيطان، وهل نراغمه في الإصلاح فيما بيننا؟
(1) شرح النووي 13/ 190.
(2)
سورة الأعراف: الآية 199، 200.
(3)
سورة المؤمنون: الآية 96 - 98.
(4)
سورة فصلت: الآية 34 - 36.
عباد الله! ونحن نشهد آثار عداوة الشيطان ومكره كلما امتد الزمان أو اختلف المكان.
فإذا رأيت القتل بغير حق فثَمَّ الشيطان، وإذا رأيت التفريق بين المؤمنين، وشيوع الحسد والبغضاء والقطيعة والشحناء فهناك تُنصب رايةُ الشيطان، وإذا رأيت شيوع الفواحش وانتشارَ المنكرات، ففي أجوائها يطرب الشيطان ويجتمع، وعلى موائد الحرام وأماكن اللهو المحرم يحضر الشيطان وجنده، وكلما قلَّ ذكرُ الله احتوشت الشياطينُ وأحاطت. إلى غير ذلك من وسائل الشيطان وخطواته فاحذروها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208)} (1).
(1) سورة البقرة: الآية 208.