الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موعظة واستدامة الطاعة
(1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحاط بكل شيءٍ علمًا، وأحصى كلَّ شيءٍ عددًا، لا يعزب عنه مثقالُ ذرةٍ في السماوات ولا في الأرض، كلٌّ في كتاب مبين.
وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، بعثه الله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، فبلَّغ البلاغ المبين، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.
اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (2).
عباد الله: ما حالُ تقوى الله بعد شهر التقوى؟ وما الذي خلَّفه في نفوسنا شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن؟ إن العهد بشهر رمضان قريبٌ، فهل لا تزال المساجدُ تمتلئُ بالمصلين كما كانت كذلك في شهر رمضان؟ وهل استمرَّت الصلةُ بكتاب
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 22/ 10/ 1420 هـ.
(2)
سورة التوبة، الآية:119.
(3)
سورة لقمان، الآية:33.
الله؟ أم بدأ يظهر على البعض هجرُ القرآن؟
يا من حفظتم أسماعكم وأبصاركم عن الحرام في شهر رمضان، هل يسوغ إطلاقُ العنانِ لها في شهر شوال؟
ويا من صبَّرتم أنفسكم عن تعاطي المشروبات المحرمة في شهر الصيام، هل كان ذلك حافزًا لكم على الاستمرار على مجاهدة النفس فيما بعد شهر الصيام؟
أيها المسلمون: وهنيئًا لمن أحسَّ بتقوى الصيام بعد انقضاء شهر رمضان، هنيئًا لمن أتمَّ صيام رمضان، ثم أتبعه ستًا من شوال، وهنيئًا لمن تعلق قلبُه بالمساجد بعد ملازمتها في شهر رمضان، هنيئًا لمن واصل تلاوة كتاب الله وتدبَّره بعد انقضاء شهر الصيام، وهنيئًا لمن دأبُه قيامُ الليل في سائر العام، وهنيئًا لمن لم يفترْ عن متابعةِ أصحابِ الحوائج والمساكين، فيسد حاجتهم، ويفرّج شيئًا من كروبهم، ويدخل السرور عليهم. هنيئًا لمن أورثه الصيام التقي والخشوع والإنابة لربِّ العالمين، وحالُهم كما قال الشاعر:
يمشون نحو بيوت الله إذ سمعوا
…
(اللهُ أكبرُ) في شوقٍ وفي جذلِ
أرواحُهم خشعتْ لله في أدبٍ
…
قلوبُهم من جلالِ اللهِ في وَجَلِ
نحواهمُ: ربَّنا جئناك طائعةً
…
نفوسُنا، وعصينا خادعَ الأملِ
إذا سجى الليلُ قاموه وأعينُهم
…
من خشيةِ الله مثلُ الجائد الهطلِ
همُ الرجالُ فلا يلهيهمُ لعبٌ
…
عن الصلاة ولا أكذوبةُ الكَسلِ
يا أخا الإيمان: أين أنت من قومٍ كانوا يحرصون على السُّنن جهدَهم؟ فكيف ترى حرصَهم على الواجبات؟ ! وأراك ونفسي نقحم أنفسنا أحيانًا في المحرمات، وقد تتقاصر هممُنا عن الواجبات، فضلًا عن المستحبات، ودونك هذا النموذج في المسارعة للخيرات:
أخرج ابنُ عبد البر بسند جيد - كما قال الحافظ في «الفتح» - عن أبي داود صاحب «السنن» ؛ أنه كان في سفينةٍ فسمع على الشطِّ حَمْدَ عاطسٍ، فاستأجر قاربًا بدرهم حتى جاء إلى العاطس فشمّته، ثم رجع، فسُئل عن ذلك، فقال: لعله يكون مجابَ الدعوة، فلما رقدوا سمعوا قائلًا يقول في أهلِ السفينة: إن أبا داود اشترى الجنةَ من الله بدرهم.
وذكره الذهبيُّ في «سير أعلام النبلاء» .
يا عبد الله: أللقوم غايةٌ غير غايتك، أم أنك لا تخافُ مما يخافون، أم أنك زاهد في الجنان والنعيم الذي يطلبون؟ أم لديك شكٌّ في الوعد الحق الذي أخبر عنه الحقُّ بقوله:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1).
يا ابن آدم: تأمل من أين جئت وإلى أين ستنتهي: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} (2).
يا عبد الله: أتغترُّ بالله أم تنكر خلقه .. أم تستهين بالحفظة الكاتبين؟ ألا فاعمل صالحًا واتخذ من دار المهلة زادًا لدار النُّقلة، فالفرقُ كبير في المنازل بين الأبرار والفُجّار، ودونك كتاب الله فهو لك موقظ ومذكِّر: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ
(1) سورة يس، الآية: 51 - 54.
(2)
سورة عبس، الآية: 17 - 23.
تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (1).
أيها المسلمون: ليس لعمل المسلم غايةٌ دون الموت: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (2).
وما خلق اللهُ الناس عبثًا، بل وما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما باطلًا، لكن ذلك لحكمة عظيمة، ألا وهي تحقيقُ العبودية لله:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3).
وينبغي للمسلم أن يعبد الله في كل حال؛ في حال نومه ويقظته، وفي حال قوتهِ وضعفه، وهو في المسجد أو بيته أو مكان عمله، حين يراه الناس وحين لا يراه إلا الذي يعلم السرَّ وأخفى. ويمكن للمسلم أن يراوح بين أنواع من العبادة حتى تتعود نفسُه على العبادة، والدعوة، والإحسان. وكم تحتاج النفسُ في هذا الطريق إلى مجاهدةٍ ومكابدةٍ .. لكنها مع الصدق والإخلاص تُسلم القيادَ ويقودها صاحبُها إلى ما فيه صلاحُها عاجلًا وآجلًا. ويرحم اللهُ أقوامًا جاهدوا أنفسهم حتى ذللوها للخير، ونأوا بها عن مواطنِ السوءِ والريب. لكنهم استسهلوا الصعب، ولم ينقطعوا في ثنايا الطريق وبُنياتِه الأولى، فهذا محمدُ بنُ المنكدر رحمه الله يقول:
(1) سورة الانفطار، الآيات: 6 - 19.
(2)
سورة الحجر، الآية:99.
(3)
سورة الذاريات، الآية:56.
«كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت» (1). وكان من معادن الصدق، ويجتمع إليه الصالحون، كما وصفه سفيانُ الثوري يرحمه الله.
وهذا «طلقُ بنُ حبيب» اشتهر بكثرة العبادة، حتى كان المتمني بالبصرة يقول ويتمنّى عبادة طلق بن حبيب (2). أما «مُسلم بنُ يسار» فكان إذا صلى كأنه ثوبٌ مُلقًى من خشوعه (3). أما «إسماعيل بنُ عبيد الأنصاري» فكان يُلقب بـ (تاجر الله)؛ لأنه جعل ثلث كسبه لله ينفقه في وجوه الخير (4). أما «زبيدُ بنُ الحارث اليامي» فيكفيه أن يقول عنه سعيدُ بنُ جبير رحمهما الله: لو خُيرت مَنْ ألقى الله تعالى في مسلاخه لاخترتُ زبيدًا اليامي. ومع ذلك كان الرجلُ إلى علمه وعبادته متواضعًا، وكان يخدم العجائز والأرامل، فإذا كانت الليلةُ المطيرة طاف على عجائز الحي يقول: ألكنّ في السوقِ حاجة (5)؟
عباد الله: تلك خلالٌ وخصالٌ كريمة، وضروبٌ من المجاهدة والبر والإحسان، لم يكن أصحابُها يقصرونها على شهر رمضان، بل كانت تلك سجاياهم وهممُهم على الدوام، وما أروع الحكمة القائلة:«أيها المؤمن إن كنت أصبت في الساعات التي مضت، فاجتهد للساعات التي تتلو، وإن كنت أخطأت فكفّر، وامح ساعةً بساعة» (6).
(1) سير أعلام النبلاء 5/ 355.
(2)
سير أعلام النبلاء 4/ 601 - 603.
(3)
الطبقات لابن سعد 7/ 186، الفسوي: المعرفة والتاريخ 2/ 85.
(4)
طبقات علماء أفريقية 84، 85، عن عبد الله الخرعان. أثر العلماء في الحياة السياسية، ص 136.
(5)
سير أعلام النبلاء 5/ 297.
(6)
وحي القلم 1/ 359، 364.
وردد مع الشاعر قوله:
أنامُ على سهوٍ وتبكي الحمائمُ
…
وليس لها جرمٌ ومني الجرائمُ!
كذبتُ لعمر الله لو كنتُ عاقلًا
…
لما سبقتني بالبكاءِ الحمائمُ
وبعدُ - يا أخا الإسلام - إن من جدَّ وجد، وليس من سهر كمن رقد. والموتُ منك قيدُ شبر الشابر، وهذا دبيبُ الليالي يُسارق نفسك ساعاتِها، وإنَّ سِلَع المعالي غالياتُ الثمن، وإن الطريق مخوف والاغترار غالب، والخطر عظيم، والناقد بصير (1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (2).
(1) الرقائق 136، 137.
(2)
سورة النازعات: الآية 40 - 41.