الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله إمام المتقين وخيرةُ الآمرين والناهين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلين.
عباد الله: ويرتبط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضائلُ ومزايا حريَّةٌ بأن تدعو المسلم للحصول عليها، إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر - على علم وبصيرةٍ بما يأمر به وما ينهى عنه، وبحلم وصبر -كما سيأتي البيان- ومن هذه الفضائل والمزايا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من علامات إيمان العبد - كما مرّ في الآية السابقة، وفي حديث عبد الله بن مسعود عن الخلوف التي تخلف؛ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، قال صلى الله عليه وسلم:((فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبةُ خردل)) (1).
ويقول الإمام أحمدُ موضحًا الفرق بين المؤمن والمنافق في القيام بواجب الأمرِ والنهي: يأتي على الناس زمانٌ يكون المؤمنُ فيه بينهم مثل الجيفة، ويكون المنافقُ يُشار إليه بالأصابع.
قال الراوي -عمرُ بنُ صالح -: يا أبا عبد الله! وكيف يشار إلى المنافق بالأصابع؟ يا أبا حفص! صيروا أمر الله فضولًا، وقال: المؤمنُ إذا رأى أمرًا بالمعروف أو نهيًا عن المنكر لم يصبر حتى يأمر وينهى، يعني: قالوا: هذا فضول،
(1) رواه مسلم ح 50.
والمنافقُ كلُّ شيءٍ يراه قال بيده على فمه، فقالوا: نعم الرجل، ليس بينه وبين الفضول عمل (1).
وهكذا تتجدد المصطلحات والاتهامات، وربما قيل للآمر والناهي: هذا متعجل أو متسرعٌ أو يتحدث فيما لا يعنيه، أو صاحبُ فتنة .. وهكذا! والله المستعان.
ومن فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه سببٌ للرحمة، وفي آخر الآية التي وصفت المؤمنين بالأمر والنهي، خُتمت بقوله تعالى:{أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2). وما أحوج الخلق كلَّهم إلى رحمةِ الله، وإنما يرحم اللهُ من عباده الرحماء، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر إنما قاموا بهذا الواجب رحمةً بالخلق، ولذا وصف أهلُ السنةِ بأنهم ((يَعْلمون الحقَّ ويرحمون الخلق)).
وحصول الأجر العظيم ورد إثر الأمر بالمعروف والإصلاح بين الناس، كما في قوله تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} .. ثم ختمت الآية بقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (3).
وهنا يلحظ المتأمل أن الأجرُ نكِّر ووصف بأنه عظيم، وكفى بهذين دلالة على عظمه.
(1)((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال 65.
(2)
سورة التوبة، الآية:71.
(3)
سورة النساء، الآية:114.
والأمر بالمعروف بابٌ من أبواب الجهاد، بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الجهاد كلمةُ حق عند سلطان جائر.
وهو كذلك بابٌ من أبواب الصدقات، أرشد إليه صلى الله عليه وسلم فقراء المهاجرين حين شكوا أنهم لا يجدون ما يتصدقون به، فقال:((قد جعل الله لكم ما تتصدقون به؛ إن بكل تسبيحةٍ صدقة، وبكلّ تحميدة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وأمرٍ بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة)).
وبالأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكر تُكفَّر السيئاتُ، وفي الحديث المتفق على صحته عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند عمر، فقال: أيكُم يحفظُ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة كما قال؟ قال فقلتُ: أنا، قال: إنك لجريءٌ! وكيف قال؟ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((فتنةُ الرجل في أهله وماله ونفسه وولدهِ وجاره يكفّرها الصيامُ والصلاة والصدقةُ والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر .. )) إلخ. الحديث (1).
بل وصح الخبر أنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُضاعف الأجر، ويعطون مثل أجور من سبق من هذه الأمة. فقد روى أحمدُ -وحسَّنه الألباني- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إنَّ من أمتي قومًا يعطون مثل أجورِ أولهم ينكرون المنكر)) (2).
عباد الله: ومن اللطائف أن حجية الإجماع لهذه الأمة مرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(1) البخاري 144، ومسلم 525.
(2)
أحمد ح 22670، وهو في ((صحيح الجامع)).
قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: ولهذا كان إجماعُ هذه الأمة حجةً؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم يأمرون بكل معروفٍ وينهون عن كل منكر -هذا شيء- وشيء آخر أن الأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر، سمةٌ تميز أمةَ الإسلام عن غيرها من سائر الأمم. وعن ذلك قال شيخ الإسلام: وسائرُ الأمم لم يأمروا كلَّ أحدٍ بكلِّ معروف، ولا نهوا كلَّ أحدٍ عن كل منكر، ولا جاهدوا على ذلك، بل منهم من لم يجاهد، والذين جاهدوا كبني إسرائيل، فعامةُ جهادهم كان لدفع عدوِّهم عن أرضهم كما يُقاتلُ الصائلُ الظالم، لا لدعوة المجاهدين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فطائفة منهم قالوا لموسى:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} (1)، والذين جاؤوا من بعد موسى علَّلوا القتال بأنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم (2).
ألا فحققوا -عباد الله- خيرية هذه الأمة وتميزها على الأمم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل وحققوا الخيرية والتوبة لأنفسكم، وللناس من حولكم بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
عباد الله: وثمة فضائلُ ومزايا للأمر والنهي، بل وعقوباتٌ وآثارٌ سيئة مترتبة على تركه أو التخاذل في أدائه، وهناك فقهٌ للأمر والنهي وآدابٌ وصفات للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وإضافة إلى ذلك فهناك شبهات حرية بالبيان .. وهذه الأمور كلُها تحتاج إلى حديث آخر في خطبة متممة لهذه الخطبة -أسأل الله الإعانة والتسديد، وأعوذ بالله من فتنة القول وفتنة العمل.
(1) سورة المائدة، الآية:24.
(2)
الفتاوى 28/ 123 - 125 بشيء من التصرف.