الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل كتابه ليدَّبر الناسُ آياته، وليتذكر أولو الألباب، وجعل في قصصه عبرةً وذكرى وتصديقًا للنبي المجتبى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (1). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سلَاّه ربُّه بقصص الماضين، واستفاد أصحابه من مواقف المؤمنين، فجددوها فاتصلت قوافل الإيمان، واستمرت نماذج الرجال عبر رسالات المرسلين .. اللهم صلِّ وسلم عليهم أجمعين.
عباد الله: أما النموذج الخامس فهو رجلٌ عاش إلى جانب فرعون الطاغية. ولم ترهبْه قوة فرعون وجبروتُه عن قول الحق والدفاع عن أصحاب الحق، بدأ أمره وهو يكتم إيمانه، ثم أظهر إيمانه حين اشتد الأمرُ وأراد المجرمون قتل موسى عليه السلام، وعنه قال تعالى:{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (2). ثم يتابع الرجلُ المؤمنُ من آل فرعون جهوده ودعوته لقومه مذكّرًا تارة، ومحذرًا أخرى، ومخوفًا ثالثةً من بأس الله وشدته إن استمروا في كفرهم وعنادهم، مع ضرب الأمثلة والتذكير بمصائر الغابرين.
ولكن هيهات أن يفيق السُّكارى أو يرعوي المجرمون المتكبرون. وأخيرًا يبلغُ
(1) سورة يوسف: الآية 111.
(2)
سورة غافر: الآية 28.
الإعذار ويُذكّرهم بمستقبل الأيام، إذ لا يملك هدايتهم، ويفوّض أمره إلى الله، ويتوكل عليه بعد أنْ هددوه بالقتل ويقول:{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (1).
ويفيد بقيةُ السياق أن الله حفظه مما كادوا له، وأوقع بهم سوء العذاب:{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} (2).
أيها المؤمنون: ثم تُطوى صفحة الأيام على إثر هزيمة الباطل وأهله، وانتصار الحقِّ وأصحابه، ويتجدد الموقفُ بعد القرون في شخص أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يدافع المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -إذ خنقوه خنقًا شديدًا، ويقول:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} (3)؛ في قصة رواها أهل السير وأخرجها البخاري ومسلم. وقال علي رضي الله عنه: والله ليوم أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون، إن ذلك رجلٌ كتم إيمانه، فأثنى الله عليه في كتابه، وهذا أبو بكر أظهر إيمانه وبذل ماله ودمه لله عز وجل وجل. خرجه الترمذي الحكيم في «نوادر الأصول» (4).
وما أشدَّ هذه الرواية أو مثيلاتها على الشّانئين لأبي بكر، والغالين في علي رضي الله عنهما، وكلاهما خيار، واللاحقُ يشهدُ بالفضل للسابق، وصدّيقُ الأُمةِ ملءُ السمعِ والبصر، وفضله وسبقُه وجهادُه لا ينكره إلا مكابرٌ أو حاقدٌ أو جاهلٌ.
أيها المؤمنون: وحين نواصل المسير في تتبع رجال القرآن، نجد نماذج للرجال
(1) سورة غافر: الآية 44.
(2)
سورة غافر: الآية 45.
(3)
سورة غافر: الآية 28.
(4)
تفسير القرطبي 15/ 309.
في صدق العبودية، والتحرر من الدنيا، والخوف والاستعداد ليوم المعاد .. أولئك الذين قال الله عنهم وأثنى عليهم بقوله:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لَاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1).
إخوة الإسلام: إن الحديث عن رجال القرآن حديثٌ تستعذبه النفوس وتتقوى به الهمم، ويؤصل معاني الرجولة الحقة.
يا قارئ القرآن: كم تشُدُّك مواقفُ رجال القرآن؟ وماذا تملك من خصالِ رجال القرآن؟ هل تنتصر للحقِّ كما نصره رجال القرآن؟ وهل تدعو الخلق إلى الحق كما دعا من قبلُ رجالُ القرآن؟ هل تحبُّ أهل الحقِّ وتُدافع عنهم وتنصح لهم كما فعل رجالُ القرآن، وهل تستهين بالباطل وتكشف خطط المبطلين كما صنع رجال القرآن؟ أين أنت من رجال القرآن؟ الذين لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار.
إن قصص رجال القرآن تُتلى للعظة والاعتبار، ويُذكَّر بها المسلمون في كل زمانٍ ومكان ما بقي قارئٌ للقرآن.
وهنا نطرح السؤال وندعُ لكل مسلم ومسلمةٍ الإجابة على السؤال .. والسؤال يقول: ماذا تثير فينا قراءة مواقفِ رجالِ القرآن؟ وهل نُعيد قراءتها اليوم نحن أحوجُ ما نكونُ إلى هدي القرآن؟
عباد الله: ألا ما أحوج الأمة إلى من يصيح بها قائلًا: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ
(1) سورة النور: الآيات 36 - 38.
الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (1).
ثم يصيح بها آخر صيحة أخرى قائلًا: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (2).
وما أحوج الأمة إلى الأستجابة للنداء المنادي {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لَاّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ} (3) رجال ينفضون عنها غبار الذُّل والهوان، ويقتلعون من القلوب مهابة الأعداء، ويرسّخون فيها خشية الله والتوكّل عليه وحده في حروبهم مع الأعداء، ويقولون لهم:{ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (4)، ويقولون لهم:{ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (5).
ما أحوج الأمة في أزمان التشرد والضياع والغفلة والفساد إلى تجديد العهد مع الله وتحقيق العبودية له، وهنا ينعم الوجود بنماذج لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
تِلْكُم معاشر المسلمين من صيحات ونداءات رجال القرآن، وهي ومثيلاتُها إرثٌ لنا، وكنوزٌ من كنوز قرآننا، ودواءٌ لأسقامنا، وصدق الله:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (6).
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (7).
اللهم انفعنا بهدي القرآن، واشفنا بشفاء القرآن، واجعلنا من أهل القرآن.
(1) سورة غافر: الآية 39.
(2)
سورة غافر: الآيتان 32، 33.
(3)
سورة يس: الآيتان 20، 21.
(4)
سورة المائدة: الآية 23.
(5)
سورة المائدة: الآية 21.
(6)
سورة الإسراء: الآية 9.
(7)
سورة الإسراء: الآية 82.