الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هكذا الدنيا ونهاية العام وتذكير بموت العظماء
(1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، جعل الليل والنهار خِلْفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسنُ عملًا وهو العزيز الغفور، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ضرب مثلًا للمؤمن والفاجر في البلاء في الدنيا ونوعية النهاية -فقال:«مثلُ المؤمن كمثل خامة الزرع من حيثُ أتتها الريحُ كفأتها، فإذا سكنت اعتدلت، وكذلك المؤمنُ يُكفأ بالبلاء، ومثلُ الفاجرِ كالأرزةِ صماء معتدلة حتى يقصمها الله تعالى إذا شاء» (2).
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 2/ 1/ 1421 هـ.
(2)
الحديث متفق عليه، «صحيح الجامع» ح 5719.
(3)
سورة الحشر: الآية 18، 19.
(4)
سورة لقمان: الآية 33.
عباد الله: ونحن في هذه الدار مبتلون، نَظنُّ بها الإقامة ونحن مسافرون، ويُخيل لنا -أحيانا - طولُ البقاء ونحنُ عن قريبٍ مرتحلون، تُداهمنا الخُطوب، وتتوالى علينا النُّذر، وتُدركنا الأقدارُ، ولا مفرَّ من الموت والنهاية، ولو كنتم في بروج مشيدة.
والمتأمل في أحوال الدنيا وأهلها لا يكاد يرى يمنةً إلا ويبصر محنةً، فإذا عطف عن يساره أبصر حسرة، ولو فَتَّشت العالمَ كلَّه لم تر فيهم إلا مُبتلىً، إما بفواتِ محبوبٍ، أو حصولِ مكروهٍ، وفي كلِّ وادٍ بنو سعدٍ -كما قيل -. الدنيا أحلامُ نومٍ، وظلّ زائل، إن أضحكت قليلًا أبكت كثيرًا، وإن سرّت يومًا ساءت دهرًا، وإن متَّعت قليلًا منعت كثيرًا، وما ملأت دارًا خيرةً إلا ملأتها عَبْرةً، ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور.
قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: لكل فرحةٍ ترحة، وما مُلئ بيتٌ فَرَحًا إلا مُلئ ترحًا.
وقالت هندُ بنتُ النعمان: لقد رأيتُنا ونحن من أعزِّ الناس وأشدهم مُلكًا، ثم لم تَغِبِ الشمسُ حتى رأيتُنا ونحن أقلُّ الناس، وإنه حقٌ على الله ألا يملأ دارًا خيرة إلا ملأها عَبْرة.
وسألها رجلٌ أن تحدثه عن أمرها فقالت: أصبحنا ذا صباح وما في العربِ أحدٌ إلا يرجونا، ثم أمسينا وما في العرب أحدٌ إلا يرحمنا (1).
تلكُم معاشر المسلمين طبيعةُ الدنيا؛ غدّارة مكَّارة، لا يؤمن جانُبها، ولا ينخدع العقلاءُ بغرورها وأمانيها.
خطب الإمامُ الأوزاعي رحمه الله ووعظ الناس يومًا؛ فقال: أيها الناس: تقوَّوا بهذه
(1) ابن القيم: زاد المعاد 4/ 190، 191.
النعم، التي أصبحتم فيها، على الهرب من نار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة، فإنكم في دارٍ، الثواءُ فيها قليل، وأنتم مرتحلون، وخلائفُ بعد القرون، الذين استقالوا من الدنيا زهرتها، كانوا أطولَ منكم أعمارًا، وأجدَّ أجسامًا، وأعظم آثارًا، فجدَّدوا الجبالَ وجابوا الصخورَ، ونقَّبوا في البلاد، مُؤَيَّدين ببطش شديد، وأجسامٍ كالعماد، فما لبثت الأيامُ والليالي أن طوَتْ مدتهم، وعفت آثارَهم، وأخْوت منازلهم، وأنست ذِكرَهم، فما تُحِسُّ منهم من أحدٍ، ولا تسمعُ لهم ركزًا، كانوا بِلَهْوِ الأمل آمنين، ولميقات يوم غافلين
…
إلى أن قال: وأصبحتم أنتم في أجل منقوص، ودنيا مقبوضة، في زمان قد ولّى عفوُه، وذهب رخاؤه، فلم يبق منه إلا حُمَةُ شرٍّ، وصُبَابةُ كَدَرٍ، وأهاويلُ غِير، وأرسالُ فتنٍ، ورذالةُ خلف (1).
إذا كان هذا ما يحدث به الأوزاعي أهل زمانه -وهم في القرن الثاني الهجري - فماذا تراه سيُحدث أو يحدثُ غيره عن الناس في القرن الخامس عشر؟ وقد تلاطمت أمواج الفتن، وانتشرت البلايا، وراج سوقُ الغفلة، وأُصيب الناسُ بالذلِ والتبعية، وطاشت أسهمُ الدنيا، وخفّ ميزانُ الآخرة .. إلا من رحم اللهُ، ولو خلت لانقلبت.
أيها المسلمُ والمسلمة: وإذا عرفت طبيعةَ الدنيا وتقَلُّبها، فلا تعتقد أن البلاء إذا نزل بك إهانة، والمُصَاب جريمة، بل قد يكون هذا وذاك كرامة ونعمة، وأنت ممتحن بالصبر أو الجزع.
يقول ابنُ تيمية رحمه الله: فمن ابتلاه اللهُ بالمُرِّ، بالبأساء والضراء وقدر عليه رزقه، فليس ذلك إهانةٌ له، بل هو ابتلاء وامتحان، فإن أطاع الله في ذلك كان سعيدًا،
(1) سير أعلام النبلاء 7/ 117، 118.
وإن عصاه في ذلك كان شقيًا، كما كان ذلك سببًا لسعادة الأنبياء، وشقاوة الكفار والفجار (1).
وتأمل قوله كذلك: مُصيبة تقبل بها على الله، خيرٌ لك من نعمة تنسيك ذكر الله (2).
ويقول ابن المعتز رحمه الله: الحوادث الممضَّةُ مكسبةٌ لحظوظٍ جزيلة، منها: ثوابٌ مُدّخر، وتطهيرٌ من ذنب، وتنبيه من غفلة، وتعريفٌ بقَدْرِ النعمة، وعون على مقارعة الدهر (3). أرأيت كيف تتحول المصيبة أحيانًا إلى نعمة؟
قال الشاعر:
قد يُنْعِم اللهُ بالبلوى وإن عظمتْ ويبتلي اللهُ بعض القومِ بالنِّعَمِ
يا عبد الله: لا يتعاظمْ فرحُك لنعمةٍ نزلت بك، فقد يكون فيها ما ينغص عليك عيشك فيما بعد، ولا تحزنْ لبلية ابتلاك الله بها، فقد تكون من أسباب سعادتك، ولا تغترَّ أو تحسد صاحب نعمة أنت تراها كذلك، وقد تكون عنده بخلاف نظرتك. ومن عيون الحكم: ربَّ محسودٍ على رخاءٍ هو شقاؤه، ومرحومٍ من سُقمٍ هو شفاؤه، ومغبوط بنعمة هي بلاؤه (4).
قال الشاعر:
تجري الأمورُ على حُكمِ القضاء وفي
…
طيِّ الحوادثِ محبوبٌ ومكروهُ
وربما سرّني ما كنتُ أحذرُه
…
وربّما ساءني ما بِتُّ أرجوهُ
(1) قاعدة في المحبة -بتصرف - ص 167.
(2)
تسلية أهل المصائب ص 226، عن «تحفة المريض»: عبد الله الجعثين ص 23.
(3)
جنة الرضا 2/ 139 السابق.
(4)
العقد الفريد 3/ 145.
يا ابن الإسلام: هل تظن بربك -حين يبتليك - الظلم؟ ! وبعدله قامت السماوات، وهل يَرد بخاطرك -حين يقدر عليك رزقك - البخلُ؟ ! وهو الجوادُ الكريم. اسمع ما قاله العارفون في حكم البلايا:
قال ابن القيم رحمه الله:
من تمام رحمة أرحم الراحمين تسليطُ أنواعِ البلاءِ على العبد، فإنه أعلمُ بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانُه ومنعُه من كثير من أغراضه وشهواتهِ من رحمتهِ به، ولكن العبد لجهله وظلمه يتَّهم ربَّه بابتلائه، ولا يعلم إحسانَه إليه بابتلائه وامتحانه، فهذا من تمام رحمته به، لا من بخله عليه، كيف؟ وهو الجوادُ الماجد الذي له الجودُ كلُّه، وجودُ جميع الخلائق في جنب جودِه أقلُّ من ذرَّة في جبال الدنيا ورمالها، ومن رحمته سبحانه بعباده أنْ نغّص عليهم الدنيا لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها، ويرغبوا في النَّعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم (1).
أيها المسلمون: وما يزال البلاءُ بالمسلم أو المسلمة حتى يدعه يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة. وإذا كان الموتُ من المصائب وداعيًا للحزن والألم، فالعين به تدمع، والقلبُ يحزن، والرحمات تنهمر لها العبرات .. فقد يكونُ في الموت راحةٌ للميت، وقد يبدأ من الموت أنسُ الميت وراحته وسعادته، فمن أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءَه، والمؤمن بالموت ينتقل من ضيق الدنيا وكدرها إلى سعةِ الآخرة وحبورها، وكم يغبط الناس عظماء الرجال لموتهم حين يموتون معظمين لكتاب الله مستمسكين بسنّته، داعين الناس للخير ومحذرين من الشر، ينشرون العلم النافع، ويدعون الخلق للعمل الصالح، أولئك نجوم تفتقدهم الأمة، ويحزن
(1) إغاثة اللهفان 2/ 174 - 175.
الناسُ لموتهم، ويتسابقون لتشييع جنائزهم، يتدافعون بالمناكب ويطأ بعضهم أعقاب بعض، ونرجو أن تكون تلك عاجل البشرى لهم، وأن يعوّض المسلمين بفقدهم خيرًا.
إن العالِم العامل والمجاهد الصادق لا يموت ذكره بين الناس وإن رحل عن الحياة الدنيا -فلا يزال الناس يعددون مناقبه، ويحيون ذكره، ويترحمون على فقده. فرق بين من يُذكر بخير وإن رحل، ومن يُنسى وهو بعدُ حيٌّ، أو يستبشر الناسُ لهلاكه، وإن الناس قد يُجاملون شخصًا في الحياة الدنيا ابتغاء نوله أو اتّقاء فحشه .. ولكن الموعد يوم الجنائز، فأيُّ شيء يبتغيه المشيِّع لجثة هامدة لا تملك لنفسها شيئًا؟ ! وأنّى لها أن تنفع الآخرين؟ ! لكنها المحبة والتقدير، والتعبيرُ عن حقِّ هذا العالم أو ذاك أو ذاك المجاهد المصلح، ولا تزال الأمة بخير ما بقيت تقدر الرجال وتشيدُ بمكانتهم، وتقدر جهادهم، وتثمِّن جهودهم.
أيها المسلمون: إن في مشاهد الجنائز المشهودة للعلماء أو العظماء من الرجال والنساء تذكيرًا للأحياء بقيمة الجهاد في الحياة الدنيا، وتحريكًا للهمم لعمل الصالحات، وبذل الخير، وإسداء النصح، ودعوة الخلق لما يحييهم -فتلك وأمثالها من أعمال صالحة هي باعثات القبول والمحبة بين الناس. والناس شهود الله في أرضه، وهم شافعون ومُشفَّعون لمن حضروا جنازته -كما قال عليه الصلاة والسلام:«ما من ميت يُصلي عليه أمةٌ من المسلمين، يبلغون أن يكونوا مئة -فيشفعون له إلا شُفعوا فيه» رواه أحمد ومسلم والنسائي (1).
اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين، اللهم ارفع درجتهم في المهديين، واخلفهم
(1) صحيح الجامع 5/ 184.
في عقبهم في الغابرين، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر اللهم لنا ولهم يا رب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (1).
(1) سورة آل عمران: الآية 185.