الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كلَّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
عباد الله: ويظهر الفرق جليًا بين الإسلام وغيره من النظم البشرية، في بناء العلاقات من بوابة الاقتصاد، ولنأخذ نموذج الربا والاحتكار الذي حرمه الإسلام، وهو يشكل حجر الزاوية في اقتصاد الأمم الأخرى .. ترون هل يبني الربا والاحتكار العلاقات الإنسانية أم يهدِّدها ويقوّض بنيانها إذا كانت فئة قليلة من الناس تتورم عندها الأموال، وتحتكر الإعانة إلا بفائدة -بينما تظل فئةٌ كبرى من الناس تعاني من سداد الديون وتظل تكدح حتى تحصل على لقمة العيش بأي شكل من الأشكال؟ فكيف سينظر الفقير إلى الغني وتلك حالهما؟ وما نوع العلاقة التي ستخلفها الأثرةُ والأنانية، والشحّ والبخل، وسحقُ الفقراء في مجتمع الأغنياء؟ لا شك أنها علاقات كره لا تستقيم معها الحياة السعيدة.
بل يُقال غير ذلك وعكس ذلك في بناء العلاقات في الإسلام عبر وسيلة البيع والشراء التي لا غش فيها ولا خداع ولا غُبن ولا نجش ولا كذب ولا احتكار للسلعة ولا مغالاة في الثمن، بل تُصحب بالسماحة واليسر وإنظار المعسر، وشعارنا -أهل الإسلام -:«رحم الله امرءًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى وإذا اقتضى» .
أيها الناس: ويمتد بناءُ العلاقات في الإسلام في حال السلم أو الحرب .. ففي السلم: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (1). ولكنه السلمُ الذي يقوم على تقدير
(1) سورة الأنفال: الآية 61.
الحقوق، ورعاية العهود والوفاء بالمواثيق، لا يُعتدى فيه على كرامة الأمة المسلمة، ولا يُنقص من دينها، ولا تنكر فضائلها، ولا يعتدى على حرماتها، أو يعبث بمقدساتها.
وفي حال الحرب هناك تشريعات وآداب للجهاد تضمن بقاء الجهاد في سياق بناء العلاقات، فالجهاد أساسًا لإعلاء كلمة الله، وهو لدفع الظلم، وإزالة الطواغيت التي تصد الناس عن الدخول في السّلم كافة، وهو لإقرار حكم الله وشرعه في الأرض، بدل شريعة الغاب وقوانين البشر، وتلك -وربي - ونحوُها من أهداف الجهاد في الإسلام، بناء للعلاقات الإنسانية في مضامينها وأهدافها وآثارها، وأن بدت ظاهرًا وكأنها من مظاهر الشدة وسفك الدماء، وإعمال السيف في الرقاب عند من يجهلون حكمة التشريع، أو يريدون تشويه صورة الجهاد في الإسلام.
أيها المسلمون: وحين نتحدث عن بناء العلاقات في الإسلام ينبغي أن لا يغيب عن بالنا الإشارة إلى المؤلفة قلوبهم، أولئك القوم الذين جاء النصُّ القرآني باعتبارهم أحد الأصناف الثمانية الذين تدفع لهم الزكاة، وسواء كان المؤلفة قلوبهم مشركين ليسلموا، أو مسلمين ليحسن إسلامهم وتثبت قلوبهم، أو ليسلم نظراؤهم، أو ليدفعوا عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد .. أو غير ذلك من أغراض التأليف التي تَصُبُّ كلُّها في تأليف القلوب وترغيبها في الإسلام .. ثم هي في النهاية بناءٌ للعلاقات وتوسيع لدائرة المحبة، وتضييق لهوَّة الخلاف والعداوة. وفي سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تطبيقاتٌ عالية ونتائج بالغة الأثر في التأليف، وهذا نموذج لها:
عن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس
إليَّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأَحَبُّ الناسِ إليَّ. رواه أحمد ومسلم وغيرهما (1).
بل ويبلغ محمد صلى الله عليه وسلم بالتأليف مبلغًا عاليًا، إذ لا يقتصر تأليفه على المال، بل يؤلف بالنظرة الهادفة، وبالكلمة الطيبة، وبالموقف اللطيف، وبإنزال الناس منازلهم، حتى ملك القلوب وانصاع له الأعداء. وكان في سيرته نموذجًا لبناء العلاقات وبكل حال، فمقام التأليف في القرآن والسنة والسيرة يحتاج إلى وقفة متأملة، لا يتسع المقامُ الآن لبسطها أكثر من ذلك.
عباد الله: ومَدُّنا الحضاري وإسهامنا في بناء العلاقات يصل إلى أهل الكتاب. ولكنه مصحوب بالعزة، مشروط بالتزام العقيدة الحقة:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (2).
وفي هذا الصدد وفي سبيل بناء الإسلام للعلاقات مع الآخرين يرشد إلى العدل مع البعيد والقريب: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (3).
ويأمر بالعدل حتى مع وجود الخلاف مع الطرف الآخر: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (4).
إخوة الإسلام: تلك خطوط عامة وإشارات سريعة إلى عظمة الإسلام في بناء العلاقات، ويبقى بعد ذلك السؤال المهم: لماذا، وما الهدف من الحديث عن هذه العلاقات؟
(1) انظر: تفسر ابن كثير لآية التوبة: 60.
(2)
سورة آل عمران: الآية 64.
(3)
سورة الأنعام: الآية 152.
(4)
سورة المائدة: الآية 8.
ويمكن الإجابة بعدة أهداف:
منها: المعرفة بوسائل بناء العلاقات في الإسلام ليتمثلها المسلمُ في حياته ويساهم في بناء العلاقات في مجتمعه -الصغير والكبير - وليكون عنصرًا إيجابيًا في غرس بذور المحبة والصفاء، وعضوًا فاعلًا في محاربة القطيعة والنزاع. هذا من جانب، ومن جانب آخر ليعلم الناس عظمة ديننا من خلال سلوكياتنا، فتدعوهم أخلاقنا وسلوكياتنا للإسلام قبل أن تصل إليهم كلماتنا.
وأمرٌ ثالث: لتؤكد في معترك الصراع بين الحضارات أن ديننا الإسلام أعظم دين عرفته البشرية في بناء العلاقات بين بني الإنسان على أسس من المحبة والعدل، وبيان ذلك يكشف عن عور الأنظمة الأخرى التي تعتمد القوة وسلطان المادة، وتتخذ من مصطلحات العولمة والحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية شعارات زائفة لتحقيق أغراضها الخبيثة، فإذا الناس يكتشفون ما بها من ظلمٍ وجورٍ وأنانية وتسلط.
وحين يتأخر الإسلام في قيادة البشرية فإنما يُلام المسلمون لضعف انتمائهم للإسلام، وتبقى تعاليم الإسلام تنتظر من يستثمرها ويفتح بها القلوب والبلاد. اللهم ردّ المسلمين إليك ردًا جميلًا، وهيئ لهم من أمرهم رشدًا.