الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(3)
عداوة الشيطان (1)
وسائل وتحصينات الإنسان من الشيطان
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، قضى أن الشيطان ليس له سلطانٌ على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، استثنى عباده المخلصين من إغواء الشياطين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، حصَّن أمته بالأوراد والأذكار، فلا سبيل للشيطان على من اتبع هداه وعمل بسنته. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه الميامين، والتابعين ومَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوة الإسلام! وحريٌّ بمن عرف عداوة الشيطان ومكائِده ومداخله على الإنسان، ووسائله في الإغواء والإضلال؛ أن يعلم السُّبلَ والوسائلَ والحصون التي تحميه بإذن الله من كيد الشيطان .. وكيدُ الشيطان ضعيفٌ كما قال ربُّنا .. وقبل أن
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 23/ 10/ 1418 هـ.
(2)
سورة المائدة: الآية 35.
(3)
سورة الأحزاب: الآية 71.
آتي على بيان شيءٍ من هذه الوسائل المخلِّصةِ من كيده .. أُثير سؤالًا مهمًا يعنى بالدرجة الأولى الأخيار وطلبة العلم، ويعنى غيرهم من باب أولى، والسؤال يقول: هل يعرض الشيطانُ بوساوسه لطلبة العلم وأهل الديانة، أم يكتفي بأهل الجهل والغواية؟ وهل يكثر تعرضه للعبد في حال إنابته إلى ربِّه، أم في حال غفلته واتباع هواه؟
ويجيب شيخُ الإسلام ابن تيمية -عليه رحمة الله - في معرض حديثه عن شكوى الصحابة رضوان الله عليهم للرسول صلى الله عليه وسلم عن ما يجدونه في صدورهم من وسوسة الشيطان حتى قالوا: يا رسول الله! إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يخرّ من السماء إلى الأرض أحبُّ إليه من أن يتكلم به. -وفي رواية: ما يتعاظم أن يتكلم به؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك صريحُ الإيمانِ» ، وفي رواية قال:«الحمدُ لله الذي ردَّ كيدَه إلى الوسوسةِ» .
ثم يشير الشيخ إلى أن مدافعة الشيطان على هذه الوساوس أعظمُ الجهاد، وإنما صار الإيمان بعدها صريحًا، لما كرهوا هذه الوساوس ودفعوها، فخلص الإيمان فصار صريحًا.
ثم يقول الشيخ:
ولا بد لعامة الخلق من هذه الوساوس، فمن الناس من يجيبها فيصير كافرًا أو منافقًا، ومنهم من غمر قلبه الشهوات والذنوب فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين، فإما أن يصير مؤمنًا، وإما أن يصير منافقًا، ولهذا يعرض للناس من الوساوس في الصلاة ما لا يعرضُ لهم إذا لم يصلُّوا؛ لأن الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه والتقرب إليه والاتصال به، فلهذا يعرض للمصلِّين ما لا يعرض لغيرهم، ويعرض لخاصة أهل العلم والدِّين أكثر مما يعرض للعامة، ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند
غيرهم؛ لأنه -أي غير طلاب العلم والعبادة - لم يسلك شرع الله ومنهاجه، بل هو مقبلٌ على هواه في غفلةٍ عن ذكر ربه، وهذا مطلوبُ الشيطان، بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة، فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله (1).
هذه -معاشر العلماء والعباد - لفتةٌ حريةٌ بالتأمل والمجاهدة، ولكن مما يُسري عن هؤلاء أن انتصارهم في معركة وسوسة الشيطان يُعظِّم قدرَهم ويرفع درجاتهم، وخسارتهم لا شك أعظم إن تمكن الشيطان منهم.
يقول الشيخ -في تتمة حديثه السابق:
وكلما كان الإنسان أعظم رغبة في العلم والعبادة، وأقدر على ذلك من غيره بحيث تكون قوته على ذلك أقوى، ورغبته وإرادته في ذلك أتمَّ، كان ما يحصل له إن سلَّمه الله من الشيطان أعظم، وكان ما يفتتن به إن تمكَّن من الشيطان أعظم، ولهذا قال الشعبي: كل أمةٍ علماؤها شرارها، إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم (2).
عباد الله: وإذا تبين شمول الشيطان بالإغواء والوسوسة الأخيارَ ومن دونهم، والعلماء ومن سواهم -على درجات وطرائق - تأكد أهمية الخلاص منه، والتحصين ضده بالوسائل المشروعة، وأول التحصينات ضد الشيطان وأهمها:
1 -
إخلاص العبادة لله، فالشيطان نفسه يعترف ألَاّ سبيل له على المخلصين:{قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (3).
والمخلِص هو الذي يعمل ولا يحبُّ أن يحمَدَه الناسُ، وقيل: هو من يكتم
(1) الفتاوى: 7/ 282.
(2)
الفتاوى: 7/ 284.
(3)
سورة الحجر: الآية 39، 40.
حسناته كما يكتم سيئاته (1).
والإخلاص دوام المراقبة ونسيان الحظوظ كلها، وهو شرط في قبول العمل، كما قال صلى الله عليه وسلم:«إن الله عز وجل لا يقبلُ من العمل إلا ما كان خالصًا وابتُغي به وجهُه» (2).
وكلما كان الإخلاص أقوى، كلما كان كيد الشيطان ضعيفًا -والعكس بالعكس.
2 -
ولا بُدَّ مع الإخلاص من علمٍ يعبد المرءُ به ربَّه على بصيرة، وبه يعلم منافذ الشيطان ووساوسه فيبطلها، وبه يعلم سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فيتَّبعها .. ولذا فعالمٌ عاملٌ ناصحٌ لنفسه وللأُمة أشدُّ على الشيطان من مئةِ جاهل أو يزيدون.
3 -
ولزوم المسلمين بالحق من وسائل صَدِّ الشيطان. قال عليه الصلاة والسلام: «من أراد بحبوحةَ الجنةِ فليلزم الجماعة، فإن الشيطانَ مع الواحد، وهو من الاثنين أبعدُ» (3).
ولا شك أن الجماعة المقصودة ما وافق الحقَّ، فهؤلاء ينبغي لزوم طريقتهم في المعتقد والسلوك، فَيَدُ الله مع الجماعة.
4 -
والعبادات المشروعة كلها وسائل لصدِّ الشيطان، وإذا كانت الصلاة من أهمها فتأملوا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في إقامتها ومدخل الشيطان حين التهاون بها، قال عليه الصلاة والسلام:«ما مِنْ ثلاثةٍ في قريةٍ ولا بَدْوٍ لا تقام فيهم الصلاةُ، إلا قد استحوذَ عليهمُ الشيطانُ، فعليك بالجماعةِ فإنما يأكلُ الذئبُ من الغنمِ القاصيةَ» (4).
(1) تفسير القرطبي: 10/ 28.
(2)
رواه النسائي بسند صحيح، «صحيح الترغيب»: 1/ 6.
(3)
رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح.
(4)
رواه أبو داود بسند حسن 1/ 150، وانظر «صحيح الجامع» .
وإذا كانت الصلاة المفروضة مع الجماعة طاردة للشيطان، فصلاة النَّفل في البيت سبيلٌ لنفرة الشياطين، وفي الحديث المتفق عليه:«اجعلوا من صلاتكم في بيوتِكم ولا تَتَّخذوها قبورًا» .
قال النووي: حث على النافلة في البيت لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وأصون من المحبطات، وَلِيَتَبرك البيتُ بذلك، وتنزل فيه الرحمة والملائكة، وينفر منه الشيطان (1).
وليس يخفى أن الوضوء والأذان والصلاة كلها وسائل منفِّرة للشيطان.
5 -
ومن وسائل طرد الشيطان: الاستعانة بالله والاستعاذة به منه، قال تعالى:{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2). وأوحى الله إلى عبده فيما أوحى: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} (3).
قال ابن كثير رحمه الله: ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم، أن يضرَّني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثَّني على فعل ما نهيت عنه، فإن الشيطان لا يكفُّه عن الإنسان إلا الله، ولهذا أمُر بالاستعاذة من شيطان الجنِّ؛ لأنه لا يقبلُ رشوةً ولا يؤثر فيه جميلٌ؛ لأنه شريرٌ بالطبع، ولا يكفُّه عنك إلا الذي خلقه (4).
وليس عبثًا أن يؤمر المسلم بالاستعاذة بالله من الشيطان في أكثر من موضع،
(1) شرح النووي على مسلم: 6/ 68.
(2)
سورة الأعراف: الآية 200.
(3)
سورة المؤمنون: الآية 97، 98.
(4)
تفسير ابن كثير: 1/ 15.
عند الإحساس بنزغِهِ، وعند تلاوة القرآن، وعند افتتاح الصلاة، وعند إتيان الرجل أهلَه، وعند دخول الخلاء، وعند الغضب، وعند نهيق الحمير، ونباح الكلاب (1). وبالجملة فالعبد مأمورٌ بالاستعاذة بالله من الشيطان عند حصول الخير، أو وقوع الشر.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أمر سبحانه بالاستعاذة عند طلب العبد الخير؛ لئلا يعوقه الشيطان عنه، وعندما يعرض عليه من الشرِّ ليدفعه عنه عند إرادة العبد للحسنات، وعندما يأمره الشيطان بالسيئات، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يزالُ الشيطانُ يأتي أحدَكم فيقول: مَنْ خلق كذا؟ مَنْ خلق كذا؟ حتى يقولَ: من خلق اللهَ؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله وَلْيَنْتَهِ» . فأمر بالاستعاذة عندما يطلب الشيطان أن يوقعه في شرٍّ أو يمنعه من خير، كما يفعل العدوُّ مع عدوه (2).
6 -
أيها المسلمون: والدعاء سلاحٌ يحفظ الله به المسلم من كيد الشيطان، وقد قال صدِّيق الأمة رضي الله عنه: يا رسول الله علمني شيئًا أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيتُ، قال:«قل: اللهمَّ عالم الغيب والشهادة، فاطر السماوات والأرض، ربَّ كل شيءٍ ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شرِّ نفسي ومن شرِّ الشيطان وشِرْكِه» .
وفي رواية: «وأن اقترفَ على نفسي سوءًا أو أجرَّه إلى مسلم، قُله إذا أصبحتَ وإذا أمسيتَ، وإذا أخذت مضجعَك» (3). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} (4).
(1) وقاية الإنسان 281 - 285.
(2)
الفتاوى: 7/ 284.
(3)
رواه أبو داود والترمذي وقال: حسنٌ صحيح، وصححه الألباني (تخريج الكَلِم الطيب) تعليق 9.
(4)
سورة الناس.