الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجوبه وفضله
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ..
إخوةَ الإسلام: وثمةَ شعيرةٌ من شعائر هذا الدين جاء الحثُّ عليها، بل والأمرُ بها في كتاب الله، وأشاد بها وأهلها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سنته، ومارسها المسلمون قديمًا ولا يزالون يتواصون بها، وإن اختلفوا في أساليب تطبيقها وقوة القيام بها بين جيل وجيل، وطائفة وأخرى، هذه الشعيرة سببٌ لحصول كلِّ خير، والوقاية من كل شر، إنها شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وصف الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (2). وهذا الوصفُ بيانٌ لكمال رسالته (3). بل وُصف بها وتمثلها الأنبياءُ قبله، ووصف بها الصالحون من أهل الكتاب:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (4)، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (5)، وما من نبي إلا قال لقومه:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (6).
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 8/ 6/ 1420 هـ.
(2)
سورة الأعراف، الآية:157.
(3)
الفتاوى 28/ 121.
(4)
سورة النحل، الآية:120.
(5)
سورة مريم، الآيتان 54، 55.
(6)
سورة المؤمنون، الآية:32.
ووصف بها الصالحون من أهل الكتاب: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (1).
ووصف بها الصالحون من هذه الأمة في غير ما موضع من كتاب الله من مثل قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2).
وهي من الفوارق الكبرى بين أهل الإيمان وأهل النفاق، فقد وصف المنافقون بنقيض ما وصف به المؤمنون في الآية السابقة:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} (3).
عبادَ الله: لقد استنبط الحسنُ رحمه الله من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (4).
إن في الآية دليلًا على أن الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر تلي منزلتُه عند الله منزلةَ الأنبياء، فلهذا ذُكر عقيبَهم.
بل عدّه بعضُ أهل العلم سهمًا مهمًا في الإسلام بعد أركانه الأساسية. عن حذيفة رضي الله عنه قال: الإسلام ثمانيةُ أسهم؛ فالإسلامُ سهم، والصلاة سهم، والزكاة
(1) سورة آل عمران، الآيتان: 113، 114.
(2)
سورة التوبة، الآية:71.
(3)
سورة التوبة: الآية: 67.
(4)
سورة آل عمران، الآية:21.
سهم، وصومُ رمضان سهم، والجهادُ سهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سهم (1).
ونقل طائفة من أهل العلم الإجماع على وجوبه، وأنه من شعائر الإسلام الظاهرة، كالنووي، والجصاص، وابن حزم.
واعتبره شيخُ الإسلام ابنُ تيمية من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، تُقاتل الطائفةُ الممتنعةُ عنها (2).
أجل إن خيريةَ الأمة وفلاحها مرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (3).
إنه الخيرُ الذي يؤمر به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، و ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت)).
والرسالةُ الواجبةُ على كل مستطيع: ((من رأى منكم منكرًا فليغيرّه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان)).
وفي رواية: ((وليس وراء ذلك من الإيمان حبةُ خردل)). إنها مسئوليةٌ يمارسها
(1) رواه البيهقي في ((الشعب)) 7585.
(2)
الفتاوى 4/ 181.
(3)
سورة آل عمران، الآية:110.
(4)
سورة آل عمران، الآية:104.
الوالدان مع أولادهما، والمعلمون والمعلمات مع طلابهم وطالباتهم، والمسئولُ في عملٍ أو على فئةٍ مع من يتولى مسؤوليتهم، والعالم على الجاهل، والمعافى على المبتلى، والجارُ على جاره، والمسلمُ بشكل عامٍ على أخيه المسلم حين يرى منه خطًا أو انحرافًا، أو يدعوه إلى معروفٍ وخيرٍ غائبٍ عنه أو جاهلٍ به.
وبالجملة فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة للخير همّ للجميع، ومسؤولية مشتركة، وهي تعكس خيرية المجتمع ووعيه، ولا سيما إذا حُملت للناس بقوالب جميلة، وحكمةٍ وموعظة حسنة.
ولقد كان للسلف اعتناءٌ بهذا الأصل العظيم وقيامٌ به، وكانوا يعدون من لم يقم به من أهل الريب، فعن جامع بن شدادٍ قال: كنتُ عند عبد الرحمن بن يزيد الفارسي، فأتاه نعيُ الأسود بن يزيد، فأتيناه نعزيه، فقال: مات أخي الأسودُ، ثم قال: قال عبدُ الله: يذهب الصالحون أسلافًا، ويبقى أهلُ الريب، قالوا: يا أبا عبد الرحمن وما أصحابُ الريب؟ قال: قومٌ لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر (1).
وكم تأسن الحياة ويفسد الأحياءُ إذا لم يبق إلا أهل الريب، وكم تفشو المنكرات، ويغيب المعروف إذا قلَّ الصالحون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وكم تتوارى المنكرات ويتستّر المفسدون بفسادهم إذا قويت شوكةُ الأمر والنهي، وكم يقوى سلطانُ الخير في النفوس، ويشيع المعروفُ في الناس، إذا قام قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!
تُرى يا أخا الإيمان: كم تُسهم في إحياء هذه الشعيرة بقولك وفعلك وفي أي
(1) رواه البيهقي في ((الشعب)) 7584.
موقع كنت؟ أم تراك تسند الأمر إلى غيرك، وتحاول اختلاق المعاذير لنفسك؟
لقد كان السلفُ يرون من لا يأمر ولا ينهى في عداد أموات الأحياء، وهذا حذيفةُ رضي الله عنه يُسأل: ما ميتُ الأحياء؟ قال: لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه (1). وقيل لابن مسعود: من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا.
وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه (2).
أعوذ بالله من الشيطان {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (3).
(1) رواه البهيقي في ((شعب الإيمان)) 7590.
(2)
الفتاوى 28/ 127.
(3)
سورة النساء، الآية:114.