الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقفات للصائمين والشيشان
(1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله ربِّ العالمين، أهلَّ علينا هلال رمضان بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، منَّ على عباده بمواسم الخيرات ليجزل لهم الهبات، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه أفضلُ من أفطر وصام، وصلى بالليل والناسُ نيام، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (2).
عباد الله: وحلَّ الضيف الكريمُ في ربوع المسلمين يحمل صحائف بيضاء مشرقةً، يمكن لكل مسلم ومسلمة أن يكتب فيها ما شاء، والبذرُ محفوظ، والسعيُ مشكور، وربُّنا تبارك وتعالى يقول:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (4).
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 2/ 9/ 1420 هـ.
(2)
سورة الحج، الآيتان 1، 2.
(3)
سورة الحشر، الآية:18.
(4)
سورة الأنبياء، الآية:47.
وهنا وقفات للصائمين والصائمات أقفُ بها مذكرًا، والذكرى تنفعُ المؤمنين.
الوقفة الأولى: وأكادُ أقرأ الفرحة في وجوهكم - معاشر المسلمين - بدخول شهر الصيام والقيام، وكم في الصيام والقيام من فضائل ومغانم، وكم يُرجى للمسلم والمسلمة من عظيم الأجر ومغفرة الذنوب إن هو صلى وصام، وتصدق وصبر، وخشع وقنت، وحفظ فرجه، وذكر ربَّه! والبُشرى تُزف إليكم وأنتم بعدُ في الدنيا:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (1).
الوقفة الثانية: أعقل صيامك - يا أخا الإيمان - عن اللغو والرفث وقول الزور، ولتصم منك الجوارحُ عمَّا حرم الله، وما أروع الصوم تحيي به القلوب، وتزكو به النفوس، يُهذِّب الأخلاق، وينضبط له السلوك، وأخيرًا يورث التقوى، وهي الحكمةُ الربانية للصيام:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2).
ترى - يا أخا الإيمان - أللهِ حاجة أن تدع طعامك وشرابك أو تُضمِئ نهارك وتُسهر ليلك في طاعة الله. إلا ليبلغك جنته ويفيض عليك من عطائه ورحماته؟ فكن لصومك حافظًا، ولجوارحك مؤدبًا.
الوقفة الثالثة: كم نرثي لأنفسنا أو لغيرنا من المسلمين حين نرى الصوم لم يحرك فيهم ساكنًا، ولم يُحدث فينا تغيرًا إلا الأحسن! فتلك مجموعةٌ من الصائمين
(1) سورة الأحزاب، الآية:35.
(2)
سورة البقرة، الآية:183.
جلست بعضها إلى بعضٍ لتأكل في لحوم الناس وتنتهك أعراضهم بالغيبة والنميمة - ومجموعةٌ أخرى حبست نفسها على مسلسلات هابطة، أو فتحت آذانها لسماع أصوات غنائية منكرة، وتلك مجموعة حين تنفس الصبحُ قطعت هي أنفاسها واستكانت للنوم، لا يوقظها تكبيرُ المآذن، ولا يبعثها من مرقدها النداءُ الواجبُ للصلاة، حتى إذا قارب الغروب وحان الإفطار - بدأت تستجمع قواها، لمواصلة السهر ليلًا لا في المحاريب وأماكن العبادة وإنما في اجتماعات الشِّللِ، وحيث توجد المسلسلاتُ والقنوات وتضاع الأوقات. أيُّ صومٍ هذا، وأيُّ مفهوم للعبادة في رمضان هذا المفهوم، تُضاع فيه الصلوات، وتُهدر الأوقات، وترتكب المحرمات؟ !
الوقفة الرابعة: وهناك وقتان ثمينان، وفرصتان لا تعوضان للصائمين والصائمات .. وقد يغفلُ البعضُ عنهما منشغلًا بغيرهما، أو ناسيًا فضلهما واختصاصهما؛ إنهما وقت السَّحر، ووقت الإفطار .. فرصتان كبيرتان للاستغفار والدعاء.
أما علمت أيها الصائمُ أنك حين تستيقظُ للسحور توافق ساعةَ استجابة يقول فيها الغني الكريم: «هل من سائل فأعطيه، هل من داعٍ فأستجيب له، هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ » وأين أنت في ساعات الأسحار من قوله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (1).
هل يكون همُّك حين تقوم نوع السحور - مع ما في السحور من بركة وتحقيق للسنة - أم تتذكر مع ذلك قيمة الوقت؟ .. فتخلصُ في الدعاء، وتخصُّ هذا الوقت بالاستغفار.
(1) سورة آل عمران، الآية:17.
أما حين الغروب - حين يحين الإفطار .. فثمّة دعاءٌ ودعوةٌ للصائم لا تُرَدُّ عند فطره.
فانظر في قيمة الدعاء والاستغفار، وانظر ماذا أنت داعٍ، واعلم أن فضل الله واسعٌ، وأنك تطلب من غني كريم، فلا تنس غيرك من المسلمين في الدعاء، بل ولا تنسَ الأموات من الدعاء بعد أن تخصَّ نفسك ووالديك وأهلك وأولادك.
الوقفة الخامسة: وأهلونا وأولادنا أمانةٌ في أعناقنا، واسأل نفسك - أيها الصائم - ماذا صنعت لأهلك وأولادك في رمضان .. كيف حالُهم مع الصيام والقيام وتلاوة القرآن، وأين يقضون أوقاتهم .. وفيم يقضونها؟
إن الهداية بيد الله .. لكن فعل الأسباب مطلبٌ شرعي، وقد كلفنا الله بوقايتهم من النار. وهنا اسمحوا لي أن أعرض مذكرًا ومنبهًا لبعض الحالات التي يُرجى برؤها، ومن الضروري التنبُّه لها وعلاجُها.
فهل يشهد أبناؤك وبناتُك الصلاة مع المسلمين، أم يصلون وهم في فرشهم نائمون؟ !
وحين يستيقظون، ماذا يعملون ويشاهدون ويسمعون؟ هذا السيلُ الجرارُ من النساءِ المتسوقات ليلًا ونهارًا ما هو نصيبك منهن .. وهل يليق أن تبقى في محرابك خاشعًا وبناتُك يفتنَّ الرجال .. أو أبناؤك يؤذون المسلمين والمسلمات بالمعاكسات تارة، وبالأصوات المزعجة للمصلين أخرى، وبالسهر على الخنا والفجور تارةً ثالثة، إنها مشاهد تتكرر في كلّ رمضان، فمن المسئول عنها؟
وثمة ظاهرة تستحق الاهتمام والتنبيه؛ إنها ضياعُ الأبناء أو البنات حين السفر إلى مكة أو غيرها .. وكم هو مؤلمٌ أن تسمع أخبارًا لا تسر بجوار بيت الله المحرم، ذلك بسبب الإهمال أو ما يُسمى بالثقة، والواقعُ أنه ضعفٌ في الرقابة،
وتهاون في المسؤولية .. نعم إن العمرة في رمضان تعدل حجة. ولكن اللبيب من يحافظ على المكاسب دون خسارة، ويعبد ربَّه دون أن تكون عبادته سببًا للفتنة .. أجل إن رجالات الهيئة يشكون من إهمال عددٍ من الآباء لبناتهم، ويتحدثون بلغة الأرقام عن مئات من حالات الخلوة مع رجال أجانب .. وما ظنك برجلٍ وامرأةٍ تحققت الخلوة بينهما؟ .. فكيف إذا كانوا جميعًا في مرحلة الفتوة والشباب؟ ! إنها تحذيرات متكررة، ونداءات محذرة يطلقها الغيورون من رجالات الهيئة .. ونحن نبلغها لكم، وكم هي كلمةٌ معبرة قالها أحدُ أصحاب الفضيلة العلماء يصف بها حال هؤلاء الذين يذهبون بصحبة أولادهم أو بدونهم، قال: صنفان مأجوران، وصنفان مأزوران، أما المأجوران: فهما من سافر وحافظ على من معه، أو بقي ولم يسافر وحافظ على أهل بيته في محله. وأما الصنفان المأزوران: فأحدُهما من سافر وأهمل أهله وهم مسافرون معه .. أو منعهم من السفر معه، لكنه أهملهم في محلهم ولم يدر ما هم صانعون .. تلك حالاتٌ ومسؤولياتٌ تستدعي الرعاية والتنبه والاهتمام .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (1).
(1) سورة الأحزاب، الآية:72.