الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، وفَّق من شاء من عباده لاتباع صراطه المستقيم، وتفرقت السبلُ بأقوام ضلوا السبيل، أحمده تعالى وأشكره وأُثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله.
أيها المسلمون: ومن الاتباع المذموم التعلقُ بعادات الآباء وتقاليد الأجداد، وإن كانت مخالفة لشرع الله، والتحاكم إلى السلوك والعوائد الموروثة واعتبارها فيصلًا في القضايا والخصومات -كلُّ ذلك ضربٌ من ضروب الجاهلية، ونوع من الاتباع المذموم، وقد ذم القرآن أولئك الذين تعلقوا بما عليه آباؤهم وحالت بينهم وبين التسليم والاتباع لشرع الله، فقال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (1).
ولقد شكَّل الاقتداءُ بما عليه الآباء حاجزًا دون اتباع المرسلين، وقبل لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يعاني من هذه التبعية الممقوتة:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (2).
وهكذا -إخوة الإيمان - ينبغي أن نفرق بين العوائد والموروثات، وبين العبادات والأحكام المشروعة في التحليل أو التحريم، وبين الطاعة بالمعروف للآباء
(1) سورة البقرة: الآية 170.
(2)
سورة الزخرف: الآيات 23 - 25.
والأمهات، وبين العصبية لهم، وإن كانوا على خلاف شرع الله.
إخوة الإسلام: ومن التبعية المذمومة على مستوى الأفراد إلى التبعية المذمومة على مستوى الدول والأمم، وفي القرآن والسنة تحذير من تبعية الأمة المسلمة للأمم الكافرة وبخاصة اليهود والنصارى، قال تعالى:{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (1).
إن التبعية على مستوى الدول والأمم ممقوتة شرعًا وعقلًا، وهي سبيل للضعف والامتهان، بل طريق إلى الاضمحلال والزوال، فكيف إذا كانت المتبوعة كافرةً، والتابعة مسلمة، فذلك إزراء بالإسلام وأهله، وشك بهيمنة القرآن وحكمه، وإذا لم تُغن هذه الأمم الكافرة عن نفسها شيئًا، فكيف تدفع عن غيرها؟ ! ، ويوم القيامة يتبّرأ المتبوعون من التابعين، ويحمل كلٌّ منهم وزره على ظهره، كما قال تعالى:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} (2).
إخوة الإيمان: لقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أُمته من متابعة الكفار عامّة، والتبعية لأهل الكتاب خاصة، وتحققت نبوأته في فئام من المسلمين حين قال:«لتَتَّبِعُنَّ سَنن الذين منْ قبلكم شبرًا بشبر، أو ذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جُحر ضبٍّ لسلكتموه»
(1) سورة البقرة: الآية 120.
(2)
سورة البقرة: الآية 166.
(3)
سورة العنكبوت: الآية 12، 13.
قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟ ! » (1).
عباد الله: أما المخرج من هذه التبعيات المذمومة فهو بالاعتصام بالكتاب والسنة، ولزوم الصراط المستقيم، واتباع هدي المرسلين، والسير على منهج سلف الأمة المهديين، ولزوم سبيل المؤمنين، واتخاذ الشيطان عدوًا، ومجاهدة النفس عن الوقوع في الشهوات المحرمة، والبعد عن المحدثات المبتدعة في الدين. وبين أيديكم -عباد الله - وصيةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قال:«أُوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، وإنه مَنْ يعشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنّتي وسنةِ الخلفاءِ الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كلَّ بدعة ضلالة» . رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح (2).
يا أهل القرآن: وأختم الحديث هنا بمحاورة عُجلت لنا مشاهدُها مع تأخرِ وقوعها لنقف منها على تنازع وتلاوم الأتباع والمتبوعين ونهايتهم، يقول تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَاّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3).
ألا فاعتبروا يا أولي الأبصار، وَقُوا أنفسكم الحسرة والعذاب ما دمتم في زمن العمل.
(1) متفق عليه، صحيح الجامع: 5/ 12.
(2)
رياض الصالحين: 87.
(3)
سورة سبأ: الآيات 31 - 33.