الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، يبتلي عباده بالخير والشر فتنة وإليه يرجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يُردُّ بأسُه عن القوم المجرمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، حذّر أمته من الفتن والمعاصي وأرشدهم إلى العبودية الحقة .. ومن يضلل الله فما له من هادٍ، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها الناسُ: ويختلف كذلك أهلُ الإيمان عن أهل الكفر عند حلول النكبات أو التوقعات والمرتقبات .. فأهلُ الكفر يُصيبهم من الهلع والجزع والذعر والقنوط واليأس ما هو خليقٌ بأمثالهم، ممن لا يؤمن بالله ولا يتوكل عليه .. أما أهلُ الإيمان فهم وإن خافوا وفزعوا فهو خوفٌ وفزعٌ إلى الله وفرارٌ إلى الله منه؛ يهديهم ذلك الخوف إلى مزيد الإيمان به والخوف من بأسه وعقوبته، ويدعوهم ذلك إلى مزيد طاعته، والجهاد في سبيله، والدعوة إلى دينه، والتخفف من الآثام والسيئات، وإعادة النظر في الأحوال والسلوكيات .. ذلكم خوفٌ إيجابي .. وفزعٌ مرغوب، يحققون به الإيمان .. ويخشون صاحب الانتقام .. يتضرعون إلى الله، ويلجئون إليه استجابةً لأمر ربِّهم {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} (1). ويجأرون بالدعاء وهم مؤمنون. يقول حبيبهم صلى الله عليه وسلم:((لا يردُّ القدرَ إلا الدعاءُ)) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((لا تعجزوا في الدعاء، فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد))، رواه
(1) سورة الأنعام، الآية:43.
الحاكمُ وصححه، وابنُ حبان في ((صحيحه)).
ولا يتوقفون في الدعاء عند حلول المصائب، بل شأنهم الدعاء في الشدائد والرخاء، وفي الحديث:((من سَرَّه أن يُستجابَ له عند الكربِ والشدائدِ، فليكثر الدعاءَ في الرخاءِ)) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
ويفئ المسلمون -في حال الكروب والشدائد- إلى الاستغفار والتوبة مؤمنون بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (1).
وقوله: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2).
إخوة الإيمان: أحدثوا لله توبة كلما أحدثتم وارتكبتم معصية، وعظموا أمر الله، واستشعروا شدة عقابه، واعلموا أنه ليس القصدُ من النجاة حين الكروب نجاة الأبدان فحسب .. أو طلب النجاة في الدنيا فقط .. بل أهمُّ من ذلك صلاحُ القلوب .. والنجاة من عذاب الله يوم الفزع الأكبر.
إن الاهتمام بنجاة الأبدان فحسب وطلب البقاء في الحياة بأي شكل من الا شكال -سمةُ قوم قال الله عنهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (3).
أيها المؤمنون: وعلى مدى التاريخ كانت تحصل كوارث أو زلازل، ولكن المؤمنين كانوا يقفون منها موقف الاعتبار والاتعاظ، ويُذكِّر بعضُهم بعضًا .. أخرج ابنُ أبي شيبة في ((مصنفه)) بإسناد صحيح، والبيهقي في ((سننه)) عن صفية بنت
(1) سورة الأنفال، الآية:33.
(2)
سورة النمل، الآية:46.
(3)
سورة البقرة، الآية:96.
أبي عبيد، قالت: زُلزلت الأرض على عهد عمر رضي الله عنه حتى اصطفقت السرر، فخطب عمرُ الناس فقال: أحدثتم لقد عُجلتم! لئن عادت لأخرجنَّ من بين ظهرانيكم (1).
وأخرج ابن كثير عن قتادة -رحمهما الله- قال: ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: أيها الناس! إن ربَّكم يستعتبكُم فأعتبوه. أي: يطلب منكم العتبى وهو الرجوع إلى ما يرضيه.
أيها المسلمون: حذار من الغفلة ففيها العطب، وحذار من الغرور فيعقبه الندم وربنا يذكرنا ويحذرنا من غرور الدنيا بقوله:{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (2). إياك أخا الإسلام أن تمتد بنظرك إلى أخطاءِ غيرك وتتناسى أخطاءك.
ابدأ بنفسك، فإنْهَهَا عن غيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
ثم انتقل بعد ذلك في الإصلاح والدعوة إلى الأقربين والأبعدين .. كن مشعلًا يضيء الخير أينما حلّ أو ارتحل، كن من مفاتيح الخير .. ومغاليق الشر .. والحذر أن تغتر بعملك أو تغرك صحتُك وقوتُك، أو تأمن مكر الله، فلا يأمن مكرَ الله إلا القومُ الخاسرون، ولا تنسَ أنك مخاطبٌ بقوله تعالى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (3).
يا عبد الله: حاسب نفسك قبل أن تُحاسب، ولا تنظر إلى الهالك كيف هلك،
(1) السيوطي: كشف الصلصلة عن وصف الزلزلة.
(2)
سورة لقمان، الآية:33.
(3)
سورة فاطر، الآية:45.
ولكن انظر إلى الناجي كيف نجا .. ولا تمتدَّ بك حبالُ الأماني والغرور .. فالعمرُ قصير .. والأجل محدودٌ، والناقد بصير، وموقف العرض على الله عسير، إلا على من يسَّره الله عليه، وإن يومًا عند ربِّك كألف سنةٍ مما تعدون.
تأمل في مطعمك ومشربك، وانظر ماذا ترى وتسمع، وماذا تُسِرُّ وتعلن .. ولئن خفيت منك اليوم خافية، فهناك في أرض المحشر يكشف الغطاءُ وتتكلم الجوارح:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (1).
تذكر هول الموقف .. يوم يقام عليك الشهودُ من نفسك: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (2).
لقد جاءتك من ربك النذر .. ومن تذكَّر فإنما يتذكر لنفسه .. وصدق الله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} (3).
اللهمَّ أنقذنا من دَرَكاتِ الغفلة .. وارحمنا يوم النقلة، وأصلح فسادَ قلوبنا.
(1) سورة يس: الآية: 65.
(2)
سورة فصلت، الآية:21.
(3)
سورة يس، الآية:70.