الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أسبغ علينا من نعمه الظاهرة والباطنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، وإن عليه النشأة الأخرى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أعطاه ربه حتى رضي، وقال له:{وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى} (1).
اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: إخوة الإيمان، فمن أعظم مقامات الإيمان الفرحُ بالله، والسرورُ به، فيفرح العبدُ بخالقه، إذ هو عبدُه ومحبُّه، يفرح به سبحانه ربًا، وإلهًا، ومنعمًا، ومربِّيًا، أشدُّ من فرح العبدِ بسيده المخلوق المشفق عليه، القادر على ما يريده العبدُ ويطلبه منه، والمتنوع في الإحسانِ إليه والذبِّ عنه (2).
والفرح بالله وبرسوله وبالإيمان والسنة، والعلم والقرآن من أعلى مقامات العارفين، قال تعالى:{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (3).
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} (4).
قال صاحب «المدارج» : فالفرح بالعلم والإيمان والسنة دليل على تعظيمه عند
(1) سورة الضحى: الآية 4.
(2)
مدارج السالكين: 3/ 111.
(3)
سورة التوبة: الآية 124.
(4)
سورة الرعد: الآية 36.
صاحبه، ومحبته له، وإيثاره له على غيره .. والفرح تابعٌ للمحبة والرغبة (1).
يا أخا الإسلام: سائل نفسك حين تفرح، مم تفرح ولماذا تفرح؟ وما صلة فرحتك بالإسلام وأفراح المسلمين، وبالخير والخيِّرين؟
إن من علامات الخير في المجتمع الفرح بالخير يحصل للمسلمين، ومن علامات وعي المجتمع أن يشترك في فرحة الخير للإسلام وأهل الإسلام الكبار والصغار، والذكران والإناث .. في زمن باتت مغريات الحياة الدنيا كثيرة، وبات الفرحُ بسفاسف الأمور ومغريات الحياة الدنيا يسيطر على عقول عددٍ من أبناء المسلمين.
ومن علائم الخير -كما قال العلماء - أن يفرح المرء بالحسنة إذا عملها، ويُسرُّ بها، فذاك فرحٌ بفضل الله، حيث وفَّقه الله لها وأعانه عليها ويسَّرها له.
أيها المسلمون: ومن الفرح المذموم أن يطغى المسلم للنعمة يؤتاها: {كَلَاّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (2).
وقد ينسى الفرحُ بالنعمة - أحيانا - شُكرَ المُنعِم، وكفى بالقرآن واعظًا والله يقول:{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (3).
وقد كان السلفُ يحذرون من الاغترار بالنعمة والتجاوز في الفرح، ويرون الفرح من أسباب المكر، ما لم يقارنه خوفٌ من الجليل سبحانه (4).
عباد الله: قيِّدوا أفراحكم بشرع الله، وإياكم والتجاوز فيه بالقول أو بالعمل،
(1) 3/ 165.
(2)
سورة العلق: الآية 6، 7.
(3)
سورة النحل: الآية 53.
(4)
المدارج: 3/ 111 - 114.
وإياكم أن تأسوا على ما فاتكم أو تتجاوزوا المشروع في الفرح بما آتاكم، فالله يقول:{لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (1).
أي مختال في نفسه، متكبِّر فخورٍ على غيره، وتأملوا قول عكرمة واعملوا به؛ قال: ليس أحدٌ إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكرًا، والحزن صبرًا. فتلك قاعدةٌ حَرِيَّة بالتأمل (2).
وليس يخفى أن المكروه للنفس قد يكون فيه خيرٌ كثير، وقد يكون في المحبوب لها شرٌّ وفتنة:{وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3).
يا أخا الإسلام: وحين يكون الحديث عن الفرح فثمة أسئلة حَرِيٌّ بك أن تسألها نفسك، فما مدى فرحتك بانتصار الدعوة إلى الله وظهور الحق؟ وما مدى سرورك بعزِّ الإسلام وغلبة المسلمين؟ وما مدى حُزنك حين يظهر الفساد، ويفشو الباطل، ويكثر المبطلون، ويغلب الكفار، ويتنامى النفاق، ويكثر المنافقون .. إنها أسئلة تحدد نوع فرحك وحزنك، وهل هو في ذات الله ولصالح الإسلام والمسلمين، أم لأهوائك وشهواتك، كما تُحدد هذه الأسئلة صدق انتمائك للإسلام، وشعورك بأخوِّة المسلمين، واهتمامك بقضاياهم.
وهذه الأسئلة ميزان لعمق فرحك ونُبل مشاعرك، وعلوّ همتك، وبكل حال ومهما بلغت أفراحك في الدنيا فلا تنسَ فرحة الآخرة، وأنت واجدٌ في القرآن
(1) سورة الحديد: الآية 23.
(2)
تفسير ابن كثير للآية 4/ 514.
(3)
سورة البقرة: الآية 216.
تذكيرًا بها، وها هو المصطفى صلى الله عليه وسلم يذكِّرك بها في فرحة الفطر من الصيام ويقول:«للصائم فرحتان؛ فرحةٌ عند فطرِه، وفرحةٌ عند لقاء ربِّه» .
اللهم لا تحرمنا فضلك، واجعل أفراحنا في ذاتك ولأوليائك ونصرة دينك، ولا تحرمنا فرحة الآخرة وسرورها.