الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(3) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائله، شبهات، آثار تركه
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره
…
عباد الله: هذا حديث متممٌ لأحاديث قبله، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويُعنى حديث اليوم بوسائل الأمر والنهي، وشبهاتٍ قد تقعد ببعض الناس عن القيام بهذه الشعيرة المهمة في الدين، والآثار المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مستوى الفرد أو مستوى الأمة.
أما وسائلُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكثيرةٌ ومتنوعة تتناسبُ وظروف الزمان والمكان، وتختلفُ باختلاف الناس وطبائعهم، ونوع المنكر وحجمِه.
وجماعها: الحكمةُ، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، كما قال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2).
قال العالمون: جعل الله سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، فالمستجيبُ القابلُ الذكي الذي لا يُعاند الحقَّ ولا يأباه، يدعى بطريق الحكمة، والقابلُ الذي عنده نوعُ غفلةٍ وتأخرٍ يُدعى بالموعظةِ الحسنة وهي الأمرُ والنهي المقرونُ بالترغيب والترهيب، والمعاندُ الجاحد يُجادَلُ بالتي هي أحسن (3).
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 21/ 6/ 1420 هـ.
(2)
سورة النحل، الآية:125.
(3)
ابن القيم: ((مفتاح دار السعادة)) 1/ 153.
أيها المسلمون: ونشرُ العلم - بالمحاضرات أو الدروس أو التأليف، أو الفُتيا - كلّ ذلك وسائلُ عظمى لإقرارِ المعروف ونشره وإنكارِ المنكرِ، وبالعلم يعلم الناسُ الحلالَ من الحرام، ويرغبون في المعروف، ويحذرون من المنكر، وإذا غاب أو تقلص أثرُ العلماء اضمحلت الهداية، وفشت الجهالةُ، واتسع نطاقُ المنكر، وكثر المبطلون.
والنصيحةُ سِرًّا، أو جهرًا، بحسب مقتضى الحال - من هدي المرسلين عليهم السلام، وهذا هود عليه السلام يقول لقومه:{وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} (1).
ومن قبله نوحٌ عليه السلام قال: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} (2).
ومن بعدهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم قال: ((الدين النصيحة)) (أي عمادُ الدين وقوامُه النصيحة) قلنا: لمن؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (3).
وفَقهَ المسلمون - فيما بعدُ - حاجتهم وحاجة إخوانهم إلى النصيحة، فكانوا يبايعون على ذلك، كما يبايعون على الصلاة والزكاة.
عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامِ الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم (4).
وكانت النصيحة تبرم لها المعاهدات والعقودُ - ضمن أمور الدين الأساسية. وفي بعية العقبة قال عبادة بنُ الصامت رضي الله عنه في خبر بيعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم: وعلى أن نقول بالحقِّ أينما كنّا لا خاف في الله لومة لائم (5).
(1) سورة الأعراف، الآية:68.
(2)
سورة الأعراف، الآية:62.
(3)
رواه مسلم ح 55، ((رياض الصالحين)) ص 99.
(4)
متفق عليه.
(5)
متفق عليه.
إخوة الإيمان: وينبغي أن يستثمر المحتسبون وسائل الإعلام والمنابر العامة، وحيث يجتمع الناسُ، ويستفيدوا من وسائل التقنية الحديثة لنشر المعروفِ والأمر به، والتحذير من المنكر والنهي عنه، ومؤلمٌ أن تكون هذه الوسائل قنواتٍ لنشر المنكر، وفرصًا واسعة الانتشار يستحوذ عليها المبطلون.
أيها المسلمون: وإذا كانت الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالحسنى، والنصح، واستثمار وسائل الإعلام، ونشر العلم بطرقه المختلفة - كلُّها وسائلُ عامة للأمرِ والنهي، فثمة وسائل خاصة ثبت نفعُها والاستجابة لها، فالمهاتفةُ، والزيارةُ، والرسائل الشخصية، والكتابة .. كلُّها وسائل لإقرار معروف، وتشجيع صاحبه، وإشعاره بتقدير الناس له، أو لإنكار منكرٍ وتذكير صاحبه وتخويفه بالله وعاقبة أمره، وما أروع هذه الوسائل إذا استخدمت بعبارات لطيفة، وأسلوب حسن، وكانت نصحًا لا تشهيرًا، وشفقةً لا تشفِّيًا، وظهرت فيها بوادر الصدق والإخلاص، ولم تكن تعالمًا وتعاليًا وعُجبًا، ويقلُّ نفعُها إن صاحَبها تزكيةٌ للنفسِ وازدراءٌ بالآخرين.
أيها المحتسبون: وإمامُ المسجد يمكن أن يحتسب - بالتعاون مع جماعة مسجده - على جيرانِهم وأهلِ حيِّهم - في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمام المعلمِ والمعلمةِ فرصةٌ كبرى للاحتساب في مدارسهم، والموظف الناجح، والمسؤول الناصح سِرُّ وجودهم في العمل إقرارُ المعروف والدعوةُ له، وإنكارُ المنكرِ ومنعُ الناس من الوقوع فيه - في دائرته أو محيط عمله - وفرقٌ بين من يُحرقه العملُ دون أن يقيم وزنًا للمعروف أو المنكر، بل همُّه مصالحُه الشخصية، وإن تعطلت مصالحُ الآخرين، وبين من يتخذ من مركزه وسيلةً لخدمةِ عباد الله، فهو قائم بالحق والعدل، منصفٌ للمظلوم، قاضٍ للحوائج، ميسرٌ لا معسر. فذاك
الذي يذكره الناسُ بالخير، وهو ممارسٌ للدعوة والأمر بالمعروف بسلوكه، وإن لم يكن من الممارسين بلسانه.
عباد الله: ولا تحقروا من المعروف شيئًا، ولو أن تلقوا إخوانكم بوجوهٍ طَلِقة، وقد تكون الابتسامةُ مع كلمة خفيفة لطيفة ذات أثر فاعل - وقد تكتفي أحيانًا بقسماتِ الوجهِ - في سبيلِ إنكار منكر - مع صغيرٍ أو شخصٍ حيي، وهكذا.
ولا تنسوا الإحسان والهدايا، فهي وسائل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومَنْ ملك قلوب الناس بإحسانه، وعطاياه استمعوا له، وقدروا أمرَه، واستجابوا لنهيه.
أحسن إلى الناس تستعبدْ قلوبهُمُ
…
فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
ولا تنسوا التعاون مع رجال الحسبة - المعتمدين - فذلك يشجعُهم من جانب، ويفتح لكم مجالًا للمساهمة في الأمر والنهي.
أيها المسلمون: وينبغي أن يعلمَ أن هذه الوسائل وأمثالها تصلح لفئةٍ من الناس، وقد لا تصلح لفئة أخرى مَرَدُوا على الفجور والفسوق، وتمرسوا في ارتكاب الجرائم والتخطيط لها، وهؤلاء لا بد لهم من وازع السلطان لردعهم وتأديبهم وحماية المجتمع من شرورهم، بالعقوبات أو الحدود، أو القصاص، وإذا لم تنفع الكتبُ تعيَّنت الكتائبُ - كما قال العلماء - وذلك مقتضى توجيه القرآن:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} (1)(2).
(1) سورة الحديد، الآية:25.
(2)
وانظر كلام الشنقيطي في ((أضواء البيان)) 2/ 174، 175.
أيها الناس: وهناك وسائل أخرى يعلمها المجربون، ويمارسها الآمرون الناهون.
ومن الوسائل إلى شبهات يتعلق بها بعض الناس ويعللون لأنفسهم بها القعود عن واجب الأمر والنهي، ولا متعلق لهم بها، ومنها: خطأ بعضهم في فهم المقصود بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (1).
قال القرطبي رحمه الله في أحد تعليقاته على هذه الآية: الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكرِ متعيّنٌ متى رُجي القبولُ، أو رُجي ردُّ الظالمِ ولو بعنف، ما لم يخفِ الآمرُ ضررًا يلحق في خاصته، أو فتنةً يُدخلها على المسلمين، إما بشقِّ عصا، وإما بضرر يلحق طائفةً من الناس، فإذا خيف هذا فـ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} محكم واجبٌ أن يوقف عنده، ولا يُشترطُ في الناهي أن يكون عدلًا، وعلى هذا جماعةُ أهل العلم فاعلمه (2).
وقال ابن كثير رحمه الله: ((وليس في الآية مستدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان فعل ذلك ممكنًا
…
)) (3).
ومن الشُّبَه التي تقعد ببعض الناس عن الإنكار: السكوتُ عن منكرٍ أصغر من أجل إزالة منكرٍ أعظم، ثم لا يعملُ من ذلك شيئًا، أو الاعتذارُ عن المشاركة في الإنكار بحجة أنه مشغولٌ بواجب آخر، مع إمكانية الجمع بين الواجبين وعدم تعارضهما.
(1) سورة المائدة، الآية:105.
(2)
الجامع لأحكام القرآن 6/ 345.
(3)
تفسير ابن كثير عند الآية، وقد نقل عن السلف نقولات مفيدة فراجعه إن شئت 3/ 207.
أو المداهنةُ مع أصحابِ المنكرات، وربما شاركهم أو سكت عنهم لإظهار الدعاة بمظهر الاعتدال.
أو اتخاذُ مواقف غير شرعية - دون ضرورة - من أجل دفع تهمة التطرف أو غيرها من التهم الباطلة.
ومن الشُّبه ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال: ومن الناس من يتعلل لترك ما أوجب عليه من الأمر والنهي بأنه يطلبُ السلامة من الفتنة - وقد يقعُ فيها - والمخرجُ من ذلك القيامُ بالواجب، وتركُ المحظور الذي قد يؤدي إلى الفتنة، في كلام وتقسيم - ليس هذا موطن بسطه (1).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2).
(1) الفتاوى 28/ 165 - 167.
(2)
سورة الأنفال، الآية:25.