الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رعاية المُسنِّ في الإسلام
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
أيها المسلمون: من طبائع الأشياء أن الإنسان في هذه الحياة يمر بمرحلة الضعف، ثم القوة، ثم الضعف المؤدي إلى النهاية:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (2).
ومن عظمة الإسلام اهتمامُه بالإنسان في مراحله كلها، وفي كلِّ مرحلةٍ لون من الاهتمام وأسلوب من الرعاية.
وحديث اليوم عن الإنسان في مرحلته الأخيرة (الضعف والشيبة)؛ كيف قدَّرها الإسلام؟ وما ألوانُ رعايته لها؟ وكيف ينبغي أن يُعامل المسنّ؟
إنها مرحلة صعبةٌ وعصيبة، ولا عجب أن يتعوذ الرسولُ صلى الله عليه وسلم منها حين يقول:«وأعوذ بك أن أردَّ إلى أرذلِ العُمر» (3).
كيف لا وبعضُ من يُردُّ إلى أرذل العمر لا يعلم من بعد علم شيئًا، وقد يعيش فترةً من عمره في حكم الأموات، وإن كان في عداد الأحياء.
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 11/ 8/ 1420 هـ.
(2)
سورة الروم، الآية:54.
(3)
صحيح البخاري 3/ 1039.
ولا أدق من وصف المسنِّ لنفسه، وقد سأل الحجاجُ رجلًا من بني ليثٍ قد بلغ سنًا كبيرةً، قال: كيف طُعْمُك؟ قال: إذا أكلتُ ثَقُلتُ، وإذا تركت ضَعُفتُ، قال: كيف نكاحُك؟ قال: إذا بُذل لي عجزت، وإذا مُنعت شرهت، قال: كيف نومُك؟ قال: أنام في المجمع، وأسهر في المضجع، قال: كيف قيامُك وقعودُك؟ قال: إذا أردت الأرض تباعدت منّي، وإذا أردت القيام لزمتني، قال: كيف مشيتُك؟ قال: تعقلني الشعرة، وأعثر بالبعرة. هذه صفة أرذلِ العمر (1).
وأرذل العمر أخسُّه وأدونُه وآخره - كما ذكر المفسرون - قالوا: وإنما خصّه اللهُ بالرذيلة؛ لأنه حالةٌ لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد (2).
وهنا لفتةٌ تستحق الانتباه، فقد قيل: إن الإيمان وعمل الصالحات في الصغر قد يمنع الردَّ إلى أرذل العمر في الكبر.
قال القرطبي رحمه الله: إن هذا لا يكون للمؤمن - يعني الخرف والرد إلى أرذل العمر - لأن المؤمن لا يُنزع عنه علمه (3).
وقال الشنقيطي رحمه الله: إن العلماء العاملين لا ينالهم هذا الخرفُ وضياعُ العلمِ والعقل من شدة الكبر، ويستروح لهذا المعنى من بعض التفسيرات في قوله تعالى:{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (4). إلى قوله: وقد تواتر عند العامة والخاصة أن حافظ كتاب الله المداوم على تلاوته لا يُصاب بالخرف ولا بالهذيان (5).
(1) بهجة المجالس وأنس المجالس ج 2/ 227، 232.
(2)
تفسير ابن كثير، والشوكاني، والشنقيطي.
(3)
الجامع لأحكام القرآن 10/ 141.
(4)
سورة التين، الآيتان: 5، 6.
(5)
أضواء البيان 9/ 334.
ونقل السيوطي عن عكرمة عند تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أنه قال: ولا ينزلُ تلك المنزلة أحدٌ قرأ القرآن - أي حفظه - (1).
وعلى كل حال فالضعف من سيما هذه المرحلة، والإنسانُ في هذا السِّن أحوجُ ما يكون للرعاية والمساعدة، ومن هنا جاءت نصوصُ الشريعة بالاهتمام بالكبير وتقديره بدءًا بالوالدين إحسانًا، وشمولًا لكبار السن رجالًا ونساءً، وعطفًا على الضعفةِ منهم والمحتاجين للمساعدة تقديرًا وإجلالًا.
إنها العظمةُ في تعاليم الإسلام، لا ترمي الكبار في المزابل، ولا تنساهم وتودعهم المستشفيات أو دور الرعاية دون تقدير لمشاعرهم، بل هي الرعايةُ والحنوُّ والعطفُ تقديرًا لماضيهم، ووفاءً لجهودهم وحقوقهم.
إن رعاية الوالدين والإحسان إليهما جاءت بها شريعةُ الإسلام والشرائعُ السماوية قبلها، قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (2).
وحرم الإسلام عقوقهما - بأي شكل من الأشكال - وإن قلَّ في عين العاق، كالتأففِ مثلًا، وقد نُقِل عن الحسن بن علي قوله: لو علم اللهُ شيئًا من العقوق أدنى من أفٍّ لحرَّمه (3).
وإذا كان الأبوان في أعلى قائمة المسنين رعاية وتقديرًا واحترامًا، فقد شملت رعاية الإسلام للمسنين عمومًا، واتخذت هذه الرعاية أشكالًا وأساليب كثيرة،
(1) الدرّ المنثور: 8/ 558.
(2)
سورة البقرة، الآية:83.
(3)
الدرّ المنثور 5/ 258.
ومنها: البدءُ بالتحية للكبار، فقد أمر صلى الله عليه وسلم أن يُسلم الصغيرُ على الكبير، ومن الرعاية والتقدير: ألا يتكلم الصغير في أمرٍ دون الكبير، وقد وجه النبيُ صلى الله عليه وسلم بهذا حين قال لصغير تحدث عنده:«كبر الكُبر» يعني: لِيَلي الحديث الأكبرُ (1).
وكذلك يُقدم الأكابرُ في الشرب، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا سُقي قال:«ابدأ بالكبراء» ، أو قال:«بالأكابر» (2).
وبلغت عناية الإسلام بالمسنين استثناءهم من القتل وإن كان ذووهم محاربين، فقد كان من وصيته لقواده:«ولا تقتلوا وليدًا ولا شيخًا كبيرًا» (3).
وفي أحكام الإسلام تيسيرٌ ومراعاة لأحوال المسنين، فالصلاة تخفف لأجلهم:«إذا صلى أحدُكم للناسِ فليخفِّفْ، فإنَّ منهم الضعيفَ والسقيمَ والكبيرَ .. » الحديث متفق عليه.
وفي الصيام لهم رخصة في الإفطار حين عجزِهم، ويكفيهم أن يُطعِموا عن كل يوم مسكينًا.
وفي الحجِّ يُرخص لهم في إنابة من يحجُّ عنهم، وفي حديث المرأة الخثعمية وإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لها ما يشهد لذلك (4).
والحجابُ المشروع يؤذن للمرأة المسنة في تركه، وإن أُمرت به صغيرة:{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} (5).
(1) رواه البخاري في «الأدب» ، ومسلم.
(2)
رواه أبو يعلى، وهو في «السلسلة الصحيحة» 4/ 381.
(3)
المعجم الأوسط للطبراني: 2/ 255.
(4)
متفق عليه.
(5)
سورة النور، الآية:60.
عباد الله: وفوق ما مضى، فقد جاء في جملة آداب الإسلام توقيرُ الشيخِ الكبير، والرحمةُ بالمرأة المسنة، فذلك من إجلالِ الله.
أخرج البخاري في الأدب المفرد: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم» (1).
بل جاء النهي والوعيد عن عدم توقير الكبار، ففي «سنن الترمذي» و «الأدب المفرد» للبخاري:«ليس منَّا مَنْ لم يرحمْ صغيرَنا، ويوقِّرْ كبيرَنا» (2).
ومن النصوص النظرية إلى الواقع العملي في المجتمع الإسلامي نرى عجبًا في تقدير الكبار واحترامهم وقضاء حوائجهم، وحين كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم القدوة في هذا الأدب تسارع المسلمون للعناية بالكبار، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون.
وفي «تاريخ عمر» لابن الجوزي أن عمر رضي الله عنه خرج في سواد الليل، فرآه طلحةُ، فذهب عمرُ، فدخل بيتًا ثم دخل بيتًا آخر، فلما أصبح طلحةُ ذهب إلى ذلك البيت، فإذا عجوزٌ عمياءُ مقعدة، فقال لها: ما بالُ هذا الرجل الذي يأتيك؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يُصلحني ويُخرج عني الأذى (3).
وفي معارك المسلمين تمثل قادتُهم الأدب والرحمة بالكبار، وهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه يُدرج في صلحه لأهل الحيرة رعاية المسن، وقد جاء في صلحه معهم: «وجعلتُ لهم أيُّما شيخ ضَعُفَ عن العمل، أو أصابته آفةٌ من الآفات، أو كان غنيًا فافتقر، وصار أهلُ دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته، وعيلَ من بيت مال
(1) وهو في «صحيح الأدب المفرد» .
(2)
عارضة الأحوذي: 8/ 107، والأدب المفرد:130.
(3)
ابن الجوزي: «تاريخ عمر» ص 86.
المسلمين» (1)، وقد قرَّر أبو يوسف في كتابه «الخراج» أن الجزية لا تؤخذ من الشيخ الكبير الذي لا يستطيع العمل، ولا شيء له (2). الله أكبر .. هكذا شمل أسلافُنا رعاية المسنّ في حال السلم والحرب، ومع المسلمين وغير المسلمين، ومع القريب والبعيد، والرجال والنساء - فهل ندرك عظمة هذا الأدب، وهل نتمثل هذه الرعاية وتلك الآداب للمسنين؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (3).
(1) أبو يوسف «الخراج» ص 290.
(2)
الخراج ص 254.
(3)
سورة الرحمن، الآية:60.