الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا طاهرًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، وخيرتُه من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
إخوة الإيمان: تقدير الذات، واحترام رأي الآخرين، والثقة المتبادلة، والإيجابية البناءة في الأخذ والعطاء، ورعاية الحقوق العامةِ والخاصة، والتفاهم بالحسنى .. كل هذه مفرداتٌ مهمةٌ للحياة الكريمة المنتجة.
أما التربية بالقسر، والإقناع بالقوة، وإسكات الطرف المقابل قبل سماع ما لديه، فتلك، وإن خيل لك -أيها المربي - أنها أسلوبٌ أمثل في التفوق وإقناع الآخرين .. ، فليست كذلك، وهي، وإن عالجت الموقف عاجلًا، فلها آثارُها السيئة مستقبلًا، ويكفي أن فيها هدرًا للكرامة، وقتلًا للمواهب، وسحقًا للذاتِ، وخسارة لرأي قد يكون هو الأصوبَ والأنجحَ.
أيها المربي: إنك قد تحتقر رأي الصغير، أو الضعيف، ولكن ثق أن مجرد تعويده على المشاركة وطرح الرأي طريقٌ لتربيته ووصله إلى الرأي الصائب مستقبلًا، واحتمالك للخطأ، في سبيل تدريب الناشئة على الرأي والتفكير كسبٌ كبير.
أيها المسلمون: وكما تسري هذه المفاهيم على الأفراد تسري -كذلك - على الدول والمجتمعات، فالعدل أساسُ في قيامها، وتقديرُ الشعوب، واحترامُ الرأي، وتوفيرُ الحرية المنضبطة بحدود الشرع، وصيانةُ الحقوق لكافة الأفراد، وإعطاء الثقة مع المراقبة؛ كل ذلك يُسهم في تعميرِ الدول، وإصلاح الراعي والرعية،
واشتراك الجميع في المسؤولية، ولا تتيحُ الفرصة لتعطيل أي طاقة.
أما الظلمُ والتسلط، وإغفالُ رأي الآخرين، وهدرُ كراماتهم، وسلبُ حقوقهم، واعتبار الريبة محل الثقة، وتعطيل الطاقات، وفشو الأنانيات فذلك معجلٌ بالنهاية، مؤذن بالزوال.
وهنا قاعدةٌ نقلها وقررها شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهي جديرةٌ بالتأمل، إذ يقول: وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم. ثم قال: ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلَةَ وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام (1).
وهذا الكلام النظري الذي ساقهُ ابن تيميَّة في آثار العدل والظلم، يُصدقه الواقعُ العملي للدول قديمًا وحديثًا، فكم من دولة حكمت بالحديد والنار، وظلم الناسِ وأهدرت كراماتهم وسلبت حقوقهم، ثمَّ لم تلبث هذه الدول الظالمة أن تهاوتْ عروشُها، وأصبحت عبرة للمعتدين! والعكس بالعكس.
إخوة الإيمان: إن الإسلام سابقٌ في تقرير هذه المعاني الكريمة، حاثٌ على العدل، ناه عن التسلط والظلم، مقدرٌ للآراء، حافظ لكرامة بني الإنسان. ومن المؤسف أن يتخلف المسلمون عن تطبيق هذه المعاني أو بعضها، ثمّ تظهَرَ عند الدول الكافرةِ أنماط من العدل، وتقدير الكرامة، وحفظ الحقوق، واحترام الرأي فيظن بعض الجهلة ذلك تقصيرًا من الإسلام، والحقُّ أنه من تخلف المسلمينَ وتقصيرهم، وفوق ما سلف من نصوص تؤكد عناية الإسلام بهذا الجانب، فيكفي
(1) الفتاوى 28/ 146.
أن تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل شفاعة وجوار امرأةٍ وأعلن ذلك على الملأِ بقوله «لقد أجرنا من أَجرتِ يا أم هانئ» ، وقبل مشورةً أخرى يوم الحديبية، حين تأخرَ المسلمون في الحَلْق -إذ لم يعتمروا - فأشارت عليه أحدُ نسائه بأن يبدأ في الحلق أمام المسلمين، ففعل وتتابع المسلمون يحلقون.
وفي سيرته صلى الله عليه وسلم عمومًا، كان يُقَدِّرُ الشبان ويأذن لهم بحضور مجالس الكبار. وفي سيرة ابن عمر، وابن عباس وأمثالهما .. نماذج لا تُدانى في تقدير آراء الصغار، وإشراكهم في المهمات مع الكبار. وإذا كان هذا صنيعَه مع النساء والصغار .. فلا تسأل عن هديه وأسلوب تعامله مع الرجال والكبار.
والسؤال المهم: كيف ننمي هذه المعاني، ونسهم في تربية القادة ونفسح المجال للقدرات، ونحافظ على الحقوق والكرامات؟
لا بد في هذا الصَّدد من شعور المربين بهذا النوع من التربية، ولا بد من الممارسة العملية لمن يربون، والآباء والأمهات والمعلمون والمعلمات والمسؤولون والرؤساء كل أولئك مسؤولون عن تحقيق هذه المعاني وغيرها فيمن تحت أيديهم، واقعًا لا تنظيرًا، إذ لا بد من قراءة السيرة النبوية، وسير الأعلام والنبلاء. والمناهج التعليمية لا بد من صياغتها بشكل يحقق هذا الغرض للدارسين، وقبل هذا وذاك، لا بد من وعي المعلمين واستشعارهم، ولا بد من قيام السياسة الإعلامية على أساس من الصدق في الطرح، والثقة في النقل، وإعطاء الفرصة لكل رأي بناء، ولا بد من ضرب النماذج العادلة التي تدعو للإعجاب والاقتداء، أما التعتيمُ في النقل، وحجبُ الرؤية الصحيحة، والإسراف في الثناء، وإغفالُ القيم الكبرى، وبروزُ المهرجين، واختفاء العلماءِ والمفكرين الجادين عن هذه الوسائل الإعلامية، فكل ذلك يؤخر الوعي، ويُسهم في نقل
الغثاء، ولا يعين على استثمار الطاقات.
ومن الأمور المعينة كذلك: إفشاءُ الشورى وتشجيعُ المؤسسات الشورية، والكتابةُ في هذا الميدان، واستخدام الاستبانة في الآراء، والعملُ بنتائجها، ولا بد من شعور العلماء بقدرهم، ولا بد من استفادة الصغار من تجارب الكبار، وتقدير الكبار لهمم وآراء الصغار. وهكذا تتكامل القدرات، ويستفاد من كافة الإمكانات، ولا يغدو في المجتمع عاطل، ولا تهدر طاقة، ولا يستخف برأي أو مشورة وحينها نبلغ بتربيتنا تربية القادة، وتثمر الخطوة ثمارها في العاجل والآجل.
اللهم سدّدْنا في أقوالنا وأفعالنا.