الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) عداوة الشيطان
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوة الإسلام: ولا يزال الحديث متصلًا عن عداوة الشيطان وكيده وإضلاله للإنسان، فإذا سبق ما يكشف عداوتَه ومراتب كيده، فحديث اليوم عن وسائله وطرائقه ومداخله على الإنسان.
أيها المسلمون: وإذا كان الشرُّ والباطلُ مستقبحًا للنفوس السوية في صورته الطبيعية، فمن وسائل الشيطان في إغواء الإنسان:
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 16/ 10/ 1418 هـ.
(2)
سورة الحشر: الآية 18.
(3)
سورة النساء: الآية 1.
1 -
تزيين الباطل وإظهاره بصورةٍ حسنةٍ، عُلم ذلك من قول الشيطان نفسه لربه:{لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (1).
ويصف ابن القيم هذه المكيدة للشيطان ويقول:
ومن مكايده أنه يسحرُ العقل دائمًا حتى يكيده، ولا يسلمُ من سحره إلا من شاء الله، فيزينُ له الفعلَ الذي يضره حتى يُخيل إليه أنه من أنفع الأشياء، ويُنفرُ من الفعل الذي هو أنفع الأشياء، حتى يُخيل له أنه يَضره، فلا إله إلا الله! كم فتن بهذا السحر من إنسان! ! وكم حال به بين القلب وبين الإسلام والإيمان والإحسان! وكم جلا الباطل وأبرزه في صورةٍ مستحسنة، وشنَّعَ الحقَّ وأخرجه في صورة مستهجنة! (2).
2 -
ويندرج تحت هذا وسيلةٌ أخرى للشيطان في إضلال الإنسان ألا وهي تسمية المعاصي بغير اسمها وبأسماء محببة للنفوس، ألم يقل لأبينا آدم عليه السلام:{هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَاّ يَبْلَى} (3)؟
وقد ورثَ أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تُحب النفوسُ مسمّياتها، فسمَّوا الخمر بـ «أُمِّ الأفراح» كما قال ابن القيم رحمه الله في «إغاثة اللهفان» .
ولا يزال الشيطانُ يوحي إلى أوليائه تسمية الأمور المحرمة بغير مسمياتها؛ فتسمع الفائدة بدل الربا، ويسمى التبرج الفاضح بحرية المرأة، ويسمون الاختلاط المستهتر بالتقدم والتمدن، ويسمون المغنية الفاسقة الفاجرة بالفنانة والشهيرة .. وهكذا (4).
(1) سورة الحجر: الآية 39.
(2)
إغاثة اللهفان: 1/ 110.
(3)
سورة طه: الآية 120.
(4)
وحيد بالي «وقاية الإنسان» : ص 178.
3 -
ومن وسائله في الإضلال -من قبيل ذلك - تسمية الطاعات بأسماء منفرة، ووصف أهل الخير بصفات مشينة، وقديمًا أوحى الشيطان إلى أوليائه من قوم عادٍ أن يقولوا لنبيهم هود عليه السلام:{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (1)، وأوحى إلى كفار مدين أن يقولوا لشعيب عليه السلام:{لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} (2). ووصف موسى وهارون عليهما السلام بالسحر، وقال قوم فرعون:{إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} (3).
ولم يسلم محمد صلى الله عليه وسلم من هذا الأذى وتلك التسميات المنفرة من الظالمين؛ {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلًا مَّسْحُورًا} (4).
وما يزال الشيطان ينفخ في سحر المجرمين ليشوهوا صورة الدين والمتدينين ويطلقوا عبارات مشينةً مستهترة لينفرَ الناس من الخير وتُشوَّه صورة الخيرين .. ويأبى الله إلا أن يتم نوره ويكشف للناس الحقيقة .. ولو كره المبطلون.
4 -
ومن وسائل الشيطان وطرقه في الإضلال: التدرجُ في الإضلال، إذْ لا يأتي الشيطان للإنسان مباشرة ويقول له: افعل هذه المعصية، أو اترك هذه الطاعة الواجبة، بل يأتيه خطوةً خطوةً حتى يقع في المحظور، ويترك الواجب المشروع، ولهذا حذرنا ربُّنا تبارك وتعالى من اتباع خطوات الشيطان فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (5).
(1) سورة الأعراف: الآية 66.
(2)
سورة الأعراف: الآية 90.
(3)
سورة طه: الآية 63.
(4)
سورة الفرقان: الآية 8.
(5)
سورة النور: الآية 21.
والحازم الموفق مَنْ يكتشف خطوات الشيطان، ويُغلق منافذه من أول الطريق.
5 -
والشيطانُ في إغوائه يظهر بمظهر الناصح الأمين للإنسان: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَاّهُمَا بِغُرُورٍ} (1).
ولذا حذر اللهُ من فتنته: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} (2).
6 -
أيها المسلمون: وإذا شعر الشيطان أن الإنسان سيفوت عليه وسينُصر عليه في معركة الإغواء، عمد إلى شياطين الإنس يستنجد بهم ويستعينهم ليعينوه في مهمته، وصدق الله:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (3).
وكم أثر شياطين الإنس من دعاة الباطل وقرناء السوء على عباد الله بما لم يستطع الشيطان إليه سبيلًا، وقد كان السلفُ يتخوفون من شياطين الإنس، وهذا مالك بن دينار عليه رحمة الله يقول: إن شيطان الإنس أشدُّ عليَّ من شيطان الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانًا (4).
إخوة الإسلام .. وإذا عرفتم شيئًا من وسائله، فاعلموا شيئًا من مداخله.
ألا وإن من أكبر مداخله: الجهل، والغضب، وحبَّ الدنيا، وطول الأمل، والبخل، والكبر، والرياءَ، والعجب والجزع، والهلع، واتباع الهوى، وسوء
(1) سورة الأعراف: الآية 21، 22.
(2)
سورة الأعراف: الآية 27.
(3)
سورة الأنعام: الآية 121.
(4)
تفسير القرطبي 7/ 67.
الظن، واحتقار المسلم، واحتقار الذنوب، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمته (1).
1) أما الجهل: فهو باب عظيمٌ للانحراف عن صراط الله المستقيم ومدخل واسعٌ من مداخل الشيطان، كيف لا والجاهلُ يفعل الشرَّ وهو يظنُّه خيرًا، وينأى بنفسه عن الخير وهو يحسبه محسنًا. وخسارة الجهل فادحة، وفتقه لا يُرتق إلا بنور العلم والإيمان، قال تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (2).
وقد قيل:
وفي الجهل قبلَ الموتِ موتٌ لأهلهِ
…
فأجسامُهمْ قبلَ القُبور قبورُ
وإنَّ امرءًا لم يَحْيَ بالعلمِ ميتٌ
…
فليس له حتى النشورِ نشورُ
2) أما الغضب فهو داءٌ عضال ومدخل عظيمٌ من مداخل الشيطان، ومن خلاله يتلاعب الشيطانُ بالإنسان كالكرة في يد الغلمان.
وليس عبثًا أن يقولَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم للرجل الذي جاء إليه يقول: أوصني، فقال عليه الصلاة والسلام:«لا تغضبْ» ، فردَّد الرجلُ مرارًا، والرسول يقول:«لا تغضب» (3).
زاد أحمد في رواية: قال الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشرَّ كلَّه (4).
(1) وحيد بالي «وقاية الإنسان من الجن والشيطان» .
(2)
سورة الكهف: الآية 103، 104.
(3)
رواه البخاري «الفتح» : 10/ 519.
(4)
«وقاية الإنسان» ص 195.
إن الغضب مادةٌ للشيطان تُجرِّئه، على فعل القبيح، وتجاوز الحدود، ولو سكن غضبُه لانتقدَ تصرُّفَه، ولما أقدم على ما أقدم عليه، إنه حالةُ ضعفٍ، تحكم الإنسانَ فيها عواطُفه، وتخف سيطرة عقله، ويغيب حلمُه، وكم أوقع الشيطان الغضبان في حبائل من السوء وأنواع من الشرِّ، ما كان له أن يقع فيها لو كان هادئ الطبع، مستعيذًا بالله من الغضب.
يقول الغزالي واصفًا حالة الغضبان: يتصاعد عند شدة الغضب من غليان دم القلب دخانٌ مظلم إلى الدماغ يستولي على معادن الفكر، وربما يتعدى إلى معادن الحسِّ فتظلم عينه حتى لا يرى بها، وتسود عليه الدنيا بأسرها، ويكون دماغه مثل الكهف الذي اضطرمت فيه نارٌ فاسودَّ وجهُه، وحمي مستقرُّه، وامتلأت بالدخان جوانبه، وربما تقوى نار الغضب فتغلي الرطوبة التي بها حياة القلب، فيموت صاحبه غيظًا
…
إلى أن يقول: ولو رأى الغضبان في حالة غضبه قبح صورته لسكن غضبه حياءً من قبح صورته واستحالة خلقتِه، وقبحُ باطنه أعظم من قبح ظاهره (1).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَاّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} (2).
(1) إحياء علوم الدين 2/ 643.
(2)
سورة يس: الآيات 60 - 62.