الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، جعل هذه الأمة خير أمةٍ أخرجت للناس؛ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة، حذّر أمته عن التقاعس بهذا الواجب العظيم فقال:((والذي نفسي بيدهِ لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكن اللهُ أن يبعثَ عليكم عقابًا من عنده، ثم لتدْعُنَّه فلا يستجيبُ لكم)).
حديث حسن رواه أحمد عن حذيفة رضي الله عنه (1).
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى سائر أنبياء اللهِ ورسله.
أيها المسلمون: والخطُب عظيمٌ، والآثارُ المترتبةُ على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها ما ينال المرء في خاصةِ نفسِه، ومنها ما يصيب الأمة بمجموعها.
ومن هذه الآثار: أنه سببٌ للعن والطرد من رحمة الله، قال تعالى عن بني إسرائيل:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2).
بل إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببٌ للعقوبةِ العامةِ وتعجيلها، وفي القرآن:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (3).
(1) صحيح الجامع الصغير 6/ 97، 98.
(2)
سورة المائدة، الآيتان: 78، 79.
(3)
سورة الأنفال، الآية:25.
وعن أصحاب القرية قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (1).
عن عدي بن عميرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عز وجل لا يعذبُ العامة بعمل الخاصةِ، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذّب اللهُ الخاصةَ والعامةَ)) (2).
وعن الحسن أنه خرج على قومٍ يتحدثون، قال: فيم أنتم؟ قالوا: ذكرنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: نعم مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وإلا كنتم أنتم الموعظات (3).
ومن آثار ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انتشارُ المنكرات وفشوُّها في المجتمع إذ لا يجد أصحابُ المنكر رادعًا، ويقل التشجيعُ لأهل المعروف، فيعمُّ الفساد، ويستوحش الأخيار، ويهلك العباد، وقد علم المنصفون تفوق الإسلام - بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - على سائر الأنظمة البشرية، إذ لا يوجد في النُّظم التي ابتكرها الإنسانُ لرعاية القوانين والدساتير نظامًا يصل إلى فكرةِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر كمبدأ تربوي جاد، ومدرسةٍ تعليمية تتيحُ لأكبر قاعدةٍ في الأمة أن تعرف ما لا بد من معرفته من الحرام والحلال، والواجب والمسنون .. ونحوها في وقتٍ قصير، وبلا نفقات، وبطريقة مستمرة، وشاملة (4).
عباد الله: والفسادُ ولو كان قليلًا، يُوحِش، والمفسدون، ولو كانوا رهطًا،
(1) سورة الأعراف، الآية:165.
(2)
أخرجه أحمد، وحسَّنه ابن حجر في ((الفتح)): 13/ 3، 4.
(3)
يعني يوعظ بكم غيركم لما يحل بكم من العذاب، الخلال ((الأمر بالمعروف)):44.
(4)
عبد القادر عطا، في مقدمته ((للأمر بالمعروف)) للخلال 46.
يُخيفون ويمكرون ويُحذرون، ولذا قال تعالى:{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (1).
إلى قوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (2).
وحين قرأ مالكُ بنُ دينارٍ - هذه الآية - قال: فكم اليوم في كلِّ قبيلةٍ وحَيٍّ من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون (3)!
أما اليوم فماذا عساه يقول الناظر في أحوال المسلمين وما حلَّ بهم؟ ولا شك أن لقعود المصلحين وسكوت الغيورين أثرًا في ذلك، فإلى الله المشتكى وهو المستعان.
أيها المسلمون: ومن آثار ترك الأمر والنهي أنه سببٌ لردِّ الدعاء، وقد سبق حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا.
ومن آثار تركه: ظهورُ الجهل، واندراسُ العلم، وذلك أن المنكر إذا ظهر فلم يُنكر نشأ عليه الصغيرُ وألفه الكبير - وظنوه مع مرور الزمن - من الحق - وتحمّل الخيرون تبعةَ وتكاليف التغيير فيما بعد، ولو عولج المنكرُ في حينه لكان أخف، ولم تنطمسْ معالمُ الحق.
ومن الآثار لترك الأمر والنهي ما يحصل من الفتنةِ بالمنكر إذ أنّ صاحبه كالبعير الأجرب يختلط بالإبل فتجرب جميعًا، والناسُ - كما قيل - كأسراب القطا جُبل بعضُهم على التشبه ببعض (4).
(1) سورة النمل، الآية:48.
(2)
سورة النمل، الآية:50.
(3)
رواه البيهقي في ((الشعب)) 7600.
(4)
خالد بن عثمان السبت، ((الأمر بالمعروف)) ص 84.
ومن آثار تركه على الفرد اسودادُ قلبه وتنكيسه، وفي الحديث الصحيح:((تُعرض الفتنُ على القلوب كالحصير عودًا عودًا. فأيُّ قلبٍ أشربها نُكت فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكرها نكت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى تصير (القلوبُ) على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنةٌ مادامت السماواتُ والأرض، والآخر أسود مُربادّ كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرفُ معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرب من هواه)) (1).
يا عبد الله: انجُ بنفسك، وساهم في حماية سفينة المجتمع من الغرق وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحذر الحذر من أن تُرضي الناس بسخط الله، فيسخط عليك، ويُسخط الناس عليك، بل أرضِ الله ولو سخط الناسُ عليك، فإن رضا الله عنك سببٌ لرضا الناس عليك.
عباد الله: تواصوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة، ولا يَقعدنَّ بأحدكم عن الأمر والنهي ما يجده في نفسه من ضعف أو قصور، فكلُّ ابن آدم خطاءٌ .. ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلُّها؟ ولو لم يعظ الناس إلا كاملٌ ورعٌ تقيٌّ نقيٌّ، فمن يعظ العاصين بعد محمد صلى الله عليه وسلم؟
ومن عجائب خلق الله أنك قد ترى شخصًا هاجسه الأمر والنهي أينما حلَّ وارتحل، وقد يكون نصيبه من العلم قليلًا.
وترى شخصًا آخر لا يرفع بذلك رأسًا، حتى وإن أبصر المنكر عيانًا، أو أتيحت له الفرصة لقول المعروف، وقد يكون نصيبه من العلم كثيرًا ومؤهلاته عالية، ولكنه فضل الله، والفرق بين الناس في الغيرة، ونعيذ هؤلاء أن يكونوا كمثل الحمار يحمل أسفارًا.
(1) رواه مسلم 1/ 89.
أيها الآمر والناهي: ولا يمنعْ أن تنهى الناس وتنهى نفسك، وتأمر الناس بالمعروف وتجاهد نفسك على الالتزام به، ولئن تعمل منكرًا وأنت له كاره، فتظل تستغفرُ خيرٌ من أن تعمله وأنت باردُ القلبِ فاقدُ الإحساس، ولئن تأمر غيرك بمعروف - وأنت صادق - حتى وإن لم تطاوعك نفسُك عليه في البداية، خيرٌ من أن تدعه وتَدَع تذكير الآخرين به ولا تيأس من إصلاح نفسِك وإصلاح الآخرين.
يا عبد الله: وحذار من الاستكبار حين تؤمرُ أو تُنهى، حتى ولو كان الآمر لك أصغر سنًا أو أقلَّ علمًا، مادام يتحدثُ بحقٍّ ويأمرُ بمعروف، وإياك والعناد حتى وإن ساء أدب الناصح لك أو أخطأ في الأسلوب. فخذ منه الحقَّ، ولا تشاركه الخطأ في أسلوب الرد، فذلك من تمام العقل ومن علائم الخير، وحذار أن يركبك الشيطان وأنت لا تعلم.
اللهم اجعلنا جميعًا هداة مهتدين، ومن أصحاب اليمين، ويوم الفزع من الآمنين.