الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) التفاؤل في زمن الشدائد
(1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله ربِّ العالمين، أمر بالصبر عند البلاء، والشكر حين السراء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، توعَّد قريشًا بالذّبح وهو محاصرٌ في مكة حين قال:«أتسمعون يا معشر قريش، أمَا والذي نفسي بيدهِ لقد جئتكم بالذّبح» (2) فصدق الوعدُ، وقطع دابرُ المشركين -وإن فصل الزمانُ بين الوعد والإنجاز.
اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (4).
عباد الله: هذا حديثٌ متممٌ للحديث قبله عن (التفاؤل في زمن الشدائد).
وقد سبق بيان هدي المرسلين عليهم السلام لقومهم ووعدهم لهم بالنصر وهم في الضيق
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 20/ 11/ 1420.
(2)
دلائل النبوة للبيهقي 2/ 276.
(3)
سورة النساء: الآية 1.
(4)
سورة التوبة: الآية 119.
والكُربات، وكيف تحقق وعدُ الله وانتصر المُستضعفون، كما سبق بيانُ شيءٍ من الأخطاءِ التي قد تلازم بعض الناس في حال ضعف الإيمان واليقين، وغلبة الكافرين، وشيوع الفساد وكثرة المفسدين، وشيء من مظاهر الإحباط والضعف عند فئامٍ من المسلمين.
أيها المسلمون: إن من العيوب والأخطاء أن يخطئَ المرءُ ولا يدرك خطأه، بل يظل يُزكّي نفسه ويستغرب لماذا يبطئُ النصر، وإليكم نموذجًا من أخطائنا يقررها ابن القيم رحمه الله في «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان» (1)، يقول: إن العبد كثيرًا ما يترك واجباتٍ لا يعلمُ بها ولا بوجوبها، فيكون مقصِّرًا، في العلم، وكثيرًا ما يتركها بعد العلم بوجوبها إما كسلًا أو تهاونًا، وإما لنوع تأويلٍ باطل، أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغلٌ بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك، فواجبات القلوب أشدُّ وجوبًا من واجبات الأبدان، وآكدُ منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثيرٍ من الناس. اهـ.
إخوة الإيمان: والمطلوب مِنّا -في كل حال - ولا سيما في زمن الشدائد والكروب -أن نفتش عن عيوبنا، ونعالج أخطاءنا، ونصدق الله في التماس أسباب النصر، وأن نملأ قلوبنا من الثقة بنصره، وعلوِّ دينهِ، وأن نُخلصَ في ولائنا لله، ونجرد الاستعانة بالله وحده بعد تجريد العبودية له، تحقيقًا لقوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2)، كيف نتخذ من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة (أي: بطانةً ودخيلة) (3)؟ والله يقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ
(1) 2/ 260.
(2)
سورة الفاتحة: الآية 5.
(3)
تفسير ابن كثير.
جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (1).
وكيف نطلب النصر من غير الله؟ والله يقول: {وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (2).
وكيف نزكي أنفسنا؟ والله يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (3).
عباد الله: لا بدَّ قبل أن ننتصر على الأعداء أن ننتصر على أنفسنا، والانتصار على النفس بحملها على طاعة الله، والبعد بها عن ما حرم الله. وهذه مرتبة من الجهاد تُبتلى بها النفوس وتمتحن بها الهمم، وقد يضعف فيها كثيرٌ من الناس، وتراهم ينشغلون بالعدو الخارجي أكثر من انشغالهم بالعدو الداخلي، وذلك لتسلية أنفسهم وتبرير أخطائهم، وكان من وصية أسلافنا لقادة الجهاد أن ذنوب الجيش أشد عليهم من أعدائهم. إن تربية النفوس على الانتصار لشرع الله ودينه، ومجاهدة النفس على التعلق بمعالي الأمور، وترك السفاسف والفواحش هو طريق وسبب لنصر الله، والله يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (4).
يا أخا الإيمان: إن هذه المعاني التي نحتاجها في كل حين، لا سيما في وقت الشدائد؛ من الإيمان واليقين والتسليم وصدق الولاء والصبر والتضرع لله وحسن المجاهدة، وتهذيب النفوس وتصفيتها من الشوائب، وتجريد الاستعانة والعبودية لله، والنظر في الأخطاء وإصلاحِ العيوب، والعمل بجدًّ لتجاوز النفق المظلم بروية
(1) سورة التوبة: الآية 16.
(2)
سورة آل عمران: الآية 126.
(3)
سورة النجم: الآية 32.
(4)
سورة محمد: الآية 7.
وتخطيط وإنجاز وإنتاج دون ملل أو كلل، حتى يأتي نصرُ الله أو نهلك في سبيله -كل ذلك مارسه المؤمنون السابقون وتركوا لنا نماذج تُسلي وتُؤنس، وتقوي الهمم وتشحذُ العزائم.
وإليك نماذج من الشدّة والبأساء وقعت لخير القرون: لقد زُلزل المؤمنون في غزوة الأحزاب زلزالًا شديدًا وبلغت القلوب الحناجر، وزاغت الأبصار، كما قال ربُّنا:{إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (1).
وكيف لا يقع ذلك والمدينة لأول مرة في تاريخ الإسلام يطوقها ما يقرب من عشرة آلاف من قريش وأحلافها والمتحزبين معها، واليهود ينقضون عهدهم في المدينة، والمنافقون من داخل الصّف يرجفون بالمسلمين ويظنون بالله الظنونا؟ ! ومع ذلك كلِّه صدق المسلمون مع ربِّهم وجلى اللهُ موقفهم بقوله:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَاّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (2). ومن قبل وقع أُحد من الشدة والبلاء على الرسول والمؤمنين ما الله به عليم.
وفي قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (3).
أخرج البخاري في «صحيحه» عن أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي أنسُ بن النَّضْرِ عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبتُ عن أولِ قتالٍ قاتلت المشركين، لئن اللهُ
(1) سورة الأحزاب: الآية 10، 11.
(2)
سورة الأحزاب: الآية 22.
(3)
سورة الأحزاب: الآية 23.
أشهدني قتال المشركين ليَرَينَّ اللهُ ما أصنع، فلما كان يومُ أحدٍ وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه - وأبرأُ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين - ثم تقدم فاستقبله سعدُ بنُ معاذ فقال: يا سعد بنَ معاذ! الجنةَ وربِّ النَّضْر إني أجدُ ريحها من دون أُحد، قال سعدٌ: فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع (1)، قال أنسٌ: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربةً بسيف، أو طعنةً برمح، أو رميةً بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثَّل به المشركون، فما عرفه أحدٌ إلا أختُه ببنانه، قال أنس: كُنَّا نرى -أو نظن - أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (2) إلى آخر الآية (3).
إخوة الإسلام: وفي ظل ظروف المِحَنِ واللأُواء والشدائد يظهر دور العلماء، وتحتاج الأمة إلى أصوات المستيقنين المثبتين لقلوب الناس، والواعدين بنصر الله وفق سنن الله وعوامل النصر المشروعة.
أجل لقد مرت الأمةُ المسلمةُ بعواصفِ الردةِ، فكان أبو بكر لها. وطوفانِ المحنة فكان ابنُ حنبلٍ جبلها، ثم طارت في الأمة تيارات المذهبية والآراء والنحل الفاسدة، فتصدى العلماء لها وكشفوا عن زيفها وفساد معتقد أصحابها، وربما حملوا السلاح لمجاهدة أصحابها، ثم انساح الصليبيون في بلاد المسلمين واستولوا على مقدساتهم، وبرغم الهزائم التي لحقت بهم، فلم تلحق الهزيمة قلوبهم، ولم تتخلخل قناعاتهم، هزموا في ميدان المعركة، لكنهم لم ينهزموا في
(1) سواء أكان المقصود بقول سعد: ما استطعت أن أصفَ كلَّ ما عمل، أو: ما استطعت أن أقدم إقدامه. «الفتح» 6/ 23.
(2)
سورة الأحزاب: الآية 23.
(3)
ح 2805 الفتح 6/ 121.
القيم، كانت هزيمتهم حسّية ولم تكن معنوية، حتى إذا جاء صلاح الدين الأيوبي وَمَنْ قبله من القادة الصالحين، وجمع شملهم ووحد صفوفهم، وجد عندهم من القوة والعزيمة على الجهاد ما شجّع القادة على دحر الصليبين وإخراجهم من بلاد المسلمين خاسئين، ثم ابتليت الأمة بغزو التتر، وبلغ الكربُ بالمسلمين مبلغه، حتى قال أحدُ المؤرخين المعاصرين لها:«فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها؛ لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها» (1).
وكما وصف ابن الأثير طرفًا من أحداثها، فقد وصف شيخ الإسلام طرفًا آخر يشير إلى أن أحداث التتر في بلاد الشام وما حولها:«طبق الخافقين خبرُها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاقُ ناصية رأسه، وكشَّر فيها الكفرُ عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمودُ الكتاب أن يجتَثَّ ويخترم، وحبلُ الإيمان أن ينقطع ويصطلم .. وفيها فرّ الرجل من أخيه وأمه وأبيه، إذا كان لكل امرئٍ منهم شأن يغنيه .. » إلى آخر ما جاء في وصف أحوال المسلمين في هذه الفترة العصيبة (2).
ومع ذلك برز العلماء يُهدّئون ويسكنون الناس ويثبتونهم ويعدونهم ويبشرونهم بالنصر .. وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك قدحٌ معلّى .. حتى كشف الله الغمة عن المسلمين، بعد أن تحزَّبَ الناسُ وانقسموا إلى ثلاثة أحزاب: حزبٍ مجتهدٍ في نصر الدين، وحزبٍ خاذلٍ له، وآخر خارجٍ عن شريعة الإسلام.
عباد الله: ولم تكن فتنة التتر آخر البلايا والمحن على المسلمين، بل وافتهم
بعدها محنٌ وخطوب واستعمارٌ وحروب، ولا تزال المؤمرات وأساليب الغزو والتدمير ماضية. وحربُ الأعداء للمسلمين اليوم استمرارٌ لحروبهم بالأمس .. وعلى مسلمي اليوم أن يقرؤوا تاريخ أسلافهم، ويستفيدوا من تجاربهم، ويتعرفوا على طبيعة أعدائهم، ويتمعنوا في قول ربهم:{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (1).
نفعني الله وإياكم.
(1) سورة البقرة: الآية 120.