الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، جاهد في الله حق جهاده بالقلب واللسان، وبالسيف والسنان، حتى أتاه اليقين، وأقرَّ الله عينه بنصرة الدين، اللهمَّ صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
عباد الله: ولا ريب أن الجهاد يكون بالنفس، والمال، والقلبِ، واللسان. قال ابنُ القيم رحمه الله: والتحقيقُ أن جنس الجهاد فرضُ عين، إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمالِ، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع (1). اهـ.
أيها المسلمون وليس يخفى أن الإخلاص شرط في قبول الأعمال كلها، وقد جاء النص عليه في الجهاد، قال صلى الله عليه وسلم:«والله أعلم بمن يجاهد في سبيله» (2).
وجاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم والرجلُ يقاتل للذِّكر، والرجلُ يقاتل ليُرى مكانُه، فمن في سبيل الله؟ قال:«مَنْ قاتل لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا، فهو في سبيلِ الله» (3).
ومن هنا يكون الحديث عن الجهاد الذي ترفع به راية الإسلام وينشر به العدل، ويحقَّق به حكمُ الله في الأرض، ويُذلُّ به الكفار، وتطهر به الأرضُ من الظلم
(1) عن الفوزان: الخطب المنبرية.
(2)
البخاري، الفتح 6/ 6.
(3)
رواه البخاري، «الفتح»: 6/ 28.
والجور، ويُخلى بين الناس وعبوديتهم لرب العالمين. وليس الجهادُ الذي تُزهق به الأرواح بغير حق، أو تُدمر به الممتلكات بغير علم ودون فائدة، أو تُرفع به الرايات العميَّة، أو يكون ميدانًا للشهرة، أو تبرز فيه العصبيات والإقليميات الضيقة.
أيها المؤمنون، وفي فترات العز والقوة للمسلمين ترفع راياتُ الجهاد، ويبرز القادة المجاهدون، وكلما خيم الضعف في الأمة توارت رايات الجهاد وقلَّ المجاهدون. ومنذ أن بدأ محمدٌ صلى الله عليه وسلم جهاده للأعداء، وراية الجهاد مرفوعةٌ على أيدي خلفائه الراشدين من بعده حتى انساح الإسلام في مشرق الأرض ومغربها، وجاءت الدولة الأموية والعباسية، لتكملا مسيرة الفتح الإسلامي، وهكذا الدولة الأيوبية والمماليك وغيرها من دول الإسلام.
وحينها كان الإسلام عزيزًا، والعدوُّ مقهورًا، وأهل الكتاب الذين لا يدينون دين الحقِّ يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
ومع قوة المسلمين وغلبتهم وتحريرهم البلاد وقلوب العباد كان العدلُ قائمًا، والناس يدخلون في دين الله أفواجًا. ومن روائع عدل المسلمين ما تناقلته كتب التاريخ؛ أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله حين استُخلف وفدَ عليه قومٌ من أهل سمرقند ورفعوا إليه أن قتيبة دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين على غدر، فكتب عمرُ إلى عامله أن ينصِّب لهم قاضيًا ينظرُ فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج المسلمين أخرجوا، فنصب لهم جُمَيع ابن حاضر الباجي، فحكم بإخراج المسلمين على أن ينابذوهم على سواء، فكره أهل سمرقند الحرب، وأقرُّوا المسلمين، فأقاموا بين أظهرهم. اهـ (1). ولا عجب أن يؤدي هذا العدلُ من المسلمين إلى انتشار
(1) فتوح البلدان: 411.
الإسلام فيما وراء النهر وغيرها من بلاد الله (1).
تُرى ما الذي حلَّ بالمسلمين حتى تراجعوا عن مراكز القيادة، ولم يتركوا الجهاد فقط، بل تخطفهم العدوُّ وغزاهم في قعر دارهم:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2). ومن لم يَغْزُ غُزي، ومن لم يدع إلى الخير دُعي للشر.
أمة الإسلام، ومع فترات الضعف التي تمر بها الأمة المسلمة أحيانًا - فهي أمة خير، وذات رحم ولودَ، بل وذات رسالةٍ خالدةٍ، وقد يفتر جيلٌ أو يتراخى أهلُ عصرٍ ثم يبعث الله جيلًا آخر أكثر قوة وشجاعة، فينصر الله بهم الدين، ويَكبت الأعداء، ويفضح المنافقين.
ومن سمات هذه الأمة أن الجهاد فيها ماضٍ إلى يوم القيامة، ومع البَرِّ والفاجر، وذلك بخبر الذي لا ينطق عن الهوى حين قال:«الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ إلى يوم القيامة؛ الأجرُ والمغنم» (3).
واستنبط العلماء من الحديث: بشرى بقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة؛ لأن مِنْ لازم بقاءَ الجهاد بقاء المجاهدين وهم مسلمون (4).
أيها المسلمون: ونحن نرى اليوم كم أَرهبت حركات الجهاد -وإن كانت متواضعة - أعداء الله، فأطفال الحجارة في فلسطين، هددوا كيان العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة، وكم أَرعب الأفغان والشيشان من بعدهم روسيا الشيوعية -على الرغم من فارق العددِ والعُدَّة، وهكذا الأمر في البوسنة والهرسك وكوسوفا،
(1) البلدان الإسلامية والأقليات، محمود شاكر وزملاؤه ص 328، 329.
(2)
سورة الرعد: الآية 11.
(3)
رواه البخاري، «الفتح»: 6/ 56.
(4)
ابن حجر، «الفتح»: 6/ 56.
وكشمير والفلبين وغيرها من بلاد المسلمين، واليوم في داغستان جهادٌ يثير مخاوف الروس ومَنْ حولهم. ونسأل الله أن يُمكِّن للمسلمين وينصر المجاهدين الصادقين، ويذلَّ الكفرة ويهزمهم أجمعين.
عباد الله: والجهادُ بالمال معناه أن تدفع مالًا يستعين به المجاهدون في سبيل الله في نفقتهم ونفقة عيالهم، وفي شراء الأسلحة وغيرها من معدات الجهاد، وفضله عظيم، وقد ذكره الله في كتابه مقدمًا على الجهاد بالنفس، مما يدل على أهميته ومكانته عند الله (1).
وفي «سنن ابن ماجه» : باب التغليظ في ترك الجهاد، ساق الحديث عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ لم يغزُ، أو يجهِّزْ غازيًا، أو يخلُف غازيًا في أهلهِ بخيرٍ، أصابَهُ اللهُ سبحانه بقارعةٍ قبلَ يومِ القيامةِ» (2).
ألا فحدثوا أنفسكم معاشر المسلمين بالجهاد، وربُّوا ناشئتَكُم على حُبِّه، وعلِّموهم الرماية وركوب الخيل، وأعينوا المجاهدين الصادقين بأموالكم ودعواتكم. اللهم ارفع راية الجهاد وأزل به ما انتشر من البلاء والفساد.