الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بناء العلاقات في الإسلام
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
أيها المسلمون: هل نكون عاطفيين حين نقول: إن الإسلام يبني ولا يهدم، ويجمع ولا يفرق، ويؤلف ولا ينفر؟ كلا.
ولا نكون مجازفين حين نُصدر حكمًا بأن تشريعات الإسلام كلَّها تُعنى بإقامة العلاقات الإنسانية في كافة المجالات؛ الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وفي حالات الحرب أو السلام، فضلًا عن المجالات الدينية التي ترعى هذه العلاقات وتوجِّهها.
بل يمكننا القول -مطمئنين - أن بناء العلاقات في الإسلام تتجاوز المسلمين إلى غير المسلمين، فماذا نقصد بهذه العلاقات، وعلى أي أساس تقام في الإسلام،
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 4/ 8/ 1420 هـ.
(2)
سورة النساء: الآية 1.
(3)
سورة المائدة: الآية 35.
وما وسائل ذلك وصوره؟
تعالوا بنا -عباد الله - لنتعرف على هذه الحقيقة في بناء الإسلام للعلاقات.
ونستهل ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (1)، أليس في هذه الآية دعوة للتعارف والتآلف بين الناس؟ .. ولكن الآية لا تنتهي حتى تضع معيارًا للتفاضل، والقرب من الله، ذلكم معيارُ التقوى وليس شيئًا آخر.
وفي آية أخرى من كتاب الله يُحدد الإيمان أساسًا للأخوة والتعاون وإصلاح ما قد يطرأ على بناء العلاقة بين المسلمين ويقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2).
وفوق ما في هذه الآيات من إشارات لبناء العلاقات، ففيها تأكيدٌ على معلمٍ واضح من معالم بناءِ العلاقات في الإسلام؛ ألا وهو التقوى والإيمان. وفوق ما سلف تأمل قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (3).
أيها المسلمون: ولا يقف الإسلام في بناء العلاقات بين المسلمين عند التنظير، بل يدعو إلى تطبيق ذلك في عالم الواقع.
أرأيتم السلام تحية أهل الجنة -أليس نموذجًا لبناء العلاقات، ونشر المحبة؟ يقول عليه الصلاة والسلام:«أولا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلامَ بينكم» .
(1) سورة الأنفال: الآية 13.
(2)
سورة الحجرات: الآية 10.
(3)
سورة الأنفال: الآية 1.
أو ليس إطعام الطعام صورةً أخرى من صور بناء العلاقات وإيجاد الألفة، فضلًا عما فيه من سد للحاجة؟
تأملوا ثناء الله على من يطعمون الطعام، فهم في قائمة الأبرار، وهم من عباد الله:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} (1). وإطعام الطعام سبيل لاقتحام العقبة: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (2).
إنها شبكة من العلاقات يقيمها الإسلامُ بإطعام الطعام لتشمل المسكين واليتيم والأسير، القريب والبعيد.
وقولوا لي بربكم أي نظام في الدنيا يمكن أن يبلغ ما بلغه الإسلام في دعوته لإفشاء السلام، أو إطعام الطعام؟ إنها أعمالٌ وحركاتٌ يسيرةٌ نمارسها يوميًا، وقد لا نشعر بقيمتها في ربط العلاقات، وإفشاء الخير في المجتمعات. فكيف إذا أفشيتَ السلام على صغير، أو عُدت مريضًا، أو أعنت ضعيفًا، أو قضيت حاجةَ معوز، أو شفعت لصاحب حاجة، أو تبعت جنازةً، أو أهديت لقريب أو بعيد هديةً، أو دعوت لمسلم بظهر الغيب .. أو نحو ذلك من أنماطٍ وسلوكياتٍ حث الإسلامُ عليها ورغب في فضلها .. وهي تبني العلاقات وتستجيب لها القلوبُ وتُسرُّ بها النفوس.
إخوة الإسلام: وفي بناء الأسرة كذلك تظهر عظمة الإسلام في بناء العلاقات، فالأرحام توصل والقريب يُعتنى به ويكرم .. والصدقة على القريب صدقة وصلة،
(1) سورة الإنسان: الآيتان 8، 9.
(2)
سورة البلد: الآيتان 11 - 16.
والرحمن يصل من وصل، ويقطع من قطع الرحم.
وإذا كان الأبوان في أعلى قائمة الرحم، فالوصية بهما إحسانًا وتكريمًا ورحمة ودعاءً لهما، والنهي عن إيذائهما حركةً أو تعبيرًا:{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} (1).
ترون معاشر المسلمين كم تبني هذه القيمُ والمكارم من علاقات .. وكم فيها من وفاءٍ ورحمات ودعوات!
وبين الزوجين مودةٌ ورحمة، وبيتُ الزوجيّة سكن حسيٌ ومعنوي:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (3).
وحين يُعكر صفو هذه العلاقات مكدرٌ، أو يطرأ ما يخدش سكن الزوجية، يجيء تأكيد الإسلام على الصبر والتحمل والعفو والصفح، فقد يكره الزوج من زوجه خلقًا ويرضى خلقًا، وقد تكون نزغةً من النزغات ينبغي على الزوجين ألا يستجيبا لها، يقول صلى الله عليه وسلم:«لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر» رواه مسلم، ومعنى «لا يَفرِك» أي: لا يبغض (4). ومثلُ هذا يُقال في الحفاظ على
(1) سورة الأحقاف: الآية 15.
(2)
سورة الإسراء: الآيتان 23، 24.
(3)
سورة الروم: الآية 21.
(4)
رياض الصالحين.
العلاقات الأسرية بشكل عام، حتى وإن قوبل الإحسانُ بالإساءة، والوصل بالقطيعة، قال رجلٌ: إن لي قرابة أصِلُهم ويقطعوني، وأحسنُ إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فأقره صلى الله عليه وسلم وقال:«إن كنتَ كما قلتَ فكأنما تسفُّهم الملّ، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمت على ذلك» رواه مسلم. وفي التوجيه النبوي الآخر، قال صلى الله عليه وسلم:«ليس الواصلُ بالمكافئ ولكن الواصلَ الذي إذا قُطعت رحمهُ وصلَها» رواه البخاري.
عباد الله: وإذا كان هذا جانبًا من بناء العلاقات الاجتماعية في الإسلام .. فالأمر كذلك في جوانب المال والاقتصاد، فالعلاقةُ بين الغني والفقير تُبنى على أساس من العطف والرحمة والإيثار والمواساة، وإنظار المعسر، وحسن القضاء، فالفقير يُعان ويُتصدّق عليه، أو تدفع الزكاة له، ويُقرض قرضًا حسنًا، ولا يُلح عليه في الأداء إن كان معسرًا {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1).
{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (2).
«اتقوا الله ولو بشق تمرة» إلى غير ذلك من نصوص تحث على البذل والصدقة والإحسان.
وبكل حالٍ فلا ينبغي أن يكون المال دولة بين الأغنياء، ويحرم منه أصحاب الحاجات والفقراء.
قال تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} (3).
(1) سورة البقرة: الآية 280.
(2)
سورة المعارج: الآيتان 24، 25.
(3)
سورة الحشر: الآية 7.