الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجهاد في سبيل الله
(1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وكان فيما أنزل:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حكم بأن الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله أعظم تجارة تحصل بها النجاة من عذاب الله، وهي سبيل لمغفرة الذنوب، ودخول الجنان:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (3).
وأشهد أن محمدًا عبدهُ ورسوله، رغَّب في الجهاد وجعله ذروة سنام الإسلام، وجاءت شريعتُه معلية لمنازل المجاهدين في سبيل الله فقال:«وأخرى يُرفع بها العبدُ مئة درجة في الجنة، ما بين كلِّ درجتين كما بين السماءِ والأرض» ، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: «الجهادُ في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله» (4).
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 16/ 5/ 1420 هـ.
(2)
سورة التوبة: الآية 111.
(3)
سورة الصف: الآيات 10 - 13.
(4)
رواه مسلم: «مختصر المنذري» رقم 1071.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى سائر أنبياء الله ورسله، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (2).
أيها المسلمون: الحديث عن الجهاد في سبيل الله حديثٌ عن معالي الأمور، وإن كرهته النفوس كما قال ربنا:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3).
إنه حديث عن تحرير الفرد والأمة من عبودية الشهوات، واستنقاذٌ للنفوس من الوَهْنِ والجبن والخور، وهو طريقٌ إلى نشر الدين وإرهاب العدوِّ، ومَدِّ رواق الإسلام في أنحاء المعمورة، وتخليص الأمة من ذُلِّ التبعية، وبه يتميز أهل الإسلام والكفر، وينكشف المنافقون وأهل الريب ومن في قلوبهم مرض. وما فتِئ القرآنُ ينزل معظِّمًا للجهاد وتحذر آياتُه من التباطُؤ عن الخروج لسبب من الأسباب، أو عائق من العوائق الأرضية، ويقول جل ذكره:{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (4).
(1) سورة المائدة: الآية 35.
(2)
سورة التوبة: الآية 119.
(3)
سورة البقرة: الآية 216.
(4)
سورة التوبة: الآية 24.
ونظرًا لتأخر النفوس أحيانًا عن الجهاد لسببٍ من أسباب الدنيا، فقد جاء العوضُ - في روحةٍ أو غدوةٍ - في سبيل الله كبيرًا وغير متكافئ مع متاع الدُّنيا، وقال صلى الله عليه وسلم:«لغدوةٌ في سبيل الله أو روحةٌ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها» رواه البخاري (1). فإذا كان هذا في الغدوة والروحة، فما الظنُّ بما هو أعظم من ذلك من درجات الجهاد؟
أجل، لقد أعلنها محمدٌ صلى الله عليه وسلم على الملأ، وأقسم، وهو الصادق الأمين، برغبته في الجهاد وفضل الشهادة في سبيل الله يوم أن قال:«والذي نفسي بيدهِ لولا أنَّ رجالًا من المؤمنين لا تطيبُ أنفسُهم أن يتخلَّفوا عنِّي ولا أجدُ ما أحملُهم عليه، ما تخلَّفتُ عن سريةٍ تغدو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددتُ أنِّي أُقْتَلُ في سبيل الله، ثم أحيا ثم أُقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل» رواه البخاري (2).
وفي «صحيح» البخاري ومسلم، واللفظ له، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما من أحدٍ يدخلُ الجنة يحبُّ أن يرجعَ إلى الدنيا، وأن له ما على الأرض من شيءٍ، غيرُ الشهيد، فإنه يتمنَّى أن يرجعَ فيُقتل عشر مراتٍ، لما يرى من الكرامةِ» (3).
عباد الله: لا بد من إحياء شعيرة الجهاد في النفوس، ولا بد من العلم أن الجهاد أفضل ما تطوع به الإنسان، وتطوعه بالجهاد في سبيل الله أفضل من تطوع الحج والعمرة وعمارة المساجد، قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
(1) الصحيح مع الفتح: 6/ 13.
(2)
الصحيح مع الفتح: 6/ 16.
(3)
مختصر المنذري: ح 1079، «الفتح» 6/ 32.
الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (1) ومن هنا تسابق المؤمنون إلى ميادين الجهاد، ورغبوا في الشهادة، ولا غرابة أن يُلقي أحدُهم بتمرات كانت معه ويقول: لئن أنا بقيت حتى آكل هذه إنها لحياة طويلة! !
ولا غرابة كذلك أن يتسابقوا إلى المرابطة في الثغور وهم يسمعون المصطفى يقول: «رباط يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيام شهرٍ وقيامِه، وإن مات جرى عليه عملُه الذي كان يعمله، وأُجري عليه رزقُه، وأمِنَ الفتَّان» (2).
ولهذا قال أبو هريرة رضي الله عنه: لأن أُرابط ليلةً في سبيل الله أحبُّ إليَّ من أن أقوم ليلة القدرِ عند الحجرِ الأسودِ (3).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولهذا كان الرباط في الثغور أفضل من المجاورة بمكة والمدينة، والعمل بالرمح والقوس في الثغور أفضلُ من صلاة التطوع (4). اهـ.
أيها المسلمون: حقًا إن الجهاد في سبيل الله رفعًا لذُلِّ الأمةِ المسلمة، وما فتئ المسلمون، ومنذ غابت عنهم هذه الفريضةُ الإسلامية يتمرغون في أوحال الذلِّ والتبعية، ويسومهم العدوُّ سوء العذاب، وتلك وربي واحدة من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهو القائل: «إذا تباعيتم بالعينة - وهي نوع من الربا - وأخذتم بأذنابِ البقرِ، ورضيتُم بالزَّرع، وتركتم الجهادَ، سلَّط اللهُ عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجِعُوا
(1) سورة التوبة: الآية 19، 20.
(2)
رواه مسلم، مختصر المنذري: ح 1075.
(3)
الفتاوى: 28/ 12.
(4)
الفتاوى: 28/ 12.
إلى دِينكم» رواه أحمد وأبو داود بإسنادٍ صحيح (1).
ومن هنا يَفْرُقُ أعداءُ الملةِ من الجهاد، ويتخوفون كثيرًا من المجاهدين الصادقين، ولذا يَعمدون إلى تشويه صورة الجهاد، ورمْي المجاهدين بأبشع الألقاب، وتكاد صيحاتُ المجاهدين وتكبيرهم تقطع أنياط قلوبهم، وإن كان استعدادهم ضعيفًا.
وإذا لم يُستغرب هذا من الأعداء، فإن المؤسف والمستغرب حقًا أن تروج مثلُ هذه الشائعات في بلاد المسلمين، وتتسلل هذه الأفكار المحيطة للجهاد والمشوهة لصورة المجاهدين عند بعض أبناء المسلمين، ويتردد في الإعلام العربي والإسلامي مفاهيم خاطئة عن الجهاد وأهدافه، وعن المجاهدين وصولاتهم.
عباد الله: والجهادُ في سبيل الله طريقنا إلى العز والتمكين في الدنيا، وهو طريقٌ موصل للجنة ونعيمها في الآخرة فـ «الجنَّةُ تحت بارقةِ السُّيوفِ» و «الجنّةُ تحت ظلالِ السيوفِ» رواه البخاري (2).
تُرى، كم نُحدث أنفسنا بالجهاد، وهل نتخوف على أنفسنا من النفاق حين لا نغزو ولا نحدث أنفسنا بالغزو؟ وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم «من مات ولم يغزُ ولم يُحدِّث به نفسَه، مات على شعبةٍ من نفاقٍ» . قال عبد الله بنُ المبارك: فنرى أن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
وقال غيره: والظاهر الموافق للسنة الصحيحة عمومُ ذلك، ولا دليل على هذا التخصيص (4).
(1) صحيح الجامع: 1/ 175 ح 416.
(2)
الفتح: 6/ 33.
(3)
مسلم، «مختصر المنذري» ح 1073.
(4)
حاشية المنذري: 3.
ومن هنا -معاشر المسلمين- تبدو خطورة تناسي الجهاد، وعدم تحديث النفس به، ويرحم الله أقوامًا وأممًا كانت تنام وتستيقظ على أخبار الجهاد، وترابط الشهور، بل الأعوام، في الثغور لحماية أمة الإسلام، ونشر دين الله ما بلغ الليل والنهار.
وفي سنن المرسلين وسِيَرهم عليهم السلام هممٌ عالية للجهاد، وفي «صحيح البخاري»: باب من طلب الولد للجهاد، وفيه ساق الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«قال سليمانُ بنُ داودَ عليهما السلام: لأطوفنَّ الليلةَ على مئة امرأةٍ، أو تسعٍ وتسعين، كلهنَّ يأتي بفارس يجاهدُ في سبيلهِ، فقال له صاحبُه: قل: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله، فلم تحمل منهن إلا امرأةٌ جاءت بشقِّ رجلٍ، والذي نفسُ محمدٍ بيده لو قال: إن شاءَ الله؛ لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون» (1).
وهنا فائدة حيث قال الحافظ ابن حجر: قوله (باب من طلب الولد للجهاد) أي: ينوي عند المجامعة حصول الولد ليجاهد في سبيل الله، فيحصل له بذلك أجرٌ، وإن لم يقع ذلك (2).
نفعني الله وإياكم.
(1) الفتح 6/ 34.
(2)
الفتح 6/ 34.
(3)
سورة النساء: الآية 95، 96.