الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله صاحب الفضل والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، كل من في السماوات والأرض خاضع لجبروته وسلطانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، كان أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في رمضان .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين.
إخوة الإسلام: ووقف أهلُ العلم عند آيتي هود: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (1) والتي بعدها؛ من المقصود بهم؟ : فقيل: نزلت في الكفار، وقيل: المراد بالآية: المؤمنون، والمعنى: من أراد بعمله ثواب الدنيا عُجل له الثوابُ، ولم يُنقصْ شيئًا في الدنيا، وله في الآخرة العذابُ؛ لأنه جرّد قصده إلى الدنيا، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم:((إنما الأعمال بالنيات)).
فالعبدُ إنما يُعطى على وجه قصده، وبحكم ضميره، وهذا أمرٌ متفق عليه في الأمم بين كل ملة.
وقيل: هو لأهل الرياء الذين يقال لهم: صمتم وصليتم، وتصدقتم وجاهدتم، وقرأتم ليقال ذلك، ومعلوم من أول من تُسعر بهم النار.
وقيل: في معنى الآية العموم، أي: ليس أحدٌ يعمل حسنةً إلا وُفِّي ثوابها، فإن كان مسلمًا مخلصًا وفِّي في الدنيا والآخرة، وإن كان كافرًا وفِّي في الدنيا (2).
عباد الله: الله لطيف بعباده، ومن رحمته ولطفه بعباده أن يسَّر لهم طرق الخير، وعظّم لهم الأجر، وقواهم وأعانهم عليه إن كان قصدهم حسنًا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ
(1) سورة هود: الآية 15.
(2)
تفسير القرطبي 9/ 14.
حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (1).
قال ابن كثير رحمه الله: حرثُ الآخرة: عملها، ومعنى {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} أي: نقويه ونعينه على ما هو بصدده؛ ونكثر نماءه ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، إلى ما يشاء الله، {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} أي: ومن كان إنما سعيُه ليحصل له شيءٌ من الدنيا، وليس له إلى الآخرة هِمّةٌ البتة بالكلية حرَمَهُ الله الآخرة، والدنيا إن شاء أعطاه منها، وإن لم يشأ لم يحصل له لا هذه ولا هذه، وفاز هذا الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة (2).
معاشر المسلمين: شمروا في طلب الآخرة، واسعوا لها سعيها وأنتم موقنون بلقاء الله وجزائه وعدله، في كل حين، وخصوا مواسم الخيرات بمزيد من السعي تُفلحوا وتنجوا من عذاب الله.
قيل للأحنف بن قيس رحمه الله: إنك كبيرٌ والصوم يُضعفك، قال: إني أعدُّه لسفرٍ طويل. وقيل: كانت عامةُ صلاتهِ بالليل، وكان يضع أصبعه على المصابيح ثم يقول: حِسَّ، ويقول: ما حملك يا أحنفُ على أن صنعت كذا يوم كذا (3)؟ !
وهكذا إخوة الإيمان تكون الجدية في العبادة، والمحاسبة؛ وتذكر الآخرة.
إن هذه الأمة أمةُ خير، بشَّرها الرسولُ صلى الله عليه وسلم ببشائر - ما التزمت الطريق الحق - وحذرها من عمل الآخرة لأجل الدنيا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((بشِّر هذه الأمةَ بالسَّناء،
(1) سورة الشورى، الآية:20.
(2)
تفسير ابن كثير 7/ 186.
(3)
سير أعلام النبلاء 4/ 91، 92.
والدين، والرفعة، والنصر، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب)) رواه أحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم وسنده صحيح (1).
والسَّناءُ: ارتفاع المنزلة والقدرِ عند الله تعالى (2).
يا أخا الإيمان: تدارك ما فاتك، واستثمر أنفاسك في طاعة خالقك، وإياك أن تؤثر الفانية على الباقية، ومهما تعلقت نفسُك بشهوة أو متاع فاعلم أن في الجنة خيرًا منه، ومهما مرَّ بك من آلام وأحزان وسوءِ حال فاعلم أن في النار شرًا منه. تحمّل ألم ساعة في سبيل حصولك على اللذةِ والحبور الدائم في الجنة، وحذار أن تقودك الشهوة العارضةُ إلى النار والحميم والزقوم في جهنم، وبئس المصير، واختر لنفسك أي المنزلتين شئت.
قال شدادُ بن أوس: إنكم لن تروا من الخير إلا أسبابه ولن تروا من الشرَّ إلا أسبابه، الخيرُ كلُّه بحذافيره في الجنة، والشرُّ بحذافيره في النار، وإن الدنيا عَرَضٌ حاضرٌ يأكل منها البرُّ والفاجر، والآخرةُ وعدٌ صادق يحكم فيها ملكٌ قاهر، ولكلٍّ بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا (3).
اللهم هيّئ لنا من أمرنا رشدًا، وعلق آمالنا في الآخرة، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا.
(1) صحيح الجامع الصغير 3/ 6.
(2)
ابن الأثير، ((النهاية في غريب الحديث)) 2/ 414.
(3)
صفة الصفوة 1/ 709، عن ((أين نحن من أخلاق السلف))، الجليل وزميله 33، 34.