الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين صاحبِ الفضل والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شمل بفضله ورحمته الإنس والجان والمتقين والفجار، وشهد جوده وآلاءه أولو الألباب، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، ناله من رحمة ربِّه ما ألان قلبه لمن حوله فاجتمعوا إليه، ولو كان فظًّا غليظًا لانفضُّوا من حوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المسلمون: وإذا كانت الرحمة بمفهومها العام شاملةً للخلق حتى تقوم الحياةُ ويُبتلى الأحياءُ، ويتميز الشاكرون المؤمنون عن الكافرين الجاحدين، فثمة نوعٌ من الرحمة رجّح ابن القيم أنّ المقصود بها النعمة، فرحمته: نعمته. ثم قال: فالهدى والفضل، والنعمة والرحمة متلازمان، لا ينفكُّ بعضها عن بعض (1).
ونقل القرطبي عن السلف تفسير فضل الله بالقرآن، والرحمة بالإسلام. عن أبي سعيد الخدري وابن عباس: فضل الله: القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله. وعن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة: فضل الله: الإيمان، ورحمته: القرآن (2).
هذه الرحمة ينالها طائفةٌ من عباد الله بعمل الصالحات والمجاهدة والإحسان، والمتتبعُ لآيات القرآن يجد بيان ذلك واضحًا .. فبم تنال هذه الرحمةُ؟ إن مما تُنال به الرحمةُ المجاهدةَ في سبيل الله، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} (3)، {ثُمَّ
(1) الفوائد: 170، 171.
(2)
تفسير القرطبي: 8/ 353.
(3)
سورة التوبة، الآيتان: 20، 21.
إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (1).
كما تنال الرحمةُ بالصبر: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (2).
وتُنال بالإحسان كما قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (3)، {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4).
وتنال الحرمةُ بالإيمان والتقى والطاعة لله والرسول وأداء الواجبات: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (5)، {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} (6)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} (7).
كما أنّ للقانتين آناء الليل كفلًا من رحمته: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (9).
عباد الله: ومن علائم السعادة أن تسود الرحمةُ مجتمع المسلمين إذا شقي غيرُهم بالغلظة والأنانية والجفاء، ورحمةُ الخلق سببٌ لرحمة الخالق، قال عليه
(1) سورة النحل، الآية 110.
(2)
سورة البقرة، الآيتان: 156، 157.
(3)
سورة الأعراف، الآية:56.
(4)
سورة النمل، الآية:11.
(5)
سورة آل عمران، الآية:132.
(6)
سورة النساء، الآية:157.
(7)
سورة الحديد، الآية:28.
(8)
سورة الأعراف، الآيتان: 156، 157.
(9)
سورة الزمر، الآية:9.
الصلاة والسلام: «الراحمون يرحمُهمُ الرحمانُ، ارحموا مَنْ في الأرض يرحمُكم مَنْ في السماءِ .. » رواه أبو داود والترمذي وهو صحيح بشواهده (1).
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما: «لا يرحم اللهُ من لا يرحمِ الناسَ» (2).
إن نزع الرحمة من علائم الشقاء كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «لا تنزعُ الرحمةُ إلا من شقيٍّ» . حديث حسن أخرجه الترمذي وأبو داود (3).
وإذا كانت القسوة في خُلق الأفراد دليلَ نقصٍ كبير، فهي في تاريخ الأمم دليلُ فسادٍ خطير، وهي علةُ الفسوق والفجور كما قال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (4).
أيها المسلم والمسلمة: إن أحدنا قد يهشُّ لأصدقائه حين يلقاهم، وبكل تأكيد يَرِقّ لأولاده وأحبائه حين يراهم، وتلك جوانبُ من الرحمة، بيد أن المفروض في المؤمن أن تكون دائرةُ رحمته أوسع، فهو يبدي بشاشتَه، ويظهر مودَّتَه واحترامه لعامة المسلمين (5).
فالمؤمنون إخوة، وتبسُّمك في وجه أخيك صدقة، وأقرب الناس منزلةً من الرسول صلى الله عليه وسلم أحاسنهم أخلاقًا، الذين يألفون ويؤلفون، ولا خير في من لا يؤلف.
بل شملت الرحمةُ في الإسلام الحيوان فضلًا عن الإنسان، فقد شكر اللهُ
(1)«جامع الأصول» : 4/ 515.
(2)
السابق: 5/ 516.
(3)
جامع الأصول: 4/ 516.
(4)
سورة الحديد، الآية:16.
(5)
الغزالي «خلق المسلم» 255. وفي هذا الكتاب كلام جميل عن الرحمة، وقد استفدت منه في هذه الخطبة.
وغفر للرجل أو المرأة البغي الذي سقي الكلب الذي كان يأكل الثرى من العطش. متفق عليه (1). ودخلت النار امرأةٌ بسبب هرَّةٍ ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض. متفق عليه (2).
وإذا انتكست الفطرُ سُحق الإنسانُ، وبات يحوم حول المزابل بحثًا عن طعامٍ أو شراب، أو شُلَّت أعضاؤه من ويلات الحروب وقنابل الدمار، هذا إن كان في عداد الأحياء. وباتت القططُ والكلابُ مدللةً إلى حَدِّ الترف في المطعم والمشرب والمسكن، وملازمةً لأصحابها في الحلّ أو الترحال، وأين هذا والرحمةُ في شريعة الإسلام؟ !
أيها المؤمنون: وليس من الرحمة في الإسلام تركُ الأدب لمن به حاجةٌ إليه، حتى وإن بدا فيه قسوةٌ على المؤدب ظاهرًا.
فقسا ليزدجروا ومن يكُ راحمًا
…
فليقْسُ أحيانًا على من يرحمُ
وليس من الرحمةِ تعطيلُ حدود الله على من يقترف محظورًا يستحق العقاب: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (3).
ومن بلاغة القرآن أن عبّر عن قتل القصاص بالحياة لما في ذلك صيانة الأحياء واستمرار الحياة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4).
إن الرحمة يا عباد الله - في الإسلام - ليست حنانًا لا عقل معه، أو شفقةً تتنكر للعدلِ والنظام، كلا إنها عاطفةٌ متَّزنة ترعى الحقوق كلَّها وتقيم وزنًا
(1) جامع الأصول: 4/ 523.
(2)
جامع الأصول: 4/ 525.
(3)
سورة النور، الآية:2.
(4)
سورة البقرة، الآية:179.
لمصلحة الفرد والمجتمع والأمة .. وبهذه وتلك فاقت رحمةُ الإسلام كلَّ رحمة، وانتشر صيتُ رحمة المسلمين في الآفاق، ودخلت أممٌ في الإسلام لم يقهرها السيف، ولم يستهوها الدرهمُ والدينار - لكنها القناعةُ بشريعة الإسلام والإعجابُ بأخلاق المسلمين .. على حين أفلست الحضارةُ المادية المعاصرة رغم تشدقها بالعبارات الخادعة، لم يشفع لها بريق الهيئات والمنظمات الكاذبة .. فحقوقُ الإنسان. ومنظماتُ العدل الدولية، وهيئاتُ الأمم .. وما شاكلها، كلُّ هذه وتلك عند واقع الحال وحين يتعلق الأمر بالمسلمين بالذات، ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخًا صولةَ الأسدِ؟
وما أحوج الدنيا إلى شرع السماء وهدي الأنبياء، وتلك مسؤولية المسلمين شعوبًا وحكومات:{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} (1).
اللهم أصلح أحوال المسلمين وردّهم إليك ردًّا جميلًا.
اللهم هبَّ لنا من رحمتك ما تصلح به أحوالنا في الدنيا، وترحمنا يوم العرض عليك في الآخرة؛ فأنت أرحم الراحمين.
(1) سورة الرعد، الآية:17.