الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رَبِّ العالمين ناصرِ دينه، ومعزِّ أوليائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نصر عبدَه وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله
…
نصره ربُّه بالرعب، فما لقيه أحدٌ إلا هابه وقدَّره، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
عبادَ الله: لا تعني حادثةُ الفيل أن يتعطل المسلمون عن فعل الأسباب المشروعة لمقارعة الباطل وأهله، فالتوجيه واضح:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (1).
ولكنها تؤكد عدم الاستسلام للباطل مهما انتفش أصحابُه، وتؤكد عدم اليأس من نصرِ الله حين يُستضعف المسلمون - إذا ما صدقوا مع خالقهم.
كما تؤكد عدم الإحباط عند رؤية القوى الكبرى تبطش وتقهر، وتحلّ وتعقد
…
فربك للظالمين بالمرصاد، وهو يمهل ولا يهمل، وأخذه أليم شديد، ونواميسُ الكون بيده
…
وهو واهبُ القوى، والقادرُ على نزعِها
…
وما قدر وقضى لحكمٍ قد يعلمُ البشرُ بعضَها، وقد يخفى عليهم الكثيرُ منها.
أيها المسلمون: ومن دلالات حادثة أصحاب الفيل أن الاعتقادَ بتخليد قوة مهما بلغت وديمومتها ظنٌّ خاطئٌ يُكذبه الواقع، ويشهد بخلافه ناموسُ الكون بقدرة الله .. فأين عادٌ التي لم يُخلق مثلُها في البلاد؟ وأين ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وأين فرعونُ الذي قال: ما علمتُ لكم من إله غيري، وقال: أنا ربكم الأعلى؟ وأين قارون الذي آتاه اللهُ من الكنوز ما إنَّ مفاتِحَه لتنوء بالعصبة
(1) سورة الأنفال، الآية:60.
أولي القوة، وقال: إنما أوتيته على علم عندي؟ أين جحافلُ التتار الذين عاثوا في الأرض الفساد، يقتلون ويرهبون؟ وأين أصحابُ الحملات الصليبية على مدى قرنين من الزمان؟ وأين أصحاب الحربين العالمية الأولى والثانية، وما خلفتاها من دمار؟ بل أين دهاقنة الشيوعية الحمراء؟ وقد أذن الله مؤخرًا بسقوط دولة الاتحاد السوفيتي بتمزق الاتحاد دولًا، ولا تزال روسيا تصارع من أجل البقاء
…
وتصب جام غضبها على المسلمين.
إن تاريخ القوى المحطمة والدول المتتالية في السقوط عبر القرون يؤكد حقيقة الملك لله والتفرد لله
…
وكلما زاد الظلم تسارع السقوط، وكلما كان الهدى والصلاحُ عُمرت الدول، صدق الله:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (1).
إخوة الإسلام: ومن دلالات حادثة الفيل أن العرب لا شيء بدون الإسلام، فلم يكن لهم دورٌ في الأرض أو شأن يذكر، بل ولا كيانٌ يرهب قبل الإسلام. لم يستطيعوا حماية البيت، ولم يشأ الله أن يحمي بيته المشركون
…
ولكنه حين شاء وقدّر أن يبعث فيهم رسولًا إلى البشرية وأن تكون الكعبةُ قبلتَه حمى بيته، فعظّم العرب هذتا البيت المحمي من قبل الله
…
وزاد ذلك من تقدير العرب لقريش حتى إذا بُعث النبيُّ منهم كانت حادثة الفيل إرهاصًا لمولده وبعثته.
وتحت راية الإسلام ولأول مرة في تاريخ العرب أصبح لهم دور عالمي يؤدونه، وأصبحت لهم قوةٌ دولية يُحسب لها حساب
…
حملوا عقيدةً ضخمةً يهدونها إلى البشرية رحمةً وبرًا بها، ولم يحملوا قوميةً ولا عصبية
…
حملوا
(1) سورة هود، الآية:117.
فكرةً سماويةً يعلمون الناس بها، ولا مذهبًا أرضيًا يخضعون الناس لسلطانه، وخرجوا من أرضهم جهادًا في سبيل الله وحده، ولم يَخرجوا ليؤسسوا إمبراطوريةً عربيةً ينعمون ويرتعون في ظلها، ولم يُخرجوا الناس من حكمِ الروم والفرس إلى حكم العرب، وإنما أخرجوهم من عبودية البشر بعضهم لبعض إلى عبودية ربِّ البشر، عندئذ كان للعرب وجودٌ وقوةٌ وقيمةٌ، وقيادة وقوة ترهب، وسلطانٌ يمتد، وتسارع الناس إلى الدخول في دينهم وتحت حكمهم العادل، وامتدَّ ضياءُ الإسلام يطوي بساط الظلام.
عبادَ الله: وإذا قيل بالأمس: ما العربُ بغير الإسلام؟ ! أمكن القول اليوم وما العرب، بل وما المسلمون بغير الإسلام الحق؟ ! ويأتيك الجوابُ عاجلًا ودون تردد: لا شيء لا شيء، أجل وربي، إن العقيدة الحقة هي التي جعلت للعرب بالأمس شأنً يذكر، وهي التي يمكن أن تعيد لهم سلطانهم ودورهم في الأرض اليوم، وما أحوج الوجود إلى عقيدتهم الحقة - بها ينشرون العدل والخير، وبها تُطوى صفحاتُ الظلم والهضم، وبها تتساقط القوى الوهمية وتنتهي الشعاراتُ الخادعة، وحين يصدق المسلمون في عقيدتهم وتوجههم لخالقهم يكفيهم كيد الكائدين، ويدفع عنهم قوى الأرض مهما كان حجمُها ونوعُ قوتها
…
فالذي دفع أصحاب الفيل وردّهم خاسئين وجعل كيدهم في تضليل، قادرٌ على دفع غيرهم من الأمم الكافرة الظالمة. ولم يكن أصحاب الفيل هم القوة الأولى ولا الأخيرة في هذا الكون ممن دمرهم الله وأهلكهم بظلمهم. ووفق سنة الله في الكون فسيظل الهلاكُ والتدمير لكل من عتى وتسلط وتكبر:{حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1).
(1) سورة الأنعام، الآيتان: 44، 45.