الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحسبة والمحتسب
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر أنبياء الله ورسله، وارضَ اللهم عن أصحابه أجمعين وتابعيهم والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
عبادَ الله: ثبت من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة متممةٌ لسبعين أُمة قبلها
…
وهي خيرُها: «أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرُها وأكرمها على الله عز وجل» .
ولكن هذه الخيرية بشروط ومواصفات، والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر في مقدمتها، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
…
} الآية (4).
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/ 6/ 1419 هـ.
(2)
سورة الحشر، الآية:18.
(3)
سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71.
(4)
سورة آل عمران، الآية:110.
وفي موطِنٍ آخرَ من كتاب الله، قُدِّم الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر على عمود الإسلام الصلاة، وأعظم ركنٍ بعد الشهادتين، وعلى الزكاة الركن الثالث من أركان الإسلام، فقال تعالى في وصف المؤمنين:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1)، فما السرُّ؟ وما المعنى يا تُرى في تقديم الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر تارةً على الإيمان، وتارة على الصلاة والزكاة ونحوها؟
قال سماحةُ الشيخ ابنُ باز يحفظه الله: لا شك أنه قُدِّم لعظم الحاجة إليه، وشدةِ الضرورة إلى القيام به، ولأن بتحقيقه تصلح الأمةُ ويكثرُ فيها الخير، وتظهرُ فيها الفضائل، وتختفي فيها الرذائل
…
وبإضاعته والقضاء عليه تكون الكوارثُ العظيمة، والشرورُ الكثيرة، وتفترق الأمة، وتقسو القلوبُ أو تموت
…
ويُهضم الحقُّ، ويظهر صوتُ الباطل (2).
أيها المسلمون: ولا غَرْوَ بتقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ هما شاملان للدعوة لكل خير، والتحذير من كل شر، وذلك أساسُ دعوة الرسل، ولأجله أنزلت الكتب. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: الأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر هو الذي أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله (3).
وجاء النصُّ عليه في وصف رسالة محمدٍ صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (4).
إنه الوثاق المتين الذي تتماسك به عرى الدين، وتحفظ به حرماتُ
(1) سورة التوبة، الآية:71.
(2)
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 4، نشر دار طليطلة.
(3)
الاستقامة: 2/ 198، 199.
(4)
سورة الأعراف، الآية:157.
المسلمين، وتظهر أعلامُ الشريعة، وتغشو أحكام الإسلام، وبارتفاع سهمه يعلو أهلُ الحق والإيمان، ويندحر أهل الباطل والفجور، يورث القوة والعزةَ في المؤمنين، ويُذلُّ أهلُ المعاصي والأهواء، وتُرغم أنوفُ المنافقين.
قال سفيان رحمه الله: «إذا أمرتَ بالمعروف شددتَ ظهر أخيك، وإذا نهيتَ عن المنكر أرغمتَ أنف المنافق» (1).
يا عباد الله: وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتميز أهل الإيمان عن المنافقين، فمِنْ سيما المؤمنين: الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) الآية
…
ومن علامات المنافقين والمنافقات: أمرُهم بالمنكر ونهيُهم عن المعروف: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} (3).
إياك يا أخا الإيمان أن تخرج عن دائرة المؤمنين بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي هذا يقول الغزالي: فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارجٌ عن هؤلاء المؤمنين (4).
وإياك أن تظنَّ أن تركَ الأمرِ والنهي من الكياسةِ والبعد عن الفضول، فتلك من عدوى مخالطة أهل النفاق لأهل الإيمان، وفي هذا يقول الإمامُ أحمدُ يرحمه الله: إن المنافق إذا خالط أهل الإيمان فأثمرت عدواه ثمرتها صار المؤمنُ بين الناس معزولًا؛ لأن المنافق يصمت عن المنكر وأهلِه، فيصفه الناسُ بالكياسة والبعدِ عن الفضول، ويسمون المؤمن فضوليًّا (5).
(1) صالح بن حميد، توجيهات وذكرى: 1/ 46.
(2)
سورة التوبة، الآية:71.
(3)
سورة التوبة، الآية:67.
(4)
ابن حميد، ذكرت: 1/ 46.
(5)
ابن حميد، ذكرى: 1/ 47.
أيها المسلمون: وتتعاظم مسؤوليةُ المسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلما تعاظم الفسادُ وكثر المفسدون، وكلما قلَّ عددُ المنكرين، أو ضعف أثرُهم، أو كان حجمُ الشرِّ والفساد فوق طاقتهم، أو تعجزُ عن الإحاطةِ به إمكاناتُهم.
وإذا كان العلماءُ قد قرروا وجوبَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجمع السلفُ وفقهاءُ الأمصار على وجوبه - كما نقل الجصاصُ وغيرهُ (1).
فقد قرروا كذلك أنه فرضٌ على الكفاية - إذا قام به من يكفي، سقط الإثم عن الباقين.
وهنا يرد السؤال: وما الحكمُ إذا لم يقمْ بواجب الأمر والنهي من يكفي؟ لقد قرر أهلُ العلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يتحول إلى الوجوب العيني على كل فرد، ويأثمُ كلُّ قادرٍ عليه ولم يقم بواجبه، وفي هذا يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله:«فإذا لم يقمْ به من يقوم بواجبه، أثِمَ كلُّ قادرٍ بحسب قدرته، إذ هو واجبٌ على كلِّ إنسان بحسب قدرته» (2)
…
ويقول سماحةُ الشيخ عبدُ العزيز بنُ باز يحفظه الله: وقد يكون هذا الواجبُ فرض عينٍ على بعض الناس إذا رأى المنكرَ وليس عنده من يُزيله غيرَه .. وإذا لم يكن في البلد أو القبيلة إلا عالم واحدٌ وجب عليه عينًا أن يُعلِّم الناسَ ويدعوهم إلى الله، ويأمرَهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر حسب طاقته (3).
يا أخا الإسلام: ولستَ أغيرَ من الله على شرعه ومحارمه
…
ولكنك ممتحنٌ في غيرتك لشرعِ الله ودينه حين ترى منكرًا يسري بين الناسِ وأنت قادرٌ
(1) أحكام القرآن: 2/ 592، ابن حزم: الفصل في الملل والنحل: 4/ 171.
(2)
الاستقامة: 2/ 208.
(3)
وجوب الأمر بالمعروف: 15.
على إزالته، أو ترى أصحاب منكر يتطاولون بمنكراتهم، ويفتنون الناسَ بباطلهم وأنت قادرٌ على الإخبار عنهم إن لم تستطع نهيهم، هنا ينكشف إيمانك، وتمتحن غيرتك لدين الله وشرعه، فهل تنضم إلى قافلة المؤمنين الذين علمت أن من صفاتهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أم تلوذ بالمعاذير، وتبحث لنفسك عن المبررات، ثم ترضى لنفسك أن تكون في عداد موتى الأحياء، وقد قيل لابن مسعود رضي الله عنه: من ميتُ الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا. ثم يعلق ابنُ تيمية على قول ابن مسعود بقوله: وهذا هو المفتون الموصوفُ بأن قلبه كالكوز مجخِّيًا، كما في حديث حذيفة في «الصحيحين» (1).
أيها المسلمون: والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر واجبُنا جميعًا - وكلٌّ بحسبه، إن في بلده، أو قريته، أو أسرته، أو أهله، فإن عجز عن ذلك كلّه، أو أْعْيَوْه ولم يستجيبوا له، فعليه أمرُ نفسه بالمعروف، ونهيُها عن المنكر
…
ومن الخطأ الاعتقادُ بأنه لا يأمر ولا ينهى إلا الكاملُ في نفسه، فقد قرر أهلُ العلم أنه لا يشترطُ في منكرِ المنكر أن يكون كامل الحال ممتثلًا لكل أمرٍ، مجتنبًا لكل نهي، بل عليه أن يسعى في إكمال حاله، مع أمره ونهيه لغيره، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى في بني إسرائيل:{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (2)، مما يدل على اشتراكهم في المنكر، ومع ذلك حصل عليهم اللومُ على ترك التناهي فيه.
وفي الحديث المتفق على صحته: «إن الله ليُؤَيِّدُ هذا الدين بالرجل الفاجر» .
يا أخا الإيمان: انجُ بنفسك من غضب الله وعقوبته بالأمر بالمعروف، وقول كلمة الحق، وفي الحديث الحسن قال صلى الله عليه وسلم:«ثلاث منجياتٌ» وذكر منها:
(1) الاستقامة: 2/ 208، 209.
(2)
سورة المائدة، الآية:79.
«وكلمة الحقِّ في الغضب والرضا» (1).
وساهم في نجاة سفينة المجتمع من الغرق والعطب، وأنت خبيرٌ بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ودلالته، في مثلِ القائم بحدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة، فصار بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلها.
وَكُنْ من أهل رحمة الله وأولئك هم الآمرون الناهون الذين قيل عنهم: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (2)، وما أسعدك وأطيب عيشك إن كنت من أهل الفلاح الذين قال الله عنهم:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3).
اللهم انفعنا بهدي القرآن وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله
…
(1) صحيح الجامع الصغير: 3/ 65.
(2)
سورة التوبة، الآية:71.
(3)
سورة آل عمران، الآية:104.