الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناصر القوة للمسلم
(1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله جلَّ في علاه، له الأسماءُ الحسنى والصفاتُ العلى، هو الأول والآخرُ والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم خائنةَ الأعينِ وما تخفي الصدور، ما من دابةٍ في الأرض إلا هو آخذٌ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله وخيرتُه من خلقه، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (2).
أيها المسلمون: هناك حقيقة يؤكدها القرآنُ الكريم في أكثر من موضع، ويشهد بها واقعُ الناسِ في كل زمان ومكان، ألا وهي: كثرةُ الخبيث في الأرض، وزيادة أعداد المفسدين، وندرةُ الإيمان، وقلةُ المؤمنين.
يقول تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (4) ويقول جلّ ذكره: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (5)، ويقول:
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 8/ 8/ 1419 هـ.
(2)
سورة التوبة، الآية:119.
(3)
سورة الحشر، الآية:18.
(4)
سورة المائدة، الآية:100.
(5)
سورة يوسف، الآية:103.
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (1)، وقال تعالى:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2)، وقال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (3).
قال عليه الصلاة والسلام حين سُئِلَ: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثر الخبث» . وفي الحديث الآخر: «لا تقوم الساعةُ حتى يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا، ويشرب الخمر» متفق عليه.
وعن الزبير بن عدي قال: أتينا أنسًا فشكونا إليه ما نلقى من الحجَّاج، فقال: اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمانٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري.
هذه الكثرةُ للفسادِ والمبطلين، والقلةُ لأهل الصلاح والتقوى واليقين لحكمة يعلمها الله {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (4).
والغفلةُ عن حكمة الله وتقديره في هذا الكون، قد تضعف معها بعضُ النفوس أحيانًا، وقد ينظرُ المرءُ أحيانًا إلى الفسادِ يسري في الأرض سريان النار في الهشيم، وإلى المفسدين تُتاح لهم من الفرص ما لا تُتاح للخيرين
…
هنا ربما وهن عزمُ المسلمِ أو ساورته بعض الشكوك في طريقه إلى الله، ولربما أساء الظنَّ بربه، أو قلل الأدبَ مع خالقه، فقال بلسان حالهِ أو مقاله: ولماذا يُمَكَّنُ المفسدون؟ وكيف تكون الغلبةُ للكافرين، والذلةُ والتشرذمُ من نصيب المسلمين؟ والله لا يُسألُ عما يفعل وهم يسألون. ولو فتَّش في نفسه وفي
(1) سورة الأنعام، الآية:116.
(2)
سورة سبأ، الآية:20.
(3)
سورة سبأ، الآية:13.
(4)
سورة يونس، الآية:99.
حال إخوانه لوجد من الضعف وعدم الجدية في حمل هذا الدين، ما سبب هذا الواقع المهين، ولا يظلم ربك أحدًا، ولا يخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
والمهمُّ أن نتعرف على الأسباب التي تجعلُ من الضعيف قويًا، ومن القلةِ ذاتِ أثرٍ فاعل، وإن شئت فقل: ما عناصرُ القوةِ للمسلم؟
إن أول عناصر القوة: الإيمانُ الحقُّ بالله، وذلك الإيمانُ يربي النفوس على عدم الخوف من أحدٍ مهما كان، إلا الله الواحد القهار:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1).
لقد تحدى السحرةُ بهذا الإيمان فرعون: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (2)، وبالإيمان صرّح الرجلُ الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ويحث على إتباع المرسلين:{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} (3)، وكذلك استعلى بالإيمان أصحاب الأخدود {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (4)، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.
العنصرُ الثاني: صدقُ التوكل على الله، فمنه يُستجلبُ النصرُ، وبه يُدفع الضرُّ، ومع التوكل عليه وحده يبطل كلُّ كيد ويعيش المتوكلُ قرير العين، متحديًا كلَّ أحد.
(1) سورة آل عمران، الآية:175.
(2)
سورة طه، الآيتان: 72، 73.
(3)
سورة يس، الآيات: 25 - 27.
(4)
سورة البروج، الآية:8.
وهاك نموذجين لآثار التوكل على الله، قصَّ الله علينا خبرهما عن نوح وهود عليهما السلام، فقال عن الأول:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} (1)، فهو لا يبالي بهم ولا بقوتهم وكيدهم، ولا يخاف معرَّتهم، وإن كانوا أشداء أقوياء، ما دام متوكلًا على الله، آويًا إلى ركنه.
وفي النموذج الثاني قال تعالى عن هود عليه السلام: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2)، إنه بالتوكل على الله يتحداهم أجمعين ودون تأخير، ويقول: فكيف أخاف مَنْ ناصيتهُ بيد غيره، وهو في قهره وقبضته؟
عباد الله: إن الإيمانَ الحق يستلزم التوكلَ على الله: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (3).
جاء في الأثر: «من أحبَّ أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحبَّ أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق بما في يديه، ومن أحبَّ أن يكون أكرمَ الناسِ فليتق الله» (4).
أما العنصرُ الثالثُ من عناصر قوةِ المؤمن فهو تفويضُ الأمر لله بعد عمل
(1) سورة يونس، الآية:71.
(2)
سورة هود، الآيات: 54 - 56.
(3)
سورة يونس، الآية:84.
(4)
ساقه ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} سورة الزمر، الآية:38.
الأسباب الممكنة شرعًا، ولا بد لمن فوض أمره إلى الله أن يهديه ويقيه، ودونكم تفويض مؤمن آل فرعون ونتائجه وهو القائل:{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (1).
أيها المسلمون: ويكتسب المؤمن قوةً وحمايةً وأمنًا من خلال دفاع الله عنه {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (2).
وهذا هو العنصر الرابعُ من عناصر القوة
…
ومن يستطيعُ إلحاق الضرر والأذى بمن يتولى الله الدفاع عنه، كلما أجلب الناس عليه
…
؟ !
وكفاية الله لعبده المؤمن عنصرٌ خامسٌ من عناصر قوته، وإن خُوِّف بمن دونه:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (3).
ولا تستطيعُ قوةٌ من البشر - مهما بلغت - أن تُلحق بعبدٍ ضررًا لم يكتبه اللهُ عليه: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك» .
بل يجعل الله تعالى من نفسه محاربًا لمن عادى وليَّه المؤمن: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب» ، وهل يقوى على حرب الله أحدٌ؟
ومما يقوي المؤمنَ ضعفُ سلطانِ الشيطان عليه: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ
(1) سورة غافر، الآية: 44، 45.
(2)
سورة الحج: الآية: 38.
(3)
سورة الزمر، الآية:36.
بِهِ مُشْرِكُونَ} (1). {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} (2).
ومحبة الخلق للمؤمن رصيد يسليه ويقويه ويؤنسه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (3).
وصبرُه على الضراءِ، وشكرُه على السراء، فوق ما فيه من تقويته فهو يفوّت الفرصةَ على كل من أراد بالمؤمن سوءًا أو فتنة، وهذا الصنفُ لا تتعلق نفسُه بعطاء الدنيا، ولا تضجر للبلاء:«عجبًا لأمر المسلم إن أمره كلَّه خير، إن أصابته سراءُ فشكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن» .
وما أجمل قول القائل:
صبرًا جميلًا ما أسرع الفرجا مَنْ صدق اللهَ في الأمور نجا
من خشي اللهَ لم ينلْه أذى ومن رجا اللهَ كان حيث رجا (4)
وأبلغ من ذلك قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (5) ولن يغلب عسرٌ يسرين، كما قال العلماء.
اللهم اجعلنا من الصابرين، ومن أهل الإيمان واليقين، أقول ما تسمعون.
(1) سورة النحل، الآيتان: 99، 100.
(2)
سورة الإسراء، الآية:65.
(3)
سورة مريم، الآية:96.
(4)
تهذيب السير: 2/ 925.
(5)
سورة الشرح، الآيتان: 5، 6.