الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1) أطفالنا ومسؤولية التربية
(1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله القائل في محكم التنزيل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أوحى إلى عبده، فيما أوحى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (3).
وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، أخبر - وهو الصادقُ المصدوق - أن:«كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه، أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه» متفق عليه (4).
اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (5).
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 19/ 6/ 1419 هـ.
(2)
سورة النحل، الآية:78.
(3)
سورة الروم، الآية:30.
(4)
مسلم: 2658.
(5)
سورة النساء، الآية:1.
(6)
سورة المائدة، الآية:35.
أيها المسلمون: حديثُ اليوم عن فئةٍ تملأ علينا بيوتَنا، وتُسرُّ لأحاديثهم قلوبنا، نضيق بتصرفاتهم حينًا، ونستملح حركاتهم حينًا، حديث عن حبّاتِ القلوب، وفلذاتِ الأكباد، وقرة العيون، ورياضِ البيوت، وبهجة الحياة.
إنهم أطفالُنا، وهبةُ الرحمن لنا:{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (1)، تُعنى الشعوبُ كافةً بأطفالها، وتُعقد الأيام العالميةُ للطفل، ولكن يظل الإسلامُ متميزًا في عنايته بالطفل، وتبدأ العنايةُ به قبل وجوده، فأمُّهُ تُختار من ذواتِ الدين والنسب:«فاظفرْ بذاتِ الدين تربتْ يداك» ، «تخيَّروا لِنُطفِكم فإنَّ العرقَ دسَّاس» .
وفي لقاء الزوج بالزوجة لإلقاء النطفة التي يشاءُ الله منها الطفل يُحث على ذكر الله ودعائه بحفظ هذا المولود من كل مكروه، قال صلى الله عليه وسلم:«لو أن أحدَهم إذا أتى أهلَه، قال: بسم الله، اللهم جنِّبنا الشيطان وجنِّبِ الشيطانَ ما رزقتنا، فقُضي بينهما ولدٌ، لم يضرَّهُ الشيطانُ» .
بل ويُحث العقيمُ على ذكر الله والاستغفار والصدقة، وقد يشاءُ الله أن يكون ذلك لمجيء الولد سببًا. روى أبو حنيفة في «مسنده» ، عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنه جاء رجلٌ من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما رزقت ولدًا قطُّ ولا وُلدَ لي، قال صلى الله عليه وسلم:«فأين أنت من كثرة الاستغفار، وكثرةِ الصَّدقة تُرزقُ بها» فكان الرجلُ يُكثر الصدقة ويكثر الاستغفار، قال جابر: فولد له تسعةُ ذكور.
قال مُلا علي في شرحه للحديث: «ولعله مقتبسٌ من قوله تعالى حكايةً عن
(1) سورة الشورى، الآيتان: 49، 50.
نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} (1).
إخوة الإسلام .. وهؤلاء الأطفال الذين يمثلون البراءة وترسم على وجوههم وحركاتهم إشراقةُ الفطرة الربانية، ماذا صنعنا لهم بعد وجودهم؟ ما هي أخطاؤنا معهم؟ وكيف واقُعنا وإياهم، وما هي أنسبُ الطرق وأفضلُ الوسائل لتربيتهم؟
إن الطفل ببراءته ونقائه لوحةٌ نظيفة يكتب فيها المربون ما شاءوا، ولكن ما يُكتب اليوم له أثرهُ في مستقبل الطفل غدًا
…
ومن هنا يأتي خطؤنا أحيانًا في عدم تقدير النظرة للطفل، فضلًا عن الكلمة، أو السلوك أمام الأطفال بشكل عام ..
وما من شكٍّ أن هذه النظرة أو الكلمة التي وجهناها للطفل، أو السلوك الذي تعاملنا به معه تظل كلُّها عالقةً في ذهنه، وذات أثرٍ في سلوكه فيما بعد.
ومن أخطائنا - مع أطفالنا - أننا نُعنى كثيرًا بشكلهم الظاهر، ونوفر لهم أنواع الملابس وأصناف الطعام، وننزعج للمرض يصيب أبدانهم. ويضعف اهتمامُنا بتهذيب نفوسهم، وإصلاح قلوبهم، والعناية بأخلاقهم ومتابعة أدبهم، وينشأ عن هذا وذاك نشأتُهم معظمين للشكليات، مهتمين بكماليات الحياة، وفيهم ضعفٌ ظاهر في تقدير القِيَم، وعلوِّ الهمم، وخوض غمار الحياة مع الحفاظ على محاسن الأخلاق، وجميل السلوكيات.
ومن أخطائنا قِلةُ الأوقاتِ المخصصة للجلوس مع الأطفال، وإذا قُدر لنا الجلوسُ فدون برامج مدروسة، وربما غابت أهدافُ التربية أو عُدِمْنَا الوسيلةَ
(1) سورة نوح، الآيتان: 10 - 12، شرح مسند أبي حنيفة لمُلا علي، ص 587، منهج التربية النبوية للطفل: محمد نور سويد: 47، 48.
المناسبةَ للتربية
…
ولو أن المربي أو المربية في كل جلسة علموه أدبًا، أو حفَّظوه آيةً، أو نبهوه إلى خطأ، أو علموه ما يجهل، بأسلوب مناسب، وبقليل من الوقت - لتشكل من ذلك رصيدٌ نافعٌ لهذا الطفل يدعوه للمكاره ويحفظه من المزالق بإذن الله.
وإذا كان هذا من أخطائنا في البيوت؛ فخطأ المدرسة مع الطفل إنما يكون حين تُركِّزُ على تلقينه المعلومات تحفيظًا، وتقلل من ممارسته لما حفظ سلوكًا عمليًا، فيظل الطفلُ يحفظ ذهنيًا، ويمارس سلوكيًا غير ما حفظ، وربما حفظ في الصفوف الأولى ما لم يمارسه إلا في الصفوف الأخيرة من المرحلة الابتدائية، وبهذه الطريقة التلقينية المجردة تضيع أو تضعف القيمة التربوية للتعليم، ويتركز الهدف أكثر على النجاح أو الرسوب.
ومن أخطائنا في التربية وعلاج مشكلات الأطفال أننا ننظر إليهم أحيانًا على أنهم كبار، يدركون الخطأ ولكنهم يقصدون العناد؛ وبالتالي نحتد في النقاش معهم، ونشتد في ضربهم، وليس كلُّ مخالفةٍ للوالدين، أو خروج عن الأعراف السائدة في المجتمع من قبل الأطفال عنوان شرٍّ ورمز شقاوة، بل قد تكون من علائم النجابة مستقبلًا، وفي «نوادر الترمذي»:«عُرامُ الصبي نجابة» أي: شدته وشراسته، وفي رواية:«عرامة الصبي في صغره زيادةٌ في عقله في كبره» (1).
ومن أخطائنا: الاستهانة بنوع الرفيق لهم في مرحلة الطفولة، فقد يرافقون من يبدأ الطفلُ خطوات الانحراف الأولى برفقتهم، وقد نجهل أن هذا الرفيق يهدم ما نبني، أو يبني ما نهدم.
ومن أخطائنا: ضعفُ همَّتنا في تربية أطفالنا على النماذج العالية للأطفال؛
(1) الطفل المثالي في الإسلام، عبد الغني الخطيب:129.
أو عدمُ قدرتنا على مواصلة التربية حتى يكونوا رجالًا، ومما يشحذ الهمم أن نتصور أن هذا الطفل الضعيف اليوم قد يكون من أفذاذ الرجال غدًا
…
أو تكون هذه البُنيَّةُ المسكينةُ اليوم من خيار النساء غدًا، فلا تأسفْ على جهدٍ بذلته، ولا تحقرنَّ طفلًا لطفولته، وإذا قرأت في سير العظماء فتيقن أنهم مرُّوا بمرحلة الطفولة حتمًا .. ولكن طفولة العظماء، والعناية بهم تنتج - بإذن الله - رجالًا أو نساءً عظماء، ويحدثنا الإمام الشافعيُّ رحمه الله عن طفولته ويقول: حفظتُ القرآن وأنا ابنُ سبع سنين، وحفظتُ «الموطأ» وأنا ابنُ عشر (1).
ونقل الغزاليُّ قول سهل بن عبد الله التستري عن نفسه؛ قال: فمضيتُ إلى الكُتَّابِ، فتعلمت القرآن وحفظتُه، وأنا ابنُ ستِّ سنين أو سبع سنين (2).
وأين الأمهاتُ من أمِّ أنس بن مالك رضي الله عنه والتي ما فتئت أمُّه تُعلمه وتربيه حتى دفعته وهو صغيرٌ للنبي صلى الله عليه وسلم لتكتمل على يديه صلى الله عليه وسلم تربيتُه ويَحْسُنَ تعليمُه؟
بل أين الأمهاتُ من تلك المرأة التي دفعت إلى ابنها يوم أحدٍ السيف فلم يُطقْ حمله، فشدته على ساعده بِنسْعه، ثم أتت به النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: هذا ابني يقاتل عندك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أي بني: احمل هاهنا، أي بُني احْمِل هاهنا» فأصابته جراحةٌ فصدع، فأُتي به النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال:«أي بنيّ لعلك جزعت؟ » قال: لا يا رسول الله (3).
والنماذجُ في هذا أكثرُ من أن تحصى، وهي شاهدة على همم الأطفال، وأثر
(1) السيوطي: طبقات الحفاظ ص 154، بناء شخصية الطفل المسلم: محمد عثمان جمال: 150.
(2)
الإحياء: 3/ 72.
(3)
أخرجه ابنُ أبي شيبة عن الشعبي، وورد في «كنز العمال» وانظر: محمد عثمان جمال، بناء شخصية الطفل المسلم:50.
تربيتهم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (1).
(1) سورة الفرقان، الآية:74.