الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، يحب الصابرين والمحسنين، ويجزي المتصدقين، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، أمر بالتقوى والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخَّابًا بالأسواق، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المؤمنون: أما السبب الرابعُ من أسباب تلوّث الأخلاق ورداءتها، فهو ذلك الركامُ الهائلُ الذي تبثه وسائل الإعلام وتدمر به الأخلاق وتهدم القيم.
وإنها لحرب أعنفُ وأمضى أثرًا من الحروب العسكرية، إذ كانت الحربُ فيما مضى قصرًا على الرجالِ المحاربين، أما هذه الحربُ الإعلاميةُ فهي شاملةٌ للنساءِ والأطفال، والشيوخ والشباب، وكنا في حروبنا مع أعدائنا فيما مضى ندافعهم حتى يسقط آخرُ سهمٍ بأيدينا، أما الآن فنحن نستجلب من الوسائل ما يدمرنا، ونفتعل حروبًا مدمرةً لأهلينا وأولادنا، داخل بيوتنا.
عباد الله: أليست البرامجُ الهابطة المثيرة للغرائز سببًا في انتشارِ فواحشِ الزنا واللواط، أليست الصورة الفاتنة سببًا للسفور ودعوة لنزع الحجاب؟ أليست الثقافةُ المسمومة سببًا في الانحراف الفكري والتغريب الثقافي، وهكذا يتردى الناسُ في الفتن وتتلوث أخلاقهم وهم لا يشعرون، والفتنة أشدُّ من القتل
…
والقتلُ - وإن كان بطيئًا - فهو أشدُّ أثرًا من الجراح في معركةٍ يتقابل فيها المحاربون. ألا فانتبهوا عباد الله لأثر هذه الوسائل المدمرة، وحصِّنوا أنفسكم ومَنْ تحت أيديكم من آثارها، ومن استرعاه اللهُ رعيًّة فمات وهو غاشٌّ لها لم يرح رائحة الجنة.
أيها المسلمون: ولئن سألتم عن العلاج وطرق اكتساب الأخلاق الفاضلة، فهي كثيرة
…
ولكنها محتاجة إلى صدق ويقين وحزم وعزم ومجاهدة للنفسِ وترويضٍ لها.
وهذه أولى القواعد، وهي منطلقة من قاعدة:«إنَّما العلم بالتعلم والحلم بالتحلُّم» ، وكم أفلح المروضون لأنفسهم والمزكون لها:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (1).
ولا بد ثانيًا من انتزاع معوقات اكتساب الأخلاق الفاضلة من النفس، فإذا كان الطمعُ والخوفُ من أهم هذه المعوقات فيمكن استبعادُهما بالثقة بما عند الله والتوكل عليه وحده.
وهكذا ينبغي أن يُنتزع من النفس كلُّ خُلقٍ رديء يعوِّقُ عن اكتساب الخلُق الحَسَنِ.
3 -
ومن الأمور المعينة على اكتساب الأخلاق الفاضلة، تقديرُ الأمور العامة في التربية والتأكيدُ عليها، فالأبوان مثلًا عنصرٌ مهم في التربية، وللعلماء دور في قيادة الأمة وتوجيهها، ويوم أن تسقط هيبةُ الوالدين عند الأولاد أو يقل تقدير العامة لأهل العلم فإن مؤشر الأخلاق ينحدر، وتُحطَّم الحواجز، ويقود السفينة غيرُ ربانها.
4 -
وقراءةُ السير وتراجم النبلاء طريقٌ من طرق اكتساب الأخلاق، ويقال: تراجمُ الرجال مدارسُ الأجيال، ومعلومٌ أن الخير مُفرَّق بين الناس - قديمًا وحديثًا - فهذا حليم، وهذا شجاع، وذاك كريم، ورابع يضرب المثلُ بصبره
…
وهكذا، والإطلاعُ على هذه في تراجم أصحابها يدعو الأجيال اللاحقة لمحاكاتها،
(1) سورة الشمس، الآيتان: 9، 10.
فتتحسّن أخلاقهُم، وتتهذب سلوكياتهم، ويتصل أواخرُ هذه الأمة بأوائلها.
5 -
وتقديرُ مشاعرِ الآخرين طريق لاكتساب الخُلق الفاضل، ومن جَليل الحكم: وآتِ للناس الذي تحبُّ أن يؤتى إليك، وأحبَّ للناسِ ما تحبه لنفسك. وصاحبُ هذا الشعور كلما همَّ بخلقٍ سيّئٍ للآخرين تذكر كرهَه هو لإساءة الآخرين له فأقلع عما هَمَّ به.
6 -
والشكرُ والاعترافُ بما أنعم اللهُ به عليك طريقٌ مهم لاكتساب الأخلاق الفاضلة، ذلك أن في النفس شرهًا وكفرانًا للنعم لا تستقيم معه الأخلاقُ الفاضلة، وتقييدها بلجام الشكرِ لله على كل نعمة، وسؤاله المزيد من فضله، وتذكر من هو أقلَّ منه، أو من حُرم النعمة التي أُوتيها كل ذلك يهذب النفس من جانب، ويدعو لمزيد من النعم:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (1).
7 -
ولا بد من الاعتدال والتوازن لمن يريد اكتساب الأخلاق الفاضلة، والحدُّ الوسطُ في الاعتدال كما قيل أن تُعطيَ من نفسِك الواجبَ وتأخذَه، وحدُّ الجور: أن تأخذه ولا تعطيه (2).
8 -
وثمة أمرٌ مهم لاكتساب الخُلُق الفاضل ألا وهو الدعاء، فلا تجعل بينك وبين الله وسائط في سؤال أيِّ نعمةٍ، ومنها الخلق الحسن، وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم في استفتاح الصلاة:«واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت» (3).
فإذا كان هذا دعاءَ من قيل له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4)، فكيف يزهد غيره بالدعاء عامة وفي حسن الخلق خاصة؟ !
(1) سورة إبراهيم، الآية:7.
(2)
ابن حزم: الأخلاق والسير.
(3)
رواه النسائي بإسناد صحيح (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص 74، د. الأشقر، نحو ثقافة: 163).
(4)
سورة القلم، الآية:4.