الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مقاصد الحج وأسراره ومعانيه وعشر ذي الحجة
(1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله جعل الحجَّ إلى بيته الحرام ركنًا من أركان الإسلام، لا يتم إسلامُ العبدِ إلا بأدائه، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، جعل التطوافَ في مشاعر الحج ومناسكه هديًا للأنبياء عليهم الصلاةُ والسلام، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، خالف قومه المشركين في عوائدِهم في مناسك الحج، واتّبع ملةَ إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (2)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3).
أيها المسلمون: للحجِّ مقاصدُ جليلة، ومعانٍ عظيمة، وآثارٌ إيجابية كثيرة على الفرد في ذات نفسه، وعلى الأمة المسلمة بمجموعها، وحريٌّ بالمسلم أن يعلمَ شيئًا منها إن حجَّ العام أو أعوامًا تليها، حتى تؤتيَ العبادةُ غرضها، وتتحقق
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 26/ 11/ 1420 هـ.
(2)
سورة الحجرات، الآية:13.
(3)
سورة آل عمران، الآيتان: 102، 103.
للحاج منافعُ الحج التي أخبر عنها المولى بقوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (1).
وإليك - أخي المسلم، أختي المسلمة - شيئًا من مقاصد الحجِّ ومعانيه، ومنها:
1 -
مزيدُ الارتباط بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لَدُن إبراهيم عليه السلام حيث بنى البيت، وابنهِ إسماعيل عليه السلام، إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث عظَّم البيت، وأعاد له طهره وتوحيده، وحطَّم الأصنام المحيطة به، ولم يعد للمشركين سلطانٌ عليه، وحي ينزل الحاج في تلك الرحاب الطاهرة يرتبط في ذهنه سِيَرُ الأنبياء ويتجذّر في قلبه الاقتداءُ بهم، والله يقول:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (2).
2 -
وفي الحج تحقيقٌ للعبوديةِ لله وإذعانٌ لشرعه، فلا ترى الحاجَّ إلا متذللًا خاضعًا لله، منكسرًا بين يديه، متجردًا من ملابسه، مسافرًا عن أهله وبلدِه، تاركًا شهواته وملاذه لله ربِّ العالمين، وتراه في الحج يتنقل من عبادةٍ إلى أخرى، تلبيةٍ وذكرٍ وصلاةٍ، ودعاء، طوافٍ
…
وسعي، رمي وحلق وهدي
…
وهكذا تتحقق العبوديةُ للحاج بأوفى صورها وأتمِّ معانيها، وحريٌّ بهذه العبودية لله أن تستمر في سلوكيات المسلم بعد الحج، وحريٌّ بهذه الطاعة لله والاستسلام لشرعه أن تدوم في مكة أو سواها من بلاد الله.
3 -
ويتذكرُ الحاجُ الفطنِ بأعمالِ الحج ومناسكه الموتَ والآخرة، ألا تراه يلبس ما يُشبه الأكفانَ حين يُحرم، متجردًا عن زينةِ الدنيا، متخففًا من كلِّ لباس عدا إزارٍ ورداءٍ يلفُّ بهما جسدَه، ويستر بهما عورتَه، لا فرق في ذلك بين الغني والفقير، والملكِ والمملوك، والصغير والكبير
…
وإذا كان هذا التجردُ من الدنيا وزينتها بوابةَ الآخرة، فالحاج كذلك يتذكر الآخرةَ وجمعَها، حين يجتمعُ
(1) سورة الحج، الآية:28.
(2)
سورة الأنعام، الآية:90.
الناسُ على صعيد عرفات، وحين يبلغُ الزحامُ مبلغه في الطواف والسعي، ورمي الجمار، وقد تكون واحدةٌ من هذه المشاعر بدايةَ نقلِهِ إلى الآخرة، فكم من حاجٍّ في القديم والحديث قضى نحبه في مشاعرِ الحج ولم يعد إلى أهله.
4 -
ومن مقاصد الحج ومعانيه: ارتباطُ المسلمين بقبلتهم التي يولون وجوههم شطرَها في صلواتهم خمسَ مراتٍ في اليوم، ومع ارتباط الحجِّ بالصلاة، إذ الكعبةُ قبلتهم في الصلاة والحج، فالارتباطُ بالكعبة هنا سِرٌّ بديع يحققُ للمسلمين أصالتهم ويذكرُهم بتاريخهم العظيم، وينبغي أن يصرفهم عن التوجه إلى غربٍ كافر، أو شرقٍ ملحدٍ، وأن يُشعرهم هذا التوحدُ في الاتجاه في أركان الإسلام بالتوحدِ في الكلمة، والهدفِ، والقيم الخالدة، وذلك كلُّه مصدرُ قوةٍ وعزةٍ للمسلمين لو عقلوه وعملوا به.
5 -
وفي الحج إرهابٌ لأهلِ الكفرِ والضلال بهذا الاجتماعِ العظيم للمسلمين، فإنهم وإن كانوا مفترقين مختلفين، فإنَّ اجتماعهم في الحج وتوحدهم في المشاعر مؤشرٌ إلى إمكانية اجتماعهم وتوحدهم في غير الحج، واجتماع المسلمين وتوحدهم - لاشك - مقلقٌ للكفار مرهبٌ للأعداء لا سيما وموسمُ الحجِّ تبرز فيه المفاصلةُ التامةُ مع أهل الشرك والكفر ويُحظَرُ حضورهم لهذه المناسبة بأي شكل من الأشكال منذ نزول قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (1).
6 -
ومن أسرارِ الحجِّ ومقاصده تربيةُ النفوس على جملٍ من معاني الخير ومكارم الأخلاق، إذ تتدربُ نفسُ الحاجِّ على الصبرِ والتحمل، والصفح والعفو، والنفقةِ والبذلِ والإحسان، وتعليم الجاهل، والدعوة للخير، وهذه
(1) سورة التوبة، الآية:28.
المعاني والمكتسباتُ الخُلقية - ونحوها - يمارسها الحاجُّ ويحتاج إلى التعامل بها مع رفقته الأقربين، ومع سائر الحجاج من إخوانه المسلمين، وحريٌّ بمن كَسَبَ هذه الأخلاق في الحج أن يحافظ عليها بعد الحج.
7 -
ومن المعاني والأسرارِ اللطيفة في الحج: تعويدُ النفسِ على انتظارِ الفرجِ بعد الشدة، وفي الحجِّ درسٌ عمليٌّ، يقول: إن الشَّدةَ لا تطول، وإن الفرج بعد الضيق، وإن مع العسر يسرًا، ألا ترى الحجاج وهم يسعون بين الصفا والمروة يتذكرون ما مرَّ بأم إسماعيل من ضيق وشدة وما أعقبه من فرج وفضل ورحمة. بل ألا ترى الحاج يبصر - أحيانًا - شدة الزحام في المطاف أو المسعى أو رمي الجمرات، فيضيقُ صدره، وربما ظن أنه غيرُ مستطيع أداءَ هذا النسك، ثم لا يلبثُ إلا قليلًا
…
وإذا بالضيق يخفُّ شيئًا فشيئًا، وبالشدة تذهب رويدًا رويدًا، وبالجموع المخيفة تَنْقَلُ، وبالرهبة تخفُّ حتى يؤدي المرءُ ما كان متهيبًا من أدائه من قبل، ولربما أضمر المرءُ حين الشدة أنه لن يحج بعد العام، فلما كان الفرجُ واليسرُ زال ذاك الهمُّ، وتبدل العهدُ والوعد، وهكذا تنتهي الشدائد وتُفرج الكربات، لا في مشاعرِ الحجِّ وحدها، بل وفي كلِّ مكانٍ وزمانٍ، وعلى المسلم ألا ييأسَ من رَوْحِ الله
…
ولا يقنط من فضله ونصر أوليائه.
8 -
وفي الحج تذكيرٌ بقيمةِ الزمن وإمكانية استثماره في طاعة الله أمثلَ استثمار
…
فالحاجُّ في برهة يسيرة من الزمن يحقق من الطاعات والقربات ما هو جديرٌ بتحفيزه على استمرار استثمار الوقت بما ينفع، فالوقتُ رأس مالِ الإنسان، والوقت أَجَلُّ ما يُصان عن الإضاعةِ والإهمال، ومن المؤسف أن تضيع أوقاتُ المسلم سُدًى، ولربما أمضى فترةً من عُمره وشطرًا من حياته في أمور لا تنفعه شخصيًا، وتخسر بها الأمة طاقةً من طاقاتها
…
وفي الحجِّ ومناسكه وانتقال المرءِ فيه من عبادةٍ إلى أخرى ما ينبغي أن يشحذَ الهمم،
ويقوي العزائم على استثمار الوقتِ بعد الحج فيما ينفع به نفسه، وتستفيد الأمةُ المسلمةُ من ورائه.
9 -
أيها الحاج: أما مغفرةُ الذنوب، ورفعةُ الدرجات في الجنان فذاك الذي أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله:«من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمُّه» رواه البخاري ومسلم، ويقول صلى الله عليه وسلم:«العُمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة» . رواه مسلم.
يا عبدَ الله: وإذا كان لك ماضٍ تستحي من ذكره، وتخافُ الله من حسابك، فاستغفر الله وتب إليه بالحج، فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه حين جاء مسلمًا مشترطًا أن يُغفر له:«وإن الحجَّ يهدم ما كان قبله» رواه مسلم.
10 -
أيها الحاج: وفي الحج تنبعث عبوديةُ الشكرِ لله وتقوى، فالحاجُّ يُبصر الشيخ الضعيف، والفقير والمسكين، ومن يفترشون الأرض ويلتحفون السماءَ، يبصر الأعرج والأعمى، والمريض والمبتلى والمعاقين والزَّمني
…
وأصنافًا من خلق الله حلَّ بهم ما هو منه سالمٌ معافى، فيدعوه ذلك لشكرِ أنعمِ الله عليه، ويتذكرُ ما هو فيه من نعمةٍ قد لا تتوفر عند غيره، فيقيدُ هذه النعمِ بالشكر، ويلهجُ لسانُه وقلبه بالذكرِ والشكرِ، بل وفوق ذلك كلِّه يتذكر نعمة الإسلام التي هو فيها، والأمم والشعوب التي حُرِمتها فيزيد شكره وتمسكه بدينه، ويعودُ من رحلة الحجّ مستمسكًا بالدين الحق، داعيًا غيره ممن لم يتذوق نعمة الإيمان واليقين.
حجاج بيت الله: ولا يليق بالمسلم أن يحافظ على الواجبات كالصلوات المفروضة في الحج فحسب، فإذا ما عاد تهاون بها، كما لا يليق بالمسلم أن يمتنع عن المحرمات، فإذا ما انتهى من رحلةِ الحجِّ مارسها، بل وأطلق لنفسه العنان فيها.
أيها الحاج: ألا فاتخذوا من ذكر الله وتلاوة كتابه - في الحج - والحرص
على السنن المشروعة بشكل عام فرصةً لتعويدِ النفسِ عليها، والمداومةِ عليها بعد الحج.
وإذا ما قُدّر لك - أخي الحاج - أن تطَّلع على شيء من أحوال إخوانك المسلمين وحوائجهم - في الحج - فليكن ذلك داعيًا لك للاهتمام بشأن المسلمين ومتابعة قضاياهم وسدِّ حوائجهم بعد الحج.
وبهذه المشاعر والمعاني والأحاسيس والمقاصد يعود للحجِّ قيمته وأثره، ويعود الحاجُّ ممتلئًا بأسرار الحج ومنافعه
…
وإنما شرعت الطاعاتُ والقرباتُ في الإسلام لتهذيب النفوس وتزكيتها، وترويضها على الفضائل، وتطهيرها من النقائص، وتحريرها من رقِّ الشهوات، والرقي بها إلى أعلى المقامات والكرامات، ودونك هذه المعاني وأكثر، في قوله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (1).
(1) سورة الحجر، الآيات: 27 - 30.