الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأزمات العالمية
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ..
أيها المسلمون: يمرُّ العالمُ اليوم بأزمات متعددة، وتُصاب الشعوبُ بنكساتٍ مروعة، ولا تزالُ تلهث بعيدًا عن هدى الله، فيتعاظم الخطبُ، ويتصاعد مؤشرُ الانحراف، وتطلق صيحاتٌ من هنا وهناك محذرةً من النهاية البائسة
…
ولكن أين المجيب؟
إن الأزمة الاقتصادية التي يمر بها عالمُ اليوم واحدةٌ من نماذج هذه الأزمة الخانقة، ومن عجب أن توجد هذه الأزمةُ مع تضخم رأس المال، ومخزون النفط، وكثرة الإنتاج في مجال الزراعة والصناعة ووجود أسواق بيضاء وسوداء، ونحو ذلك من الأخذ بأسباب النموِّ الاقتصادي المعاصر ومع ذلك كلِّه فإن شبح الانهيار الاقتصادي يطارد الدول الكبرى، تُرى ما أسبابُ هذا الانهيار؟
يُحلل اقتصاديون متخصصون - وغيرُ مسلمين - هذا الانهيار بارتفاع سعر الفائدة، وكثرة المديونية، والعجز عن السداد، ويرون المخرج من هذا تقليل حجم الفائدة، وباختصار: فهم يرون الربا ومعاملاته الجائرة سببًا رئيسًا لهذا الفساد الاقتصادي المهدد بالسقوط.
وهذه حقيقةٌ كشفها القرآن قبل ما يزيدُ على ألف عام حين أعلن اللهُ حربه على
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 1/ 8/ 1419 هـ.
المصرِّين على التعامل بالربا، وأنَّى لقوة - مهما كانت - أن تصمد لحرب الله، واللهُ يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1).
إنه جزءٌ من انتقام الله الذي وعد به المرابين: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2)، {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (3).
ويؤكد الذي لا ينطق عن الهوى في سنته، أن عاقبة الربا إلى قلٍّ وإن توهم المرابون خلاف ذلك، وانخدعوا بالورم الخبيث، روى الحاكمُ بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الربا وإن كثر، فإن عاقبته تصير إلى قلّ» (4).
والمصيبةُ أن يسير المسلمون في اقتصادهم مسيرة العالم الكافر ويربطوا اقتصادهم باقتصاده، وهم يتلون كتاب الله وفيه مخرجٌ لأزماتهم كلِّها، ومن بينها الاقتصاد، فهم يؤمنون أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ويعتقدون أن ما عندهم ينفذُ وما عند الله باق، ويدركون السرِّ في قوله تعالى:{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} (5)، وقوله:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6).
ولا يخالجهُم أدنى شكٍّ في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (7)، وقوله:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (8).
(1) سورة البقرة، الآيتان: 278، 279.
(2)
سورة البقرة، الآية:275.
(3)
سورة المائدة، الآية:95.
(4)
صحيح الجامع: 3/ 186.
(5)
سورة التغابن، الآية:17.
(6)
سورة البقرة، الآية:280.
(7)
سورة الأعراف، الآية:96.
(8)
سورة الطلاق، الآيتان: 2، 3.
أين هذا ممن لا يزالون يصرون على الربا
…
وتنبت أجسادُهم وأجسادُ ذويهم على السحت، وأي جَسَدٍ نبت على حرام فالنار أولى به، ألا فلينتبه المؤمنون بربهم والتالون لكتابه عن الربا، وليتقبلوا عظة الله:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1).
أيها المؤمنون: وثمة أزماتٌ سياسيةٌ وعسكرية، لم تحلها المجالسُ الكبرى، والمنظمات العالمية، ولم تسهم مخزوناتُ الأسلحة العظمى بحلها، بل زادتها تعقيدًا، وكلما انطفأ الفتيلُ في مكان - أو كاد - وإذا به يشتعلُ في مكان آخر، وهكذا يختل الأمنُ وتتصاعد الأزمة، وتتقاسم الدولُ الكبرى النفوذ، وتتوازع المصالح
…
فلا يزيدها ذلك إلا ضعفًا وانهيارًا وكرهًا من قبل الشعوب الأخرى.
والمأساة أن المسلمين لا دور لهم يُذكر في إنشاء أو إطفاء هذه الأزمات الكبرى، بل ربما استنفرت طاقاتُهم، وحوصرت شعوبُهم، وربما خرجوا من المعركة بلا شيء أو بشيءٍ سلبي، وليتهم عادوا إلى إسلامهم، فسيجدون في كتاب ربهم حلًا لأزمة الأمن التي يدفعون ضريبتها في مثل قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (2).
إذا الإيمان ضاع فلا أمانٌ ولا دنيا لمن لم يُحيي دينا
وسيظل المسلمون يشاركون غيرهم في الانتكاسة والخوف، ويهددونهم بالحروب حتى يعودوا إلى هويتهم، وينطلقوا من تعاليم دينهم:«إنَّ الله لا يُغَيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسِهم» .
إخوة الإسلام: أما أزمة الأخلاق التي يعيشها عالمُ اليوم فهي أزمة مدمرةٌ
(1) سورة البقرة، الآية:275.
(2)
سورة الأنعام، الآية:82.
بكل المقاييس، أفل فيها نجمُ العفةِ والفضيلة والحياء، وأعلنت الفاحشةُ على الملأ وانتشر سوقُ المخدرات، وبات يُستعاض بها عن الحروب العسكرية الأخرى، وأصبح الغزو الفكريُّ فنًّا تمارسه الحضاراتُ الماديةُ على من سواها، فلم يُرع جانبُ الدين والخلق، ولم تُقدر الحضارةُ الإسلامية حقَّ قدرها، وأصبح أتباعُها - مع الأسف - يتوارون خجلًا عن الإفصاح عن هويتهم في المحافل الدولية والمؤتمرات الكبرى، إلا من رحم الله.
معاشر المسلمين: ونتج عن هذه الأزمات العالمية وغيرها أن تأثرت بلادُ المسلمين، فشاع الفقرُ، وسُلِّط الأعداءُ على المسلمين، وفشا الموت، ومنعوا النبات وحُبس القطر .. أو أمطرت السماءُ ولم تنبت الأرض .. أو زاد حجمُ الأمطار .. فكانت الفيضاناتُ المدمرة، أو زادت نسبُ التصحر في البلاد المسلمة، فهلك الحرث والنسل، وكل ذلك بما كسبت الأيدي كما قال ربنا:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1).
وهو تحقيقٌ لوعد الصدق الذي جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم وحذّر الأمة من آثاره فقال: «خمسٌ بخمس، ما نقض قومٌ العهد إلا سُلّط عليهم عدوُّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقرُ، ولا ظهرت فيهم الفاحشةُ إلا فشا فيهم الموتُ، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأُخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حُبس عنهم القطرُ» (2).
اللهم ألهمنا رشدنا، وبصّرْنا بمواطن الضعف في نفوسنا، وردنا إليك والمسلمين ردًا جميلًا
…
وأعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
(1) سورة الروم، الآية:41.
(2)
رواه الطبراني عن ابن عباس بسند حسن، صحيح الجامع الصغير: 3/ 113.