الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
زيارات واستقبالات رمضان
(1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله رَبّ العالمين، يُقلبا الليل والنهار، إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بتقديره تنصرم الشهورُ والأعوام، وتفنى الأممُ وتعقبها أممٌ وأجيال، وهو وحده الحي القيوم، كل شيء هالك إلا وجهه.
وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله
…
كان عمره قصيرًا، ولكن حياته كانت مليئةً بالجهاد والدعوة والعلم والعمل، والبرِّ والإحسان، وكريم الخصال والأخلاق، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (3).
أيها المسلمُ والمسلمة: ما نوعُ تفكيرك في الآخرة، وما مقدارُ جديتك في السعي لها، وهل تستثمر الفرص وتفرح بالمناسبات التي تصلك بفضل الله ورحمته، وتُشرع فيها أبواب الجنة وتغلق أبواب النار
…
قد تكون الإجابةُ بالإيجاب
…
ولكن السلوك العملي هو الذي يحدد الدقة في الإجابة، ويحكم بصدق المتحدث أو كذبه.
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 25/ 8/ 1420 هـ.
(2)
سورة النساء، الآية:1.
(3)
سورة التوبة، الآية:119.
قف مع نفسك وقفةً صادقة، وتأمل في الدنيا وقصرها، وما في الآخرة من نعيم أو جحيم يطول أمدُه، ويشتد الفرحُ أو الحزنُ له
…
ودعك من غرور الأماني، وتمثل موقفَ إبراهيم التميمي رحمه الله، قال سفيانُ بنُ عيينة رحمه الله قال إبراهيم التيمي:«مثَّلتُ نفسي في الجنة، آكلُ من ثمارها وأشربُ من أنهارها وأعانق أبكارَها، ثم مثَّلتُ نفسي في النار، آكلُ من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالجُ سلاسلها وأغلالها، فقلتُ لنفسي: أيَّ شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أُرَدَّ إلى الدنيا، فأعمل صالحًا، قال: قلتُ: فأنت في الأمنية فاعملي» (1).
يا عبدَ الله: وحين يقتربُ شهرُ الصيام، ويتنافس الصالحون في الطاعات والقربات أدعوك - لتحفيز همتك للخير - إلى زيارات ثلاث، وما لم تستطع زيارتَه ببدنك فزره على الأقل بخيالك ومشاعرك.
- أما الموقعُ الأول: فهو المقابر، حيث القبور والموتى والرهبة والخشوع
…
وحين تُسلِّم عليهم وتدعو لهم - سلهم قائلًا: ها نحن في أواخر شعبان، وننتظر شهر رمضان، فما أمانيكم لو عدتم إلى الدنيا هذه الأيام؟ ولا تنتظرْ منهم إجابة فإنك لا تُسمِعُ الموتى وما أنت بمسمعٍ من في القبور؟ ولكنَّ أحدًا منهم لو استطاع الإجابة لقال: أمَّا نحن فقد انقطع أملُنا في الرجوع إلى الدنيا
…
ونحن الآن مرتهنون بما سبق وإن عملنا، وبما خلفنا من ولدٍ صالح، أو علم ينتفع به، أو صدقة جاريةٍ لنا.
ولكن، أنتم معاشر الأحياء، كم لله عليكم من فضل حين يبلغكم شهر الصيام والقيام فتصومون، وتقومون، وتتصدقون، وتذكرون، وتدعون، وتستغفرون،
(1) صفة الصفوة: 3/ 91، 92.
وتسبحون، إلى غير ذلك من قرباتٍ تُضاعف فيها الحسنات، وتزيد المضاعفة في شهر الصيام
…
وقد وجدنا ما وعدنا ربُّنا حقًا، وودنا لو ازددنا فما وجدنا غير عمل الصالحات بقي لنا يؤنسُ وحشتنا، ويرفعُ درجاتنا، وكم يُغبن بعضُكم - معاشر الأحياء - حين لا يستثمر فُرص الطاعة، ولو عرف هؤلاء ما نحن فيه لاختلاف سعيهم وتحركت هممُهم. ثم قف أيها الزائر متأملًا في الحُفر والقبور، وما تخفيه من أسرار، وما بين أصحابها من تفاوت في المنازل وإن كانوا في القبور سواء، وتصور وكأنك لحقت بهم غدًا، فماذا سيكون حالُك بينهم
…
ثم لا تخرج إلا وقد سألت لهم الغفران، وسلِّهم بدعاء المسلمين لهم، ولا سيما في شهر الصيام والقيام والدعاء
…
وقبل أن تخرج عاهد نفسك على أن تختار لها أحسنَ المساكن بينهم، فلا مناص لك عن سكنى هذه الدار، وثمنُ تلك الدار ليس بالدرهم والدينار
…
لكنه بعمل الصالحات
…
واجعل من رمضان فرصة لإحكام البناء، وتوسيع المسكن، وحبور الدار، واختم ذلك بالدعاء الصادق: اللهم بلِّغني رمضان وأعنِّي على الصيام والقيام.
أيها المسلم والمسلمة: أما الموقع الثني الذي أدعوكم لزيارته، فالمستشفيات العامة حيث يرقد على أسرَّتها البيضاء جموعٌ من المرضى يختلفون في شكواهم
…
وقد يتفقون أو يتفاوتون في آلامهم
…
لكن أحدًا من هؤلاء المعنيين بالزيارة - لا يستطيع الخروج - على الأقل في شهر رمضان
…
وأقصد أصحاب الهمم منهم، وسلهم عن مشاعرهم حين يدخلُ شهر الصيام، ولا تستغربْ إن أجابتك العيون بالدموع قبل الألسنة بالكلام، أسفًا على عدم قدرتهم على الصيام، ومشاركة المسلمين في القيام، وحين لا تنس هؤلاء من دعوة بالشفاء العاجل وتعظيم الأجر على المرض والبلوى، فلا تنسَ كذلك أن تسليهم بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبدُ أو سافر كُتِبَ له مثل ما كان يعملُ
صحيحًا مقيمًا» (1)، وقبل أن تخرج من زيارة المريض تذكر نعمة الله عليك بالصحة والعافية، واعلم أنك مغبونٌ فيها أو مغبوط. مغبون إن فرطت وأضعت الوقت بما لا ينفع
…
ومغبوط إن استخدمت الصحة واستثمرتها في طاعة الله
…
ولئن كان هناك من يعيشون مع الأحياء الأصحاء وهم في عداد الموتى
…
فهناك من يعيشون مع الأصحاء وهم في عداد المرضى
…
وموتى الأحياء، أو مرضى الأصحاء في رمضان - هم من يدخل عليهم الشهرُ ويخرجُ ولم تتحركْ هممهم للخير، ولم تنشط أنفسُهم للطاعة، قعد بهم الشيطان عن مشاركة المسلمين في قيامهم ودعائهم، ولربما قعد ببعضهم عن الصلاة المفروضة، والصيام الواجب وهم أصحاء أقوياء! ! وصدق رسول الهدى صلى الله عليه وسلم:«نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحةُ والفراغ» .
ألا فاغتنم الفرص يا عبد الله، وخذ من صحتك لمرضك، ومن شبابك لهرمك، ومن فراغك لشغلك، ومن حياتك لموتك
…
وشهرُ رمضان يستحق أن تستثمر فيه الصحة والفراغ، ومن يدري، فقد يأتي عليك رمضان بعدُ وأنت طريح الفراش فتتمنى لو كنت صحيحًا معافى
…
فها أنت كذلك، فماذا أنت صانع.
أيها المسلمون: أما الزيارة الثالثة فإلى أحد مواقع المسلمين المضطهدين في الجهاد
…
حيث يحاصرون ويطاردون عن ديارهم
…
قاذفات الطائرات من السماء، ورصاصُ المدفعيات من الأرض
…
وبين نيران السماء والأرض، شدةُ الجوع حيث يقلّ الطعام، وشدة البرد حين تتساقط الثلوجُ في الشتاء، ومع ذلك كلِّه يلفُّ أهلَ تلك الديار الخوف، ويحيط بهم القلقُ، ففي كل يومٍ يفقدون
(1) رواه أحمد والبخاري - صحيح الجامع: 1/ 281.
أبًا أو ابنًا أو يشهدون رضيعًا يتضور جوعًا
…
أو امرأة يُنتهك عرضُها - وهكذا من صور المآسي والآلام - وهل بإمكان هؤلاء أن يصوموا أو يقوموا أو يتفرغوا لتلاوة القرآن
…
أو يتنفَّسوا عبير شهر الصيام
…
فإذا تصورت حال هؤلاء في شهر الصيام فأدركهم بصدقةٍ قد تنقذ بها نفسًا
…
وبدعوة صادقة قد يفرج الله بها كربًا
…
وعد إلى نفسك وأنت آمن في سربك ومعافى في بلدك وبدنك وقل: يا نفسُ ها قد حل شهرُ الصيام واقترب، فكوني في قائمة المسارعين للخيرات، والمتسابقين لصنوف الطاعات، وسل ربَّك العاقبة، وفي حندس الظلام وحين تسجد لله سل لإخوانك المسلمين الخلاص من المحن والنصر على الأعداء
…
فرمضان شهرُ الدعاء، كما هو شهر المواساةِ والصدقات، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1).
(1) سورة البقرة، الآية:185.