الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله تتوالى مننُه ورحماتُه على العباد
…
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلَّ يوم هو في شأن، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اجتهد في طاعة ربِّه وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ليكون عبدًا شكورًا
…
اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
عباد الله: وما أسرع الزمان
…
وبالأمس كنا نترقب هلال رمضان
…
واليوم نترقب دخول العشر الأواخر من الشهر.
عباد الله: ولا زال منادي الرحمن ينادي: أن هلموا إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
أيها المسلمون: والليالي القادمة غرةٌ في جبين الدهر في فضلها، جاء في القرآن:{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (1).
وليلة القدر أمر المسلمون بتحريها في العشر الأواخر من رمضان
…
ألا وإن من الغبن أن يفرط المرءُ في ليال عشر يضمن فيها ليلة القدر.
لقد كان رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم يجتهد في هذه العشر ما لا يجتهده في سواها، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تحكي لنا اجتهاده وتقول - كما في الحديث المتفق على صحته -:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشرَ شدَّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله» وفي رواية: «أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدّ، وشدَّ المئزر» .
(1) سورة القدر: الآيات: 3 - 5.
واستنبط العلماءُ من سننه صلى الله عليه وسلم في العشر - ألوانًا من العبادة والاجتهاد .. ومن ذلك:
- إحياءُ الليلِ أو غالبِه بالتهجد.
- إيقاظ الأهل للصلاة في ليالي هذه العشر.
- وكانوا يستحبون في هذه الليالي المباركة - ولا سيما التي تُرجى فيها ليلةُ القدر - كانوا يستحبون التزين والتنظف والطيب، ولبس أحسن الثياب كما يُشرع ذلك في الجمع والأعياد، قال ابنُ جرير رحمه الله: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كلَّ ليلةٍ من ليالي العشر الأواخر.
وكان بعضُهم يلبس ثوبين جديدين ويستجمر.
ومما يشرع في هذه الليالي: الاعتكاف، وفي «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكفُ العشرَ الأواخر من رمضان حتى توفاه الله.
وفي رواية للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: كان صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العامُ الذي قُبض فيه اعتكف عشرين.
كم في الاعتكاف من خلوةٍ مع الله، وانقطاع عن مشاغلِ الدنيا وصوارف الحياة؟ وما أحوج النفوس في مثل هذا الزمان إلى سويعات يخلو فيها العبدُ بخالقه، ويُجرد نفسه من أطماع الدنيا وفتنة المال والأهل والولد، وفي معتكفه يمارس أنواع الطاعات من صلاةٍ، وذكرٍ، وتلاوةٍ، وتفكرٍ، ويتطلع إلى الجنانِ وحورِها وأنهارها، ويستعيذ بربه خاشعًا خائفًا من النار وسلاسلها وزقومها ..
أما الاجتماعُ في المعتكف والسمرُ على أحاديث الدنيا، وجعلُه فرصةً للخلوة ببعض الأصحاب وتجاذب أطراف الحديث معهم - بعيدًا عن الذكرِ والتلاوة والصلاة فما هذا بالاعتكاف المشروع، بل اعتكافُ النبي صلى الله عليه وسلم لونٌ، وهذا لونٌ آخرٍ.
عباد الله: تتوفر فرصُ الاعتكاف في هذا الزمان - فالبيوتُ قريبةٌ من المساجد، وعددٌ من البيوت فيها من الولدِ من يقوم بشؤون أهله فترة اعتكاف الأب
…
أو يكون الولدُ مكفيًا عن شؤون أهله بأبيه أو إخوانه الآخرين، والبعضُ ليس لديه من مشاغلِ الدنيا ما يمنعه - شرعًا - من الاعتكاف
…
ومع ذلك يقلُّ العملُ بهذه السُّنة النبوية، ويرحم الله الزهري إذ قال في زمانه: عجبًا للمسلمين، تركوا الاعتكاف مع أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله، ولربما تهيب البعض في البداية
…
ولو أقدم لوجد السهولة والسعادة، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا.
ويبدأ المعتكفُ من بعد غروبِ شمسِ اليوم العشرين، أو من فجر الواحد والعشرين، وينتهي بعد غروب شمس ليلة العيد.
أيها المسلمون
…
والدعاءُ مشروعٌ في كل حين
…
ولكنه في هذه الأيام والليالي أبلغُ وأسمع، سواءٌ كان المسلمُ معتكفًا أو غير معتكف، ولا سيما في الليالي التي يُتحرى فيها ليلة القدر، قال سفيان الثوري رحمه الله: الدعاءُ في تلك الليلة أحبُّ إليَّ من الصلاة، ومرادُه أن كثرة الدعاءِ أفضل من الصلاةِ التي لا يكثر فيها الدعاء، وإن قرأ ودعا كان حسنًا.
وليس يخفى أن فضل الله واسع، وهو جوادٌ كريم، وحريٌّ بالمسلم أن يسأل من خيريِّ الدنيا والآخرة، له ولأقاربه ولعموم المسلمين. ومما ورد النصُّ عليه في هذه الليالي:«اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعفُ عني» ، وهنا لطيفةٌ نبّه إليها بعض العلماء في حكمة سؤال العفو بعد الاجتهاد في الأعمال، قالوا: لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملًا صالحًا، ولا حالًا ولا مقالًا، فيرجعون إلى سؤال العفوِ كحال المُذنب المقصر (1).
(1) ابن رجب الحنبلي/ لطائف المعارف.
إخوة الإيمان: والأعمالُ الصالحةُ عمومًا - وفي هذه العشر خصوصًا - أكثرُ من أن تحصر
…
إنها لرحمةٌ من رحماتِ الله وفضله على هذه الأمة، إذ هيّأ لها مثلَ هذه الفرص
…
التي يباركُ الله فيها لهم بالأعمال والأعمار .. وحين قصُرت أعمارُ هذه الأمة عن الأمم السابقة عوضها الله بمثل ليلة القدر التي يعدل العملُ فيها، بل هو خيرٌ من عمل ثلاث وثمانين سنة، فلا تحرمْ نفسك يا أخا الإسلام هذه الفرصة - ولا يقعدْ بك الكسلُ أو تستجبْ لنزعات الشيطان، بل قم مع القائمين، وشارك المسلمين في دعواتهم وخشوعهم، وأسأل ربَّك القبول فلا تدري أتشهدها في عام قابل أم تكون في عداد الموتى؟
اللهم لا تحرمنا فضلك، وأعِنَّا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك، وتقبل منا ومن إخواننا المسلمين.