الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مراتب الجهاد
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، وخيرته من خلقه، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عبادَ الله: اتقوا الله حقَّ تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون، واتقوا الله وكونوا مع الصادقين، واتقوا الله ويعلمكم الله.
إخوة الإسلام: وهناك شعيرةٌ عظيمةٌ من شعائر ديننا يقلُّ الحديثُ عنها، أو يُقصَّرُ في مفهومها، وربما قلَّ أو ضعف العملُ فيها، أو في أحدٍ من جوانبها.
إنها شعيرةُ الجهادِ في سبيل الله بمفهومها الواسع، وبأنواع الجهادِ ومراتبهِ المختلفة.
إن عددًا من النساء حين يسمع كلمةَ الجهاد يتبادر إلى ذهنِهِ جهادُ الأعداء بالسيف، وقتالُ الكفار بالأسلحة المادية، وهذا النوعُ من الجهاد - وإن كان مهمًا ودرجتُه عاليةٌ في الأمة - فليس هو الجهاد كلَّه، فثمةَ مراتبُ أخرى من مراتب الجهاد، أوصلها بعضُ العلماء إلى ثلاثة عشرَ مرتبةً، لا بد من معرفتها والعمل بها.
وهذه المراتبُ المختلفةُ والمتفاوتةُ لا يُعفى مسلمٌ ولا مسلمةٌ من الإسهامِ
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 20/ 2/ 1420 هـ.
فيها، وكلما أخذ المرءُ منها بنصيبٍ أوفر، كان نصيبُه من الإيمان والجهاد أكبر، أجل، لقد جاء ذكرُ الجهاد في كتاب الله كثيرًا، وشملت آياتُه جهادَ الكفارِ، وجهادَ المنافقين، وجهادَ النفس، وجهادَ الشيطان، والجهادَ بالمال، وجهاد الحُجَّة والبيان، وكذا جاءت نصوصُ السنةِ النبوية مبيّنةً لما أُجمل في القرآن، وموضحةً فضلَ ومنازلَ المجاهدين.
ومما يلفت النظر، ويوسع مفهوم الجهاد في القرآن، أن واحدةً من آيات الجهاد نزلت في سورة مكية - أي قبل أن يفرض الجهادُ في المدينة. يقول تعالى في سورة الفرقان مخاطبًا نبيَّه صلى الله عليه وسلم وآمرًا له بالجهاد من حين بعثه:{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (1).
قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} يعني: بالقرآن، وقال ابنُ زيدٍ: بالإسلام، وقيل: بالسيف، وهذا فيه بُعْدٌ؛ لأن السورة مكية نزلت قبل الأمر بالقتال - كذا نقل القرطبي، وقال في معنى {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} أي: لا يخالطه فتور (2).
يا أخا الإسلام: وإليك مراتب الجهادِ، وسائل نفسك بأي قدرٍ أخذت منها، بل وكم نجحت أو غُلبت في شيءٍ منها.
قال ابنُ القيم رحمه الله: الجهادُ أربعُ مراتب: جهادُ النفس، وجهادُ الشيطان، وجهادُ الكفار، وجهادُ المنافقين، فجهادُ النفس أربعُ مراتب أيضًا:
الأولى: أن يُجاهدها على تَعلُّم الهدى ودينِ الحق الذي به سعادةُ المرءِ وفلاحُه في الدارين.
(1) سورة الفرقان، الآيتان: 51، 52.
(2)
تفسير القرطبي 13/ 58، ابن القيم: زاد المعاد 3/ 5.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجردُ العلمِ بلا عمل إن لم يضرَّها لم ينفعها.
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يَعلمُه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزلَ الله من البيناتِ والهدى.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كلَّه لله، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلفَ مجمعون على أن العالِمَ لا يستحقُّ أن يُسمى ربانيًا حتى يعرفَ الحقَّ، ويعملَ به، ويُعلِّمَه.
وأما جهادُ الشيطان فمرتبتان:
جهادُه على دفْع ما يُلقي إلى العبد من الشبهات، والشكوك القادحة في الإيمان.
والثانية: جهادُه على دفع ما يُلقي إليه من الإيرادات الفاسدة والشهوات.
وأما جهادُ الكفارِ والمنافقين فأربعُ مراتب، بالقلب، واللسان، والمال، والنفس. وجهادُ الكفارِ أخصُّ باليد، وجهادُ المنافقين أخصُّ باللسان.
وأما جهادُ أرباب الظلم والبدعِ والمنكرات فثلاثُ مراتب، الأولى: باليد إذا قدر، فإن عجز انتقلَ إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه.
فهذه كما يقول ابنُ القيم رحمه الله ثلاثة عشر مرتبةً من الجهاد: «ومن مات ولم يغزُ ولم يُحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» (1).
إخوة الإيمان: ويحتاج المسلمُ والمسلمةُ إلى المعرفة والعمل بهذه المراتب كلِّها - في كل زمان - ولكن الحاجةَ إلى ذلك تشتد في مثل هذه الأزمان التي
(1) رواه مسلم 1910، انظر: زاد المعاد: 3/ 9 - 11.
تكاثر فيها الأعداءُ على المسلمين، فالعدوُّ الخارجي انتهك بلادهم، وقتل وشرد، واستباح حرماتهم، والمنافقون باتوا يجمعون فلولهم وجاؤوا يركضون، وأشغلوا الأمة عن قضاياها المصيرية مع أعدائها بطرح شعارات كاذبة، ودعاوى خبيثة، وفتنٍ مستشريةٍ، هذا مع ما في الأمة من ضعف وخورٍ، وجُبنٍ وهلع، وتبعية ممقوتة، وتشبث بمظاهر كاذبةٍ، وتعلق بأشياء تافهة إلا ما شاء الله، والمؤلمُ إذا سرى في الأخيار منهم داءُ الوهم والوهن، وأصيبوا بالتلاوم والإحباط، وشغلوا بالدنيا عن الدين، أو بالمهاترات والخلافات الممقوتة، وحصروا أنفسهم في دائرةٍ ضيقةٍ ما كان العدوُّ يطمعُ أن يصيروا إليها.
عبادَ الله: ونحتاج لمعرفة هذه المراتبِ من الجهاد في معركتنا المتجددة مع أنفسنا ومع الشيطان، وفي ظل معركةِ الشبهات والشهوات، وفي عالم حرب الفضائيات وغزو القنوات.
ونحتاج للعلم والعمل بهذه المراتب الجهادية لانتشار رقعةِ الفساد، وغربة الإسلام، وموجةِ التقليد، وإعجابِ كلِّ ذي رأي برأيه، وغياب الهدفِ الأسمى للوجود في هذه الحياة عند فئامٍ من المسلمين.
أيها المسلمون: ويستخلص مما مضى أن أعداء الإنسان المأمور بمجاهدتها أربعة: النفسُ، والشيطان، والكفارُ، والمنافقون، وإن هناك حكمةً إلهيةً لتسليط هؤلاء الأعداء على الإنسان، وذلك ليبلوَ الله الصادقين من الكاذبين، ويميز الخبيث من الطيب، ويمتحن الله من يتولاه ورسلَه، عمن يتولى الشيطانَ وحزبه، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (1).
(1) سورة الفرقان، الآية:20.
وقال تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} (1). وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (2).
عبادَ الله: وفي ظل هذه المعركة، والأعداءِ المسلطة، لم يترك اللهُ عبدَه دون مدد، ولم يُخلِهِ من مدافعة، بل جعل له السمع والبصر والعقلَ والقُوى، وأنزل عليه كتبه، وأرسل إليه رسله، وأمدهم بملائكته، وقال لهم:{أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} (3).
وأمرهم بدوام المجاهدةِ والمصابرة، ووعدهم على ذلك رضاه والجنة، وأخبرهم أنه مع المتقين، ومع المحسنين، ومع المؤمنين، ومع الصابرين، وذلك حتى لا يستوحشوا أو يفتروا، بل أخبرهم بدفاعه عنهم:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (4).
ولكن هذه المدافعة بحسب إيمانهم، وثقتهم وتوكلهم ودعائهم لخالقهم
…
مهما أحاطت بهم الخطوب، وتكاثرت عليهم الأعداء، ومن قبلُ قال إخوانُهم المؤمنون:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (5)، بل وكان حالُ الأنبياء السابقين مع النصر كما قال تعالى:{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (6).
نفعني الله وإيّاكم بهدي كتابه.
(1) سورة محمد، الآية:4.
(2)
سورة محمد، الآية:31.
(3)
سورة الأنفال، الآية:12.
(4)
سورة الحج، الآية:38.
(5)
سورة الأحزاب، الآية:22.
(6)
سورة يوسف، الآية:110.