الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله أفاء على عباده من مواسم الخيرات ما يرفع لهم به الدرجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدُه لا شريك له، نِعمُه لا تعدُّ ولا تحصى، ومن تأمل في شريعة الإسلام وجد بها السماحة والندى والفضل العظيم لمن أناب واهتدى، أعمالٌ ماحيةٌ للذنوب والمعاصي، ومواسمُ للطاعات يرتفع بها العبدُ درجات
…
ذكرٌ وشكر، صلاةٌ وصيام، سننٌ ونوافل، صدقاتٌ وصلات، وأضاحي.
وأشهد أن محمدًا رسولُ الله، ندب الأمة إلى المسارعة في الخيرات، وخصَّ ربُّه بالفضل أيامًا معدودات
…
والموفق من اغتنم المواسم وسابق الخيرات، اللهم صلِّ وسلم عليه، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
عبادَ الله: وفضلُهُ ورحمته تشمل الحجاج وغيرَهم، بُشراكم معاشر المسلمين بأيامٍ أوشكت أن تعمكم بفضلها، وهنيئًا لمن قدّر فضلَ الزمان فاستثمره بالطاعة، وتقرب إلى مولاه بالعبادة الخالصة.
عشرُ ذي الحجة أيامٌ فضّلها الله على ما سواها، وأقسم بها تعظيمًا لشأنها، فقال جلّ ثناؤه:{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (1).
قال ابنُ عباس، وابنُ الزبير، ومجاهدٌ وغيرُ واحدٍ من السلفِ والخلف: إنها عشرُ ذي الحجة.
قال ابنُ كثير: وهو الصحيح، ونسبه الشوكاني إلى جمهور المفسرين (2).
(1) سورة الفجر، الآيتان: 1، 2.
(2)
تفسير ابن كثير: 8/ 413، فتح القدير: 5/ 432.
وبيَّنَ المصطفى صلى الله عليه وسلم فضل عمل الصالحات فيها، فقال في الحديث الذي أخرجه البخاريُّ وغيرُه:«ما من أيامٍ العملُ الصالح فيهن أحبُّ إلى الله منه في هذه الأيامِ العشر» قالوا: ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهادُ في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسِه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء» .
قال ابنُ حجر رحمه الله: والذي يظهر أن السببَ في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماعِ أمهاتِ العبادة فيه، وهي الصلاة والصيامُ والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره (1).
عبادَ الله: ومن الطاعات المشروعةِ في هذه العشر الإكثارُ من الذكر كالتهليل والتكبير والتحميد، وفي هذا يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«ما من أيام أعظمُ عند الله ولا أحبُّ إليه العملُ فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» (2).
قال العلماء: والتكبيرُ في الأضحى مطلق ومقيد، فالمقيدُ عقيبَ الصلوات، والمطلق في كل حال في الأسواق وفي كل زمان (3).
وقد أخرج البخاري في «صحيحه» معلقًا مجزومًا به أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبرُ الناسُ بتكبيرهما (4) فمن يُذكِّر الناسَ في هذه الأيام بالتكبير فبه شبهٌ بهذين الصحابيين الجليلين، ومن أحيا سنةً نبويةً أميتت فله من الأجر مثلُ من عمل بها من غير أن ينقص من أجور العاملين شيئًا (5).
(1) الفتح: 2/ 460.
(2)
رواه أحمد وإسنادُه صحيح 7/ 224، 9/ 14، الفوزان: مجالس عشر ذي الحجة ص 14.
(3)
المغني 3/ 256.
(4)
الفتح: 2/ 457.
(5)
أخرجه الترمذي بسند حسن.
أيها المسلمون: والصيام قربةٌ إلى الله في كل زمان، ولا شك أنه في الأزمنة الفاضلة أحبُّ إلى الله وأكثر أجرًا، فمن قدر على صيام شيء من هذه العشرِ فأجرُه على الله
…
ومن ضعفت همتُه فلا أقل من صيامِ يوم عرفة لغير الحاج، فقد جاء في فضله أنه:«يُكفر السنة الماضية والسنة القابلة» رواه مسلم.
أيها المسلمُ والمسلمةُ: وإن تيسَّر لك الحجُّ فهو من أعظم الأعمال في هذه العشر، وإن لم يتيسر فاحرص على الأعمال الصالحة بشكل عام كالذكرِ وتلاوة القرآن وكثرة السُّنن - بعد المحافظة على الفرائض - وصلة الأرحام، والصدقة على الفقراء والمحتاجين، والأمرِ بالمعروفِ والدعوةِ للخير وزيارة المرضى، والصلاة على الأموات، وزيارة المقابر، والدعاء للأحياء والأموات
…
إلى غير ذلك من قربات يجدر بك أن توليها من العناية في هذه العشر أكثر ممّا توليها في سائر الأيام.
أيها المؤمنون والمؤمنات: عشرُ ذي الحجة غُرةٌ في جبين الدهر، لا تتكرر في العام إلا مرة، فكيف ستكون هممكم للطاعةِ حين تُستثار الهممُ؟ وأين موقع خيلكَ أيها المسلم والمسلمة - للسباق حين تُضمرُ جيادُ الآخرين؟ وما مدى شعورك بقيمةِ الزمن، وتقديرك لمواسم الطاعة؟ هل تشعرُ بالفرح وأنت تنتظرها، وهل تكونُ من العاملين المخلصين حين مجيئها؟
وليس يخفى أن الجهاد في سبيل الله ذروةُ سنام الإسلام، فإن عجزتَ أو لم يُقدَّر لك الجهاد، ففي عمل الصالحات - في هذه العشر - فرصةٌ للتعويض، ووسيلةٌ لبلوغ أجرِ المجاهدين، وقد مرَّ بك أنَّ عمل الصالحات فيها أحبُّ إلى الله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع بشيء من ذلك - وإن كان الجهادُ من حيث الجملة أفضلَ مما سواه - لكنَّ عملَ الصالحات في هذه العشر له مزيةٌ وفضل (1).
(1) الفتاوى: 24/ 198/ 236 بتصرف.
أيها المسلمُ والمسلمة: وحاذر من المعاصي في كل زمان ومكان، وعظِّمْ حرمات الله بشكل عام، والأزمنةَ الفاضلةَ بشكل خاص، وقد سُئل شيخُ الإسلام رحمه الله عن عقوبة المعاصي في الأزمنة الفاضلة فقال:«والمعاصي في الأيام الفاضلة والأمكنة المفضلة تغلظُ، وعقابُها بقدر فضيلة الزمان والمكان» (1).
عباد الله: ومما يجدر التنبيهُ عليه أنَّ من أراد الأضحية فعليه أن يمسك عن الأخذِ من شعرِه وظفره وبشرته منذُ دخول العشر حتى يذبح أضحيته لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدُكم أن يضحي فليمسك عن شعرِه وأظفاره حتى يُضحي» ، وفي رواية:«فلا يمسَّ من شعرِه وبشرته شيئًا» رواه مسلم.
والأمرُ هنا - كما قال العلماء - للوجوب، والنهيُ - عن الأخذ - للتحريم، لكن لو تعمد الأخذَ فعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه، ولا فدية عليه إجماعًا، ومن احتاج إلى أخذِ شيءٍ من ذلك لتضرره ببقائه كانكسار ظفرٍ أو جرح عليه شعرٌ يتعين أخذه - أو نحو ذلك - فلا بأس، ولا حرج على الرجل والمرأة أن يغسل رأسه في هذه العشر، فالنهي عن تعمدِ الأخذ، وينبغي أن يعلمَ أيضًا أن النهيَ يخص صاحبَ الأضحية دون الزوجة والأولاد، إلا إن كان لأحدٍ منهم أضحيةٌ تخصه، كما أن النهي لا يشمل الموكَّل بذبح أضحيته عن حي أو ميت، وإنما يخص صاحب الأضحية فقط. أما من عزم على الحج وله أضحية فإنه لا يأخذ من شعره وظفره إذا أراد الإحرام؛ لأنَّ هذه سنة عند الحاجة، فيرجح جانبُ الترك على جانب الأخذ، أما تقصيرُ المتمتع لشعره حين الانتهاء من العمرة فلا بأسِ بهِ؛ لأن ذلك نسك، وكذا حلقُ الرأس يوم العيد بعد رمي جمرة العقبة (2).
(1) الفتاوى: 34/ 180.
(2)
عبد الله الفوزان: المجالس: 15 - 17.