الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعركة المتجددة
(1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله خلق الخلق لحكمةٍ جليلةٍ، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحاط بكل شيءٍ علمًا، وجعل لكل شيءٍ قدرًا، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، بلّغ وأرشد، وحذَّر وأنذر، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها
…
اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عبادَ الله: من طبائع الأمور أن يستعد المرءُ لعدوِّه المحارب له بكل وسيلةٍ ممكنة، ويَحْذَرَه على نفسه ومن تحت يده، ويودُّ لو استطاع دفعه عن إخوانه المسلمين، حتى ولو كلفه ذلك من جهده وماله ووقته، ويسعدُ إذا انتهك المعركةُ لصالحهِ وضد عدوِّه، لكن ما رأيكُم في معركةٍ، بل معارك يدور رحاها في كلّ يوم، بل وفي كل لحظةٍ، والعدوُّ فيها يتسلل إلى قلب الديار فيفسدُها، بل إلى أعماق البيوت فيحدث الخللَ فيها، بل يصيرُ إلى قلوب العباد، فيعكر صفوها ويضعف إيمانها. وربما قطع صلتها بخالقها.
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 1/ 12/ 1421 هـ.
(2)
سورة آل عمران، الآية:102.
(3)
سورة المائدة، الآية:35.
والعدوُّ هنا يتسلل على مرأى منا، ويُفسد حين يُفسد بمحضِ رغبتنا وغلَبةِ شهواتنا وأهوائنا، وتلك من أعظم المصائب وأقسى المعارك.
نعم إن معركتنا مع الشيطان معركةٌ دائمةٌ متجددةٌ يتخذ فيها الشيطانُ كلَّ أنواع السلاح، ويحيط بالمرء من كافة الجهات، ويراوغه ويمنِّيه بكافةِ أنواع المغريات:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (1)، {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} (2).
أيها المسلمون: ويملك الشيطانُ في معركته مع بني الإنسان عددًا من الجنود يستخدمهم في المعركة، وتختلط خيالتُهم بالرجَّالة، وهو حريصٌ على مشاركتهم في الأموال والأولاد لإفسادهم.
والشيطان يستنزلُ ويستفزُّ بصوته الداعي إلى المعصية كلَّ من استطاع وخدع، يقول تعالى:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} (3).
إنها معركةٌ صاخبةٌ تُستخدم فيها الأصواتُ والخيلُ والرجل على طريقة المعارك والمبارزات، يُرسل فيها الصوتُ، فيُزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة، أو يستدرجهم للفخِّ المنصوب والمكيدة المدبرة، فإذا استدرجهم إلى العراء أخذتهم الخيلُ وأحاطت بهم الرجال، لكن هذه المعركة - مع شدتها - تهون على أهلِ الإيمان وعبادِ الله الصالحين، الذين يعرفون كيده، ولا يستجيبون لندائه وأصواته، ولا ينخدعون بوعوده، أولئك الذين
(1) سورة الأعراف، الآيتان: 16، 17.
(2)
سورة النساء، الآية:120.
(3)
سورة الإسراء، الآية:64.
استثنى الله بقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} (1).
إخوة الإيمان: وتجدون راية الشيطان منصوبةً في كل مكان.
يا صاحب المال: ستجد رايةَ الشيطان منصوبةً، وإن لم تبصرْها، في كل مالٍ جمعته من حرام، أو أنفقته في الحرام، أو منعت الإنفاق الواجب منه في الحلال؟ فانظر في مالك من أين جمعته وفيما تنفقه؟
أيها الشابُّ والشابة: وتنصب رايةُ الشيطان وإن لم تروها حين يستزلكم الشيطانُ بقضاءِ الشهوةِ المحرمة في الزنا أو اللواط. أو مقدماتهما - فاحذروا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
أيتها المرأة المسلمة: وتنصب رايةُ الشيطان حين يستشرفك الشيطانُ بالخروج متزينةً متعطرةً فتفتنين عبادَ الله، ويقع بسببك من البلاء والفسادِ ما يُغضب الرحمن، ويطربُ له الشيطان، فاتقي الله يا أمة الله، ولا تجعلي للشيطان سبيلًا عليك وعلى المؤمنين.
وإذا كانت وسوسته تُلازم المسلم وهو في أشرف البقاعِ حين يقوم للصلاة
…
فلا تسأل عن وسوسته وغروره وأمانيه خارج المسجد وخارج الصلاة.
يا أيها المسلمُ والمسلمة: وكلما حصل منك فتورٌ عن العبادةِ أو تراخٍ عن أداء الواجبات وتساهل في اقتحام المحرمات، فاعلم أن الشيطان حاضرٌ فاستعذْ بالله منه تجدْ من الله عونًا «وكفى بربك وكيلًا» ، وكلما ضَعُفَتْ نفسك أمام الشهوة المحرمة، كالزنا واللواط، والغناء، وشرب المسكرات وتناول المخدرات أو نحوها من المآثم
…
فاعلم أنك مغلوبٌ في المعركةِ مع
(1) سورة الإسراء، الآية:65.
الشيطان. وكلما غلبتك عينُك على النظرة المحرمة، أو خانتك أذُنكَ على السماع المحرم، أو مشت بك رجلُك إلى الحرام، أو امتدت يدُك إليها فاعلم أنك ضعفت في المقاومة أمام جند الشيطان
…
وسينقلونك إلى معركةٍ أخرى، وستقع في النهاية ضحيةً لمكرِ الشيطان وتلاعبه.
يا أيها الإنسانُ ما غرك بربك الكريم
…
أترضى بغرور الشيطان، وتستلمُ لعدوك، وقد أخرج أبويك من الجنةِ، وأهبطهما إلى الأرض حين استزلهما وأخرجهما مما كانا فيه؟ ولا يغرنك بنصحِه فقد قاسم أبويك وهو كذوب:{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} (1) فكانت النتيجة {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} (2) وما أشدَّ حسرتك حين يوقعك ثم يعود لك لائمًا مُتبرئًا: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (3).
وفي تاريخ البشرية كلِّها قديمها وحاضرها، لم يُرفع سلاحٌ بغير حق إلا وكان للشيطان فيه نصيبُ الإغواء، ولم يقع خلافٌ بين ابنٍ وأبويه، أو زوجٍ وزوجته أو أخ لأخيه
…
إلا وكان الشيطانُ حاضرًا مُغْويًا، ولم يكن ثمةَ انحرافٌ في الفكر والمعتقد، أو خلٌ في السلوك وتساقطٌ في الأخلاق، وانهيارٌ في القيم إلا وكان للشيطانِ فيها خطواتٌ مُستدرِجة ثم موقعة، ثمَّ تعقبها الحسرةُ والندامة.
أفلا يفكرُ العقلاءُ بالنتائج المُرَّةِ لطاعةِ الشيطان، إنْ في الدنيا بالخزي والذلِّ والندامة وشؤم المعصية، أو في الآخرةِ حيثُ الإقامةُ الدائمةُ والعذابُ المهين، والحسرة والندامةُ، لقد قرع الأسماعَ تحذيرُ اللطيف الخبير من مكر الشيطان وغدره، ونودي بنو آدم من السماء نداءً صادقًا:{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} إلى قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (4).
(1) سورة الأعراف، الآية:21.
(2)
سورة الأعراف، الآية:22.
(3)
سورة الحشر، الآية:16.
(4)
سورة الأعراف، الآية:27.
ولا يزالون يذُكَّرون العهدَ بعداوة الشيطان وأثره في إغواء البشرية {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (1).
عباد الله: لا بد من الحذرِ من مكرِ الشيطان، ولا بد من الاستعداد لهذه المعركةِ التي لا يخبو أوارُها، ولا يُسَلِّمُ أو ييأسُ محركُها
…
إن الشيطان يحضر غداءكم وعشاءكم، ويقتحم عليكم بيوتكم وفرشكم، وهو معكم في حين خلوتكم أو اجتماعكم، وفي حال فقركم أو غناكم، مع الذكر والأنثى والصغير والكبير
…
معكم ما دامت أرواحكم في أجسادكم، وما برحت الدماءُ تسري في عروقكم، وكفى بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم دقةً وتبيانًا لحضور الشيطان، حين يقول:«إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» متفق عليه (2).
إنها البليةُ العظمى والفتنة المستشرية، والمعركةُ المتجددةُ، ولكن الله جعل لنا مخرجًا، ويكفي أن يستأنس المؤمنون بقوله تعالى:{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (3)، وبقوله تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (4)، ويعترف الشيطان بعجزه عن إغواء المخلصين:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (5).
فالله الله أن يتلاعب الشيطانُ بأحدِكم كما يتلاعب الغلمانُ بالكرة، وإياكم أن تخسروا كلَّ أو معظم المعارك مع الشيطان حتى إذا وردتم على الله محمَّلين بالخطايا والآثام أخلفكم وعده، وصدقكم وهو الكذوبُ قال الله على لسانه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ
(1) سورة يس، الآيات: 60 - 62.
(2)
انظر صحيح الجامع: 2/ 75.
(3)
سورة النساء، الآية:76.
(4)
سورة الحجر، الآية:42.
(5)
سورة ص، الآيتان: 82، 83.
وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1).
هناك ما أعظم الحسرة والندامة، ولكن هيهات فقد فات الأوان
…
اللهم انفعنا بالقرآن، واكفنا شرَّ إغواءِ الشيطان، ولا تجعل له علينا سبيلًا، وأعذنا من مكرِه وشرِّه، أقول ما تسمعون.
(1) سورة إبراهيم، الآية:22.