الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) أطفالنا ومسؤولية التربية
(1)
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له
…
إخوة الإسلام: وحديثُ اليوم استكمالٌ لحديث قبله عن أطفالنا، ومسؤولية التربية، وما يقع من أخطاءٍ في تربيتهم، وتنبيهاتٌ ومحاذيرُ، أرجو الله أن ينفعنا بها جميعًا، والِدَيْن وأولادًا.
وكيف لا نُعنى بمثل هذه الأمور مع أطفالنا، وعنايةُ الإسلام بالطفل سبقت وفاقت غيرها من النظم والقوانين البشرية، وإن أعجب البعضُ منا بالنظريات الحديثة الوافدة.
أجل؛ إن الصلاة المفروضة تُخفَّفُ لبكاء الأطفال رحمة بهم وبأمهاتهم، يقول عليه الصلاة والسلام:«إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريد أن أُطيلها، فأسمع بكاءَ الصبيِّ، فأتجوَّز في صلاتي، مما أعلمُ من شدةِ وجدِ أمِّه ببكائه» متفق عليه (2).
وتفطرُ الحاملُ والمرضعُ إذا خشيت الضرر على أطفالهما، ويُرجأ القصاصُ عن الحامل حتى تضع حملها، والموءودة تسأل بأي ذنب قتلت؟ ! ثم إن ختانه، واختيار اسمه، والعقَّ عنه، إلى غير ذلكم من أحكام وضعها الإسلامُ حمايةً للأطفال قبل أو بعد ولادتهم.
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 26/ 6/ 1410 هـ.
(2)
صحيح الجامع الصغير: 2/ 324.
عباد الله: وكيف لا نعتني بهؤلاء الأطفال صغارًا، وهذه العناية بإذن الله سببٌ للانتفاع بهم كبارًا، وفي الحديث:«إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» وذكر منها ولدًا صالحًا يدعو له، علمًا بأنه لا مفرَّ من المسؤولية:«فكلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته» .
وإذا كان للوالدين حقوق مشروعة، فعليهم واجبات ومسؤولية، ولئن قيل للأولاد:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} (1)، فقد قيل للآباء:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (2)، قال مقاتل في معنى هذه الآية: أن يؤدب المسلمُ نفسَه وأهلَه فيأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر (3)، بل قال بعضُ أهل العلم: إن الله سبحانه يسأل الوالدَ عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده.
ويؤكد ابن القيم رحمه الله على أهمية تربية الأولاد، وأثر إهمالهم مستقبلًا فيقول في (تُحفة الودود): فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعُه وتركه سُدًى، فقد أساء غاية الإساءة، وأكثرُ الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا
…
ويقول الغزالي: فالصبيُّ إذا أُهمل في ابتداء نشوئه خرج في الأغلب رديء الأخلاق كذابًا حسودًا سروقًا، نمامًا، ذا فضول، وضحك وكيادٍ ومُجانةٍ، وإنما يُحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب.
أيها المربون والمربيات: وإذ سبق الحديثُ عن بعض وسائل تربية الأطفال
(1) سورة الأحقاف، الآية:15.
(2)
سورة التحريم، الآية:6.
(3)
منهج التربية النبوية للطفل: 26.
كالقدوة، وتعويد الخير، وتعليم ما ينفع مباشرةً، أو عن طريق القصة الهادفةِ أو الحكايات المفيدة، وتحيُّن الفرص المناسبة للتوجيه، وإشعار الطفل بعظمة الله من خلال التأمل في مخلوقاته، وكل ذلك يندرج تحت بناء العقيدة وتحبيب الطفل للعبادة والخير، فهناك تربيةٌ إجتماعية للأطفال، ومن وسائلها: حضورُهم مجالس الكبار للاستفادة من أحاديثهم ورصيد تجاربهم، وإرسالهم لقضاء الحاجات لتدريبهم على شؤون الحياة، وإعطائهم الثقة مع المراقبة والتوجيه، وإياك أيها المربي أن تكفَّ الطفل عن الكلام كلما همَّ بالحديث والتعبير عن وجهة نظره، وإياك أن تزجره إذا رغب في الجلوس مع الكبار، فينشأ الطفل رعديدًا يفرُّ من كل غريب، ويتخوف من كل قادم، وفي أخبار الصفوة ما يفيد حضورَ الغلمان مجالس الشيوخ، بل واستئذانهم في حقوقهم، وهذا رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم يؤتى بشراب فيشرب منه، وعن يمينه غلام قيل هو ابن عباس، وعن يساره أشياخٌ، فلما شرب استأذن الغلام في أن يعطي الأشياخ قبله، فلم يأذن الغلامُ وهو يقول: لا والله يا رسول الله؛ لا أُوثر بنصيب منك أحدًا، فأعطاه إياه وتلَّه في يده. (متفق عليه).
وابن عمر رضي الله عنهما يحضر مع أبيه وكبار الصحابة مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن شجرة تشبه المسلم، فيخوض الصحابةُ في عدد من الشجر، ليست هي، ويتبادر إلى ذهن الغلام أنها النخلة (وهي كذلك) فما يمنعه من الحديث إلا الأدب مع الكبار، فلما قال ذلك لأبيه شجَّعه أكثر، وقال له: لو كنت قلتها كان أحبَّ إليَّ من كذا وكذا .. رواه البخاري في «صحيحه» ، ولقد أفاد ابن عباس وابن عمر وأمثالهما من هذه المجالس، فكانوا بَعْدُ من قادة الأمة وخيارها.
ومن وسائل التربية الاجتماعية: تعويدُ الطفل تحيةَ الإسلام، وأدبَ
الاستئذان، وعيادةَ المرضى، والعطفَ على الفقراء، وحضورَ الصلاة، ودفنَ الموتى.
إخوة الإيمان: وثمة بناءٌ أخلاقي وتربية على جملة من الآداب لا بد للمربين والمربيات أن يرعوها، كالأدب مع الوالدين، ومع العلماء ومع كبار السن، وأدب الاحترام والمحادثة مع الآخرين، والأدب مع الأقارب والجيران، وآداب الطعام واللباس، وآداب المسجد، والمجلس. ونحو ذلك.
ولا بد من تعويده الصدق في الحديث، وحفظ الأمانة، وكتم الأسرار، وسلامة الصدر من الأحقاد، والكرم، والشجاعة والسماحة، ونحوها من كريم الأخلاق والآداب.
أيها المربون والمربيات: ويحتاج الناسُ عامة، والأطفالُ خاصةً إلى لين الجانب ورقة العاطفة، فالبناءُ العاطفيُّ أسلوب مهمٌّ من أساليب تربية الأطفال، فالابتسامة، والقبلةُ، ومسحُ الرأس، والهديةُ، والممازحةُ
…
كلُّها تُساهم في فتح قلب الطفل لك، وتهيّئُهُ لقبولِ نُصحك وتوجيهك.
ولقد كان من خُلق المصطفى صلى الله عليه وسلم ممازحةُ الأطفال، ومداعبتُهم وتقبيلُهم، وإن لم يكونوا أبناءه، وفي «صحيح البخاري»: باب من ترك صبية غيره حتى تلعب، أو قبَّلها أو مازحها، وفي الباب عن أمِّ خالد بنت خالد بن سعيد قالت: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعليَّ قميصٌ أصفر، فقال:«سَنَهْ سنهْ» ومعناه بالحبشية (حسنة) قالت: فذهبتُ ألعبُ بخاتم النبوة، فزجرني أبي (أي نهرني) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«دعها» ثم قال: «أبْلي واخْلفي، ثم أبلي واخلفي، ثم أبلي واخلفي» الحديث. ولا يدري الناظرُ في الحديث أيعجب من ثنائه صلى الله عليه وسلم على قميص البُنية، أم على تركها تلعب بخاتمه، أم بدعائه لها؟ قال ابنُ حجر في تعليقه على الحديث: والممازحةُ بالقول والفعل مع الصغيرة، إنما يُقصد به
التأنيسُ، والتقبيلُ من جملة ذلك (1)، وهو القائلُ صلى الله عليه وسلم لغلام صغير يداعبه ويكنيه:«يا أبا عمير ما فعل النُّغير» (2).
أيها المربون والمربيات: والغلظةُ مع الأطفال ليست مفخرة، والتصابي لهم وتطييبُ خواطرهم ليست مذمة ولا ذلة، وقد لام الرسولُ صلى الله عليه وسلم من أخبره أن له عشرة من الولد لم يقبل أحدًا منهم، وقال له:«أَو أَملكُ أن نزع الله الرحمة من قلبك؟ » .
وروى الحاكمُ وصححه أن الحسين رضي الله عنه جاء والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، فركب عنقه وهو ساجد، فأطال السجود، فلما قضيت الصلاة قال الصحابةُ: أطلت السجود يا رسول الله، حتى ظننا أنه قد حدث أمرٌ، فقال:«إن ابني قد ارتحلني فكرهتُ أن أُعجله حتى يقضي حاجته» (3).
عباد الله: وما أجمل التصابي أو المداعبة أو حسن الخلق، ولين العاطفة مع الأطفال إذا كانت سبيلًا لدعوتهم للخير، وتحذيرهم من الشر، فتلك وسيلةٌ نافعةٌ بإذن الله للأطفال .. ولكنها لا ينبغي أن تكون الدهر كلَّه إذ يحتاج الطفلُ أحيانًا إلى الحزم والعزم لبلوغه المعالي، بل ربما احتاج إلى الضرب، ولكن الضرب له قواعدُه ومواصفاته، ومتى يكون ومتى يُمنع، وهو بكلِّ حال أدبٌ لا انتقام، ولا يُحبَّذُ في حال الغضب، ولا يصلح لكل الأطفال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (4).
إخوة الإيمان: ومهما بلغت وسائلنا في تربية أطفالنا فلا غنى لنا عن دعاء ربنا
(1) الفتح: 10/ 425.
(2)
أخرجه البخاري، انظر الفتح: 10/ 582.
(3)
الإحياء: 2/ 218. وقال العراقي: رواه النسائي والحاكم على شرط الشيخين.
(4)
سورة الطلاق، الآية:4.
لإصلاحهم والانتفاع بهم، وأنتم واجدون في كتاب الله من دعاء الصالحين لذراريهم من مثل قوله:{قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (1)، ومن مثل قوله:{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (2).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
(1) سورة آل عمران، الآية:38.
(2)
سورة الفرقان، الآية:74.