الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الزكاة، والعشر
(1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله أغنى وأقنى، يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له، وهو الحكيمُ العليم، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، خزائنه ملاء، وما كان عطاء ربك محظورًا، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، وأكرمُ الخلق على الله، ومع ذلك عاش حياة الكفاف، وربما ربط الحجر على بطنه من الجوع، زهدًا في الدنيا وطلبًا لنعيم الآخرة - اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2).
أيها المسلمون: المالُ من زينة الحياة الدنيا، تُسرُّ له النفوس، تفرح إذا أعطيت، وتحزن إذا مُنعت، وليس العطاءُ دليل الرضا، ولا المنعُ علامةَ الغضب، ومن عباد الله من لا يصلح له إلا الغنى، ولو أفقره الله ما صلح له ذلك، ومن عباده من لا يصلح له إلا الفقر، ولو أغناه الله ما صلح له ذلك، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وهو الحكيم الخبير.
عبادَ الله: والمتأمِّلُ في نظام الإسلام الاقتصادي والاجتماعي يتبين له أنه أعدلُ نظام عرفته البشرية، فالأغنياء الموسرون في أموالهم حقٌ للسائل
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 16/ 9/ 1420 هـ.
(2)
سورة آل عمران، الآية:102.
(3)
سورة المائدة، الآية:35.
والمحروم، يؤجرون على البذل ويبارك لهم في المال مع الصدقة، ويجازون بالإحسان على الإحسان، يعطيهم اللهُ من رزقه ويطلب منهم القرض الحسن للمحتاجين من خلقه، تُضاعف لهم الأجور في الصدقات، ويحفظ اللهُ أموالهم من الكوارث والنكبات بإخراج الزكاة وإعطاء الصدقات.
والفقراءُ يحتاجون فلا يجدون، ويصبرون فيؤجرون، تضنُّ عليهم الحياة، وتلاحقهم همومُ الديون وغلبته وقهر الرجال، فيشكون الحاجة إلى خالقهم وينزلونها به دون خلقه، فيجعل لهم بعد العسرِ يسرًا، ومن الهموم فرجًا، كم لهم من الأجر حين يصبرون على شظف العيش وكفاف الحياة
…
وكم تصفو نفوس الزهاد في الدنيا حين لا يشغل بالهم الصفق بالأسواق، ومتابعة مؤشرات الأسهم
…
بل يتفرغون لطاعة الله وذكره والتزود لآخرته.
عباد الله: والزكواتُ والصدقاتُ، والعطايا، والهدايا والهبات
…
كلُّها إنفاقٌ يؤجر عليه المسلمُ إذا كان خالصًا لوجه الله
…
وتلك تخفف معاناة الفقر، وتذهب شحَّ النفوس، وتجعل في الحياة فرصًا للخير والودِّ، والرحمة، وكيف يكون شعورُ محتاجٍ ضائقٍ بالديون، أو عاجز عن النفقة الواجبة أو شابٍ رغب العفاف بالزواج وأظلمت الدنيا في وجهه، إذ لا يجد ما يغنيه إذا ما امتدت إليهم يدُ محسن فأعطاهم ما يغنيهم، وشاركهم في آلامهم، وسرَّى عنهم همومهم
…
إنه شعورٌ يفيض بالمحبة والتقدير، ولن ينسى ذلك الفقيرُ المحتاجُ لهذا الغني المتصدق ما أنفقت يداه
…
والأجر في الآخرة أعظم، ومن فرَّج عن مسلم كربةً من كرب الدنيا نفَّس الله بها عنه كربة من كُرَب يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
أيها المسلمون: وحين يكون الحديثُ عن الزكاة الواجبة يمكن لنا أن نقف حيالها الوقفات التالية:
أولًا: تُعد الزكاة طُهرةً لمال الغني، وتزكيةً لنفسه، وهي تنفيسٌ للفقير وتسلية له، وسدٌّ لحاجتِه.
ثانيًا: وفرض الزكاةِ مرةً في العام أعدلُ ما يكون، إذ لو جعلت كلَّ شهر أو كلَّ أسبوع لضرّ بأرباب المال، ولو جُعلت في العمرة مرة لضرَّ بالمساكين، وليس أعدل من حكم الله وجعلها في العام مرة (1).
ثالثًا: ويلحق ضررٌ بالمساكين المحتاجين، إما من صاحب المال إذا منع ما يجب عليه، أو من الآخذ، إذا أخذ ما لا يستحق أخذه، وهكذا يتولد الضرر من بين هاتين الطائفتين على المساكين وأهل الحاجات الحقيقية، لا أصحاب الحيلِ والملحفين بالمسألة، والله أعلم بما يملكون.
رابعًا: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا علم من الرجل أنه من أهل الزكاة أعطاه، وإن سأله أحدٌ من أهلها ولم يعرف حاله أعطاه بعد أن يخبره أنه لا حظَّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب (2).
خامسًا: والذين يُبعثون لأخذ الزكاة لا بد أن يتمثلوا العدل فيما يأخذون أو يدعون، وفي موقف عبد الله بن رواحة رضي الله عنه نموذجٌ يُحتذى، وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر ليخرص لهم الثمار والزروع، فأراد اليهود أن يرشوه، فقال لهم عبدُ الله: تطعموني السُّحتَ؟ والله لقد جئتكم من عند أحبِّ الناس إليّ، ولأنتم أبغضُ إليّ من عدَّتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بُغضي لكم وحبي إياه، أن لا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض (3).
سادسًا: ولا بد من العدلِ مع النفس وتربيتها على إخراج الواجب من المال
(1) ابن القيم: زاد المعاد 2/ 6.
(2)
زاد المعاد: 2/ 9.
(3)
رواه مالك في «الموطأ» بسند رجاله ثقات لكنه مرسل. وأبو داود من حديث ابن عباس بسند حسن - زاد المعاد: 2/ 11 هامش: 2.
طيبةً راضية غير متأففة ولا مانّة
…
ولا ملحقةٍ أذى بمن تُعطي ..
وإذا هالك أخي الغني كثرةُ الزكاة من مالك
…
فانظر في كثرة أصل مالك، واشكر الله على أن أعطاك الله الكثير وطلب منك القليل، واحمده على أن كنت يدًا تعطي لا تأخذ، وتذكر أنك مأجورٌ على العطاء
…
مؤاخذٌ على الشح والبخل والمَنْع.
سابعًا: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الدعاءُ لمعطي الزكاة، فتارةً يقول له: اللهم بارك فيه وفي إبله، وتارة يقول: اللهم صلِّ عليه.
وكل ذلك تشجيع على العطاء، ودعوةٌ للمنفقين بالحسنى، وكم يُسرُّ الغنيُّ والمعطي بدعوة الفقير له
…
أو دعوة الآخذ من ماله ليوصلها إلى غيره من ذوي الحاجات.
ثامنًا: ولا محاباة في الزكاة، ويخطئ من يحابي بها قريبًا، أو يبرّ بها صديقًا إلا أن يكون محتاجًا، ولا تجب عليه نفقته
…
فالزكاة حقٌّ واجبٌ في المال لفئة محددة، تولّى الربُّ سبحانه قسمتها على الأصناف الثمانية في كتاب الله.
قالَ ابن القيم: ويجمعهم صنفان من الناس:
أحدهما: من يأخذ لحاجة وهم الفقراءُ، والمساكين، وفي الرقاب، وابن السبيل.
والثاني: من يأخذ لمنفعة، وهم العاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، والغارمون لإصلاح ذات البين، والغزاةُ في سبيل الله، فإن لم يكن الآخذ محتاجًا، ولا فيه منفعة للمسلمين، فلا سهم له في الزكاة (1).
تاسعًا: والويلُ شديدٌ لمانعي الزكاة، والعقوبة قد تُعجّل في الدنيا بحصول الكوارث أو مَحْقِ البركة
…
ولو سَلِمَ من هذا فعذابُ الآخرة أشدُّ وأنكى، ومن
(1) زاد المعاد 2/ 9.
يشك في وعد الله؟ ! وأي جسد يتحمل العذاب والله يقول: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (1).
وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من رجل لا يؤدِّي زكاةَ ماله إلا جُعل له يومَ القيامةِ صفائحُ من نارٍ، فيكوى بها جنبُه وجبهتهُ وظهرُه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد، ثم يرى سبيلَه إما إلى الجنة، وإما إلى النار» .
عباد الله: ما قيمةُ المال إذا انتهى بصاحبه إلى هذه النهاية المؤسفة، ومهما تنعَّم المرءُ بالمال في الحياة الدنيا، فليس ذلك يقارن بالجحيم والشقاء في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
هذا فضلًا عما تؤدي إليه الزكاةُ من بركة ونماء وتزكية وتطهير: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (2).
وفي الحديث الذي رواه الحاكم وصحَّحه، وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه - قال صلى الله عليه وسلم: «إن اللهَ لم يفرضِ الزكاةَ إلا ليطيبَ بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم» (3).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (4).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
(1) سورة التوبة، الآيتان: 34، 35.
(2)
سورة التوبة، الآية:109.
(3)
تفسير ابن كثير عند آية التوبة: 35.
(4)
سورة المؤمنون، الآيات: 1 - 4.