الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصايا لقمان وسنن وبدع شعبان
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فأما بعدُ: فاتقوا الله معاشر المسلمين واعلموا أن تقوى الله أقومُ وأقوى، وهي للخير قائدٌ ودليل، وعن الشرِّ سياجٌ منيع، هي وصيةُ الله لكم فاعقلوها واعملوا بها:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (2).
أيها المسلمون: وفي وصايا لقمان الحكيم متسعٌ للحديث، وفيها عبرٌ ودروس للأبناء والآباء. وحيث مضى التعريفُ بلقمان، ووصيتُه لابنه بالبعد عن الشرك بالله لعظيم خطره، وتنبيهُهُ لمراقبة الله، وبيانُ شيء من قدرته، فلا يزال لقمانُ يوصي ابنه بإقامة الصلاة:{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} (4) والصلاةُ صلةٌ بين العبد
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/ 8/ 1418 هـ.
(2)
سورة الحشر، الآية:18.
(3)
سورة النساء، الآية:1.
(4)
سورة لقمان، الآية:17.
وخالقه، وفيها عونٌ للمرء على حوائج دينه ودنياه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (1)، ولم تكن الوصية بالصلاة قصرًا على الحكماء، بل أُوصى بها الأنبياءُ، وأُمر بها المرسلون عليهم السلام:{وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (2)، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (3)، {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (4).
وأَمر بها المرسلون أهليهم وأممهم: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (5)، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (6).
وفي ساحات الوغى لم يُعذر المسلمون بترك الصلاة، بل نزل تشريعُ صلاة الخوف، ثم قيل لهم:{فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (7).
أيها المسلمون: ويبلغ الاهتمامُ بالصلاة عند عباد اللهِ الصالحين إلى درجة تُنحر الجيادُ من الخيل، إذا ألهت عن الصلاة في وقتها، ولو كان عددُها كثيرًا، ولو كان الهدفُ منها جليلًا، وكذلك أثنى اللهُ على سليمان عليه السلام وأعاضه عن الخيل بالريح المسخرة، فكان يقطع عليها من المسافة في يومٍ ما يقطع مثله على الخيلِ في شهرين غدوًّا ورواحًا (8).
أيها المتكاسلون عن أداء الصلاة في وقتها، اسمعوا ثناء الله على سليمان عليه السلام بشأن الصلاة: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)
(1) سورة البقرة، الآية:153.
(2)
سورة مريم، الآية:31.
(3)
سورة الأنبياء، الآية:73.
(4)
سورة الكوثر، الآية:2.
(5)
سورة مريم، الآية:55.
(6)
سورة طه، الآية:132.
(7)
سورة النساء، الآية:103.
(8)
تفسير القرطبي: 15/ 196.
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} (1).
واستمر للصلاة وزنُها وقيمتُها عند الأخيار على تعاقب الأجيال، واعتبرها العلماءُ ميزانًا لأخذ العلم عن الرجال أو تركه، وهذا أبو العالية الريحاني العالمُ الثقة كان يرحل لسماع الحديثِ عند بعض أهله، فإذا وصل إلى صاحب الحديث أخذ يتفقد صلاته، فإن وجده يحسن صلاته أقام عنده، وإن وجد فيه تضييعًا رحل ولم يسمع منه وهو يقول: من ضيّع الصلاة فهو لما سواها أضيع (2).
عباد الله: ولقد أوصى لقمان ابنه بإقام الصلاة، وليس مجرد أدائها وإقامتها، أي: بحدودها وفروضها وأوقاتها (3).
والويلُ لمن هُمْ عن صلاتهم ساهون: {وَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (4)، والحذر الحذر يا عبد الله أن تكون ممن قال اللهُ فيهم:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} (5)، وليس من الرحمةِ للأبناء ضعفُ أمرهم بالصلاة، إذ كانوا نائمين - أو كان الجو باردًا، أو الليل قصيرًا.
أيها المسلمون: وحين يبلغُ لقمانُ في وصيته لابنه هذا المبلغ فيربِّيه على عدم الإشراكِ بالله، وعلى دوام المراقبة والخوف من الجليل ودوام الصلة والعبادة .. فهو لا يقصره على ذلك، بل يُعلمُه نشر الخير للآخرين ويقول له:{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (6)، وكذلك تُربى النفوسُ على حبِّ الخير
(1) سورة ص، الآيات: 30 - 33.
(2)
أبطال ومواقف، عقيلان:192.
(3)
تفسير ابن كثير: 3/ 710.
(4)
سورة الماعون، الآيتان: 4، 5.
(5)
سورة مريم، الآيتان: 59، 60.
(6)
سورة لقمان، الآية:17.
والدعوة إليه، وكذلك أثنى اللهُ على هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1).
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتحقق الفلاحُ للآمر والمأمور، وتُصان سفينةُ المجتمع من الغرق، هو علامةُ خير، ودليلُ الإيمان، وهو مؤشِّرٌ للغيرة على دين الله وحرماته، والذين يرون المنكراتِ تسري في المجتمعات، فلا تتمعَّر وجوهُهم لله .. أولئك في إيمانهم ضعف، وفي إحساسِهم نوعٌ من التبلُّد، والذين بإمكانهم أن يشيعوا الخير ويأمروا بالمعروف ثم لا يفعلوا، أولئك محرومون من فضلِ الله، فالكلمةُ الطيبةُ صدقة، ولئن يهدي اللهُ بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمر النعم، ولئن اختص اللهُ بهداية القبولِ والتوفيق للخير، فهدايةُ الدلالةِ والإرشاد بوسع البشر أن يؤدوها، ولولا ذلك لتعطلت نصوصُ الشرع في الأمر والنهي والدعوة والجهاد في سبيل الله، فصححوا الفهم الخاطئ، وفرقوا بين هداية التوفيق والقبول، وهداية الدلالة والإرشاد.
إخوة الإيمان: وإذا تعاظم أجرُ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والداعين للخير والناهين عن الشر
…
فذلك أمرٌ لا تطيقه بعضُ النفوس لأنه محتاج للصبر والمصابرة على التواءِ النفوس وعنادِها، وانحراف القلوب وإعراضها، ويقلُّ من الناس من يصبرُ على الأذى، تمتدُّ به الألسنة، وربما امتدت به الأيدي، أو يصبرُ على الابتلاءِ في المال أو النفسِ أو الأهل والولد عند الاقتضاء.
ولهذا لم ينس لقمانُ وصيةَ ابنه بالصبرِ على ما يصيبُه في طريق الخير: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (2).
(1) سورة آل عمران، الآية:110.
(2)
سورة لقمان، الآية:17.
ويخطئ الذين يظنون أن بإمكانهم أن يدعوا للخير وينهوا عن الشرِّ ثم تسلم أعراضُهم .. أو لا يصيبهم ضرٌّ في أنفسهم أو أهليهم أو أموالهم، أو مصالحهم المادية بعامة .. وإذا لم يسلم الأنبياءُ والمرسلون فغيرُهم من باب أولى .. وصدق الله:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (1).
ولكن عزاءَ الصابرين على الدعوة للخير أن العاقبة حميدة، فالعاقبة للمتقين، كما حكم ربُّنا، وأن ذلك من عزم الأمور كما قال تعالى في وصايا لقمان:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (2).
قال ابنُ عباس في تأويل ذلك: يعني من حقيقة الإيمان الصبرُ على المكاره (3).
أيها الداعي للخير: وإذا أردت أن تروِّضَ نفسك على هذا الطريق فاقرأ قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (4)، وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي نبيًا من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومُه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:«اللهم اغفرُ لقومي فإنهم لا يعلمون» (5). متفق عليه.
ولكن ذلك لا يعني بحال أن تُعرِّض نفسك للبلاء فوق ما تطيق أو تستحمل الخطأ، أو تُذل نفسك، فقد نهى عن ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال:«لا ينبغي لمؤمنٍ أن يُذلَّ نفسَه: يتعرض للبلاء ما لا يطيق» رواه أحمد والترمذي
(1) سورة العنكبوت: الآيتان 2، 3.
(2)
سورة لقمان، الآية:17.
(3)
تفسير القرطبي، 14/ 69.
(4)
سورة الذاريات، الآية:52.
(5)
البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء: 6/ 514، مسلم، كتاب الجهاد والسِّير غزوة أُحد: 3/ 1417.
وابن ماجه عن حذيفة بسند صحيح (1).
عباد الله: ولا بد مع الصبر على المكاره من عدم الكبر والخيلاء، وتلك واحدة من وصايا لقمان لابنه، فالدعوةُ للخير لا تجيز التعالي على الناس والتطاول عليهم باسم قيادتهم للخير، ومن باب أولى أن يكون التعالي والتطاولُ بغير دعوةٍ إلى الخير أقبح وأرذل (2).
{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (3). أي: لا تتكبر فتحتقر عباد الله أو تعرض عنهم بوجهك إذا كلموك (4)، ولا يظهر في مشيتك الكبرُ والخيلاء
…
وتذكر أن بدايتك من ماءٍ مهين، وأنك مهما بلغت من الجاه والسلطان، واجتمع لك من الأموال والأولاد فنهايتُك إلى التراب، وقد قيل: أن القبر يكلم صاحبه إذا وُضع فيه ويقول: يا ابن آدم ما غرّك بي، ألم تعلم أني بيتُ الوحدة، ألم تعلم أني بيتُ الظلمة، ألم تعلم أني بيتُ الحق. يا ابن آدم ما غرّك بي، لقد كنت تمشي حولي فدَّادًا - والمعنى: ذا مالٍ كثير وذا خيلاء.
فهل يتكبر العقلاءُ الذين يتذكرون المبدأ والمنتهى؟
ألا إن في آيات الذكر عبرة .. وفي وصايا لقمان عظة {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} (5).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله.
(1) صحيح الجامع: 6/ 253.
(2)
الظلال: 5/ 2790.
(3)
سورة لقمان، الآية:18.
(4)
تفسير ابن كثير: 3/ 710.
(5)
سورة الإسراء، الآية:97.