الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقفات مع الزلزال المدمّر
(1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله ربِّ العالمين، جعل الأرضَ قرارًا، وجعل خلالها أنهارًا، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزًا، أإله مع الله! بل أكثرهم لا يعلمون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ومن آياته الليلُ والنهارُ والشمسُ والقمر، ومن السنة الإلهية والقدرات الربانية أن الشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليلُ سابق النهار، وكلٌّ في فلك يسبحون، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، أخبر الأمة عن الآيات البينات في الكون والأنفس والآفاق، فآمن المؤمنون وأبى المبطلون، اللهم صلِّ وسلم عليه، وعلى سائر أنبياء الله ورسله، وارضَ اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: ومن تأمل أحوال الكونِ وما فيه من مخلوقات وموجوداتٍ أدرك عظمة الله وكمال قدرته، وتفرُّدَه بالربوبية والألوهية:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (4).
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 24/ 5/ 1420 هـ.
(2)
سورة النساء، الآية:1.
(3)
سورة آل عمران، الآية:102.
(4)
سورة النمل، الآية:88.
فالسماءُ مرفوعةٌ بلا عمد، وهي سقف العالم المرفوع، والأرضُ مستقرٌّ ومستودع، وقد ذلَّلها الله وأرساها ليمشي الناسُ في مناكبها، ويستخرجوا خيراتها، والشمسُ والقمرُ سراجان يُزهران، وبهما ضياءُ الكون ونورُه، ولا يتخلف نورُهما إلا لعارضٍ يقدره العليمُ الخبيرُ، والنجومُ مصابيحُ وزينةٌ وأدلة للمسافرين، والجواهرُ والمعادن مخزونة في هذا العالم العجيب، وأنواعُ النباتِ وصنوفُ الحيوان، كل ذلك مسخَّر لبني الإنسان
…
كل ذلك ليُستدل به على عظمة الخالق وليُعبد الله وحده لا شريك له
…
ولِتُعْمَرَ الأرضُ بذكره وشكره.
أيها المسلمون: وفي مفتاح دار السعادة حديثٌ مطولٌ عن بديع خلق الله في الكون، بسمائِهِ وأرضه ونجومه وأحيائِه، وهو جدير بالقراءة والتأمل.
إخوة الإسلام: بين عشية وضحاها تحولت مساحةٌ قدرها مائةٌ وإحدى وثلاثون ألف كيلومتر مربع شمال غرب تركيا، إلى ساحة لمأساة مفتوحة، تملؤها مشاهدُ الموت والدمار، ويلفها الحزنُ الكئيب، وتعصفُ بها رياحُ الفزعِ والأمطار الحمضية القاتلة، خمسةٌ وأربعون ثانية فقط - من زلزال تركيا المدمّر - كانت كافيةً لوقوع ما يقرب من خمسة وأربعين ألف قتيل وجريح، ومائتي ألف مشرد في العراء، يبحثون عن مأوى، والألمُ يعتصرهم، ومخاوفُ المستقبل تحيط بهم، ورائحة الموتى، وحطامُ المباني، والبحثُ عن أقاربهم، تبثُّ الرعب في قلوبهم، وتزيدهم هلعًا، إنها ثوانٍ تعصف بالحياة والأحياء، وتخلِّف خسائر تقدّر بخمسةٍ وعشرين مليار دولار، وأعظم منها خسائر الأرواح التي لا تعوض.
سبحان الله
…
! في لحظة من الزمن كان من هو أعلى الأرض في أسفلها، ونقص عدد الأحياء، وارتفع مؤشر الأموات، فضلًا عن الرعب والرهبة، وكيف لا يكون ذلك، وقد ذكر أحدُ المراصد الأمريكية أن هذا الزلزال يعادل قوة أربع
مائة قنبلةٍ ذرية من النوع الذي ألقي على هيروشيما - من قبل - (1).
عباد الله: ولا غرابة أن يكون الحدثُ محل اهتمام العالم ومتابعاته، وما حدث في تركيا يفوق الوصف، وتعجِزُ الأقلامُ وتتعثر الألسنُ وهي تصف الحدث وأثره، وفي خلال خمس وأربعين ثانية - لم تبلغ الدقيقة - تغير ما على وجه الأرض من الحياة والأحياء، وأسفر الحدثُ عن آلاف القتلى والجرحى، فضلًا عن المفقودين، واتسعت دائرة الحدث الذي لم يستكمل الدقيقة لتمتد على مساحة ثلاث مائة كيلو طولًا، وما يقرب من أربعين كيلو عرضًا، ولتشمل مجموعةً من البشر والمنشآت فتخلفها أجداثًا وأنقاضًا، وتترك ورائها آلافًا من البشر دون مأوى، إلى غير ذلك من أرقام موحشة وأنَّاتٍ موجعةٍ، وخسائر فادحةٍ في الأرواح والممتلكات.
ترى ما العبرُ والدروس والوقفات المهمة وراء الحدث؟
- الوقفة الأولى: القدرةُ الإلهية وضعفُ البشر، فأيُّ قدرة مهما بلغت لا تستطيعُ أن تعملَ بهذه القدرة والسرعة كالذي حصل في زلزال تركيا وغيره من الزلازل والبراكين الأخرى، وفي مواقع متعددةٍ من العالم، والحدث مع قوته مفاجأةٌ لا تملك هيئة أو جهة التحذير منه قبل وقوعه بوقتٍ كافٍ، للإخلاء على الأقل، فضلًا عن أن تملك التحذير قبلَ فترة تمكِّنُ الناسَ من تقليل الخسائر، إنه قدرُ الله وتوقيته، ولا أحد يملك العلمَ أو التدخلَ، وكفى بالله وكيلًا، ومن جانب البشر تتضاءل قواهم، وينحصر جُهدهم في الإنقاذ على بطء، ولربما سمعوا الأنين ولم يستطيعوا الوصول إلى صاحبه إلا بعد مفارقتِهِ الحياة، ولربما التهمت الأرض من الموتى ما يقارب من خرجوا أحياء أو في عداد الموتى، بل
(1) مجلة المجتمع عدد 1365، 20 - 26/ 5/ 1420 هـ.
ويظهر الضعفُ في البشر بعد وقوع الحدث، فعمليةُ الإنقاذ سارت ببطءٍ في بدايتها، وهوُ الفاجعة وضعفُ الإدارة أخَّر عمليات الإنقاذ لساعات طويلة، حتى خرجت عناوينُ الصحف التركية منتقدةً لهذا الوضع، ومن هذه العناوين:(الدولة تحت الأنقاض)، (أتى الصليب الأحمر، أين الهلال الأحمر)، (أنقرة نمر من ورق)(1).
إنها صورةٌ مكشوفة من صور قدرة الله وضعف البشر أمامها.
- الوقفة الثانية: أنفرحُ للمصاب أم نحزن؟ ولربما فرح البعضُ لما حصل، وتعليلهم أن في ذلك درسًا لكل من يتمرد على شرع الله ويحارب أولياءَهُ، ويضيق الخناق على سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ويستدلُ هؤلاء بأن تركيا مؤخرًا أقامت للعلمانية سوقًا رائجة، حكمت بموجبها البلاد وطارت العباد، ونحّت شرع الله، ومنعت الخيرين من مزاولة الإصلاح ودعوة الناس للخير، وتقام الدنيا من أجل امرأةٍ محجبةٍ دخلت البرلمان، بل ويُمنع الحجاب في المدارس والجامعات، وتُنحَّى الأحزابُ الإسلاميةُ عن الحكم، وتُباح المحرمات كالزنا والخمور ونحوها، إلى غير ذلك من أمورٍ لا شك أنها محاربةٌ لله ولرسوله وللمؤمنين
…
ولكن الأمر لا ينتهي إلى ذلك فقط - بل ينبغي أن نستشعر الحزن لما حصل في تركيا، فثمة طوائف من المتضررين من إخواننا المسلمين، ولا حول ولا قوة لهم، بل قد يكونون كارهين لما يقع، وأمرٌ آخر ينبغي أن نستشعره دائمًا؛ فما يقع من مصيبة في بلد من بلدان المسلمين هو مصيبة على العالم الإسلامي بأسره، يُنقص فيه من موارده، ويفنى فيه عددٌ من طاقاته، وأهمُّ من ذلك كله فناءُ عدد من أبناء الأمة الإسلامية. وهؤلاءُ أو أبناؤهم من بعدهم هم
(1) مجلة المجتمع، عدد:1365.
من جنود الإسلام وحماته، فكيف إذا كان زلزالٌ هنا أو فيضانات هناك، وجفاف في موقع ثالثٍ من عالمنا الإسلامي وهكذا. أفنفرح بالمصاب على إخواننا وننسى أنها مصيبتنا جميعًا؟
الوقفة الثالثة: وفرقٌ بين التشفِّي والفرح، وبين الاعتبار والتأسف، فحين نعتبر بما يقع بجزء من عالمنا، ونصلح ما فينا نحن من خللٍ، فذلك خيرٌ من أن ننشغل بنقد الآخرين والتسلي بأحداثهم، ومن باب الاعتبار نقول: وينبغي ألا ننسى أنه كان لتركيا يومًا من الدهر تاريخٌ مجيد. لقد كانت موطن الخلافة الإسلامية، ورائدة الفتوح في مشرق الأرض ومغربها، ولا تزال شعوبٌ مسلمةٌ تدين بالفضل بعد الله للأتراك إذ دعوهم للإسلام وأدخلوهم في قوائم المسلمين
…
ومع ما أُخِذَ على الدولة العثمانية من مآخذ فقد كانت إيجابياتها ظاهرة لكل منصف
…
وهنا يرد السؤال وهو أيضًا للاعتبار؟ ماذا دهى تركيا في تاريخها المعاصر؛ لماذا استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ وهل ينجح المستعمرون في فصل تركيا عن العالم الإسلامي وهي لحمة منه، وعضوٌ فاعلٌ من أعضائه؟ .. وهل تحرك هذه المصائبُ الواقعةُ مشاعر العقلاء، وهل تكون تلك الخسائرُ الفادحةُ نذرًا يستيقظ فيها الأتراك المخلصون فيعيدون تاريخ أجدادهم السابقين، وهل يسارع العالم الإسلامي في مساعدة إخوانهم الأتراك في مصابهم، أم تسبقهم الدولُ الغربية، متخذةً من ذلك وسيلةً لمزيد من التغريب والعلمنة، في بلدٍ كان يقود العالم الإسلامي بأسره؟ ومما يلفت النظرَ - في زلزال تركيا - أن تُستغلُ المساعداتُ الإنسانية لمآرب سياسية، فقد تحدثت صحيفة (معاريف) الصهيونية صراحةً عن أن: تل أبيب، وعواصم الاتحاد الأوروبي قررت تقديم الدعم للنظام العلماني التركي في محنته، خوفًا من سقوطه أمام موجة الاستياء الشعبي، وخشية أن يستفيد الإسلاميون من هذه
الحالة لتوسيع نفوذهم (1). من هنا ينبغي أن يفكر المسلمون بالفرح أو الحزن لما يجري ويحدث في تركيا، ولا ينبغي أن تَغلِبَ العواطفُ دون نظرٍ عميق وخطوات متزنة وشاملة للتقييم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2).
(1) مجلة المجتمع: 20 - 26/ 1420 هـ.
(2)
سورة الأحقاف، الآية:27.