الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله شرح صدور المؤمنين لطاعته وذكره، وتوعد القاسيةَ قلوبهم بالويل والضلال المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بذكره تطمئن القلوب، والمستهترون بآياته حقُّهم الرانُ على القلوب
…
ومصيرُهم الجحيم، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، أمره ربُّه بذكره تضرعًا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال، وألا يكون من الغافلين، وامتثل أمر ربِّه، وكان قدوة الذاكرين وموقظًا للغافلين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى إخوانه المرسلين.
عباد الله: وفي حياتنا اليومية ضروب وأشكالٌ من الغفلة، ومنا من يصبح معه الشيطان ويمسي، وعند الطعام والشراب والكساء، وخيرُنا من لا يجد الشيطانُ عليه سبيلًا. وجماع ذلك وأسبابه الذكرُ أو الغفلة، قال عليه الصلاة والسلام:«إذا دخل الرجلُ بيتَهُ فذكر اللهَ تعالى عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطانُ لأصحابه: لا مبيتَ لكم ولا عشاءَ، وإذا دخل فلم يذكر اللهَ تعالى عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيتَ والعشاءَ» (1).
لقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مستحضرًا لذكرِ الله آناء الليل وأطراف النهار، مُذكرًا بأهوال يوم القيامة، عن أُبي بن كعبٍ رضي الله عنه قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثُ الليل قام فقال: «يا أيها الناس اذكروا اللهَ، جاءت الراجفةُ، تتبعها الرادفةُ، جاء الموتُ بما فيه، جاء الموت بما فيه» (2).
أيها الناس: لا بد لمن يريد علاج ضعف إيمانه من الإكثار من ذكر الله وعدم الغفلة، قال تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (3).
(1) رواه مسلم، رياض الصالحين/ كتاب آداب الطعام:329.
(2)
الحديث رواه الترمذي بسند حسن، رياض الصالحين:273.
(3)
سورة الكهف، الآية:24.
قال العارفون: وفي القلب قسوةٌ لا يذيبها إلا ذكرُ الله تعالى. وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي؟ قال: أدبه بالذكر.
وإذا كان الذكرُ شفاءَ القلب ودواءَه، فالغفلةُ داؤه وشقاؤه (1). وهناك صنفٌ من الناس بلغت الغفلة بهم حدَّ قول القائل:
فنسيانُ ذكرِ الله موتُ قلوبهم وأجسامُهم قبل القبور قبورُ
وأرواحُهم في وحشةٍ من جسومِهم وليس لهم حتّى النشورِ نشورُ
أيها المسلمون: وإذا كان الذكرُ علاجًا للغفلة، فقراءة كتاب الله وتدبُّر آياته ووعده ووعيده، والاتعاظُ بقصصه كفيل بيقظة الإنسان وتذكُّره، قال تعالى:{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (2).
ومن وسائل علاجِ الغفلة مصاحبةُ الأخيار، وحضورُ مجالس الذكر، وملازمة العلماء، فذلك - وإن احتاج إلى صبرٍ ومجاهدة - فعاقبته حميدة، ومعالجته للغفلة ظاهرة، قال تعالى - وهو أصدق القائلين:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (3).
ومما يعين على علاج الغفلةِ زيارة المقابر، قال عليه الصلاة والسلام:«كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكِّرُكم الموتَ .. » حديث صحيح (4) وتشييعُ الجنائزِ، وتذكرُ ساعةِ الاحتضار
…
كل ذلك موقظٌ من الغفلة لمن في قلبه حياة، ويصف ابنُ الجوزي ساعة الاحتضار ويقول: «من أظرف الأشياء إفاقةُ المحتضر عند موته، فإنه ينتبه انتباهًا لا يوصف، ويقلق قلقًا لا يُحَدُّ،
(1) المنجد، ظاهرة ضعف الإيمان: 63، 64.
(2)
سورة ق، الآية:45.
(3)
سورة الكهف، الآية:28.
(4)
مسلم/ كتاب الجنائز: 976.
ويتلهف على زمانه الماضي، ويودُّ لو تُرك يتدارك ما فاته، ويصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت، ويكاد يقتل نفسه قبل موتِها بالأسف، ولو وُجدت ذرةٌ من تلك الأحوال في أوان العافية حصل كلُّ مقصودٍ من العمل بالتقوى، فالعاقلُ من مثل تلك الساعةَ وعمل بمقتضى ذلك» (1)، وصح في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال:«عودوا المريضَ واتَّبعوا الجنازة تذكركم الآخرة» (2)، وقال الأعمش: كنا نشهد الجنازة ولا ندري من المُعزى فيها لكثرة الباكين، وإنما كان بكاؤهم على أنفسهم لا على الميت»، وحين مرت بالحسن البصري جنازةٌ قال: يا لها من موعظةٍ ما أبلغها وأسرعَ نسيانها، يا لها من موعظة، لو وافقت من القلوب حياةً، ثم قال: يا غفلة شاملةً للقوم، كأنهم يرونها في النوم، ميّتُ غدٍ يدفن ميتَ اليوم (3).
ومن أنفع الأدوية لعلاج الغفلة: المداومة على محاسبة النفس، وحسبُ العاقل أن يقف في محاسبته لنفسه على قوله تعالى:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (4).
وصدق من قال: حاسِبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا.
أيها الناس: اعملوا على مهل، وكونوا من الله على وجل، ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل، وقفوا عند قول الحق:{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (5)، كان مطرف بن عبد الله يقول: إن هذا
(1) صيد الخاطر: 146.
(2)
أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح، الأحاديث الصحيحة 1981، صحيح الجامع الصغير ح 3988.
(3)
لحظات ساكنة/ القاسم: 95.
(4)
سورة آل عمران، الآية:30.
(5)
سورة لقمان، الآية:33.
الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيمًا لا موت فيه (1).
هل فكرت في نوع حياتك بعد الممات؟ والله يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (2).
(1) صفة الصفوة: 3/ 224.
(2)
سورة آل عمران، الآية:185.