الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِأَنَّنَا نُعَاقِبُ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ لَا عَلَى قَدْرِ الْغَضَبِ، فَلَيْسَ ذكر وصفي لَعَفُوٌّ غَفُورٌ إِيمَاءً إِلَى التَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِلْوَعْدِ بِجَزَاءِ الْمُهَاجِرِينَ اتِّبَاعًا لِلتَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الْحَج: 59] لِأَنَّ الْكَلَامَ مُسْتَمِرٌّ فِي شَأْنهمْ.
[61]
[سُورَة الْحَج (22) : آيَة 61]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
لَيْسَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْفَصْلِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مِثْلَ شَبِيهِهِ الَّذِي قَبْلَهُ، بَلِ الْإِشَارَةُ هُنَا إِلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ الدَّالِّ عَلَى تَكَفُّلِ النَّصْرِ، فَإِنَّ النَّصْرَ يَقْتَضِي تَغْلِيبَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ عَلَى ضِدِّهِ وَإِقْحَامَ الْجَيْشِ فِي الْجَيْشِ الْآخَرِ فِي الْمَلْحَمَةِ، فَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا بِتَغْلِيبِ
مُدَّةِ النَّهَارِ عَلَى مُدَّةِ اللَّيْلِ فِي بَعْضِ السَّنَةِ، وَتَغْلِيبِ مُدَّةِ اللَّيْلِ عَلَى مُدَّةِ النَّهَارِ فِي بَعْضِهَا، لِمَا تَقَرَّرَ مِنِ اشْتِهَارِ التَّضَادِّ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَيِ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ، وَقَرِيبٌ مِنْهَا اسْتِعَارَةُ التَّلْبِيسِ لِلْإِقْحَامِ فِي الْحَرْبِ فِي قَوْلِ الْمَرَّارِ السُّلَمِيِّ:
وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ حَتَّى
…
إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي
فَخَبَرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ هُنَا هُوَ قَوْلُهُ: بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ إِلَخْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ تَكْرِيرًا لِشَبِيهِهِ السَّابِقِ لِقَصْرِ تَوْكِيدِهِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهِ لِأَنَّ جُمْلَةَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ إِلَخْ، مُرْتَبِطَةٌ بِجُمْلَةِ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ إِلَخْ، وَلِذَلِكَ يَصِحُّ جَعْلُ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ إِلَخْ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ [الْحَج: 60] .
وَالْإِيلَاجُ: الْإِدْخَالُ. مُثِّلَ بِهِ اخْتِفَاءُ ظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدَ ظُهُورِ نُورِ النَّهَارِ وَعَكْسِهِ تَشْبِيهًا لِذَلِكَ التَّصْيِيرِ بِإِدْخَالِ جِسْمٍ فِي جِسْمٍ آخَرَ،
فَإِيلَاجُ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ: غَشَيَانُ ضَوْءِ النَّهَارِ عَلَى ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَإِيلَاجُ النَّهَارِ فِي اللَّيْلِ: غَشَيَانُ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ ضَوْءِ النَّهَارِ. فَالْمُولَجُ هُوَ الْمُخْتَفِي، فَإِيلَاجُ اللَّيْلِ انْقِضَاؤُهُ. وَاسْتِعَارَةُ الْإِيلَاجِ لِذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ بَدِيعَةٌ لِأَنَّ تَقَلُّصَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ يَحْصُلُ تَدْرِيجًا، وَكَذَلِكَ تَقَلُّصُ ضَوْءِ النَّهَارِ يَحْصُلُ تَدْرِيجًا، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ إِيلَاجَ شَيْءٍ فِي شَيْءٍ إِذْ يَبْدُو دَاخِلًا فِيهِ شَيْئًا فَشَيْئًا.
وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ لَا عَجَبَ فِي النَّصْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْكَافِرِينَ مَعَ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى تَغْلِيبِ النَّهَارِ عَلَى اللَّيْلِ حِينًا بَعْدَ أَنْ كَانَ أَمْرُهُمَا عَلَى الْعَكْسِ حِينًا آخَرَ قَادِرٌ عَلَى تَغْلِيبِ الضَّعِيفِ عَلَى الْقَوِيِّ، فَصَارَ حَاصِلُ الْمَعْنَى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى نَصْرِهِمْ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ ذِكْرِ إِيلَاجِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَإِيلَاجِ النَّهَارِ فِي اللَّيْلِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى تَقَلُّبِ أَحْوَالِ الزَّمَانِ فَقَدْ يَصِيرُ الْمَغْلُوبُ غَالِبًا، وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْغَالِبُ مَغْلُوبًا. مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى تَمَامِ الْقُدْرَةِ بِحَيْثُ تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ الْمُتَضَادَّةِ وَلَا تَلْزَمُ طَرِيقَةً وَاحِدَةً كَقُدْرَةِ الصُّنَّاعِ مِنَ الْبَشَرِ. وَفِيهِ إِدْمَاجُ التَّنْبِيهِ بِأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي اسْتَبْطَأَهُ الْمُشْرِكُونَ مَنُوطٌ بِحُلُولِ أَجَلِهِ، وَمَا الْأَجَلُ إِلَّا إِيلَاجُ لَيْلٍ فِي نَهَارٍ وَنَهَارٍ فِي لَيْلٍ.
وَفِي ذِكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِدْمَاجُ تَشْبِيهِ الْكُفْرِ بِاللَّيْلِ وَالْإِسْلَامِ بِالنَّهَارِ لِأَنَّ الْكُفْرَ ضَلَالَةُ اعْتِقَادٍ، فَصَاحِبُهُ مِثْلُ الَّذِي يَمْشِي فِي ظُلْمَةٍ، وَلِأَنَّ الْإِيمَانَ نُورٌ يَتَجَلَّى بِهِ
الْحَقُّ وَالِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ، فَصَاحِبُهُ كَالَّذِي يَمْشِي فِي النَّهَارِ، فَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْإِيلَاجَ الْمَقْصُودَ هُوَ ظُهُورُ النَّهَارِ بَعْدَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، أَيْ ظُهُورُ الدِّينِ الْحَقِّ بَعْدَ ظُلْمَةِ الْإِشْرَاكِ، وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ فِي الْآيَةِ بِإِيلَاجِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ، أَيْ دُخُولِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ تَحْتَ ضَوْءِ النَّهَارِ.