الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْمُرَادُ بِالْقَائِمِينَ: الدَّاعُونَ تُجَاهَ الْكَعْبَةِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ مَكَانُ قِيَامِهِ لِلدُّعَاءِ فَكَانَ الْمُلْتَزَمَ مَوْضِعًا لِلدُّعَاءِ. قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نفَيْل:
عذت مِمَّا عاذ بِهِ إِبْرَاهِيم
…
مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ وَهْوَ قَائِمْ
وَالرُّكَّعُ: جَمْعُ رَاكِعٍ، وَوَزْنُ فُعَّلٍ يَكْثُرُ جَمْعًا لِفَاعِلٍ وَصْفًا إِذَا كَانَ صَحِيحَ اللَّامِ نَحْوَ: عُذَّلٍ وَسُجَّدٍ.
وَالسُّجُودُ: جَمْعُ سَاجِدٍ مِثْلُ: الرُّقُودِ، وَالْقُعُودِ، وَهُوَ مِنْ جُمُوعِ أَصْحَابِ الْأَوْصَافِ الْمُشَابِهَةِ مصَادر أفعالها.
[27، 28]
[سُورَة الْحَج (22) : الْآيَات 27 إِلَى 28]
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28)
وَأَذِّنْ عَطْفٌ عَلَى وَطَهِّرْ بَيْتِيَ [الْحَج: 26] . وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْ إِكْرَامِ الزَّائِرِ تَنْظِيفَ الْمَنْزِلِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ قَبْلَ نُزُولِ الزَّائِرِ بِالْمَكَانِ.
وَالتَّأْذِينُ: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْإِعْلَامِ بِشَيْءٍ. وَأَصْلُهُ مُضَاعَفُ أَذِنَ إِذَا سَمِعَ ثُمَّ صَارَ بِمَعْنَى بَلَغَهُ الْخَبَرُ فَجَاءَ مِنْهُ آذَنَ بِمَعْنَى أَخْبَرَ. وَأَذِّنْ بِمَا فِيهِ مِنْ مُضَاعَفَةِ الْحُرُوفِ مُشْعِرٌ بِتَكْرِيرِ الْفِعْلِ، أَيْ أَكْثِرِ الْإِخْبَارَ بِالشَّيْءِ. وَالْكَثْرَةُ تَحْصُلُ بِالتَّكْرَارِ وَبِرَفْعِ الصَّوْتِ الْقَائِمِ مَقَامَ التَّكْرَارِ. وَلِكَوْنِهِ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ يُعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِالْبَاءِ.
وَالنَّاسُ يَعُمُّ كُلَّ الْبَشَرِ، أَيْ كُلَّ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُبَلِّغَ إِلَيْهِ ذَلِكَ.
وَالْمُرَادُ بِالْحَجِّ: الْقَصْدُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ. وَصَارَ لَفْظُ الْحَجِّ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْحُضُورِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ. وَمِنْ حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّتِهِ تَلَقِّي عَقِيدَةِ تَوْحِيدِ اللَّهِ بِطَرِيقِ الْمُشَاهِدَةِ لِلْهَيْكَلِ الَّذِي أُقِيمَ لِذَلِكَ حَتَّى يَرْسَخَ مَعْنَى التَّوْحِيدِ فِي النُّفُوسِ لِأَنَّ لِلنُّفُوسِ مَيْلًا
إِلَى الْمَحْسُوسَاتِ لِيَتَقَوَّى الْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ بِمُشَاهَدَةِ الْمَحْسُوسِ. فَهَذِهِ أَصْلٌ فِي سُنَّةِ الْمُؤَثِّرَاتِ لِأَهْلِ الْمَقْصِدِ النَّافِعِ.
وَفِي تَعْلِيقِ فِعْلِ يَأْتُوكَ بِضَمِيرِ خِطَابِ إِبْرَاهِيمَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ مَوْسِمَ الْحَجِّ كُلَّ عَامٍ يُبْلِغُ لِلنَّاسَ التَّوْحِيدَ وَقَوَاعِدَ الْحَنِيفِيَّةِ. رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ اعْتَلَى جَبَلَ أَبِي قَيْسٍ وَجَعَلَ إِصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَنَادَى: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا» .
وَذَلِكَ أَقْصَى اسْتِطَاعَتِهِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالتَّأْذِينِ. وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ رَحَّالَةً فَلَعَلَّهُ كَانَ يُنَادِي فِي النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَحِلُّ فِيهِ.
وَجُمْلَةُ يَأْتُوكَ جَوَابٌ لِلْأَمْرِ، جَعَلَ التَّأْذِينَ سَبَبًا لِلْإِتْيَانِ تَحْقِيقًا لتيسير الله الْحَجِّ عَلَى النَّاسِ. فَدَلَّ جَوَابُ الْأَمْرِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَهُ اسْتِجَابَةَ نِدَائِهِ.
وَقَوْلُهُ رِجالًا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ يَأْتُوكَ.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ بِوَاوِ التَّقْسِيمِ الَّتِي بِمَعْنَى (أَوْ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التَّحْرِيم: 5] إِذْ مَعْنَى الْعَطْفِ هُنَا عَلَى اعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ بَيْنَ رَاجِلٍ وَرَاكِبٍ، إِذِ الرَّاكِبُ لَا يَكُونُ رَاجِلًا وَلَا الْعَكْسَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ اسْتِيعَابُ أَحْوَالِ الْآتِينَ تَحْقِيقًا لِلْوَعْدِ بِتَيْسِيرِ الْإِتْيَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِجَعْلِ إِتْيَانِهِمْ جَوَابًا لِلْأَمْرِ، أَيْ يَأْتِيكَ مَنْ لَهُمْ رَوَاحِلُ وَمَنْ يَمْشُونَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ.
وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْحَالِ أَغْرَبَ قُدِّمَ قَوْلُهُ رِجالًا ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَهُ وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ تَكْمِلَةً لِتَعْمِيمِ الْأَحْوَالِ إِذْ إِتْيَانُ النَّاسِ لَا يَعْدُو أَحَدَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ.
ورِجالًا: جَمْعُ رَاجِلٍ وَهُوَ ضِدُّ الرَّاكِبِ.
وَالضَّامِرُ: قَلِيلُ لَحْمِ الْبَطْنِ. يُقَالُ: ضَمُرَ ضُمُورًا فَهُوَ ضَامِرٌ، وَنَاقَةٌ ضَامِرٌ أَيْضًا.
وَالضُّمُورُ مِنْ مَحَاسِنِ الرَّوَاحِلِ وَالْخَيْلِ لِأَنَّهُ يُعِينُهَا عَلَى السَّيْرِ وَالْحَرَكَةِ.
فَالضَّامِرُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَعَلَى كُلِّ رَاحِلَةٍ.
وَكَلِمَةُ (كُلِّ) مِنْ قَوْلِهِ وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَثْرَةِ، أَيْ وَعَلَى رَوَاحِلَ كَثِيرَةٍ. وَكَلِمَةُ (كُلِّ) أَصْلُهَا الدَّلَالَةُ عَلَى اسْتِغْرَاقِ جِنْسِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ وَيَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهَا فِي مَعْنًى كَثِيرٍ مِمَّا تُضَافُ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْل: 23] أَيْ مِنْ أَكْثَرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُؤْتَاهَا أَهْلُ الْمُلْكِ، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي إِلَى كُلِّ رَجَّافٍ مِنَ الرَّمْلِ فَارِدِ أَيْ: بِهَا وَحْشٌ كَثِيرٌ فِي رِمَالٍ كَثِيرَةٍ.
وَتَكَرَّرَ هَذَا الْإِطْلَاقُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي قَوْلِ عَنْتَرَةَ:
جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ
…
فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَمِ
سَحًّا وَتَسْكَابًا فَكُلَّ عَشِيَّةٍ
…
يَجْرِي عَلَيْهَا الْمَاءُ لَمْ يَتَصَرَّمِ
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ فِي [سُورَةَ الْبَقَرَةِ: 145] . وَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سُورَةَ النَّمْلِ.
وَ (يَأْتِينَ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِ كُلِّ ضامِرٍ لِأَنَّ لَفْظَ (كُلِّ) صَيَّرَهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ. وَإِذْ هُوَ جَمْعٌ لِمَا لَا يَعْقِلُ فَحَقُّهُ التَّأْنِيثُ، وَإِنَّمَا أُسْنِدَ الْإِتْيَانُ إِلَى الرَّوَاحِلِ دُونَ النَّاسِ فَلَمْ يَقُلْ: يَأْتُونَ، لِأَنَّ الرَّوَاحِلَ هِيَ سَبَبُ إِتْيَانِ النَّاسِ مِنْ بُعْدٍ لِمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ السَّفَرَ عَلَى رِجْلَيْهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ جُمْلَةُ يَأْتِينَ حَالًا ثَانِيَةً مِنْ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي يَأْتُوكَ لِأَنَّ الْحَالَ الْأُولَى تَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّنْوِيعِ وَالتَّصْنِيفِ، فَصَارَ الْمَعْنَى: يَأْتُوكَ جَمَاعَاتٍ، فَلَمَّا تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْجَمَاعَاتِ جَرَى عَلَيْهِمُ الْفِعْلُ بِضَمِيرِ التَّأْنِيثِ.
وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ زِيَادَةَ التَّعْجِيبِ مِنْ تَيْسِيرِ الْحَجِّ حَتَّى عَلَى الْمُشَاةِ.
وَقَدْ تُشَاهِدُ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ جَمَاعَاتٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ يَمْشُونَ رجَالًا بأولادهم وأزوادهم وَكَذَلِكَ يَقْطَعُونَ الْمَسَافَاتِ بَيْنَ مَكَّةَ وَبِلَادِهِمْ.
وَالْفَجُّ: الشِّقُّ بَيْنَ جَبَلَيْنِ تَسِيرُ فِيهِ الرِّكَابُ، فَغَلَبَ الْفَجُّ عَلَى الطَّرِيقِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الطُّرُقِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى مَكَّةَ تُسْلَكُ بَيْنَ الْجِبَالِ.
وَالْعَمِيقُ: الْبَعِيدُ إِلَى أَسْفَلَ لِأَنَّ الْعُمْقَ الْبُعْدُ فِي الْقَعْرِ، فَأُطْلِقَ عَلَى الْبَعِيدِ مُطْلَقًا بِطَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، أَوْ هُوَ اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ مَكَّةَ بِمَكَانٍ مُرْتَفِعٍ وَالنَّاسُ مُصَعِّدُونَ إِلَيْهِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى السَّفَرِ مِنْ مَوْطِنِ الْمُسَافِرِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ إِصْعَادٌ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الرُّجُوعِ انْحِدَارٌ وَهُبُوطٌ، فَإِسْنَادُ الْإِتْيَانِ إِلَى الرَّوَاحِلِ تَشْرِيفٌ لَهَا بِأَنْ جَعَلَهَا مُشَارَكَةً لِلْحَجِيجِ فِي الْإِتْيَانِ إِلَى الْبَيْتِ.
وَقَوْلُهُ لِيَشْهَدُوا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ يَأْتُوكَ فَهُوَ عِلَّةٌ لِإِتْيَانِهِمُ الَّذِي هُوَ مُسَبَّبٌ عَلَى
التَّأْذِينِ بِالْحَجِّ فَآلَ إِلَى كَوْنِهِ عِلَّةً فِي التَّأْذِينِ بِالْحَجِّ.
وَمَعْنَى لِيَشْهَدُوا لِيَحْضُرُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، أَيْ لِيَحْضُرُوا فَيُحَصِّلُوا مَنَافِعَ لَهُمْ إِذْ يُحَصِّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مَا فِيهِ نَفْعُهُ. وَأَهَمُّ الْمَنَافِعِ
مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام مِنَ الثَّوَابِ. فَكَنَى بِشُهُودِ الْمَنَافِعِ عَنْ نَيْلِهَا. وَلَا يُعْرَفُ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّعْيِينِ.
وَأَعْظَمُ ذَلِكَ اجْتِمَاعُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ لِيَتَلَقَّى بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ مَا بِهِ كَمَالُ إِيمَانِهِ.
وَتَنْكِيرُ مَنافِعَ لِلتَّعْظِيمِ الْمُرَادِ مِنْهُ الْكَثْرَةُ وَهِيَ الْمَصَالِحُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ لِأَنَّ فِي مَجْمَعِ الْحَجِّ فَوَائِدَ جَمَّةً لِلنَّاسِ: لِأَفْرَادِهِمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَةِ لِكُلِّ حَاجٍّ، وَلِمُجْتَمَعِهِمْ لِأَنَّ فِي الِاجْتِمَاعِ صَلَاحًا فِي الدُّنْيَا بِالتَّعَارُفِ وَالتَّعَامُلِ.
وَخَصَّ مِنَ الْمَنَافِعِ أَنْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. وَذَلِكَ هُوَ النَّحْرُ وَالذَّبْحُ لِلْهَدَايَا. وَهُوَ مُجْمَلٌ فِي الْوَاجِبَةِ وَالْمُتَطَوَّعِ بِهَا. وَقَدْ بَيَّنَتْهُ شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ قَبْلُ بِمَا لَمْ يَبْلُغْ إِلَيْنَا، وَبَيَّنَهُ الْإِسْلَامُ بِمَا فِيهِ شِفَاءٌ.
وَحَرْفُ عَلى مُتَعَلِّقٌ بِ يَذْكُرُوا، وَهُوَ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمُجَازِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمُلَابَسَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ، أَيْ عَلَى الْأَنْعَامِ. وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ عِنْدِ نَحْرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ أَوْ ذَبْحِهَا.
وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، ومِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ بَيَانٌ لِمَدْلُولِ (مَا) . وَالْمَعْنَى: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الْحُكْمِ الِامْتِنَانُ بِأَنَّ اللَّهَ رَزَقَهُمْ تِلْكَ الْأَنْعَامَ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِطَلَبِ الشُّكْرِ عَلَى هَذَا الرِّزْقِ بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ وَإِطْعَامِ الْمَحَاوِيجِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مِنْ لُحُومِهَا، وَفِي ذَلِكَ سَدٌّ لِحَاجَةِ الْفُقَرَاءِ بِتَزْوِيدِهِمْ مَا يَكْفِيهِمْ لِعَامِهِمْ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ.
فَالْأَمْرُ بِالْأَكْلِ مِنْهَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرَ وُجُوبٍ فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فَيَكُونُ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ فَكُلُوا لِإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ.
وَقَدْ عَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي ضَمَائِرِ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ، إِلَى الْخِطَابِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ إِلَخْ. عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ مَأْمُورٍ بِهِ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام.
وَفِي حِكَايَةِ هَذَا تَعْرِيضٌ بِالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانُوا يَمْنَعُونَ الْأَكْلَ مِنَ الْهَدَايَا.
ثُمَّ عَادَ الْأُسْلُوبُ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الْحَج: 29] .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَكُلُوا مِنْها إِلَخْ مُعْتَرِضَةً مُفَرَّعَةً عَلَى خِطَابِ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ تَفْرِيعَ الْخَبَرِ عَلَى الْخَبَرِ تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يُمْنَعَ الْأَكْلُ مِنْ بَعْضِهَا.
وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أُجْمِلَتْ هُنَا لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِبَيَانِهَا إِذْ غَرَضُ الْكَلَامِ ذِكْرُ حَجِّ الْبَيْتِ وَقَدْ بَيَّنْتُ عِنْدَ التَّعَرُّضِ لِأَعْمَالِ الْحَجِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَة: 203] .
وَالْبَائِسُ: الَّذِي أَصَابَهُ الْبُؤْسُ، وَهُوَ ضِيقُ الْمَالِ، وَهُوَ الْفَقِيرُ، هَذَا قَوْلُ جَمْعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» : فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنْ أَكْلِ الدَّوَابِّ، قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ أَنَّ الْبَائِسَ هُوَ الْفَقِيرُ اه. وَقُلْتُ: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُعْطَفْ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لِأَنَّهُ كَالْبَيَانِ لَهُ وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْبَائِسُ مَعَ أَنَّ الْفَقِيرَ مُغْنٍ عَنْهُ لِتَرْقِيقِ أَفْئِدَةِ النَّاسِ عَلَى الْفَقِيرِ بِتَذْكِيرِهِمْ أَنَّهُ فِي بُؤْسٍ لِأَنَّ وَصْفَ فَقِيرٍ لِشُيُوعِ تَدَاوُلِهِ عَلَى الْأَلْسُنِ صَارَ كَاللَّقَبِ