الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي هَذَا إِلَى الْوَعْدِ الْمَوْعُودِ فِي الزَّبُورِ وَالْمُبَلَّغِ فِي الْقُرْآنِ.
وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الْعَابِدِينَ مَنْ شَأْنُهُمُ الْعِبَادَةُ لَا يَنْحَرِفُونَ عَنْهَا قَيْدَ أُنْمُلَةٍ كَمَا أَشْعَرَ بِذَلِكَ جَرَيَانُ وَصْفِ الْعَابِدِينَ عَلَى لَفْظِ قَوْمٍ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ قِوَامُ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آخِرِ [سُورَةِ يُونُسَ:
101] . فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمُ الْوَعْدَ فَاجْتَهِدُوا فِي نَوَالِهِ. وَالْقَوْمُ الْعَابِدُونَ هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الموجودون يَوْمَئِذٍ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ.
وَالْعِبَادَةُ: الْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمرَان: 110] . وَقَدْ وَرِثُوا هَذَا الْمِيرَاثَ الْعَظِيمَ وَتَرَكُوهُ لِلْأُمَّةِ بَعْدَهُمْ، فَهُمْ فِيهِ أَطْوَارٌ كَشَأْنِ مُخْتَلِفِ أَحْوَالِ الرُّشْدِ وَالسَّفَهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَوَارِيثِ الْأَسْلَافِ.
وَمَا أَشْبَهَ هَذَا الْوَعْدَ الْمَذْكُورَ هُنَا وَنَوْطَهُ بِالْعِبَادَةِ بِالْوَعْدِ الَّذِي وُعِدَتْهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ فِي الْقُرْآنِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النُّور: 55- 56] .
[107]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : آيَة 107]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)
أُقِيمَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى عِمَادِ إِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَتَصْدِيقِ دَعْوَتِهِ. فَافْتُتِحَتْ بِإِنْذَارِ الْمُعَانِدِينَ بِاقْتِرَابِ
حِسَابِهِمْ وَوَشْكِ حُلُولِ وَعْدِ اللَّهِ فِيهِمْ وَإِثْبَاتِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وَذُكِرُوا إِجْمَالًا، ثُمَّ ذُكِرَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ بِمَوَاعِظَ وَدَلَائِلَ.
وَعُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا حُكْمًا وَعِلْمًا وَذِكْرِ مَا أُوتُوهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى وَصْفٍ جَامِعٍ لِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَمَزِيَّتُهَا عَلَى سَائِرِ الشَّرَائِعِ مَزِيَّةٌ تُنَاسِبُ عُمُومَهَا وَدَوَامَهَا، وَذَلِكَ كَوْنُهَا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 91] خِتَامًا لِمَنَاقِبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ وَاسْتِطْرَادٌ.
وَلِهَذِهِ الْجُمْلَةِ اتِّصَالٌ بِآيَةِ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الْأَنْبِيَاء: 3] .
وَوِزَانُهَا فِي وَصْفِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وِزَانُ آيَةِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ [الْأَنْبِيَاء: 48] وَآيَةِ: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: 51] والآيات الَّتِي بعدهمَا فِي وَصْفِ مَا أُوتِيَهُ الرُّسُلُ السَّابِقُونَ.
وَصِيغَتْ بِأَبْلَغِ نَظْمٍ إِذِ اشْتَمَلَتْ هَاتِهِ الْآيَةُ بِوَجَازَةِ أَلْفَاظِهَا عَلَى مدح الرَّسُول عليه الصلاة والسلام ومدح مُرْسِلِهِ تَعَالَى، وَمَدْحِ رِسَالَتِهِ بِأَنْ كَانَتْ مَظْهَرَ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلنَّاسِ كَافَّةً وَبِأَنَّهَا رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ.
فَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ حَرْفًا بِدُونِ حَرْفِ الْعَطْفِ الَّذِي عُطِفَتْ بِهِ، ذكر فِيهِ الرَّسُولُ، وَمُرْسِلُهُ، وَالْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ، وَالرِّسَالَةُ، وَأَوْصَافُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ، مَعَ إِفَادَةِ عُمُومِ الْأَحْوَالِ، وَاسْتِغْرَاقِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، وَخُصُوصِيَّةِ الْحَصْرِ، وَتَنْكِيرُ رَحْمَةً لِلتَّعْظِيمِ، إِذْ لَا مُقْتَضَى
لِإِيثَارِ التَّنْكِيرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ غَيْرُ إِرَادَةِ التَّعْظِيمِ وَإِلَّا لَقِيلَ: إِلَّا لِنَرْحَمَ الْعَالَمِينَ، أَوْ إِلَّا أَنَّكَ الرَّحْمَةُ لِلْعَالَمِينَ. وَلَيْسَ التَّنْكِيرُ لِلْإِفْرَادِ قَطْعًا لِظُهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الرَّحْمَةِ وَتَنْكِيرُ الْجِنْسِ هُوَ الَّذِي يَعْرِضُ لَهُ قَصْدُ إِرَادَةِ التَّعْظِيمِ. فَهَذِهِ اثْنَا عَشَرَ مَعْنًى خُصُوصِيًّا، فَقَدْ فَاقَتْ أَجَمْعَ كَلِمَةٍ لِبُلَغَاءِ الْعَرَبِ، وَهِيَ:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ إِذْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ قُصَارَاهَا كَمَا قَالُوا: «أَنَّهُ وَقَفَ وَاسْتَوْقَفَ وَبَكَى وَاسْتَبْكَى وَذَكَرَ الْحَبِيبَ وَالْمَنْزِلَ» دُونَ خُصُوصِيَّةٍ أَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ فَجَمَعَ سِتَّةَ مَعَانٍ لَا غَيْرَ. وَهِيَ غَيْرُ خُصُوصِيَّةٍ إِنَّمَا هِيَ وَفْرَةُ مَعَانٍ. وَلَيْسَ تَنْكِيرُ «حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ» إِلَّا لِلْوَحْدَةِ لِأَنَّهُ أَرَادَ فَرْدًا مُعَيَّنًا مِنْ جِنْسِ الْأَحْبَابِ وَفَرْدًا مُعَيَّنًا مِنْ جِنْسِ الْمَنَازِلِ، وَهُمَا حَبِيبُهُ صَاحِبُ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ، وَمَنْزِلُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ انْتِصَابَ رَحْمَةً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ يَجْعَلُهُ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِهِ فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ انْحِصَارُ الْمَوْصُوفِ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ صَارَ مِنْ قَصْرِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ. فَفِيهِ إِيمَاءٌ لَطِيفٌ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ اتَّحَدَ بِالرَّحْمَةِ وَانْحَصَرَ فِيهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ عُنْوَانَ الرَّسُولِيَّةِ مُلَازِمٌ لَهُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ، فَصَارَ وُجُودُهُ رَحْمَةً وَسَائِرُ أَكْوَانِهِ رَحْمَةً.
وَوُقُوعُ الْوَصْفِ مَصْدَرًا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي هَذَا الِاتِّحَادِ بِحَيْثُ تَكُونُ الرَّحْمَةُ صِفَةً مُتَمَكِّنَةً مِنْ إِرْسَالِهِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى مَا أَشَارَ إِلَى شَرْحِهِ
النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ»
(1)
.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يَظْهَرُ فِي مَظْهَرَيْنِ: الْأَوَّلُ تَخَلُّقُ نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ بِخُلُقِ الرَّحْمَةِ، وَالثَّانِي إِحَاطَةُ الرَّحْمَةِ بِتَصَارِيفِ شَرِيعَتِهِ.
فَأَمَّا الْمَظْهَرُ الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْقَيْسِيُّ الإشبيلي أحد تلاميذه أَبِي عَلِيٍّ الْغَسَّانِيِّ وَمِمَّنْ أَجَازَ لَهُمْ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ مِنْ رِجَالِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ:
«زَيَّنَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم
(1) رَوَاهُ مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي فِي كتاب «ذخيرة الْحفاظ» عَن أبي هُرَيْرَة يصفه بالضعف.
بِزِينَةِ الرَّحْمَةِ فَكَانَ كَوْنُهُ رَحْمَةً وَجَمِيعُ شَمَائِلِهِ رَحْمَةً وَصِفَاتُهُ رَحْمَةً عَلَى الْخَلْقِ» اه. وَذكره عَنْهُ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» . قُلْتُ: يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فُطِرَ عَلَى خُلُقِ الرَّحْمَةِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ مُعَامَلَتِهِ الْأُمَّةَ لِتَتَكَوَّنَ مُنَاسَبَةٌ بَيْنَ رُوحِهِ الزَّكِيَّةِ وَبَيْنَ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ الْوَحْيِ بِشَرِيعَتِهِ الَّتِي هِيَ رَحْمَةٌ حَتَّى يَكُونَ تَلَقِّيهِ الشَّرِيعَةَ عَنِ انْشِرَاحِ نَفْسٍ أَنْ يَجِدَ مَا يُوحَى بِهِ إِلَيْهِ مُلَائِمًا رَغْبَتَهُ وَخُلُقَهُ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ»
. وَلِهَذَا خَصَّ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِوَصْفِ الرَّحْمَةِ وَلَمْ يَصِفْ بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التَّوْبَة: 128] وَقَالَ تَعَالَى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمرَان:
159] أَيْ بِرَحْمَةٍ جَبَلَكَ عَلَيْهَا وَفَطَرَكَ بِهَا فَكُنْتَ لَهُمْ لَيِّنًا.
وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا شُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالُوا: لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً»
. وَأَمَّا الْمَظْهَرُ الثَّانِي مِنْ مَظَاهِرِ كَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فَهُوَ مَظْهَرُ تَصَارِيفِ شَرِيعَتِهِ، أَيْ مَا فِيهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى لِلْعالَمِينَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ رَحْمَةً.
والتعريف فِي لِلْعالَمِينَ لِاسْتِغْرَاقِ كُلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْعَالَمِ. وَالْعَالَمُ:
الصِّنْفُ مِنْ أَصْنَافِ ذَوِي الْعِلْمِ، أَيِ الْإِنْسَانُ، أَوِ النَّوْعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ ذَاتِ الْحَيَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنِ احْتِمَالِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: 2] . فَإِنْ أُرِيدَ أَصْنَافُ ذَوِي الْعِلْمِ فَمَعْنَى كَوْنِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مُنْحَصِرَةً فِي الرَّحْمَةِ أَنَّهَا أَوْسَعُ الشَّرَائِعِ رَحْمَةً بِالنَّاسِ فَإِنَّ الشَّرَائِعَ السَّالِفَةَ وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوءَةً بِرَحْمَةٍ إِلَّا أَنَّ الرَّحْمَةَ فِيهَا غَيْرُ عَامَّةٍ إِمَّا لِأَنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ، فَالْحَنِيفِيَّةُ شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام كَانَتْ رَحْمَةً خَاصَّةً بِحَالَةِ الشَّخْصِ
فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ فِيهَا تَشْرِيعٌ عَامٌّ، وَشَرِيعَةُ عِيسَى عليه السلام قَرِيبَةٌ مِنْهَا فِي ذَلِكَ وَإِمَّا لِأَنَّهَا قَدْ تَشْتَمِلُ فِي غَيْرِ الْقَلِيلِ مِنْ أَحْكَامِهَا عَلَى شِدَّةٍ اقْتَضَتْهَا حِكْمَةُ اللَّهِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَمِ الْمَشْرُوعَةِ هِيَ لَهَا مِثْلَ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ فَإِنَّهَا أَوْسَعُ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ لِتَعَلُّقِهَا بِأَكْثَرِ أَحْوَالِ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَهِيَ رَحْمَةٌ كَمَا وَصَفَهَا اللَّهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: 154]، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ عُقُوبَاتِ أُمَّتِهَا جُعِلَتْ فِي فَرْضِ أَعْمَالٍ شَاقَّةٍ عَلَى الْأُمَّةِ بِفُرُوضٍ شَاقَّةٍ مُسْتَمِرَّةٍ قَالَ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَقَالَ: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَى آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ بِوَصْفِ الرَّحْمَةِ الْكَامِلَةِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ خِطَابًا مِنْهُ لِمُوسَى عليه السلام: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النبيء الْأُمِّي [الْأَعْرَاف: 156- 157] الْآيَةَ. فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ رَحْمَةٌ هِيَ عَامَّةٌ فَامْتَازَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ الرَّحْمَةَ مُلَازِمَةٌ لِلنَّاسِ بِهَا فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ وَأَنَّهَا حَاصِلَةٌ بِهَا لِجَمِيعِ النَّاسِ لَا لِأُمَّةٍ خَاصَّةٍ.
وَحِكْمَةُ تَمْيِيزِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ أَنَّ أَحْوَالَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ مَضَتْ عَلَيْهَا عُصُورٌ وَأَطْوَارٌ تَهَيَّأَتْ بِتَطَوُّرَاتِهَا لِأَنْ تُسَاسَ بِالرَّحْمَةِ وَأَنْ تُدْفَعَ عَنْهَا الْمَشَقَّةُ إِلَّا بِمَقَادِيرَ ضَرُورِيَّةٍ لَا تُقَامُ الْمَصَالِحُ بِدُونِهَا، فَمَا فِي الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ مِنِ اخْتِلَاطِ الرَّحْمَةِ بِالشِّدَّةِ وَمَا فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ تَمَحُّضِ الرَّحْمَةِ لَمْ يَجُرْ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ إِلَّا عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَسْعَدَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ وَالَّذِي جَاءَ بِهَا وَالْأُمَّةَ الْمُتَّبِعَةَ لَهَا بِمُصَادَفَتِهَا لِلزَّمَنِ وَالطَّوْرِ الَّذِي اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ فِي سِيَاسَةِ الْبَشَرِ أَنْ يَكُونَ التَّشْرِيعُ لَهُمْ تَشْرِيعَ رَحْمَةٍ إِلَى انْقِضَاءِ الْعَالَمِ.
فَأُقِيمَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى دَعَائِمِ الرَّحْمَةِ وَالرِّفْقِ وَالْيُسْرِ. قَالَ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحجّ: 78] وَقَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: 185] ،
وَقَالَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ»
. وَمَا يُتَخَيَّلُ مِنْ شِدَّةٍ فِي نَحْوِ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ فَإِنَّمَا هُوَ لِمُرَاعَاةِ تَعَارُضِ الرَّحْمَةِ وَالْمَشَقَّةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَة: 179] فَالْقِصَاصُ وَالْحُدُودُ شِدَّةٌ عَلَى الْجُنَاةِ وَرَحْمَةٌ بِبَقِيَّةِ النَّاسِ.
وَأَمَّا رَحْمَةُ الْإِسْلَامِ بِالْأُمَمِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ رَحْمَتَهُ بِالْأُمَمِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ سُلْطَانِهِ وَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ. وَرَحْمَتُهُ بِهِمْ عَدَمُ إِكْرَاهِهِمْ عَلَى مُفَارَقَةِ أَدْيَانِهِمْ، وَإِجْرَاءُ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ فِي الْأَحْكَامِ بِحَيْثُ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ فِي الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ.
هَذَا وَإِن أُرِيد بالعالمين فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ النَّوْعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ ذَاتِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ تَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْحَيَوَانِ فِي مُعَامَلَةِ الْإِنْسَانِ إِيَّاهُ وَانْتِفَاعِهِ بِهِ. إِذْ هُوَ مَخْلُوقٌ لِأَجْلِ الْإِنْسَانِ، قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَة: 29] وَقَالَ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [النَّحْل: 5- 7] .
وَقَدْ أَذِنَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ لِلنَّاسِ فِي الِانْتِفَاعِ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَلَمْ تَأْذَنْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ كُرِهَ صَيْدُ اللَّهْوِ وَحُرِّمَ تَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ أَكْلِهِ، وَعَدَّ فُقَهَاؤُنَا سِبَاقَ الْخَيْلِ رُخْصَةً للْحَاجة فِي الغرو وَنَحْوِهِ.
وَرَغَّبَتِ الشَّرِيعَةُ فِي رَحْمَةِ الْحَيَوَانِ
فَفِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لِرَجُلٍ وَجَدَ كَلْبًا يَلْهَثُ مِنَ الْعَطَشِ فَنَزَلَ