الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَيْسَ ذِكْرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِمُجَرَّدِ تَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا مِنْ آيِ التَّوْحِيدِ وَإِنْ أَفَادَتِ التَّقْرِيرَ تَبَعًا لِفَائِدَتِهَا الْمَقْصُودَةِ. وَفِيهَا إِظْهَارٌ لِعِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِزَالَةِ الشِّرْكِ مِنْ نُفُوسِ الْبَشَرِ وَقَطْعِ دَابِرِهِ إِصْلَاحًا لِعُقُولِهِمْ بِأَنْ يُزَالَ مِنْهَا أَفْظَعُ خَطَلٍ وَأَسْخَفُ رَأْيٍ، وَلَمْ تَقْطَعْ دَابِرَ الشِّرْكِ شَرِيعَةٌ كَمَا قَطَعَهُ الْإِسْلَامُ بِحَيْثُ لَمْ يَحْدُثِ الْإِشْرَاكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ رَسُولٍ مَزِيدٌ لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ.
وَفَرَّعَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ أَمْرَهُ إِيَّاهُمْ بِعِبَادَتِهِ عَلَى الْإِعْلَانِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الْعِبَادَةِ خَاصًّا بِهِ تَعَالَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِلَّا يُوحَى إِلَيْهِ بِمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، وَقَرَأَهُ حَفْصُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالنُّونِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّعُ فِي مَوضِع الْحَال.
[26- 29]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 26 إِلَى 29]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
عَطْفُ قِصَّةٍ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ عَلَى قِصَّةٍ أُخْرَى. فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ بَيَانِ بَاطِلِهِمْ فِيمَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً انْتَقَلَ إِلَى بَيَانِ بَاطِلٍ آخَرَ وَهُوَ
اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ وَلَدًا. وَقَدْ كَانَتْ خُزَاعَةُ مِنْ سُكَّانِ ضَوَاحِي مَكَّةَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ وَشَارَكَهُمْ فِي هَذَا الزَّعْمِ بَعْضٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [57] .
وَالْوَلَدُ اسْمُ جَمْعٍ مُفْرَدُهُ مِثْلُهُ، أَيِ اتَّخَذَ أَوْلَادًا، وَالْوَلَدُ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَالَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا أَرَادُوا أَنَّهُ اتَّخَذَ بَنَاتٍ، قَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ [النَّحْل: 57] .
وَلَمَّا كَانَ اتِّخَاذُ الْوَلَدِ نَقْصًا فِي جَانِبٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ أَعْقَبَ مَقَالَتَهُمْ بِكَلِمَةِ سُبْحانَهُ تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ إِنَّمَا يَنْشَأُ عَنِ الِافْتِقَارِ إِلَى إِكْمَالِ النَّقْصِ الْعَارِضِ بِفَقْدِ الْوَلَدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ [68] قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ.
وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْبَقَرَة: 116] أَنَّهُمْ زَعَمُوا الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أُعْقِبَ حَرْفُ الْإِضْرَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ بِالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ عِبَادٌ دُونَ ذِكْرِ الْمُبْتَدَأِ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: بَلِ الْمَلَائِكَةُ عِبَادٌ مُكَرَمُونَ، أَيْ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِرِضَاهُ عَنْهُمْ وَجَعَلَهُمْ مِنْ عِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ الصَّالِحِينَ.
وَالسَّبْقُ، حَقِيقَتُهُ: التَّقَدُّمُ فِي السَّيْرِ عَلَى سَائِرٍ آخَرَ. وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُهُ مَجَازًا عَلَى
التَّقَدُّمِ فِي كُلِّ عَمَلٍ. وَمِنْهُ السَّبْقُ فِي الْقَوْلِ، أَيِ التَّكَلُّمُ قَبْلَ الْغَيْرِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَنَفْيُهُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ، أَيْ كِنَايَةً عَنِ التَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ. وَنَظِيرُهُ فِي ذَلِكَ النَّهْيُ عَنِ التَّقَدُّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: 1] فَإِنَّ التَّقَدُّمَ فِي مَعْنَى السَّبْقِ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ مَعْنَاهُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ قَوْلٌ قَبْلَ قَوْلِهِ، أَيْ لَا يَقُولُونَ إِلَّا مَا أُذِنَ لَهُم أَن يَقُولُونَ. وَهَذَا عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ
الرَّدُّ عَلَى زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عِقَابَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ كَمَا سَيُصَرِّحُ بِنَفْيِهِ.
وَتَقْدِيمُ بِأَمْرِهِ عَلَى يَعْمَلُونَ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَمَا أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ قَوْلًا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ كَذَلِكَ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا إِلَّا بِأَمْرِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [255] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى تَخْصِيصٌ بِالذِّكْرِ لِبَعْضِ مَا شَمِلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا كَفَرُوا بِسَبَبِهِ إِذْ جَعَلُوا الْآلِهَةَ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ ارْتَضى لِأَنَّهُ عَائِدُ صِلَةٍ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لِمَنِ ارْتَضَاهُ، أَيِ ارْتَضَى الشَّفَاعَةَ لَهُ بِأَنْ يَأْذَنَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يَشْفَعُوا لَهُ إِظْهَارًا لِكَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ أَوِ اسْتِجَابَةً لِاسْتِغْفَارِهِمْ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الشُّورَى [5] . وَذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ جُمْلَةِ مَا خُلِقُوا لِأَجْلِهِ فَلَيْسَ هُوَ مِنَ التَّقَدُّمِ بِالْقَوْلِ.
ثُمَّ زَادَ تَعْظِيمَهُمْ رَبُّهُمْ تَقْرِيرًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، أَيْ هُمْ يُعَظِّمُونَهُ تَعْظِيمَ مَنْ يَخَافُ بِطَشْتَهُ وَيَحْذَرُ مُخَالَفَةَ أَمْرِهِ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ خَشْيَتِهِ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمَجْرُورُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ. ومُشْفِقُونَ خَبَرٌ، أَيْ وَهُمْ لِأَجْلِ خَشْيَتِهِ، أَيْ خَشْيَتِهِمْ إِيَّاهُ.