الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَهَذَا يَجْرِي عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ يُقاتَلُونَ وَالتَّفْسِيرِ الَّذِي رَأَيْتُهُ أَنْسَبَ وَأَرْشَقَ.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ أَيْ أُذِنَ لَهُمْ بِذَلِكَ وَذُكِّرُوا بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُمْ. وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ وَارِدٌ عَلَى سُنَنِ كَلَامِ الْعَظِيمِ الْمُقْتَدِرِ بِإِيرَادِ الْوَعْدِ فِي صُورَةِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ ذَلِكَ بِمَحَلِّ الْعِلْمِ مِنْهُ وَنَحْوِهِ، كَقَوْلِهِمْ: عَسَى أَنْ يَكُونَ كَذَا، أَوْ أَنَّ عِنْدَنَا خَيْرًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْمُتَرَقِّبِ شَكٌّ فِي الْفَوْزِ بِمَطْلُوبِهِ.
وَتَوْكِيدُ هَذَا الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِتَحْقِيقِهِ أَوْ تَعْرِيضٌ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اسْتَبْطَأُوا النَّصْرَ.
[40]
[سُورَة الْحَج (22) : آيَة 40]
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ
بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ [الْحَج: 39] ، وَفِي إِجْرَاءِ هَذِهِ الصِّلَةِ عَلَيْهِمْ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقَاتَلَةِ الْأَذَى، وَأَعْظَمُهُ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [الْبَقَرَة: 191] .
وبِغَيْرِ حَقٍّ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ أُخْرِجُوا، أَيْ أُخْرِجُوا مُتَلَبِّسِينَ بِعَدَمِ الْحَقِّ عَلَيْهِمُ
الْمُوجِبِ إِخْرَاجَهُمْ، فَإِنَّ لِلْمَرْءِ حَقًّا فِي وَطَنِهِ وَمُعَاشَرَةِ قَوْمِهِ، وَهَذَا الْحَقُّ ثَابِتٌ بِالْفِطْرَةِ لِأَنَّ مِنَ الْفِطْرَةِ أَنَّ النَّاشِئَ فِي أَرْضٍ وَالْمُتَوَلِّدَ بَيْنَ قَوْمٍ هُوَ مُسَاوٍ لِجَمِيعِ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْطِنِ فِي حَقِّ الْقَرَارِ فِي وَطَنِهِمْ وَبَيْنَ قَوْمِهِمْ بِالْوَجْهِ الَّذِي ثَبَتَ لِجُمْهُورِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْ نَشْأَةٍ مُتَقَادِمَةٍ أَوْ قَهْرٍ وَغَلَبَةٍ لِسُكَّانِهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
: «إِنَّهَا لَبِلَادُهُمْ قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ» . وَلَا يَزُولُ ذَلِكَ الْحَقُّ إِلَّا بِمُوجِبٍ قَرَّرَهُ الشَّرْعُ أَوِ الْعَوَائِدُ قَبْلَ الشَّرْعِ. كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ:
فَإِنَّ الْحَقَّ مَقْطَعُهُ ثَلَاثٌ
…
يَمِينٌ أَوْ نِفَارٌ أَوْ جَلَاءُ
فَمِنْ ذَلِكَ فِي الشَّرَائِعِ التَّغْرِيبُ وَالنَّفْيُ، وَمِنْ ذَلِكَ فِي قَوَانِينِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الْجَلَاءُ وَالْخَلْعُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِاعْتِدَاءٍ يَعْتَدِيهِ الْمَرْءُ عَلَى قَوْمِهِ لَا يَجِدُونَ لَهُ مَسْلَكًا مِنَ الرَّدْعِ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ فَإِنَّ إِيمَانَهُمْ بِاللَّهِ لَا يَنْجَرُّ مِنْهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى غَيْرِهِمْ إِذْ هُوَ شَيْءٌ قَاصِرٌ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَالْإِعْلَانُ بِهِ بِالْقَوْلِ لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِمْ.
فَالِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِمْ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ ظُلْمٌ بَوَاحٌ وَاسْتِخْدَامٌ لِلْقُوَّةِ فِي تَنْفِيذِ الظُّلْمِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْحَقِّ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَقِّ حَقًّا يُوجِبُ الْإِخْرَاجَ، أَيِ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ، كَانَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُسْتَعْمَلًا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ، أَيْ إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ حَقٌّ فَهُوَ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ تَأْكِيدُ عَدَمِ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ اسْتِقْرَاءِ مَا قَدْ يُتَخَيَّلُ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُوهِمُ نَقْضَهُ. وَيُسَمَّى عِنْدَ أَهْلِ الْبَدِيعِ تَأْكِيدُ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ
…
بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا مَحَالَةَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ.
وَلَوْلا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ [الْحَج: 39] إِلَخْ وَبَيْنَ قَوْلِهِ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ [الْحَج: 41] إِلَخْ. فَلَمَّا تَضَمَّنَتْ جُمْلَةُ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ [الْحَج: 39]
إِلَخْ الْإِذْنَ لِلْمُسْلِمِينَ بِدِفَاعِ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ أُتْبِعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي هَذَا الْإِذْنِ بِالدِّفَاعِ، مَعَ التَّنْوِيهِ بِهَذَا الدِّفَاعِ، وَالْمُتَوَلِّينَ لَهُ بِأَنَّهُ دِفَاعٌ عَنِ الْحَقِّ وَالدِّينِ يَنْتَفِعُ بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ أَدْيَانِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ هُوَ دِفَاعًا لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ إِلَى آخِرِهِ، اعْتِرَاضِيَّةٌ وَتُسَمَّى وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ وَمُفَادُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَعْلِيلُ مَضْمُونِ جُمْلَةِ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ [الْحَج: 39] إِلَخْ.
ولَوْلا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيْ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَابِهِ، أَيِ انْتِفَائِهِ لِأَجْلِ وُجُودِ شَرْطِهِ، أَي عِنْد تحقق مَضْمُونِ جُمْلَةِ شَرْطِهِ فَهُوَ حَرْفٌ يَقْتَضِي جُمْلَتَيْنِ. وَالْمَعْنَى:
لَوْلَا دِفَاعُ النَّاسِ عَنْ مَوَاضِعِ عبَادَة الْمُسلمين لصري الْمُشْرِكُونَ وَلَتَجَاوَزُوا فِيهِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا يُجَاوِرُ بِلَادَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْملَل الْأُخْرَى المناوية لِمِلَّةِ الشِّرْكِ وَلَهَدَمُوا مَعَابِدَهُمْ مِنْ صَوَامِعَ، وَبِيَعٍ، وصلوات، ومساجد، يذكر فِيهَا اسْم الله كثيرا، قصدا مِنْهُم لمحو دَعْوَة التَّوْحِيد ومحقا لِلْأَدْيَانِ الْمُخَالِفَةِ لِلشِّرْكِ. فَذِكْرُ الصَّوَامِعِ، وَالْبِيَعِ، إِدْمَاجٌ لِيَنْتَبِهُوا إِلَى تَأْيِيدِ الْمُسْلِمِينَ فَالتَّعْرِيفُ فِي النَّاسَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيِ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَقَاتَلُونَ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَمُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: لَوْلَا مَا سَبَقَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ إِذْنِ اللَّهِ لِأُمَمِ التَّوْحِيدِ بِقِتَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ (كَمَا قَاتل دَاوُود جَالُوتَ، وَكَمَا تَغَلَّبَ سُلَيْمَانُ عَلَى مَلِكَةِ سَبَأٍ) . لَمَحَقَ الْمُشْرِكُونَ مَعَالِمَ التَّوْحِيدِ (كَمَا مَحَقَ بُخْتَنَصَّرُ هَيْكَلَ سُلَيْمَانَ) فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِجُمْلَةِ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الْحَج: 39] ، أَيْ أُذِنَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ كَمَا أُذِنَ لِأُمَمٍ قَبْلَهُمْ لِكَيْلَا يَطْغَى عَلَيْهِمُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا طَغَوْا عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ حِينَ لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ لَهُمْ بِالْقِتَالِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي النَّاسَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ.
وَإِضَافَةُ الدِّفَاعِ إِلَى اللَّهِ إِسْنَادٌ مُجَازِيٌّ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ إِذْنٌ لِلنَّاسِ أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ مَعَابِدِهِمْ فَكَانَ إِذْنُ اللَّهِ سَبَبَ الدَّفْعِ. وَهَذَا يُهِيبُ بِأَهْلِ الْأَدْيَانِ إِلَى التَّأَلُّبِ عَلَى مُقَاوَمَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ دِفَاعُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ دَفْعُ- بِفَتْحِ الدَّالِ وَبِدُونِ أَلِفٍ-. وبَعْضَهُمْ بَدَلٌ مِنَ النَّاسَ بَدَلُ بَعْضٍ. وبِبَعْضٍ مُتَعَلِّقٌ بِ دِفَاعُ وَالْبَاءُ لِلْآلَةِ.
وَالْهَدْمُ: تَقْوِيضُ الْبِنَاءِ وَتَسْقِيطُهُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ لَهُدِّمَتْ- بِتَخْفِيفِ الدَّالِ-. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ-
بِتَشْدِيدِ الدَّالِ- لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْهَدْمِ، أَيْ لَهُدِّمَتْ هَدْمًا نَاشِئًا عَنْ غَيْظٍ بِحَيْثُ لَا يُبْقُونَ لَهَا أَثَرًا.
وَالصَّوَامِعُ: جَمْعُ صَوْمَعَةٍ بِوَزْنِ فَوْعَلَةٍ، وَهِيَ بِنَاءٌ مُسْتَطِيلٌ مُرْتَفِعٌ يُصْعَدُ إِلَيْهِ بِدَرَجٍ وَبِأَعْلَاهُ بَيْتٌ، كَانَ الرُّهْبَانُ يَتَّخِذُونَهُ لِلْعِبَادَةِ لِيَكُونُوا بُعَدَاءَ عَنْ مُشَاغَلَةِ النَّاسِ إِيَّاهُمْ، وَكَانُوا يُوقِدُونَ بِهِ مَصَابِيحَ لِلْإِعَانَةِ عَلَى السَّهَرِ لِلْعِبَادَةِ وَلِإِضَاءَةِ الطَّرِيقِ لِلْمَارِّينَ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَتِ الصَّوْمَعَةُ الْمَنَارَةَ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
تُضِيءُ الظَّلَامَ بِالْعَشِيِّ كَأَنَّهَا
…
مَنَارَةُ مَمْسَى رَاهِبٍ مُتَبَتِّلِ
وَالْبِيَعُ: جَمْعُ بِيعَةٍ- بِكَسْرِ الْبَاءِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ- مَكَانُ عِبَادَةِ النَّصَارَى وَلَا يُعْرَفُ أَصْلُ اشْتِقَاقِهَا، وَلَعَلَّهَا مُعَرَّبَةٌ عَنْ لُغَةٍ أُخْرَى.
وَالصَّلَوَاتُ: جَمْعُ صَلَاةٍ وَهِيَ هُنَا مُرَادٌ بِهَا كَنَائِسُ الْيَهُودِ مُعَرَّبَةٌ عَنْ كَلِمَةِ (صَلُوثَا)(بِالْمُثَلَّثَةِ فِي آخِرِهِ بَعْدَهَا أَلِفٌ) . فَلَمَّا عُرِّبَتْ جَعَلُوا مَكَانَ الْمُثَلَّثَةِ مُثَنَّاةً فَوْقِيَّةً وَجَمَعُوهَا كَذَلِكَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْجَحْدَرِيِّ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَبِي رَجَاء أَنهم قرأوها هُنَا وَصَلَواتٌ بِمُثَلَّثَةٍ فِي آخِرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةُ: قَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ صِلْوِيثَا- بِكَسْرِ الصَّادِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْوَاوِ وَقَصْرِ الْأَلْفِ بَعْدَ الثَّاءِ- (أَيِ الْمُثَلَّثَةِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ) وَهَذِهَ الْمَادَّةُ قَدْ فَاتَتْ أَهْلَ اللُّغَةِ وَهِيَ غَفْلَةٌ عَجِيبَةٌ.
وَالْمَسَاجِدُ: اسْمٌ لِمَحَلِّ السُّجُودِ مِنْ كُلِّ مَوْضِعِ عِبَادَةٍ لَيْسَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهُ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَتَكُونُ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي ابْتِدَاءِ هِجْرَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ حِينَ بَنَوْا مَسْجِدَ قُبَاءٍ وَمَسْجِدَ الْمَدِينَةِ.
وَجُمْلَةُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً صِفَةٌ وَالْغَالِبُ فِي الصِّفَةِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ فِيهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى مَا فِي تِلْكَ الْجُمَلِ مِنَ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَةِ. فَلِذَلِكَ قِيلَ بِرُجُوعِ صِفَةِ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ إِلَى صَوامِعُ، وَبِيَعٌ، وَصَلَواتٌ، وَمَساجِدُ لِلْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَاتِ قَبْلَهَا وَهِيَ مَعَادُ ضَمِيرِ فِيهَا.
وَفَائِدَةُ هَذَا الْوَصْفِ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ سَبَبَ هَدْمِهَا أَنَّهَا يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا، أَيْ وَلَا تُذْكَرُ أَسْمَاءُ أَصْنَامِ أَهْلِ الشِّرْكِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَخْرَجُوا الْمُسْلِمِينَ بِلَا سَبَبٍ إِلَّا أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ فَيَقُولُونَ رَبُّنَا اللَّهُ، لِمَحْوِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ مِنْ بَلَدِهِمْ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ يَهْدِمُونَ الْمَوَاضِعَ الْمَجْعُولَةَ لِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ كَثِيرًا، أَيْ دُونَ ذِكْرِ الْأَصْنَامِ. فَالْكَثْرَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الدَّوَامِ
لِاسْتِغْرَاقِ الْأَزْمِنَةِ، وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَائِدَةً دِينِيَّةً وَهِيَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ منداد من أيمة الْمَالِكِيَّةِ (مِنْ أَهْلِ أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ)«تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْمَنْعَ مِنْ هَدْمِ كَنَائِسِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبِيَعِهِمْ وَبُيُوتِ نَارِهِمْ» اه.
قُلْتُ: أَمَّا بُيُوتُ النَّارِ فَلَا تَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْعَ هَدْمِهَا فَإِنَّهَا لَا يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ وَإِنَّمَا مَنْعُ هَدْمِهَا عَقْدُ الذِّمَّةِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بَيْنَ أَهْلِهَا وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ الصِّفَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَسَاجِدَ خَاصَّةٍ.
وَتَقْدِيمُ الصَّوَامِعِ فِي الذِّكْرِ عَلَى مَا بَعْدَهُ لِأَنَّ صَوَامِعَ الرُّهْبَانِ كَانَتْ أَكْثَرَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ مِنْ غَيْرِهَا، وَكَانَتْ أَشْهَرَ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ بِأَضْوَائِهَا فِي أَسْفَارِهِمْ وَيَأْوُونَ إِلَيْهَا، وَتَعْقِيبُهَا بِذِكْرِ الْبِيَعِ لِلْمُنَاسَبَةِ إِذْ هِيَ مَعَابِدُ النَّصَارَى مِثْلُ الصَّوَامِعِ. وَأَمَّا ذِكْرُ الصَّلَوَاتِ بَعْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ قَدْ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِذِكْرِهَا، وَتَأْخِيرُ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهَا أَعَمُّ، وَشَأْنُ الْعُمُومِ أَنْ يُعَقَّبَ بِهِ الْخُصُوصُ إِكْمَالًا لِلْفَائِدَةِ.
وَقَوْلُهُ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ، أَيْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِالدِّفَاعِ عَنْ دِينِهِمْ. وَضَمِنَ لَهُمُ النَّصْرَ فِي ذَلِكَ الدِّفَاعِ لِأَنَّهُمْ بِدِفَاعِهِمْ يَنْصُرُونَ دِينَ اللَّهِ، فَكَأَنَّهُمْ نَصَرُوا اللَّهَ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَ الْجُمْلَةَ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ لِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ الشَّامِلِ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، أَيْ كَانَ نَصْرُهُمْ مَضْمُونًا لِأَنَّ نَاصِرَهُمْ قَدِيرٌ عَلَى ذَلِكَ بِالْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ. وَالْقُوَّةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْقُدْرَةِ:
وَالْعِزَّةُ هُنَا حَقِيقَةٌ لِأَنَّ الْعِزَّةَ هِيَ الْمَنَعَةُ، أَيْ عَدَمُ تَسَلُّطِ غَيْرِ صَاحِبِهَا عَلَى صَاحِبِهَا.