الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صِدْقِ الَّذِي جَاءَ بِهِ لِأَنَّ الْبَشَرَ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَتَحَدَّاهُمُ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَمَا اسْتَطَاعُوا. وَبِذَلِكَ اهْتَدَتْ بِهِ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، وَانْتَفَعَ بِهِ مَنْ آمَنُوا بِهِ وَفَرِيقٌ
مِمَّنْ حَرَّمُوا الْإِيمَانَ. فَكَانَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ مُبَارَكٌ وَافِيًا عَلَى وَصْفِ كِتَابِ مُوسَى عليه السلام بِأَنَّهُ فُرْقَانٌ وَضِيَاءٌ.
وَزَادَهُ تَشْرِيفًا بِإِسْنَادِ إِنْزَالِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ. وَجُعِلَ الْوَحْيُ إِلَى الرَّسُولِ إِنْزَالًا لِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِنْزَالُ مِنْ رِفْعَةِ الْقَدْرِ إِذِ اعْتُبِرَ مُسْتَقِرًّا فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ حَتَّى أُنْزِلَ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ.
وفرّع عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْعَظِيمَةِ اسْتِفْهَامٌ تَوْبِيخِيٌّ تَعْجِيبِيٌّ مِنْ إِنْكَارِهِمْ صِدْقَ هَذَا الْكِتَابِ وَمِنِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْإِنْكَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ. وَلِكَوْنِ إِنْكَارِهِمْ صِدْقَهُ حَاصِلًا مِنْهُمْ فِي حَالِ الْخِطَابِ جِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِيَتَأَتَّى جَعْلُ الْمُسْنَدِ اسْمًا دَالًّا عَلَى الِاتِّصَافِ فِي زَمَنِ الْحَالِ وَجَعْلُ الْجُمْلَةِ دَالَّةً عَلَى الثَّبَاتِ فِي الْوَصْفِ وَفَاءً بِحَقِّ بلاغة النّظم.
[51- 57]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (21) : الْآيَات 51 إِلَى 57]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَاّعِبِينَ (55)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ
(57)
أُعْقِبَتْ قِصَّةُ مُوسَى وَهَارُونَ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ مُقَاوَمَةِ الشِّرْكِ وَوُضُوحِ الْحُجَّةِ عَلَى بُطْلَانِهِ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ هُوَ الْمَثَلَ الْأَوَّلَ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ فِي مُقَاوَمَةِ الشِّرْكِ إِذْ قَاوَمَهُ بِالْحُجَّةِ وَبِالْقُوَّةِ وَبِإِعْلَانِ التَّوْحِيدِ إِذْ أَقَامَ لِلتَّوْحِيدِ هَيْكَلًا بِمَكَّةَ هُوَ الْكَعْبَةُ وَبِجَبَلِ (نَابُو) مِنْ بِلَادِ الْكَنْعَانِيِّينَ حَيْثُ كَانَتْ مَدِينَةٌ تُسَمَّى يَوْمَئِذٍ (لَوْزَا) ثُمَّ بَنَى بَيْتَ إِيلَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَوْضِعِ مَدِينَةِ (أُورْشَلِيمَ) فِي الْمَكَانِ الَّذِي أُقِيمَ بِهِ هَيْكَلُ سُلَيْمَانَ مِنْ بَعْدُ، فَكَانَتْ قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ مَعَ قَوْمِهِ شَاهِدًا عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ الَّذِي كَانَ مُمَاثِلًا لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ الَّذِينَ جَاءَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لِقَطْعِ دَابِرِهِ. وَفِي ذِكْرِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ تَوَرُّكٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ إِذْ كَانُوا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي نَعَاهَا جَدُّهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَى قَوْمِهِ، وَكَفَى بِذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ شَرِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ أَشْهَرُ شَرِيعَةٍ بَعْدَ شَرِيعَةِ مُوسَى.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ عَنْهُ بِلَامِ الْقَسَمِ لِلْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَاهُ آنِفًا فِي تَأْكِيدِ الْخَبَرِ عَنْ مُوسَى وَهَارُونَ، وَهُوَ تَنْزِيلُ الْعَرَبِ فِي مُخَالَفَتِهِمْ لِشَرِيعَةِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِكَوْنِ إِبْرَاهِيمَ
أُوتِيَ رُشْدًا وَهَدْيًا.
وَكَذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْ إِيتَاءِ الرُّشْدِ إِبْرَاهِيمَ بِإِسْنَادِ الْإِيتَاءِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِمِثْلِ مَا قَرَّرَ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَهَارُونَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَفْخِيمِ ذَلِكَ الرُّشْدِ الَّذِي أُوتِيَهُ.
وَالرُّشْدُ: الْهُدَى وَالرَّأْيُ الْحَقُّ، وَضِدُّهُ الْغَيُّ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 256] . وَإِضَافَةُ الرُّشْدُ إِلَى ضَمِيرِ
إِبْرَاهِيمَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيِ الرُّشْدُ الَّذِي أُرْشِدَهُ. وَفَائِدَةُ الْإِضَافَةِ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ هَذَا الرُّشْدِ، أَيْ رُشْدًا يَلِيقُ بِهِ وَلِأَنَّ رُشْدَ إِبْرَاهِيمَ قَدْ كَانَ مَضْرِبَ الْأَمْثَالِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، أَيْ هُوَ الَّذِي عَلِمْتُمْ سُمْعَتَهُ الَّتِي طَبَّقَتِ الْخَافِقَيْنِ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرُشْدٍ أُوتِيَهُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْإِضَافَةَ لَمَّا كَانَتْ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ كَانَتْ مُفِيدَةً لِلِاخْتِصَاصِ فَكَأَنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ قَدِ انْفَرَدَ بِالْهُدَى بَيْنَ قَوْمِهِ.
وَزَادَهُ تَنْوِيهًا وَتَفْخِيمًا تَذْيِيلُهُ بِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أَيْ آتَيْنَاهُ رُشْدًا عَظِيمًا عَلَى عِلْمٍ مِنَّا بِإِبْرَاهِيمَ، أَيْ بِكَوْنِهِ أَهْلًا لِذَلِكَ الرُّشْدِ، وَهَذَا الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّفْسِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي كَانَ بِهَا مَحَلَّ ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ قُرْآنِهِ، أَيْ عَلِمَ مِنْ سَرِيرَتِهِ صِفَاتٍ قَدْ رَضِيَهَا وَأَحْمَدَهَا فَاسْتَأْهَلَ بِهَا اتِّخَاذَهُ خَلِيلًا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ [الدُّخان: 32] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَام: 124] .
وَقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ أَي من قَبْلُ أَنْ نُوتِيَ مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا. وَوَجْهُ ذكر هَذِه الْقبلية التَّنْبِيه على أَنه مَا وَقَعَ إِيتَاءُ الذِّكْرِ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَّا لِأَنَّ شَرِيعَتَهُمَا لَمْ تَزَلْ مَعْرُوفَةً مَدْرُوسَةً.
وإِذْ قالَ ظَرْفٌ لِفِعْلِ آتَيْنا أَيْ كَانَ إِيتَاؤُهُ الرُّشْدَ حِينَ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: مَا هذِهِ التَّماثِيلُ إِلَخْ، فَذَلِكَ هُوَ الرُّشْدُ الَّذِي أُوتِيَهُ، أَي حِين نزُول الْوَحْيُ إِلَيْهِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَذَلِكَ أول مَا بدىء بِهِ من الْوَحْيُ.
وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ كَانُوا مِنَ (الْكَلْدَانِ) وَكَانَ يَسْكُنُ بَلَدًا يُقَالُ لَهُ (كَوْثَى) بِمُثَلَّثَةٍ فِي آخِرِهِ بَعْدَهَا أَلِفٌ. وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ فِي التَّوْرَاةِ (أُورَ الْكَلْدَانِ)، وَيُقَالُ: أَيْضًا إِنَّهَا (أُورْفَةُ) فِي (الرُّهَا) ،
ثُمَّ سَكَنَ هُوَ وَأَبُوهُ وَأَهْلُهُ (حَارَانَ) وَحَارَانُ هِيَ (حَرَّانُ)، وَكَانَتْ بَعْدُ مِنْ بِلَادِ الْكَلْدَانِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْإِصْحَاحِ 12 مِنَ التَّكْوِينِ لِقَوْلِهِ فِيهِ: «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ
عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ» . وَمَاتَ أَبُوهُ فِي (حَارَانَ) كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ 11 مِنَ التَّكْوِينِ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ مِنْ (حَارَانَ) لِأَنَّهُ مِنْ حَارَانَ خَرَجَ إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. وَقَدِ اشْتُهِرَ حَرَّانَ بِأَنَّهُ بَلَدُ الصَّابِئَةِ وَفِيهِ هَيْكَلٌ عَظِيمٌ لِلصَّابِئَةِ، وَكَانَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ صَابِئَةً يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَجْعَلُونَ لَهَا صُوَرًا مُجَسَّمَةً.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا هذِهِ التَّماثِيلُ يَتَسَلَّطُ عَلَى الْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا عِبَادَتُكُمْ هَذِهِ التَّمَاثِيلَ؟. وَلَكِنَّهُ صِيغَ بِأُسْلُوبِ تَوَجُّهِ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى ذَاتِ التَّمَاثِيلِ لِإِبْهَامِ السُّؤَالِ عَنْ كُنْهِ التماثيل فِي بادىء الْكَلَامِ إِيمَاءً إِلَى عَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ بَيْنَ حَقِيقَتِهَا الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالتَّمَاثِيلِ وَبَيْنَ وَصْفِهَا بِالْمَعْبُودِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِعُكُوفِهِمْ عَلَيْهَا. وَهَذَا مِنْ تَجَاهُلِ الْعَارِفِ اسْتَعْمَلَهُ تَمْهِيدًا لِتَخْطِئَتِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَسْمَعَ جَوَابَهُمْ فَهُمْ يَظُنُّونَهُ سَائِلًا مُسْتَعْلِمًا وَلِذَلِكَ أَجَابُوا سُؤَالَهُ بِقَوْلِهِمْ وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ فَإِنَّ شَأْنَ السُّؤَالِ بِكَلِمَةِ (مَا) أَنَّهُ لِطَلَبِ شرح مَاهِيَّة الْمَسْئُول عَنْهُ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى التَّمَاثِيلِ لِزِيَادَةِ كَشْفِ مَعْنَاهَا الدَّالِّ عَلَى انْحِطَاطِهَا عَنْ رُتْبَةِ الْأُلُوهِيَّةِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالتَّمَاثِيلِ يَسْلُبُ عَنْهَا الِاسْتِقْلَالَ الذَّاتِيَّ.
وَالْأَصْنَامُ الَّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا الْكَلْدَانُ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ هِيَ (بَعْلُ) وَهُوَ أَعْظَمُهَا، وَكَانَ مَصُوغًا مِنْ ذَهَبٍ وَهُوَ رَمْزُ الشَّمْسِ فِي عَهْدِ سَمِيرَمِيسَ، وَعَبَدُوا رُمُوزًا لِلْكَوَاكِبِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ أَصْنَامَ قَوْمِ نُوحٍ: وَدًّا، وَسُوَاعًا، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقُ، وَنَسْرًا، إِمَّا بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَإِمَّا بِأَسْمَاءٍ أُخْرَى. وَقَدْ دَلَّتِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْنَامِ أَشُورَ (إِخْوَانِ الْكَلْدَانِ) صَنَمًا اسْمُهُ (نَسْرُوخُ) وَهُوَ نَسْرٌ لَا مَحَالَةَ.
وَجَعْلُ الْعُكُوفِ مُسْنَدًا إِلَى ضَمِيرِهِمْ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ مُشَارِكًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ فِي مَقَامِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، ذَلِكَ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ فِيهِ معنى الْعِبَادَة، فَذَلِك عُدِّيَ بِاللَّامِ لِإِفَادَةِ مُلَازَمَةِ عِبَادَتِهَا.
وَجَاءُوا فِي جَوَابِهِ بِمَا تَوَهَّمُوا إِقْنَاعَهُ بِهِ وَهُوَ أَنَّ عِبَادَةَ تِلْكَ الْأَصْنَامِ كَانَتْ مِنْ عَادَةِ آبَائِهِمْ فَحَسِبُوهُ مِثْلَهُمْ يُقَدِّسُ عَمَلَ الْآبَاءِ وَلَا يَنْظُرُ فِي مُصَادَفَتِهِ الْحَقَّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَجَابَهُمْ: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مُؤَكِّدًا ذَلِكَ بِلَامِ الْقَسَمِ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مِنِ اجْتِلَابِ فِعْلِ الْكَوْنِ وَحَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ، إِيمَاءٌ
إِلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الضَّلَالِ وَانْغِمَاسِهِمْ فِيهِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ ضَلَالٌ بَوَاحٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِوَصْفِهِ بِ مُبِينٍ. فَلَمَّا ذَكَرُوا لَهُ آبَاءَهُمْ شَرَّكَهُمْ فِي التَّخْطِئَةِ بِدُونِ هَوَادَةٍ بِعَطْفِ الْآبَاءِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي اتِّبَاعِ آبَائِهِمْ وَلَا عُذْرَ لِآبَائِهِمْ فِي سنَن ذَلِكَ لَهُمْ لِمُنَافَاةِ حَقِيقَةِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ لِحَقِيقَةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ.
وَلِإِنْكَارِهِمْ أَنْ يَكُونَ مَا عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ ضَلَالًا، وَإِيقَانِهِمْ أَنَّ آبَاءَهُمْ عَلَى الْحَقِّ، شَكُّوا فِي حَالِ إِبْرَاهِيمَ أَنَطَقَ عَنْ جِدٍّ مِنْهُ وَأَنَّ ذَلِكَ اعْتِقَادَهُ فَقَالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ، فَعَبَّرُوا عَنْهُ بِالْحَقِّ الْمُقَابِلِ لِلَّعِبِ وَذَلِكَ مُسَمَّى الْجِدِّ. فَالْمَعْنَى: بِالْحَقِّ فِي اعْتِقَادِكَ أَمْ أَرَدْتَ بِهِ الْمَزْحَ، فَاسْتَفْهَمُوا وَسَأَلُوهُ أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ. وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ.
وَالْمُرَادُ بِاللَّعِبِ هُنَا لَعِبُ الْقَوْلِ وَهُوَ الْمُسَمَّى مَزْحًا، وَأَرَادُوا بِتَأْوِيلِ
كَلَامِهِ بِالْمَزْحِ التَّلَطُّفَ مَعَهُ وَتَجَنُّبَ نِسْبَتِهِ إِلَى الْبَاطِلِ اسْتِجْلَابًا لِخَاطِرِهِ لِمَا رَأَوْا مِنْ قُوَّةِ حُجَّتِهِ.
وَعَدَلَ عَنِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِوَصْفِ لَاعِبٍ إِلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ مِنْ زُمْرَةِ اللَّاعِبِينَ مُبَالَغَةً فِي تَوَغُّلِ كَلَامِهِ ذَلِكَ فِي بَابِ الْمَزْحِ بِحَيْثُ يَكُونُ قَائِلُهُ مُتَمَكِّنًا فِي اللَّعِبِ وَمَعْدُودًا مِنَ الْفَرِيقِ الْمَوْصُوفِ بِاللَّعِبِ.
وَجَاءَ هُوَ فِي جَوَابِهِمْ بِالْإِضْرَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ لِإِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّاعِبِينَ، وَإِثْبَاتِ أَنَّ رَبَّهُمْ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ، أَيْ وَلَيْسَتْ تِلْكَ التَّمَاثِيلُ أَرْبَابًا إِذْ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهَا لَمْ تَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ هِيَ مَصْنُوعَةٌ مَنْحُوتَةٌ مِنَ الْحِجَارَةِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات: 95] فَلَمَّا شَذَّ عَنْهَا خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا هُوَ غَيْرُ مُنْكَرٍ مِنْكُمْ فَهِيَ مَنْحُوتَةٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَمَا هِيَ إِلَّا مَرْبُوبَةٌ مَخْلُوقَةٌ وَلَيْسَتْ أَرْبَابًا وَلَا خَالِقَةً. فَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْله تَعَالَى فَطَرَهُنَّ ضَمِيرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا مَحَالَةَ.
فَكَانَ جَوَابُ إِبْرَاهِيمَ إِبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ مَعَ مُسْتَنَدِ الْإِبْطَالِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ. وَلَيْسَ فِيهِ طَرِيقَةُ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ كَمَا ظَنَّهُ الطِّيبِيُّ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ إِعْلَامٌ لَهُمْ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ لِإِقَامَةِ دِينِ التَّوْحِيدِ لِأَنَّ رَسُولَ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدٌ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاء: 41] ، وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ فِي قَوْمِهِ مَنْ يَشْهَدُ بِبُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَنَّهُ بَعْضُ الَّذِينَ شَهِدُوا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ فِي مُخْتَلِفِ الْأَزْمَانِ أَوِ الْأَقْطَارِ.
وَيَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّأْكِيدِ لِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْقَسَمِ، كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
شَهِدَ الْفَرَزْدَقُ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ
…
أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِِِ